القانون الكنسي
القانون الكَنسي canon law/droit canonique مجموعة الشرائع و التعاليم والأوامر التي صدرت عن الكنيسة منذ ظهور المسيحية حتى العصور الحديثة. ويسجل هذا القانون تاريخ العلاقة بين سلطة الكنيسة والسلطة الزمنية من جهة وتاريخ الخلاف و الصراع بينهما من جهة أخرى. وقد تطور هذا القانون بما يعكس طبيعة وجود سلطتين متعاونتين ومتنازعتين، أغناه الفكر واللاهوت المسيحي في مراحل متعددة:
المرحلة الأولى
وهي مرحلة آباء الكنيسة، حيث سادت على أيدي القديسين الأوائل نظرية الحق الإلهي المقدس والتي تقول إن هناك مجتمعاً مسيحياً عالمياً واحداً، وإن الإرادة الإلهية قضت أن يخضع المجتمع الإنساني لسلطتين: أولاهما السلطة الروحية ويديرها رجال الدين، والأخرى السلطة الزمنية و يديرها رجال الدنيا وعلى رأسهم الامبراطور الروماني، على أن تكون إدارة كل من الفئتين طبقاً للقانون السماوي والطبيعي.
وكانت دعوة الآباء تتضمن ضرورة احترام السلطة الزمنية لأنها اختيار إلهي، وأن الامبراطور بمنزلة وزير الله على أرضه يتولى أمر الرعايا بموجب حق إلهي.
المرحلة الثانية
وذلك منذ نهاية القرن الخامس الميلادي حين بدأت الامبراطورية الرومانية تتداعى، فقد ساد فيها نظرية الحق الإلهي غير المباشر أو التفويض الإلهي، و ملخصها أن الله لا يختار الحكام بنفسه وإنما يوجه الحوادث ليساعد الشعب على اختيار الحاكم، فالامبراطور بمنزلة وزير الله على الأرض، يمثله بطريقة غير مباشرة عبر رضا الشعب المسيحي وتحت إشراف الكنيسة والبابا، وبذلك فإن طاعته واجبة..و قد حدثت في هذه المرحلة أحداث و اتجاهات فكرية حاسمة أثرت لاحقاً في تطور القانون الكنسي:
1ـ انتقال مركز الامبراطورية إلى القسطنطينية وإهمال روما؛ مما أدى إلى نزاع عقائدي وسياسي بين الكنيستين الشرقية (الأرثوذكسية) الغربية (الكاثوليكية)، فبقي يجمعهما قانون كنسي واحد لغاية العام 1054م، حين تكرس الانقسام نهائياً.
2ـ تعزيز سلطة البابا الزمنية في الغرب حين أصبح الحاكم الفعلي لوسط إيطاليا بما فيها روما، مستنداً في ذلك إلى ما سمي (وثيقة هبة قسطنطين) التي أُعلنت في العام 750 ـ760م و هذه الوثيقة مشكوك في صحتها، وعدها كثيرون مزورة من قبل بطانة البابا.
3ـ ظهور نظرية السيفين في نهاية القرن الخامس التي بشر بها البابا (جلاسيوس الأول)، و التي تقضي بتكريس مبدأ سيادة كل من السلطة الروحية (الكنيسة) والسلطة الزمنية (الحاكم)، وتحديد اختصاصات كل منها في إطار المشاركة والتعاون بينهما، وأصبحت هذه النظرية تقليداً مقبولاً في مستهل العصور الوسطى، وأضحت قاسماً مشتركاً لمفكري الطرفين حينما اشتدت المنافسة بين البابا و الامبراطور.
المرحلة الثالثة
انهيار و تداعي الامبراطورية الرومانية في الغرب و اضطرار البابا إلى الاستعانة بالفرنجة؛ مما أدى إلى قيام امبراطوريتهم بقيادة شارلمان عام 800 م، وإعلانها امبراطورية مسيحية أفرزت واقعاً جديداً ولاسيما في دور الكنيسة والبابا والقانون الكنسي إذ حكم شارلمان بموجب وثيقة (المحبة و الإيمان) بصفة ملك و كهنوت يضمن حماية الكنيسة، و حماية رجالها في إقامة الصلوات و نشر الكاثوليكية، وأصبح بذلك رئيساً للسلطتين الروحية و الزمنية و تراجع دور البابا و الكهنة.
بعد وفاة شارلمان ضعفت سلطة خلفائه و استعادت الكنيسة دورها عبر ما سمي حكم الأساقفة، و ازدهرت نظريات الكنيسة حول الحكم، وكان أهمها مقررات المجمع الكنسي في العام 825 م حيث لم يعترف للقادة والملوك اللاحقين إلا بسلطة إدارية في الغرب، في حين تميزت امبراطورية بيزنطة بوحدة القيصر والكنيسة تحت شعار التضامن بينهما.
في الغرب، قسّم حكم الأساقفة المجتمع إلى ثلاث فئات: فئة العلمانيين بمن فيهم الملوك، وفئة الرهبان، وفئة الأساقفة، وهؤلاء عليهم عبء إدارة سلام اجتماعي وديني لكل الفئات، وأضحت الامبراطورية المسيحية شأن الأساقفة لا شأن الامبراطور و الأمراء…
غير أن الاضطرابات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أضعفت حكم الأساقفة ولاسيما في بداية الألف الثاني للميلاد، وبلغ الفساد الحد الذي أصبحت المناصب والمراكز الدينية تشترى بالمال، ووصل الى أوساط الكهنة… فأصبح البابا ينصب بصفقات تتغلب فيها المصالح الزمنية على قضية الكنيسة.
وما لبث البابا غريغوار السابع أن استعاد دوره عبر إجراءات الإصلاح داخل الكنيسة من خلال وثيقتين (الأوامر البابوية) و(رسالة إلى السيد ميتز)، تضمنت مجموعة من القوانين التي وضعت لتحديد صلاحيات البابا وسلطته الزمنية والروحية على الملوك والأمراء وتابعي الكنيسة من أساقفة وكهنة.
المرحلة الرابعة
النظام الإقطاعي، وفيه طرأ على البابوية والكنيسة تطورات ذات طابع اقتصادي واجتماعي إذ أصبح للبابوية سيادة إقطاعية تشمل الأملاك الزراعية، والعقارات والأتباع وشرعت الكنيسة قانون الفروسية لحمايتها، والذي أصبح بمنزلة عقد بين الفارس والكنيسة، كما حددت الكنيسة واجبات السيد الإقطاعي وحقوقه وحددت قسم الإخلاص من القن التابع إلى سيده الإقطاعي.
و قد شهدت هذه المرحلة، في القرون 11ـ13، مرحلة ازدهار سلطة الكنيسة وأحكم الباباوات سيادتهم، وأعيد إحياء نظرية السيفين، كذلك عززت الحروب الصليبية سلطة البابا التي أعلن بدايتها بقرار منه، ينفذه البارونات والملوك والأباطرة ويحكمها القانون الكنسي.
أدى إخفاق الحروب الصليبية، وظهور النزعات الاستقلالية لدى الملوك، وبداية تبلور الروح العلمانية في مجتمعات أوربا إلى تراجع نفوذ البابا وتقويض سلطته، ووصلت هذه الخلافات إلى حد تنصيب ثلاثة باباوات في وقت واحد في أماكن مختلفة في روما وأفينيون الفرنسية Avignon وبيزا، وذلك في بداية القرن الخامس عشر، وقد نجم عن هذا الانشقاق الكبير ظهور ما سمي (مجمع كونستاس) في العام 1414ـ 1417 الذي ضم عدداً من الكرادلة والمطارنة، وتم خلع الباباوات الثلاثة، وانتخاب بابا جديد سمي مارتن الخامس، وتقرر أن يجتمع دورياً، وسجل سابقة تثبيت قاعدة إعلاء سلطة المجمع على سلطة البابا وضرورة خضوعه لقرارات المجمع.
تجددت الخلافات بين البابا والمجمع من جديد وانتهت لمصلحة البابا، بعد أن فقد نفوذه العالمي، وأدت هذه التداعيات إلى انشقاقات واسعة أسفرت عن انفصال الأنغليكانية عن الكاثوليكية، وأصبح لها قانونها الكنسي الخاص، ثم ظهرت الإصلاحات اللوثرية والكالغينية في وجه بابا روما، أدت إلى استقلالها عنه في العصر الحديث الذي شهد تطوراً أوربياً باتجاه سلطة العلمانية وقوانينها، وتراجعت سلطة الكنيسة وقانونها وأصبحت ولايتها لاهوتية ودينية، أما سلطتها الزمنية فأصبحت محدودة في إطار دولة الفاتيكان التي تضم أرضاً وعقارات محدودة داخل مدينة روما بموجب اتفاق رسمي مع الجمهورية الإيطالية.
اترك تعليقاً