الإجرام السياسي
الإجرام على العموم هو ارتكاب أفعال يحرِّمها التشريع الجنائي تحريماً صريحاً، ويحدد أركانها ويضع لها عقوبات محددة. أما الإجرام السياسي فهو إجرام ينتهك مرتكبه التشريع الجنائي، إلا أنه يتميز من الإجرام العادي بطبيعته الخاصة، وبنظرة المجتمع المتسامحة إلى مرتكبه. وهو إجراء قديم جداً في تاريخ البشرية، لكنّ الجديد فيه هو تسميته أولاً، وتطور معاملة مرتكبه إلى اللين ثانياً.
ففي القديم كان المجرم السياسي يعدّ عدو المجتمع وكان يعاقب معاقبة في منتهى القسوة، لأنه كان يعمل على تغيير نظام المجتمع وتبديل قواعده السياسية أو الاجتماعية.
ولما كان الرئيس أو الملك في المجتمعات القديمة هو رأس الدولة وممثلها، فقد كان المجرم السياسي عدواً شخصياً له ولدولته.
وكان من عادة الملوك أن يعقدوا فيما بينهم معاهدات من أجل تسليم المجرم السياسي، الذي يلجأ إلى أراضيهم، إلى دولته التي فر من ضغطها وظلمها، لتنكل به، كما يحلو لها، وبذلك كانت تسد في وجه أعداء الداخل أبواب كل أمل في النجاة، ليكونوا عبرة لسواهم.
وقد ازدهر في تلك الحقب مفهوم «الجلالة البشرية» في مقابله مفهوم «الجلالة الإلهية» للتخلص من الأشخاص الخطرين على النظام السياسي، واستصفاء أموالهم ومعاقبتهم بوحشية، والتنكيل بأسرهم وجماعتهم.
وقد عرّفت الشريعة الإسلامية الإجرام السياسي باسم البغي والمجرمين السياسيين باسم البغاة. وكانت أول شريعة تضع قواعد واضحة لمعاملة هؤلاء معاملة حسنة. فهم، في نظرها، مجتهدون يثورون على الإمام الظالم لخلعه، وتخليص الناس من آثامه وقد قال فيهم الفقيه شمس الدين بن شهاب، في مؤلفه «نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج»: «إنه لا يرى في تعبير البغي ما يشين أصحابه» ويشترط أن يكون لهم تأويل سائغ يخرجون به على الإمام، وأن يكون لهم منعة وحوزة. وتتمثل معاملتهم الحسنة في أنهم إذا انكسروا في حرب لا يقاتل مدبرهم (أي أنهم يستفيدون من حق الملجأ) ولا جريحهم، ولا من ألقى سلاحه ولا يقتل أسيرهم، وإذا انتهت الثورة أعيدت إليهم أموالهم وأسلحتهم وخيلهم.
أما في ممالك أوربة في العهد الوسيط فقد أدى نمو الأساليب العنيفة فيها إلى تحرك أصحاب الضمائر الخيرة في مصلحة المجرمين السياسيين، وطالبوا بمعاملة هؤلاء معاملة إنسانية، لأنهم ينطلقون من أفكار ودوافع شريفة تختلف عن دوافع القتلة والمزورين واللصوص ومنتهكي الأعراض وأفكارهم.
وكان أول بوادر التحول القرار الذي اتخذه مجلس النواب الفرنسي عام 1789 بعد الإطاحة بالنظام الملكي، والذي منح حق الملجأ السياسي لكل من يدخل البلاد هرباً من تعسف حكام بلاده. وحين وصل لويس فيليب إلى السلطة، أكد نظامه عام 1830 أن بلاده لن تبعد أي مجرم سياسي دخلها لاجئاً وهي لن تطلب استرداد أي مجرم فرنسي غادر بلاده لدافع سياسي. وفي عام 1832 أصبح للإجرام السياسي مفهوم قانوني واضح، لأنه أصبح يعاقب بعقوبات سياسية خاصة، تختلف عن العقوبات العادية. وفي عام 1848 ألغيت عقوبة الإعدام عن الجرائم السياسية، وأصبح المجرمون السياسيون يعاملون في السجون معاملة خاصة كريمة. وقد نهجت هذا النهج دول كثيرة من دول أوربة وأمريكة الجنوبية، ورسخ في التعامل الدولي مبدأ رفض تسليم المجرم السياسي إلى دولته.
ولكن الشارع العثماني لم يفسح صدره لهذه الإصلاحات فظل يعامل المجرم السياسي على أنه عدو نظامه اللدود وبقي القانون الجزائي العثماني مطبقاً في سورية. وبعد أن استقلت سورية، وجلت القوات الأجنبية عنها عام 1946 صدر قانون جديد للعقوبات عام 1949، تبنى ما تحقق من إصلاحات في نطاق الإجرام السياسي، وتأكد هذا الاتجاه في دستوري 1950و1973.
وقد اعترفت شرعة الأمم المتحدة بحق كل إنسان في الحصول على «ملجأ يقيه من الاضطهاد»، ولكن لا يجوز منح هذا الملجأ إذا كان هذا الإنسان مرتكباً جرماً عادياً، كما تنص المادة 14 من ميثاق الأمم المتحدة.
كذلك قبلت الدول العربية مبدأ حق الملجأ، إذا كان الفاعل مرتكباً جريمة سياسية، كما جاء في المادة 4 من اتفاقية 14/9/1952 الملغاة، والمادة 17ج من اتفاقية الرياض المعقودة بتاريخ 16/4/1983، الأمر الذي يعني أن الإجرام السياسي أصبح منظماً تنظيماً قانونياً، في معاهدات دولية، حتى في البلاد العربية التي لم تتبن في تشريعها الداخلي هذا النوع من الإجرام، على أن تقرر كل دولة بحسب رأيها، فيما إذا كانت الجريمة سياسية أم لا.
ويتصف قانون العقوبات السوري بتعريفه الإجرام السياسي وتحديد أركانه، والنص على التسامح في معاقبته. ومن ميزات هذا القانون، أنه جمع النظريتين السائدتين في الفقه وهما النظرية الشخصية التي تنظر إلى الدافع، والنظرية الموضوعية التي تنظر إلى الحق المعتدى عليه، وعلى هذا الأساس، تقسم الجرائم السياسية إلى ثلاث طوائف، هي الآتية:
الجرائم السياسية المحضة: وهي جرائم تهدف إلى الإضرار بالمصلحة العامة للدولة، ولا تضر الأفراد إلا ضرراً غير مباشر، ويظهر فيها التقاء النظريتين الشخصية والموضوعية، لأنها تشتمل على زمرتين أساسيتين: الزمرة الأولى هي الجرائم التي يكون الدافع الذي دفع بالمجرم إلى ارتكابها دافعاً سياسياًَ، والدافع باعث نفسي يتحرك في نفس الفاعل، وليس من شأنه أن يلغي الجريمة، وإنما يمكن أن يكون مسوغاً لتخفيف العقوبة إذا كان نبيلاً. والقاضي هو الذي يستخلص الدافع السياسي من الوقائع، ليعطي الجريمة وصفها السياسي، أو يرفضه. أما الزمرة الثانية فهي الجرائم الواقعة على الحقوق السياسية العامة والفردية «ما لم يكن الفاعل قد انقاد لدافع أناني دنيء» .
ويدخل في مفهوم هذه الطائفة من الجرائم، على سبيل المثال الجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي، واغتصاب سلطة سياسية أو مدنية، والفتنة، والجرائم التي تنال من الوحدة الوطنية، والنيل من مكانة الدولة المالية لغايات سياسية، والجرائم الموجهة ضد سلامة الانتخابات العامة.
الجرائم المركبة:
الجريمة المركبة هي جريمة واحدة، من حيث ركُنها المادي، غير أنها تضرب في آن واحد مصلحتين: مصلحة عامة تتمثل في النظام السياسي، ومصلحة خاصة، هي حق واحد أو أكثر من الأفراد. والمثل عليها اغتيال مسؤول كبير في الدولة. فالدافع إلى الجريمة سياسي، لا ريب فيه، ولكنّ ضحيتها المباشرة فرد من الناس، له حق مقدس في الحياة وفي سلامة جسمه. وبسبب الأذى الذي لحق بحياة مواطن إنسان، عُدَّت هذه الجرائم عادية.
الجرائم المتلازمة: وهي جرائم عادية تتلازم مع جريمة سياسية. ومثلها أن يستغل شخص مناسبة مظاهرة سياسية قامت لتحقيق هدف سياسي، فيكسر أحد مخازن الأسلحة، ويستلب ما فيه من سلاح ليقدمه إلى المتظاهرين.
وقد حرص الشارع السوري على أن يعدّ طوائف الجرائم الثلاث، المحضة والمركبة والمتلازمة، جرائم سياسية من حيث المبدأ. إلا أنه ينزع الصفة السياسية عن أية جريمة منها إذا كانت خطيرة من «حيث الأخلاق والحق العام» وقد أعطى أمثلة عن هذه الجرائم، ومنها القتل والجرح الجسيم، والاعتداء على الأملاك إحراقاً أو نسفاً أو إغراقاً، والسرقات الجسيمة ولاسيما ما ارتكب منها بالسلاح أو العنف: فهذه الجرائم، وإن كانت سياسية من جهة الدافع إليها، تفقد هذا الطابع بسبب الوسائل الفظيعة التي لجأ إليها الفاعل، ولذلك تعدّ جرائم عادية، وتعاقب بهذا الوصف.
ولكن إذا ارتكبت الجرائم المركبة والمتلازمة في حرب أهلية أو عصيان فإنها تعدّ جرائم سياسية، بشرط ألا تخالف عادات الحرب المقبولة دولياً، وألا تكون من الأعمال الوحشية. وإذا ثبتت للجريمة صفتها السياسية، استفاد المجرم من معاملة حسنة. فهو لا يعاقب بالإعدام، ولا بالأشغال الشاقة المؤبدة، لأن عقوبته تكون الاعتقال المؤبد (وهو أرحم من الأشغال الشاقة المؤبدة)، أو الاعتقال المؤقت أو الإقامة الجبرية أو الإبعاد أو التجريد المدني، ويستفيد من تسهيلات كثيرة في أثناء إقامته بالسجن، كالسماح له بإحضار طعامه من خارج السجن، وتزويده بالجرائد والمجلات ولا يوضع في زنزانة، ولا يلبس لباس السجناء، ولا يكلف العمل، ويستقبل زواره وفق نظام ميسر. وهذه المعاملة المتسامحة تنبع من تقاليد متحررة
اترك تعليقاً