مفهوم جريمة التعذيب في القوانين العراقية
المحامية / منال داود العكيدي
لم يتقيد المشرع العراقي بتعريف معين لجريمة التعذيب في قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969. ولعله اراد بذلك فسح المجال امام الفقه للاجتهاد ، وتماشيا مع مرور الزمن وتقدم أساليب التحقيق والاستجواب.
وعندما صدر قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم 10 لسنة 2005 عرف التعذيب في المادة (12) الفقرة الثانية /هـ حيث نص على ان التعذيب: يعني التعمد في تسبب الالم الشديد والمعاناة، سواء أكان بدنياً ام فكرياً على شخص قيد الاحتجاز او تحت سيطرة المتهم، على ان التعذيب لا يشمل الالم والمعاناة الناجمة عن العقوبات القانونية او ذات علاقة بها.
اما في إطار القانون الدولي فقد صدرت اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة او العقوبة القاسية او اللا انسانية او المهينة وفيها عرف التعذيب في المادة الاولى من هذه الاتفاقية والتي جاء فيها ان التعذيب هو:
أي عمل ينتج عنه ألم او عذاب شديد، جسدياً كان أم عقلياً، يلحق عمداً بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، او من شخص ثالث على معلومات او على اعتراف، او معاقبته على عمل ارتكبه او يشتبه في انه ارتكبه، هو او شخص ثالث، او تخويفه او ارغامه هو او اي شخص ثالث – او عندما يلحق مثل هذا الالم او العذاب لاي سبب من الاسباب يقوم على التمييز اياً كان نوعه، او يحرض عليه او يوافق عليه او يسكت عنه موظف رسمي او اي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية. ولا يتضمن ذلك الالم او العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية او الملازم لهذه العقوبات او الذي يكون نتيجة عرضية لها.
وقد ظهر اتجاه في الفقه القانوني عرف التعذيب على انه: الايذاء البدني المتضمن لمعنى الانتزاع او الاعتصار و الاستخراج بالقوة، وهو اشد انواع التاثير الذي يقع على المتهم ويفسد اعترافه، ويشل ارادته بقوة مادية لا قبل له بمقاومتها فتتعطل ارادته وقد تنمحي على نحو لا تنسب اليه فيه غير حركة عضوية مجرده من الصفة الارادية ، وبنفس المعنى عرف التعذيب بأنه: نوع من الاكراه المادي الذي يتخذ صورة الضرب المتكرر، كما قد يكون ناشئاً عن ضعف مقاومة المتهم لمنع الطعام او الحرمان من النوم.
وبما ان التعذيب كما عرفناه ضغط مادي او معنوي على ارادة المجنى عليه ، فلا يشترط بذلك في جريمة التعذيب صورة معينة للفعل المادي او المعنوي اللازم لقيامها شأنها في ذلك شأن جريمة القتل العمد .
وبناءا على ذلك فان جريمة التعذيب يمكن ان تكون تقليدية : ونقصد بها الافعال المادية او المعنوية التقليدية، التي اعتاد رجال السلطة اتباعها في الانظمة الدكتاتورية (البوليسية) والديمقراطية كذلك ، التي تنطوي على ايلام جسدي او نفسي للخاضع لها.
ولا يعتمد القائم بها على تقنية متطورة او وسيلة حديثة ، ولم يحدد المشرع طرقاً معينة للتعذيب لقيام الجريمة من دون سواها. كما انه وفقاً للقواعد العامة لا عبرة بالوسيلة المستخدمة في ارتكاب الجريمة ما لم يرسم القانون طريقة بعينها لذلك. ومع ذلك يمكن – على سبيل المثال – ان يعتبر تعذيباً سحق اصابع المجني عليه (كسرها) وقلع الاظافر، وممارسة الحرق (الكي) وكذلك قص الشعر او الشارب وغيرها ، وهناك صوراً للتعذيب سلبية تقع بالترك مثل حرمان المتهم من الاتصال بأهله او وضع أكل له في زنزانته يكفي اسبوعاً مع حرمانه من السجائر والغطاء او وضعه بزنزانة مظلمة بمفرده لعدة ايام قبل الاستجواب.
وبعد التطور العلمي الهائل الذي شهدته الحياة في مجالاتها المختلفة شمل حتى وسائل التحقيق وأساليب الاستجواب وكان ذلك يشكل تحولاً كبيراً في مجال كشف الجريمة وتحقيق العدالة، الا انه كان باتجاهين متعاكسين ايجابياً وسلبياً بالنسبة للعدالة ففي الاتجاه الاول كانت الوسائل العلمية المشروعة والتي ينجم عنها ادلة علمية مادية ومعنوية كبصمات الاصابع والاذن والاسنان والصوت والبصمة الوراثية، وما الى ذلك.
اما الاتجاه الاخر فيشمل طائفة الوسائل العلمية الحديثة في هذا المجال وان كان انطوائها على المساس بسلامة الجسد امراً وارداً الا ان مساسها بسلامة النفس وحرية الارادة امراً مؤكداً وذلك حينما يجري الاستجواب تحت تاثيرها، ومنها اساليب التنويم المغناطيسي واجهزة كشف الكذب والحقن بالمواد المخدرة.
ومهما يكن من امر فان التعذيب عمل مجرم صراحة او ضمناً في اغلب التشريعات الحديثة، وان علة ذلك تعود لسببين اساسيين، اولهما ان التعذيب هو انتهاك سافر لحقوق الانسان، وثانيهما اعمالاً لمبدأ الشرعية الجنائية، اذ ان الركن المادي للتعذيب هو جريمة معاقب عليها بحد ذاته.
وقد عالج المشرع العراقي جريمة التعذيب في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 في المادة 333 التي نصت على انه: يعاقب بالسجن او الحبس كل موظف او مكلف بخدمة عامة عذب او امر بتعذيب متهم او شاهد او خبير لحمله على الاعتراف بجريمة او للادلاء باقوال او معلومات بشانها او لكتمان امر من الامور او لإعطاء رأي معين بشأنها ، ويكون بحكم التعذيب استعمال القوة او التهديد بها .
وبناء على النص المتقدم فان جريمة التعذيب هي من جرائم الاشخاص ، وبالتالي فان اطار النشاط الاجرامي فيها يكون في اطار النشاطات الجرمية لهذه الجرائم ، وتقوم الجريمة على الركن المادي الذي يمثل الوجه الظاهر للجريمة، وبه يتحقق اعتداء الفاعل على المصلحة المحمية قانوناً واذا انعدم الركن المادي انعدمت الجريمة ، والمقصود بالركن المادي هنا هو النشاط الاجرامي الذي يمكن ان يكون ماديا كالامثلة التي اوردناها في اعلاه ويمكن ان يكون معنويا قد ينطوي على ضغط وايلام المجني عليه او احد محارمه وهو نفس الاتجاه الذي تبناه الدستور العراقي المؤقت لعام 1970 وقانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لعام 2004 وكذلك دستور جمهورية العراق الاتحادي الدائم لسنة 2005 .
وتقوم جريمة التعذيب اياً كانت درجة جسامة التعذيب او بساطته، وذلك لان اشتراط ان يكون التعذيب جسيماً او عنيفاً او وحشياً ليس له سند قانوني من ناحية، ومن ناحية موضوعية اخرى، يتعذر وصف سلوك مثل ارغام المتهم على ارتداء ملابس النساء او التسمي باسمائهن بانه سلوك وحشي او عنيف او جسيم، ولكن من السهولة بمكان وصفه بالانحطاط والخسة، ولا خلاف حول اثره السيئ على نفس الخاضع له، فضلا عن التسليم باعتباره تعذيباً.
ومن الناحية القانونية فان التفرقة بين الايذاء الجسيم والايذاء غير الجسيم– و القول بقيام الجريمة في الحالة الاولى من دون الثانية- يعيد الى الاذهان فكرة التفرقة بين الخطأ الجسيم والخطأ اليسير، والقول بعدم صلاحية الاخير لقيام الجريمة هي تفرقة مهجورة فقهاً وقضاءً، فضلاً عن افتقارها الى الاساس القانوني ، وهذا ايضا ما ذهب اليه المشرع الاتحادي في المادة (333) من قانون العقوبات .
اترك تعليقاً