تعليق على قرار محكمة النقض بكون الضرب و الجرح المفضي إلى موت الموروث دون نية إحداثه مانع من الإرث
القرار 479 رقم الصادر عن محكمة النقض بتاريخ 15/11/2016 في الملف عدد 4457/1/1/2015
من إعداد : ذ. محمد ناجي شعيب.
القرار موضوع التعليق أثار نقطة جوهرية تخص موضوع الإرث في الشق المتعلق بمانع من موانع الإرث الذي هو القتل ، وهو موضوع له أهميته لتعلقه بالنظام العام باعتبار أن الإرث فرض من فرائض الله تعالى ، وجعله وصية من وصاياه إلى عباده وأمانة في أعناقهم، قال تعالى في سورة النساء ” يوصيكم الله في أولادكم.. إلى قوله عز وجل …وصية من الله، والله عليم حليم، تلك حدود الله، ومن يطع الله ورسوله ندخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم، ومن يعص الله ورسوله ويتعدى حدوده ندخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين”(1). وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ” من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة” (2) ، وارتباطا بالنقطة القانونية التي أثارها القرار موضوع التعليق سنقف عند أحد موانع الإرث الذي هو القتل العمد، مع الإشارة إلى أن موانع الإرث اختزلها الفقهاء في كلمة (عش لك رزق) حسب التفصيل التالي: ع : عدم الاستهلال، وش: الشك، ول: اللعان، وك: الكفر، ور: الرق، وز: الزنا، وق: القتل ،وجاء في السملالية
يمنع الإرث عدم استهلال… شك لعان كفر ذي اعتزال
رق زنى وقتل ظلم مسجلا… إلا الولا عن معتق قد قتلا
إنه لا خلاف في أن القتل العمد مانع من الإرث في المال والدية، للحديث الشريف ”لا يرث القاتل” (3)، وإن علة منع القاتل ظلما وعدوانا من الإرث هي أن استعجاله الميراث بغير وجهه، فاستعجل الشيء قبل أوانه بحسب المظنة وظاهر حاله فجوزي وعوقب بحرمانه أي عومل بنقيض قصده ،أما القتل الخطأ فليس مانعا من الإرث وهو ما كرسه المشرع المغربي في مدونة الأسرة في المادة 333 حين نص على أن ”من قتل موروثه عمدا وإن أتى بشبهة لم يرث من ماله ولا ديته، ولا يحجب وارثا، ومن قتل موروثه خطأ ورث من المال دون الدية وحجب ” ومصدره قول خليل”ولا قاتل عمدا عدوانا وإن أتى بشبهة كمخطئ من الدية”
لكن الخلاف يثار عندما تدق التفرقة بين ما هو قتل عمد و ما هو قتل خطأ حيث تختلف الآثار المترتبة عن هذا التمييز بين تمكين الوارث من حقه في الإرث وبين حرمانه منه، والتي تكون نتيجتها خطيرة بالنظر إلى أن الأمر يتعلق بحق الله وما أوصى به في أحكام الميراث، والنقطة التي أثيرت في نازلة الحال تتعلق بجرم اقترفه الوارث ( وهو الإبن) في حق موروثه (الذي هو والده) أدانته من أجله المحكمة الجنائية بعد أن كيفت فعلته على أنها ضرب وجرح أفضى إلى موت الموروث دون نية إحداثه وعاقبته من أجل ذلك بعشر سنوات سجنا نافذا، فقام بعد استنفاذ العقوبة السجنية يطالب بنصيبه إرثا في عقار من متروك والده الذي قتله بحجر رماه به على إثر شنآن بينهما متمسكا بكون قتله له لم يكن مقصودا وأنه كان خطأ مستشهدا بالقرار الجنائي الذي أدانه بالضرب والجرح المفضيين إلى الموت دون نية إحداثه.
وإنه بالرجوع إلى التوجهات الفقهية في مجال تكييف الضرب والجرح المفضي إلى موت الموروث دون نية إحداثه ومدى تأثيره على حق مرتكبه في الإرث، نجد أن المالكية كانوا متشددين في التسبيب تشددهم في مسألة الدماء، ذلك أن” مفرق الخلاف بين الإمام مالك رحمه الله وجمهور الفقهاء أن مالكا ينظر إلى نتيجة الاعتداء بغض النظر عن كون المعتدي قصد النتيجة أم لم يقصدها، فمن اعتدى بالضرب، وانتهى الضرب بالموت فقد اعتبر عامدا للقتل باعتبار العدوان بالضرب، وأن القصاص حيث كان القتل من غير نظر لآلته” (4)، وأن هذا النوع من القتل يدخل في” القتل المشبوه أو الغامض الذي لا يعرف وجهه هل كان خطأ أو عمدا؟ وهل كان بحق أو تأولا أوعدوانا، وحكمه أنه محمول على العدوان يمنع من الإرث حتى يثبت ببينة خلافه من خطأ أو قتل بحق فيعمل بذلك، فإذا قتل وارث موروثه وادعى أنه قتله خطأ، أو دفاعا عن نفس أو عرض فإنه لا يصدق في ذلك ويحمل على أنه قتله عمدا عدوانا، لأن الأصل في أفعال الناس القصد والعمد، لا الخطأ، والأصل عصمة الدم حتى يثبت ما يبيحه” (5)،
و قد جاء في كتاب فتاوى الأزهر عن دار الإفتاء المصرية : أن الضرب المفضي إلى الموت مثل القتل المباشر في الميراث، وكان السؤال حول رجل ضرب زوجته بمجمع يده على ظهرها وجنبها حتى أثر الضرب على أحشائها فمرضت نحو شهر مرضا لم يمنعها من الخروج من منزلها لقضاء مصالحها إلى أن ماتت ، فهل هذا الفعل يعد قتلا عمدا أوشبه عمد مانعا لميراث الفاعل وهو الزوج، وكان الجواب: متى تحقق أن موتها بسبب هذا الضرب ولم يكن بحق كان ذلك مانعا من إرثه، لأنه حينئذ يكون قاتلا، ومجرد خروجها لا يكفي في انتفاء نسبة الموت للضرب واعتباره أثرا له (6)، فالعبرة إذن هي بحدوث العدوان وهو ما ذهب إليه القرار موضوع التعليق مستشهدا بما ورد في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ” ولا يرث قاتل لموروثه عمدا عدوانا وإن أتى بشبهة تدرأ عنه القصاص كرمي الوالد ولده بحجر فمات منه، فالضمير في أتى للقاتل لا بقيد العدوان، إذ لا عدوان مع الشبهة وقد يقال جعله عدوانا من حيث التعمد” ،وفي نفس السياق جاء بأن ” قاتل العمد عدوانا لا يرث من المقتول شيئا لا من المال ولا من الدية وإن عفى عنه وإن أتى بشبهة تدرأ عنه القتل كرمي الوالد ولده بحديدة..” (7) وكلها جاءت في شرح قول خليل”ولا قاتل عمدا عدوانا وإن أتى بشبهة ”،
و عليه فإنه إذا كانت ظروف وملابسات الجرم تدرأ عن القاتل القصاص، فإن القتل المشبوه يبقى مانعا من الإرث، لأنه كما أشار بعض الفقه “لا يجوز أن يستحق الإنسان لنفسه على نفسه شيئا ولا يجوز أن يجني جناية يستحق بها مالا، لأن الجناية إن لم تلزمه شيئا فلا أقل من أن لا تفيده استجلاب مال” (8)، والتساؤل الذي قد يطرح نفسه في النازلة هو أنه إذا كانت قناعة القاضي الجنائي قد انتهت إلى أن نية القتل لم تكن متوفرة لدى الجاني ألم يكن ذلك ليقيد القاضي المدني بخصوص الوقائع الثابتة للقاضي الجنائي عملا بالفصل 418 من قانون الالتزامات والعقود الذي يعتبر الأحكام حتى قبل صيرورتها واجبة التنفيذ حجة على الوقائع التي تثبتها؟
ويكون الجواب أنه لا تعارض بين الحكم الجنائي وما ذهب إليه القاضي المدني لأن الأول انطلق من قاعدة مفادها أن الشك يفسر لمصلحة المتهم وكان بديهيا في ظل تكييف الفعل الجرمي أن يعطيه القاضي الجنائي الوصف الأخف الذي هو القتل دون نية إحداثه، وأنه حتى بالنسبة للحدود في المجال الشرعي تدرأ بالشبهات ( الحد لا يثبت بدليل فيه شبهة)، أما القاضي المدني وهو يبحث في مدى تأثير القتل بشبهة على حق القاتل في الميراث فقد ساير التوجه الفقهي المفصل أعلاه في أن العبرة بحصول العدوان وما ترتب عنه من نتيجة القتل، و أن ما أعطته محكمة النقض من تفسير لنص المادة 333 من مدونة الأسرة يصب في ذلك الاتجاه انطلاقا من “القتل العمد ولو بشبهة”.
تلك بإيجاز النقطة التي أثارها القرار موضوع التعليق، آمل أن أكون قد وفقت في إيصال المراد ، والله ولي التوفيق.
مراجع البحث :
1) الآيات 11 و12 و13 من سورة النساء.
2) سنن سعيد بن منصور 1/96.
3) الدارقطني 4/237
4) الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي ـ العقوبةـ للإمام محمد أبوزهرة طبعة دار الفكر العربي، ص 522.
5) اللباب في شرح تحفة الطلاب للأستاذ محمد التاويل ص 30 و31.
6) فتاوي الأزهر، دار الإفتاء المصرية، ورد في الدليل العملي لفقه الإرث وتوزيع التركات، ص66، سلسلة الدلائل العلمية 3 الطبعة الثانية 1432-2011. .
7) حاشية ابن الخياط للشيخ أبي العباس أحمد بن محمد بن عمر الزكاري الفاسي على شرح الخرشي لفرائض مختصر العلامة خليل ص 181، دار الكتاب العلمية بيروت.
8) إيضاح الأسرار المصونة في الجواهر المكنونة في صدف الفرائض المسنونة ، للشيخ أحمد بن سليمان الجزولي الرسموكي ص 15 ، توزيع دار المعرفة الدار البيضاء .
اترك تعليقاً