الدساتير العربية غنية بالديمقراطية.. لكنها تعاني سوء التطبيق
القاضي مدحت المحمود
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
قال السيد رئيس المحكمة الاتحادية العليا القاضي مدحت المحمود إن “الدساتير العربية جاءت نصوصها غنية بمبادئ الديمقراطية مقررةً أن الشعب هو مصدر السلطات، لكن تطبيق هذه النصوص تكنفه انحرافات وتداخل في أعمال السلطات”، مشددا على حمايتها.
وفي كلمة ألقاها السيد رئيس المحكمة الاتحادية العليا أمام مؤتمر المحاكم والمجالس الدستورية المنعقد في بيروت في الخامس عشر من الشهر الجاري أوضح القاضي المحمود كيفية معالجة الانحرافات والخروقات الدستورية وناقش الضمانات الكفيلة بتطبيق أحكام الدستور نصا وروحاً.
وعرّج المحمود على التجربة العراقية في استحداث المحكمة الاتحادية العليا وعرّف بمهامها، مؤكدا أن هذه المحكمة “الهيئة القضائية الاعلى في السلم القضائي العراقي مستقلة بالكامل في تأدية مهامها القضائية وفي موازنتها المالية (…)، وأن الاحكام والقرارات التي تصدرها ملزمة للسلطات كافة ولا تخضع لأي طريق من طرق الطعن”.
وعرض القاضي المحمود عددا من القرارات التي أصدرتها المحكمة الاتحادية العليا أمام المؤتمر لعدة قضايا حسمتها المحكمة بموضوعية واستقلالية وفق ما توجبه الأمانة القضائية.
وخلص المحمود الى القول إن “الطريق مازال طويلا امام المحاكم والمجالس الدستورية في العالم العربي لترسيخ أحكام دساتيرها وتثبيت مبدأ المواطنة كمعيار لتولي المسؤوليات العامة ووفق خيارات الشعب الذي هو مصدر المسؤوليات”.
في ما يلي نص الكلمة:
دور القضاء الدستوري في انتظام أداء المؤسسات الدستورية
الحضور الكريم .. أحييكم أطيب تحية وأتمنى لكم وللمؤتمر وللقائمين عليه كل التوفيق في تحقيق هدفه الذي ينشده لعالمنا العربي الذي هو اليوم بأمًّسْ الحاجة إلى إرادات واعدة وعقول متفتحة تُعيد بناؤه أو في الأقل تُعيد ترميم ما تخرب منه في جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
وأرجو أن تسمحوا لي بمداخلة صريحة في محور من محاور هذا المؤتمر المبارك الذي يتعلق بدور القضاء الدستوري في إنتظام أداء المؤسسات الدستورية في العالم العربي .
لا أشك ـ أيها السيدات والسادة ـ أنَّ دساتيرنا العربية , كل الدساتير , قد جاءت نصوصها غنية بمبادئ الديمقراطية مقررة أن الشعب هو مصدر السلطات واضحة في حرصها على سيادة القانون وضمان حقوق المواطنين وحرياتهم , وإن اختلفت نصوص هذه الدساتير في صياغتها أو في حجم الفضاءات التي رسمتها للحقوق والحريات العامة والخاصة وذلك إلى جانب نصوصها الأخرى التي تنظم هيكلية الدولة وسلطاتها وتحديد مهام كل سلطة منها غير متجاوزة مبدأ الفصل بين السلطات في أداء هذه المهام .
لا أنكر هذا على دساتيرنا وإلى حد الأنبهار بهذه النصوص .. ولكني ارجع إلى التطبيقات الواقعية لهذه النصوص فأجد , ويجد معي كل متابع , إنحراف هنا وإنحرافات هناك وتداخل في أعمال السلطات على خلاف ما جاءت به النصوص .. مما أثار القلق في المجتمع وأثار تساؤلاً مشروعاً منه أفراداً ومنظمات عن كيفية معالجة هذه الانحرافات والخروقات وعن الضمانات الكفيلة بتطبيق أحكام الدستور نصاً وروحاً .
لاشك ـ وهذا توجه كل الحريصين على تطبيق أحكام الدستور وضمان احترام مضامينه ـ إن الوسيلة السلمية والحضارية هي وجود قضاء دستوري كفوء ومستقل ومتين .. يتولى معالجة هذه الانحرافات والخروقات ويلزم السلطات بأحترام أحكام الدستور وتطبيقها نصاً وروحاً لضمان أمن المجتمع وسلامته بدلاً من دفعه إلى حركات مسلحة أو تمرد لا تُحمَد عقباه .
وقد أدرك العراق هذه الحقيقة فتوجه إلى استحداث القضاء الدستوري عام 2005 لأول مرة في تأريخه الحديث , وبعد تجربة سابقة في هذا المجال لم يكتب لها النجاح والاستمرار , فتشكلت (المحكمة الاتحادية العليا ) بالقانون رقم (30) لسنة 2005 وتتكون من رئيس وثمانية أعضاء ينتخبون من مجلس القضاء الأعلى من بين كبار القضاة بآلية محددة , ويجري تعيينهم بمرسوم جمهوري يصدره رئيس الجمهورية ويستمر قضاتها بالخدمة دون التقيد بسن معينة إلا إذا رغبوا بخلاف ذلك .
وتعد هذه المحكمة : الهيئة القضائية الأعلى في السلم القضائي العراقي مستقلة بالكامل في تأدية مهامها القضائية وفي موازنتها المالية وفي اختيار وتعيين كوادرها الإدارية وفي شؤونها اللوجستية كافة وأن الأحكام والقرارات التي تصدرها ملزمة للسلطات كافة ولا تخضع لأي طريق من طرق الطعن.
ورغم قصر الفترة الزمنية على تشكيل المحكمة الاتحادية العليا , نسبياً , فقد فصلت في العديد من الدعاوى التي تطعن في عدم دستورية القوانين أو بعض النصوص فيها كما فصلت في المنازعات الناشئة عن تطبيق تلك القوانين أو القرارات أو الإجراءات الصادرة عن إحدى السلطات الاتحادية في العراق بدعاوى الطعن بعدم الدستورية والتي تقدم من سلطة ضد أخرى أو من ذوي الشأن من الأفراد والمنظمات التي كفل الدستور لها حق الطعن المباشر وفق شروط وإجراءات مبسطة وسريعة ضماناً لحسن تطبيق أحكام الدستور نصاً وروحاً من قبل المؤسسات الدستورية في الدولة , وذلك إلى جانب اختصاصات المحكمة الأخرى التي نص الدستور عليها في المادة (93) منه ومنها المصادقة على النتائج النهائية للأنتخابات العامة لمجلس النواب والفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء.
وكان موقف المحكمة الاتحادية العليا بالبت بهذه الطعون مهنياً ومستقلاً وفق ما تلزم به الأمانة القضائية المقدسة وذلك بإلغاء القوانين أو نصوص منها وإلغاء القرارات والإجراءات الصادرة من إحدى المؤسسات في السلطتين التشريعية أو التنفيذية لثبوت مخالفتها للدستور.
وكان لموقف المحكمة الاتحادية العليا ومن خلال الأحكام والقرارات التي أصدرتها الأثر الفاعل في انتظام أداء المؤسسات الدستورية وفي ترسيخ أحكام الدستور وتطبيقها وفق روح نصوصه ومنطوقها , وأورد هنا على سبيل المثال , لا الحصر , بعض من الأحكام والقرارات التي أصدرتها المحكمة الاتحادية العليا في مجال اختصاصها المنصوص عليه في الدستور وفي قانونها المشار إليه:
المثال الأول :
قضت المحكمة الاتحادية العليا في قرارها المرقم (34/اتحادية/2008) الصادر في 24/11/2008 بعدم دستورية قرار مجلس النواب العراقي بتعليق عضوية أحد أعضائه ورفع الحصانة عنه لسفره إلى خارج العراق والى دولة لا ترتبط مع العراق بعلاقات دبلوماسية ووفق الحيثيات الآتية :
(( كفل الدستور في المادة ( 44 / أولاً ) منه الحرية للعراقي بالسفر والتنقل داخل العراق وخارجه دون قيد أو شرط , وحيث لا يجوز تقييد هذه الحرية بنص في قانون أو نظام أو تعليمات استناداً إلى أحكام المادة (2 / أولاً / ج) من الدستور التي لا تُجَوّز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور وحتى لو وجد مثل هذا النص فيقتضي عدم العمل به وبناء عليه فلا يجوز لمجلس النواب اتخاذ قرار بحق احد أعضائه برفع الحصانة عنه ومنعه من السفر إلا إذا صدر قرار من السلطة القضائية وفي حالات محددة وردت على سبيل الحصر يقضي بذلك , وبناء عليه يكون قرار مجلس النواب برفع الحصانة عن المدعي غير دستوري ))
المثال الثاني :
أدانتْ المحكمة الاتحادية العليا في قرارها المرقم (69/اتحادية/2009) الصادر في 1/2/2010 قرار مجلس الوزراء بعدم تنفيذ عملية إجراء التعداد العام رغم النص عليه في القانون وذلك بقرار إداري قضى بتجاوزه ووفق الحيثيات الآتية :
(( تجاوز الحكومة للمدة المحددة في قانون الموازنة العامة رقم (6) لسنة 2009 لإجراء التعداد العام في مدة لا تتجاوز (31 / 9 / 2009) ينطوي على مخالفة قانونية وكان المقتضى التقدم بمشروع قانون لتعديل النص الموجود في قانون الموازنة العامة المتعلقة بالتعداد العام عليه ثبتت المخالفة القانونية ضد المدعى عليه رئيس مجلس الوزراء ))
المثال الثالث :
أصدرت المحكمة الاتحادية العليا في قراريها المرقمين (55/اتحادية/2010) و (56/اتحادية/2010) الصادرين في 24/10/2010 بإلزام رئيس مجلس النواب العراقي ( بحكم السن ) بقطع الجلسة الأولى المفتوحة للمجلس واستئناف انعقادها لانتخاب رئيساً للمجلس ونائبين له ومن ثم انتخاب رئيس الجمهورية ليكلف بدوره مرشح ( الكتلة النيابية الأكثر عدداً ) لتشكيل الوزارة ومباشرة المهام الدستورية في الدولة , وذلك بعدما أعطى مجلس النواب لنفسه إجازة مفتوحة بعدما عقد جلسته الأولى بعد الانتخابات العامة عام 2010 ولساعة أو تزيد بعدما تعذر اختيار رئيس المجلس ونائبيه في الجلسة الأولى كما يلزم الدستور بذلك , ولولا هذين القرارين الصادرين من المحكمة الاتحادية العليا لبقيت الجلسة الأولى مفتوحة إلى اجل غير معلوم دون إنعقاد المجلس ولبقي البلد في فراغ دستوري كامل . وذلك وفق حيثيات القرارين وكما يأتي .
ـ حيثيات القرار (55) في 24/10/2010
((إن المادة (1) من دستور جمهورية العراق لعام 2005 أقرت بأن نظام الحكم جمهوري نيابي ( برلماني ) , وكما هو ثابت في الدول التي تعتمد هذا النظام , فإنه يرتكز على سلطات ثلاث هي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية تمارس كل منها اختصاصاتها ومهماتها على أساس مبدأ الفصل بين السلطات وأن هذا المبدأ أقره الدستور في المادة (47) منه , وأن غياب عمل إحدى هذه السلطات يؤشر خللاً في ركيزة من ركائز نظام الحكم الجمهوري النيابي . فيكون قرار مجلس النواب في الدورة 2010 باعتبار الجلسة الاولى للمجلس مفتوحة قرار غير دستوري , وبناء عليه قررت المحكمة الاتحادية العليا إلزام رئيس ( السن ) بدعوة المجلس للانعقاد واستئناف أعمـال الجلـسة الأولـى المنصـوص عليهـا في المـادة (55) من الدستور ))
والحيثيات الواردة في القرار (56) في 24/10/2010
هي ذات الحيثيات الواردة في القرار (55) في 24/10/2010
بإلزام رئيس مجلس النواب بحكم السن ( أكبر الأعضاء سناً ) بقطع عطلة الجلسة الأولى المفتوحة واستئناف انعقادها.
المثال الرابع :
اختلفت القوى السياسية بعد ظهور نتيجة الانتخابات العامة لمجلس النواب العراقي عام 2010 في تكليف من يتولى تشكيل الوزارة تطبيقاً لأحكام المادة (76) من الدستور . وتم اللجوء إلى المحكمة الاتحادية العليا لتفسير المادة (76) المشار إليها , وهذا ما حصل بعد ظهور نتائج الانتخابات العامة لمجلس النواب العراقي عام 2014 , فتولت المحكمة تفسير هذه المادة بما يتفق مع روح النص ومع منطوقه , وتم الأخذ بهذا التفسير وانتهت أزمة تشكيل الوزارة السابقة والحالية بموجب القرارين (25/اتحادية/2010) في 25/3/2010 و (45/اتحادية/2014 ) في 11/8/2014 وقد ترتب على ذلك التفسير تسيير المؤسسات الدستورية في الدولة .
وحيثيات القرار الصادر في الدعوى (25/اتحادية/2010) المؤرخ 25/3/2010 , هي ذاتها الواردة في القرار (45/اتحادية/2014) المؤرخ 11/8/2014 والمتضمنة ما يأتي :
وجدت المحكمة الاتحادية العليا من استقراء نص المادة (76) من دستور جمهورية العراق بفقراتها الخمسة ومن استقراء بقية النصوص الدستورية ذات العلاقة . أن تطبيق أحكام المادة (76) من الدستور يأتي بعد إنعقاد مجلس النواب بدورته الجديدة بناء على دعوة رئيس الجمهورية وفقاً لأحكام المادة (54) من الدستور , وبعد انتخاب مجلس النواب في أول جلسة له رئيساًُ ثم نائباً أول ونائباً ثانياً له وفق أحكام المادة (55) من الدستور بعدها يتولى المجلس انتخاب رئيس الجمهورية الجديد وفق ما هو مرسوم في المادة (70) من الدستور , وبعد أن يتم انتخاب رئيس الجمهورية يكلف رئيس الجمهورية الجديد وخلال خمسة عشر يوماً من تاريخ انتخابه مرشح (( الكتلة النيابية الأكثر عدداً )) بتشكيل مجلس الوزراء . وتجد المحكمة الاتحادية العليا أن تعبير (( الكتلة النيابية الأكثر عدداً )) يعني:
إما الكتلة التي تكونت بعد الانتخابات من خلال قائمة انتخابية واحدة , دخلت الانتخابات بأسم ورقم معينين وحازت على العدد الأكثر من المقاعد , أو الكتلة التي تجمعت من قائمتين أو أكثر من القوائم الانتخابية التي دخلت الانتخابات بأسماء وأرقام مختلفة ثم تكتلت في كتلة واحدة ذات كيان واحد في مجلس النواب , أيهما أكثر عدداً , فيتولى رئيس الجمهورية تكليف مرشح الكتلة النيابية التي أصبحت مقاعدها النيابية في الجلسة الأولى لمجلس النواب أكثر عدداً من الكتلة أو الكتل الأخرى بتشكيل مجلس الوزراء استناداً إلى أحكام المادة (76) من الدستور , لأن اكتساب الصفة النيابية لايكون إلا بعد تصديق المحكمة الاتحادية العليا على النتائج النهائية للانتخابات واجتماع مجلس النواب وحلف أعضاؤه اليمين الدستورية المنصوص عليها في المادة (50) من الدستور عندها يعتد بالكتلة المقصودة بالمادة (76) لأنها تكونت ممن فازوا بالانتخابات واكتسبوا صفة النائب وفق ما تقدم . هذه أمثلة عرضتها ـ بما يسمح به وقت المؤتمر ـ تصدت بموجبها المحكمة الاتحادية العليا وفصلت في المنازعات الدستورية أو ذهبت إلى تفسير مواد في الدستور لتأمين انتظام الأداء في المؤسسات الدستورية وتأمين السلم المجتمعي وتحصين الحريات والحقوق العامة والخاصة ورسمت المحكمة الاتحادية العليا الطريق لهذه المؤسسات لضمان حسن العمل فيها وتحسين الأداء المؤسسي.
وبالتأكيد فأن الطريق طويل أمام المحاكم والمجالس الدستورية في العالم العربي لترسيخ أحكام دساتيرها ولتثبيت مبدأ المواطنة كمعيار لتولي المسؤوليات العامة ووفق خيارات الشعب الذي هو مصدر السلطات , والأمل كبير أن تتولى المحاكم والمجالس الدستورية تأدية رسالتها السامية في تأمين تطبيق أحكام الدستور نصاً وروحاً وتأمين الحريات والحقوق لتعزيز مكانة شعوبنا ودولنا في المجتمع الدولي .
والله من وراء القصد .
مدحت المحمود
رئيس المحكمة الاتحادية العليا ـ رئيس مجلس القضاء الأعلى
جمهورية العراق
بيروت في 15/11/2014
اترك تعليقاً