رد المحكم
الحياد والاستقلال شرطان لازمان لإنجاز عمل المحكم ، فكفالة الأمان القانونى لأطراف النزاع تعد من الأساسيات الجوهرية لنظام التحكيم ولا يتوافر هذا الأمان إلا إذا رسخ لدى الخصوم القناعة الكاملة بشخصية المحكمين ، ليس فقط فى بداية الخصومة ، وإنما فى كل مراحل النزاع . ويعنى هذا المبدأ ضرورة تقرير الحق للأطراف فى رد المحكم طالما توافر أي سبب من شأنه الإخلال بهذه القناعة .
وعادة ما تتلخص أسباب الرد فى الظروف والوقائع التى من شأنها أن تثير شكوكاً حول حيدة المحكم واستقلاله وفقاً للمفهوم السابق كوجود ميل شخصى أو معنوى أو علاقات مادية أو اجتماعية بين المحكم واحد طرفى التحكيم أو ممثليهم .
أن ” التحكيم قضاء ، ومن يتولاه يتنزه عن كل نقيصة تخل بميزان العدالة القائم بالقسط والمحكم قاض ، وان كان خاصاً ، يلزم فيه الموضوعية فى تقييم ووزن الأمور ، والحيدة والاستقلال فى مواجهة من يحكم فيهم ، ولا يحسبن المحكم انه لا رقيب عليه ، يحكم كيف شاء ، أن حياده واستقلاله ونزاهته هى محط الإيمان بعدالة قضائه ” ( )
ولهذه الأسباب فقد كفلت القوانين المنظمة للتحكيم التقليدى حق الرد للخصوم ، ومن ذلك ما تنص عليه المادة 18/1 من قانون التحكيم المصرى من انه ” لا يجوز رد المحكم إلا إذا قامت ظروف تثير شكوكاً جدية حول حيدته أو استقلاله ” .
وتكمن العلة فى إجازة رد المحكم فى حق كل طرف فى أن يفصل فى النزاع شخص محايد ، لا تربطه بأحد الطرفين أية صله تجعله يغلب مصلحة هذا الطرف على حساب الطرف الآخر ، وهو ما يهدر نظام التقاضى .، ولذلك ، وحتى تتوافر لدى كل طرف قناعة راسخة بحياد المحكم ، وحتى يكون كل طرف على يقين بأن الحكم الصادر فى الدعوى صدر مؤسسا على اعتبارات موضوعية من طبيعة النزاع ، دون أن يتأسس على اعتبارات شخصية ناتجة عن ميل أو هوى ، فقد أجازت أحكام القانون لأي شخص يتوافر لديه ما ينتقص من هذه القناعة المطالبة برد المحكم .
ومن عجب أن يقرر البعض مع ذلك ألا ” تعتبر قرابة المحكم لأحد الخصوم أو لهما معاً أو صداقته لأحدهما أو غيرها من أسباب عدم الصلاحية بالضرورة سبباً لعدم الصلاحية للنظر فى خصومة التحكيم ، إذ قد تكون قرابته للخصوم أو صلته بهم أو بالنزاع هى السبب فى اختياره يرجع على وجه التحديد باعتبار ثقة الخصوم فيه وقناعتهم بقدرته على الفصل فى النزاع وحيدته واستقلاله ، وبالنظر إلى أن اختياره يرجع إليهم فى بادىء الأمر وليس مفروضاً عليهم ” ( )
والذى يحدث أن يقدم ” طلب الرد كتابة إلى هيئة التحكيم مبيناً فيه أسباب الرد خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ علم طالب الرد بتشكيل هذه الهيئة أو بالظروف المبررة للرد ، فإذا لم يتنح المحكم المطلوب رده خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ تقديم الطلب ، يحال بغير رسوم إلى المحكمة المشار إليها فى المادة ( 9 ) …. للفصل فيه بحكم غير قابل للطعن ” ( المادة 19/1 تحكيم )( ) . وينبغى التفرقة بين الجهة التى تستقبل طلب الرد والجهة المختصة للفصل فيه .، إذ أوجب النص ضرورة تقديم الطلب لهيئة التحكيم أولاً لإعطاء فرصة للمحكم المطلوب رده للتنحى من تلقاء نفسه . فإن لم يتنح ، التزمت هيئة التحكيم بإحالة طلب الرد – بغير رسوم – إلى المحكمة المختصة للفصل فيه بحكم غير قابل للطعن .وقد ذكرنا من قبل ان حياد هيئة التحكيم ، التزام يجب توافره فى كل مراحل الدعوى ، ولحين تمام الفصل فى النزاع .
لذا فمن المتصور أن تثور أسباب الرد فى الفترة المصاحبة لتشكيل الهيئة أو فى اى وقت آخر أثناء الدعوى ، إذا ما استجدت وقائع من شأنها إثارة الشك حول حياد المحكم .، ولذلك أجاز النص تقديم طلب الرد إما :
– خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ علم طالب الرد بتشكيل الهيئة إذا كان لديه من الأسباب ما يبرر طلبه .
– وإما خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ علم طالب الرد بالظروف المبررة للرد .
” ولا يترتب على تقديم طلب الرد وقف إجراءات التحكيم ، وإذ حكم برد المحكم ترتب على ذلك اعتبار ما يكون قد تم من إجراءات ، بما فى ذلك حكم المحكمين ، كأن لم يكن ” ( المادة 19 تحكيم مصرى )
وهكذا انحاز المشرع لاستمرار خصومة التحكيم حيث لم يرتب على مجرد تقديم طلب الرد – الذى قد يكون مؤسساً على أسانيد واهية – وقف إجراءات التحكيم ، وإنما قرر استمرار الهيئة فى مباشرة عملها لحين الفصل فى طلب الرد ، ولا شك أن مصير الإجراءات التى تمت سيتوقف على نتيجة الفصل فى هذا الطلب ، فلو كانت النتيجة هى الرفض ، استمرت الهيئة فى أداء عملها وكأن شيئاً لم يكن ، أما إذا تبين جدية الطلب وتقرر رد المحكم ، فهنا لابد – وكما قرر النص – إلغاء جميع المراحل التى خاضتها هيئة التحكيم وكأن شيئاً لم يكن ، وذلك بسبب عدم حيادية تشكيلها منذ البداية .
وقد حدث فى إحدى الدعاوى أن تم النعى على حكم التحكيم بالبطلان بزعم عدم توقف هيئة التحكيم عن الفصل فى الدعوى بعد تقديم طلب الرد ، حيث قضت المحكمة بأن هذا الدفع ” فى غير محله ، ذلك أن المقرر انه إذا كان النص واضحاً جلى المعانى قاطع الدلالة على المراد منه ، فلا يجوز الخروج عليه أو تأويله . لما كان ذلك وكان النص فى الفقرة الرابعة من المادة 19 من القانون لرقم 27 لسنة 1994 انه لا يترتب على تقديم طلب الرد … وقف إجراءات التحكيم ، وإذا حكم برد المحكم سواء من هيئة التحكيم أو من المحكمة عند نظر الطعن ترتب على ذلك اعتبار ما يكون قد تم من إجراءات التحكيم بما في ذلك حكم المحكمين كأن لم يكن ، بما مفاده أن رد احد المحكمين أو كليهما لا يترتب عليه وقف السير فى دعوى التحكيم ، وكل ما هنالك انه إذا قضى برد المحكم اعتبر ما تم من إجراءات سابقة على قبول الرد كأن لم يكن ، ولما كان ذلك وكانت هيئة التحكيم استمرت فى نظر دعوى التحكيم بعد التقرير بطلب الرد وأصدرت حكمها دون أن توقف السير فى الدعوى التحكيمية ، فإنها تكون قد صادفت صحيح القانون ويضحى النعى على الحكم بهذا لسبب فى غير محله ” ( )
اترك تعليقاً