التمظهرات والاختيارات الحديثة للسياسة الجنائية بالمغرب
تتنوع التمظهرات والاختيارات الحديثة في السياسة الجنائية بالمغرب بين سياسة التجريم والعقاب (1) وسياسة الوقاية والعلاج (2).
المطلب الأول -سياسة التجريم والعقاب
إن الحديث عن سياسة التجريم والعقاب يقتضي منا الوقوف عند سياسة التجريم (الفقرة الاولى) وسياسة العقاب (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: سياسة التجريم
تتوجه سياسة التجريم إلى حماية المصالح الاجتماعية والتي تقتضي حماية المجتمع والإنسان من الاعتداء عليه، وتتضمن سياسة التجريم أيضا بيان القيم والمصالح الجديرة بالحماية العقابية، ومنع إلحاق الضرر بها بإهدارها وتدميرها كليا أو جزئيا أو التهديد بانتهاكها لأن الأضرار الجنائية ماهي إلا نشاط مخل بالحياة الاجتماعية، وكل مجتمع يحتفظ بقواعده وأفكاره وقيمه التي تضبط النظام الاجتماعي. فالقواعد الاجتماعية تنظم سلوك الأفراد والجماعات التي تمثلهم، وبعض هذه القواعد تهتم بها سياسة التجريم فتنقلها إلى قانون العقوبات
وفي هذا الإطار تباشر الدولة وظيفتها الجزائية لحماية المصالح الاجتماعية التي تسود المجتمع فتختار الجزاء الأكثر صلاحية والأقرب إلى التعبير عن مدى تقدير المجتمع لأهمية هذه المصالح. فإذا قدرت الدولة أن المصلحة تستحق أقصى مراتب الحماية القانونية عبرت عن ذلك بالعقوبة.
وتتحدد المصالح الجديرة بالحماية الجنائية وفقا لظروف واحتياجات كل مجتمع وتتأثر بتقاليده ونظامه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ويعتبر التجريم هو أقصى مراتب الحماية التي يخفيها التشريع على نوع معين من المصالح التي تهم المجتمع
وإذا استقرأنا التطور التاريخي للمصالح التي يحميها قانون العقوبات، سوف يتضح مدى تأثرها بنظام المجتمعات البشرية ومقومات حياتها، فالتغيرات الاجتماعية تعكس بوجه عام التحولات التي تلحق بهيكل القيم الاجتماعية، وهذه القيم تمثل في جوهرها مجموعة المعتقدات وأنواع السلوك التي يقبلها المواطنون في بلد معين، وتبدو مظاهرها في وسيلة حياتهم والتعبير عن آرائهم. وحتى تتحدد طبيعة كل تغيير اجتماعي فمن الضروري إقامة علاقة بين قواعد السلوك في مجتمع معين وهيكل العلاقات الاجتماعية في هذا المجتمع، فقاعدة السلوك الاجتماعية تمثل وضعا مقبولا لدى الجماعة أو المجتمع الذي أنشأها.
أما العلاقات الاجتماعية فهي الطريق التي يسلك بها الأفراد والجماعات في مجتمع معين، وقد تكون أمرا مقبولا أو غير مقبول، وذلك وفقا للقيم السائدة في المجتمع
ويجدر التنبيه إلى العلاقة الوثيقة بين كل من سياسة التجريم والسياسة العقابية.
فالقاعدة العقابية تشتمل على شقين :
الأول: التكليف بسلوك اجتماعي معين، والثاني: جزاء جنائي يترتب على مخالفة هذا التكليف وهو العقوبة وواضح مما تقدم مدى الارتباط الوثيق بين التكليف والعقوبة، فكل منهما يكمل الآخر ولا قيام لواحد منهما دون الآخر وفضلا عن ذلك، فإن التجريم كما قلنا يعني إضفاء أقصى مراتب الحماية التشريعية على مصلحة معينة ولما كان أسلوب التعبير عن هذه الحماية هو الجزاء الجنائي فإنه لابد أن يكون في إدراك وضع سياسة مضمون هذا الجزاء ومدى خطورته حتى يصير أحسن تعبير عن نطاق التجريم الذي يراه المشرع.
ومن ناحية أخرى، فإن العقوبة مهما كان نوعها هي التي تعبر عن عنصر الإلزام في القاعدة العقابية. والتجريم ليس مجرد تجريم لاعتداء معين، وإنما هو تجريم مقترن بجزاء معين عند وقوع هذا الاعتداء ولذا فإن العقوبة ونوعها يجب أن يكون ماثلا أمام المشرع عند التجريم
الفقرة الثانية : سياسة العقاب
تبين سياسة العقاب المبادئ التي يتوقف عليها تحديد العقوبات و تطبيقها و تنفيذها ، و تحديد العقوبات يأتي مكمل للتجريم الذي لا يقوم وحده بدون العقوبة ، و يستأثر به المشرع ، ولذا سماه البعض بالتفريذ القانوني ، أما تطبيق العقوبات و تنفيذها فيتم في مرحلتين متعاقبين هما التطبيق القضائي و التنفيذ العقابي
و قد ربطت جل التشريعات الجنائية إتيان الجريمة بتطبيق العقوبة، إذ لا جريمة و لا عقوبة بدون نص قانوني تطبيقا لمبدأ الشرعية.
وتوضح السياسة الجنائية المتبعة في كل بلد الهدف من العقوبات في مراحلها الثلاث التشريعية والقضائية، وتبين الوسائل المتبعة في تحقيق هذا الهدف. ومن خلاله فان العقوبات تتعدد بصورة مجردة في نصوص تشريعية يضعها الجهاز التشريعي في الدولة، ويتولى الجهاز القضائي تطبيقيا في الواقع الميداني، وذلك وفق المسطرة الجنائية التي تبين الحدود والمساطر والإجراءات التي يجب على القاضي الالتزام بها .
وبناء على ما تقدم فان السياسة العقابية لكل بلد تتعدد في ثلاث مجالات هي
1– المجال التشريعي :
يقتصر العقاب بالتجريم تمام الارتباط، إذ لا جريمة بدون عقوبة، ولذلك فان العقوبة تأخذ وصفها القانوني من كونها المقابل للواقعة التي يجرمها القانون [7] حيث يتمثل محتوى ومضمون العقوبة في إلحاق الأذى بالجاني إما في حريته أو ماله هما معا تطبيقيا لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات .
وبناء على المبدأ السابق تربط الجريمة والعقوبة علاقة سببية تفرضها مبادئ العدل، ويلزم القانتون باحترامها ومراعاتها لأن هذه العلاقة من إنتاج المشرع الجنائي الذي يعطي للدولة حث الردع العام والخاص وفق مبدأ الشريعة.
وتقوم العقوبة في المجال التشريعي أربعة عناصر:
أ- المضمون: ويتمثل في العقوبة التي تمس بمالح المحكوم عليه، فتنقص من حريته الشخصية أو حقوقه المالية:
ب- السبب: لتطبيق العقوبة على الجاني من طرف الدولة لابد من ارتكاب جريمة تمس الحقوق الغير، تكون هي السبب في الحكم عليه بالعقاب أو التدبير الملائم.
ج- المحل: إذ لا جريمة بدون فاعل لها، بحيث لا يجوز الحكم إلا على من ارتكب الجريمة عملا بمبدأ شخصية العقوبات.
د- الحكم الجنائي: وهو الحكم الذي يصدر من قبل القضاء حاملا في طياته عنصر الإدانة الممثل في نسبة الجريمة إلى المجرم وتحديد العقوبة أو التدبير بحسب ظروف وأحوال ارتكاب الفعل الجرمي.
2- المجال القضائي:
وهو من شقين أحدهما موضوعي ويتناول الأسس الواجب اتباعها عند تطبيق العقوبات المنصوص عليها، والآخر إجرائي يتناول إثبات حق الدولة في العقاب وإجراءات تطبيق العقوبات وتنفيذها.
ويتمثل دور القضاء في تطبيق القواعد القانونية [ باسم الدولة] بعد التأكد من الوقائع بواسطة وسائل الإثبات المنظمة في قانون المسطرة الجنائية
يعتبر القاضي الجنائي وحده المسؤول عن اختيار العقوبة وفق الإجراءات المنظمة للخصومة الجنائية، هدفه في ذلك إثبات حق الدولة في العقاب وتطبيق العقوبات بوسائل عادلة، فالقاضي هنا يكمن دوره في تطبيق القانون تحت رقابة سلطة عليا متمثلة في المجلس الأعلى، حتى لا يتعسف في استعمال الحق تحت ذريعة السلطة التقديرية للقضاء، وهذه الرقابة العليا من شأنها أن تعطي ضمانة هامة لحماية المتقاضين من التجاوزات والتعسفات القضائية.
فالسياسة الجنائية المعاصرة أخذت بمبدأ ضرورة فحص شخصية المجرم و بأهمية قياس التدبير الملائم وفقا لدرجة خطورته واهتمت بتخصص القاضي للوصول إلى غاية حقوق الإنسان وتوفير الضمانات القانونية خلال جميع مراحل الدعوى العمومية سواء تعلق الأمر بالرشداء أو الأحداث.
3 المجال التنفيذي:
يتكون من شقين، أحدهما موضوعي يتناول الأسس الواجب مراعتها عند التنفيذ, و الأخر إجرائي, يبين الإجراءات الواجب إتباعها لتنفيذ العقوبات وفقا لهذه الأسس ، وهو المرحلة التي يتحقق فيها الهدف من هذا الاختيار( العقوبة ) ، ولا يمكن تحقيقه ما لم تعمل السلطة التنفيذية على تحقيقه غير أن تنفيذ العقاب ليس للإيلام والتشفي والانتقام من الجاني، بل الهدف منه هو إعادة تأهيله و إدماجه في المجتمع وإبعاده عن براثين الإجرام.
ويحتوي التنفيذ العقابي على مبادئ أساسية ترتكز عليها السلطة في مرحلة تنفيذ العقوبة وهي :
– مبادئ احترام حقوق الإنسان طبقا للمعايير الدولية لمعاملة المجرمين.
– اعتماد قواعد تأهيل المجرمين وحسن تنظيم السجون وتصنيف المجرمين وتوزيعهم على المؤسسات العقابية واستعمال أساليب حديثة لتنفيذ العقاب
– تأهيل الأطر المشرفة على تنفيذ العقوبات.
– خلق تواصل بين السجين والمجتمع.
أما على مستوى مراقبة التنفيذ فقد أحدث قانون المسطرة الجنائية الجديدة الذي دخل حيز التنفيذ في فاتح أكتوبر 2003 – مؤسسة قاضي تطبيق العقوبة، الذي عهد إليه طبقا للفصل 596 م ج في كل محكمة ابتدائية، باختصاصات تتبع تنفيذ العقوبة بكيفية تسمح بإعادة إدماج المحكوم في المجتمع.
ولعل في إحداث مؤسسة قاضي تطبيق العقوبة سواء بالنسبة للرشداء والأحداث الجانحين ( 473 م ج) من شأنه تدعيم ضمانات حقوق الدفاع وصيانة كرامة المعتقل، إضافة إلى استمرار الحماية القضائية للمحكوم عليه داخل المؤسسة الإصلاحية.
هدا عن سياسة التجريم والعقاب أما سياسة الوقاية والعلاج سوف نتطرق إليها فيما يلي :
المطلب الثاني : سياسة الوقاية والعلاج:
إلى جانب مجالي التجريم والعقاب، تهتم السياسة الجنائية بجانب الوقاية من الجريمة (الفقرة الأولى) وكذلك مسألة علاج الجاني وإصلاحه لإعادة إدماجه في المجتمع (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى : وقاية المجتمع من الجريمة:
أبا ن ت سياسة التجريم والعقاب عن قصور واضح في حماية المجتمع من الجريمة، لأنها تكتفي بتحديد الأفعال المجرمة، والعقوبات المحددة لمرتكبيها، ولا يكون التدخل إلا بعد اقتراف الجريمة، وهذا ما أعطى سياسة الوقاية من الجريمة أهمية قصوى، لأن من مصلحة المجتمع، وقايته من الجريمة مسبقاً، وليس الانتظار حتى وقوع الجريمة، ثم التدخل لمعاقبة الجاني بعد ذلك، فماذا يتحقق للمجتمع من نفع بعد ارتكاب الجريمة، سواء عوقب الجاني أم لا ؟.
سياسة المنع من الجريمة، ووقاية المجتمع منها، برزت مع ظهور ما يسمى بالخطورة الإجرامية التي جاءت بها المدرسة الإيطالية الوضعية، فتوافر الخطورة الإجرامية يدعو إلى اتخاذ التدابير الاحترازية قبل من توافرت لديه.
فمسألة الوقاية من الجريمة، ومنع الأشخاص من ارتكاب الأفعال الإجرامية، ظهرت مع المدرسة الإيطالية الوضعية، بعدما كان الفكر الكلاسيكي يرتكز على ثنائية التجريم والعقاب، وكان الهدف من العقاب هو إيلام الجاني كمقابل عن ارتكابه للجريمة.
ففي جانب الوقاية يعتقد أنريكو فيرى – أحد رواد المدرسة الوضعية – أن إصلاح المجرم ليس كافياً، ولكن يجب بذل المزيد من الجهود لإصلاح وسطه الاجتماعي ( [16]) فإصلاح الخلل الموجود في المجتمع، من شأنه إبعاد الأشخاص عن ارتكاب الأفعال المجرمة، وبالتالي وقاية المجتمع من الإجرام.
إن منع الجريمة لا يتحقق فقط عن طريق سياسة التجريم والعقاب، ولكن بوضع سياسة اجتماعية عادلة، ومحاربة الفقر والتهميش والحرمان والبؤس، فالظاهرة الإجرامية كما هو معروف، لا تعود للعوامل النفسية أو الوراثية فقط، وإنما يؤججها العامل الاقتصادي والاجتماعي، وتغذيها التوجهات الفكرية المتطرفة، ومرتعها الخصب هو الإقصاء الاجتماعي، والميز العنصري، وبعض الممارسات غير الديمقراطية، وأساليب الظلم والتعسف.
فالفقر قد يدفع إلى احتراف السرقة أو النهب، أو حتى الاتجار في المواد المخدرة، والإقصاء قد يدفع الفرد إلى اقتراف سلوكات مجرمة، والأمية قد تؤدي بالشخص بسبب الجهل إلى خرق النظام الاجتماعي… إلخ.
غير أن هذه الدوافع، ليست وحدها مبررا للجريمة، فليس كل فقير سارق، ولا كل أمي مجرم، ولكن عند إقامة سياسة اجتماعية عادلة، تتضاءل هذه العوامل والدوافع، ولا تبقى هناك مبررات للإجرام – على الأقل في جانب العوامل الاجتماعية والاقتصادية – وتبعا لذلك تنخفض نسبة الجريمة في المجتمع، وعندها تتحقق وقايته من الجريمة.
وقد عرفت سياسة الوقاية من الجريمة قفزة نوعية مع ظهور مدرسة الدفاع الاجتماعي، حيث أنكر الفقيه كراماتيكا – رائد الجناح المتطرف في المدرسة – مفهوم الجريمة، ورفض وصف الشخص الذي يرتكب أفعال يجرمها القانون بالمجرم، وفضل وصفه بالإنسان المناهض للمجتمع، واعتبره غير قادر على التأقلم مع مجتمعه، والسبب حسب كراماتيكا يعود بالدرجة الأولى إلى غياب عدالة اجتماعية، وكثرة الاضطرابات الموجودة في المجتمع، وبذلك فإن إصلاح المجتمع باعتماد سياسة اجتماعية عادلة، هو بمثابة الخطوة الأولى نحو وقايته من الإجرام، وعلى هذا الأساس أنكر كراماتيكا حق الدولة في العقاب، وطالب باعتماد تدابير تربوية اجتماعية مانعة، والقضاء على الخلل الاجتماعي.
أما مارك أنسل – رائد الاتجاه المعتدل في حركة الدفاع الاجتماعي – فقد دعى إلى اعتماد سياسة المنع، أي فرض تدابير مانعة قبل وقوع الجريمة( [19]) لأن من واجب الدولة حماية المجتمع، وضمان الاستقرار في حياة الجماعة، ولذلك تهتم السياسة الجنائية والسياسة الاجتماعية بموضوع الوقاية من الجريمة، ومنعها مسبقاً، غير أن مسألة ” منع الجريمة ” تبدو بعيدة التحقيق، وذلك بفعل تداخل العوامل الدافعة للجريمة، ولذلك يكفي أن تتوجه سياسة المنع إلى الحد من الإجرام، والتخفيف من العوامل التي قد تدفع إليه.
ومن تم تعتبر وقاية المجتمع من الجريمة، إحدى أهم أهداف سياسة الدفاع الاجتماعي الجديد التي أتى بها الفقيه مارك أنسل، حيث اعتبر أن حماية المجتمع من المشاريع الإجرامية هو المبتغى الأساسي من هذه السياسة
فالسياسة الجنائية حسب حركة الدفاع الاجتماعي الجديد، تدعو إلى التكفل بالأشخاص الموجودين في ظروف صعبة، وخاصة الأحداث منهم، حتى يحس هذا الشخص بالآمان، وهذا التكفل أو المساعدة الاجتماعية هو حق من حقوق الإنسان، فالسياسة الجنائية الجديدة لها عدة جوانب اجتماعية، تتوخى تحقيق عدالة اجتماعية يحس الجميع في إطارها بأهمية القيم المشتركة، وضرورة الحفاظ عليها( وهذه التوجهات من شأنها حماية المجتمع من عواقب الأفعال الإجرامية.
وقد تبنى المجتمع الدولي هذا التوجه الذي يدعو إلى الوقاية من الجريمة، وخاصة بالنسبة للأحداث، وفي هذا الصدد عقدت منظمة الأمم المتحدة بتعاون مع المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب بالرياض سنة 1988 مؤتمر يتعلق بمنع جنوح الأحداث، وتم إقرار مجموعة من المبادئ لمنع جنوح الأحداث، وهي ما أُطلق عليها ” مبادئ الرياض التوجيهية “.
ومن أهم ما جاءت به هذه الاتفاقية، كتدابير وقائية لمنع الأحداث من الانحراف والجنوح، ضرورة الاهتمام بالأسرة، باعتبارها المدرسة الأولى التي يتعلم فيها الطفل ويتلقى تربيته، وكذلك الحرص على الارتقاء بالتعليم، وجعله إجباري لما له من دور تربوي وتوعوي بالغ الأهمية، ثم دور المجتمع المدني في المساهمة في توفير بعض الخدمات وتوعية ومساعدة الأحداث اجتماعيا ونفسيا، وخاصة المدمنين على المخدرات، والأطفال المشردين، وكذلك دور وسائل الإعلام في الوقاية من الإجرام، وذلك باحترام مبادئ وأخلاقيات المهنة، وعدم بث أو نشر الأخبار أو البرامج أو الأفلام التي فيها تحريض على إتيان السلوكات المنحرفة، بل على العكس من ذلك على الإعلام أن يضطلع بدوره التربوي التثقيفي، خاصة وأن له دور كبير في تشكيل قناعات وشخصيات الأفراد، والأحداث منهم على الخصوص.
كما أوصت مبادئ الرياض التوجيهية لمنع جنوح الأحداث، بالاهتمام بالجانب الاجتماعي للأحداث، وذلك بتوفير الخدمات والمرافق الضرورية، كالصحة والتغذية والمأوى. فهذه إذن تدابير قبلية من شأنها منع الحدث من الإجرام، وبالتالي وقاية المجتمع من العواقب السلبية للعمليات الإجرامية.
وتعطي السياسة الجنائية في النظم القانونية المقارنة أهمية قصوى لمنع جنوح الأحداث، لأنه يهدد مستقبل المجتمع، وفي هذا الإطار تتوجه الدول المتقدمة إلى توفير عناية فائقة للفئات الشابة، وتقدم لهم كل وسائل المساعدة الاجتماعية، لتجنب سقوطهم في براثين الجريمة والانحراف، وخاصة أولائك الموجودين في ظروف غير مستقرة. هذا التوجه تنبه له المشرع المغربي مؤخراً، وتدخل عبر قانون المسطرة الجنائية الجديد، وأقر حماية خاصة للأحداث الموجودين في وضعية صعبة (الفصول من 512 إلى 517)، فحماية هؤلاء الأطفال المحرومين، الذين يوجدون على حافة الانحراف والجنوح، هو حماية للمجتمع برمته من الإجرام.
نفس التوجه يمكن استنتاجه من مقتضيات قانون المسطرة الجنائية، فيما يتعلق بحماية الأطفال ضحايا الجنح والجنايات، خاصة وأنه تأكد في أكثر من جريمة، أن الجاني – خاصة في الجرائم الجنسية – يكون قد تعرض في طفولته لاعتداءات جنسية. ومن تم فعلاج الضحية نفسيا يساهم في اندماجها في المجتمع، ويحول دون وقوعها ضحية مرة أخرى، أو تحولها إلى الانتقام لنفسها مما تعرضت إليه، وهذا أيضا توجه فيه وقاية المجتمع من الجريمة.
هذا على مستوى التشريع الجنائي، أما على صعيد السياسة العامة للدولة، يمكن الجزم أن سياسة تعميم التعليم التي انتهجها المغرب لها جانب كبير في الوقاية من جنوح الأحداث، لأن المدرسة مؤسسة تربوية، تلقن الأطفال المبادئ والقيم السامية، التي تعتبر بمثابة مناعة تقيهم من الانحراف والجنوح.
وهناك مشروع آخر في المغرب، يمكن القول أنه يساهم بشكل أو بآخر في الوقاية من الإجرام، وهو مشروع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، فالاهتمام بالعنصر البشري، ومحاربة الفقر والهشاشة، والتنمية الاجتماعية الشاملة… إلخ. كلها أمور تصب في تحسين الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للأفراد، وبالتالي امتصاص نسبة كبيرة من العوامل المؤدية للإجرام.
وهنا تتداخل سياسة المنع من الجريمة، والسياسة الاجتماعية لأن كل منهما يهدف إلى معالجة الأسباب المؤدية إلى الإجرام. (
غير أن سياسة المنع والوقاية من الجريمة، لم تستطع تحقيق الأهداف المتوخاة منها، وذلك لمجموعة من المعوقات والعقابات التي تحول دون تطبيق ما هو موجود في المدونات القانونية والأنظمة والمشاريع على أرض الواقع.
وعلى العموم، يمكن القول أن توجه المشرع إلى اعتماد تدابير وقائية قبيلة – قانونية واجتماعية – يدخل ضمن توجهات السياسة الجنائية المعاصرة. غير أن وقوع الشخص في الجريمة لا يعني فقدان الأمل فيه، ولكن تبقى إمكانية إصلاحه وتأهيله واردة، لأجل إعادة إدماجه في المجتمع.
-الفقرة الثانية: سياسة التأهيل والإصلاح
إن سياسة التأهيل والإصلاح هي في الواقع كانت وليدة السياسة الجنائية الوضعية التي اعتمدت على التفكير العلمي التجريبي ونادت بوجوب حماية المجتمع من المجرم لا من الجريمة وذلك عن طر يق فحص شخصية هذا المجرم وتحديد درجة خطورته الإجرامية وأسبابها ثم اتخاذ التدابير الكفيلة لمواجهة هذه الخطورة وعلاجها وهكذا نرى أن مركز الثقل في السياسة الجنائية قد تحول من الجريمة إلى المجرم وكان طبيعيا أمام هذا التحول أن تسود أفكار جديدة إجرائية و موضوعية لهذه السياسة كضرورة فحص شخصية المجرم لمعرفة درجة خطورته الإجرامية وعلاجها باختيار التدبير الملائم لها.
إلا أن سياسة الدفاع الاجتماعي التي نادت بوجوب إصلاح المجرم وتأهيله للحياة الاجتماعية أثرت على نحو أعمق من السياسة الوضعية [] خصوصا بالنسبة لضمانات العدالة الجنائية الذي يجب أن يحرص عليها التنظيم الإجرائي للدعوى الجنائية فالنظرة الإنسانية عند زعماء هذه السياسة سواء جراماتيكا أو مارك أنسل كان لا بد وأن يكون لها القسط الأوفر في التأثير على الضمانات الإجرائية خلال سائر إجراءات الدعوى الجنائية التي يعرفها القانون الإجرائي في مختلف القوانين الوضعية فالنظرة غير الإنسانية القديمة سمحت بإهدار جميع ضماناته الإنسانية خلال مراحل الدعوى ( كالتعذيب لحمل المتهم على الاعتراف غياب إطار قانوني تلتزم المحاكم بالعمل في داخله) حتى جاءت سياسة الدفاع الاجتماعي فنظرت إلى المجرم عامة والحدث الجانح بصفة خاصة بوصفه عضوا في المجتمع ويحتاج إلى تأهيل اجتماعي حتى يتمكن من الاستمرار في انتمائه لهذا المجتمع وبتأكيد هذا المعنى من ناحية قانون الموضوع أيضا على ضوء معيار التفريد القضائي الحديث حيث القاضي لا ينظر للجريمة وفقا لمعيارها الموضوعي كما نظمه القانون وإنما طبقا للعناصر الشخصية للجانح .
وفي إطار هذه الأفكار أو المبادئ الموجهة للسياسة التأهيلية والإصلاحية الجديدة تتساءل عن موقع السياسة الجنائية المغربية من هذه المبادئ وهل استطاعت فعلا أن تلائم قانونها الشخصي 1 والموضوعي 2 مع هذه السياسة الحديثة.
1) – على صعيد القانون الإجرائي
لقد شكل قانون المسطرة الجنائية الجديد طفرة نوعية في إطار السياسة الجنائية المغربية التي تأخذ بعين الاعتبار سياسة تقويم وتأهيل سلوك الحدث المنحرف وعلاجه بدل عقابه مسايرا بذلك التشريعات الجنائية الحديثة في قضاء الأحداث.
وهكذا أعطى أهمية بالغة للأجهزة المكلفة بالبحث والتحقيق والمتابعة مع الحدث الجانح بأن ألزمها باحترام ضمانات المحاكمة العادلة وفي جميع مراحل الدعوى وجعل دور هذه الهيآت دور إصلاحي بالدرجة الأولى انطلاقا من كون الحدث أقرب إلى التقويم والإصلاح وإعادة الاندماج ومكنها من عدة آليات سواء كانت إصلاحية أو سالبة للحرية استنادا لمبدأ تدرج المسؤولية ومراحل نمو الحدث وذلك بهدف تحديد الطريقة والوسيلة الفعالة لرسم خطوات العلاج في سبيل إعادة تأهيله وإصلاحه ، إما حسب التدابير الحماية والتهذيب المنصوص عليها في م 481 وإما استنادا للتدابير الحراسة المؤقتة ر المنصوص عليها في م 471 م ج .
* هاته التدابير الإصلاحية التي أخذها المشرع المغربي تماشيا مع السياسة الوضعية يتم اللجوء إليها بصفة أساسية ولا يجوز تعوضها أو تكملتها بعقوبة سالبة للحرية إلا بكيفية استثنائية مع ضرورة التعليل، وفي هذا الإطار نلاحظ توجه المشرع المغربي وإن كان جد محتشما العقوبات البديلة حين أجاز قانون المسطرة الجنائية في المادة 482 من ق م ج للقاضي إمكانية استبعاد العقوبات السالبة للحرية القصيرة المدة والأخذ بعقوبات بديلة كالعقوبات المالية أي الغرامة.
وفي نفس السياق أتى ق م ج ببدائل للاعتقال الاحتياطي تساهم في الحد والتخفيف من اكتظاظ السجون والمؤسسات الإصلاحية.
وهكذا يمكن للنيابة العامة أن تلجأ إلى مسطرة الكفالة العينية والشخصية كبديل للاعتفال الاحتياطي وإن كان الواقع العملي يؤكد أن هذه المسطرة لازالت لا تمارس بالشكل المطلوب.
كما خولها آلية جديدة خصوصا وكيل الملك يسعى بواسطتها إلى إيقاع صلح بين الأطراف وفق مسطرة محددة قانونا ] .
هذا المسجد وإن كان له آثارا إيجابية على الحدث الذي يساعده على تأهيله وفي نفس الوقت تعويض الضحية فإن الواقع أثبت أنه لا يفعل بالطريقة التي تضمن الهدف منه، وكان على المشرع المغربي أن يوكل هذه المهمة إسوة بالقانون المقارن إلى هيئات أو أشخاص ذاتيين أو معنويين بدل حكرها بيد مؤسسة الاتهام.
كما وضع ق م ج آلية بين يدي قاضي التحقيق يستعملها كبديل للاعتقال الاحتياطي إلا وهو الوضع تحت المراقبة القضائية طبقا للمادة 150 م ج في الجنايات والجنح المعاقب عليها بعقوبات سالبة للحرية حيث عددت المادة 160 مجموعة من التدابير والالتزامات التي من الممكن أن يتضمنها الأمر بالوضع تحت المراقبة القضائية الصادر عن قاضي التحقيق وعددها 18 والتي تعد في أغلبها تدابير علاجية تقويمية كالفحص والعلاج وعدم التردد على بعض الأماكن.
ومن بين تمظهرات السياسة الجنائية الحديثة أيضا إعطاء لقاضي الأحداث أو المستشار المكلف بالأحداث الصلاحية المخولة لقضاة التحقيق في إجراء أبحاث يمكن على ضوئها تحديد التدابير الواجب اتخاذها لضمان حماية الحدث وإنقاده.
كما تم التوسيع من دائرة الشركاء المتدخلين لفائدة الحدث ومن ذلك الآباء – الأوصياء الكافل – كل شخص جدير بالثقة إضافة إلى المؤسسات والمصالح العامة والمؤسسات الخصوصية المهتمة بالطفولة أو المكلفة بالتربية أو التكوين المهني أو المعدة للعلاج والتربية الصحية [].
على أن مبادرة المشرع المغربي إلى إحداث مؤسسة قاضي تطبيق العقوبة وإناطته باختصاصات وإن كانت جد محدودة مادامت إدارية فإنها نشكل خطوة أساسية لتكريس التوجه الرامي إلى إشراف السلطة القضائية في إعادة إدماج المحكوم عليه ونأمل إن تعطى له صلاحيات أعمق من ذلك على غرار التشريعات المقارنة كصلاحية إيقاف تنفيذ العقوبة السالبة للحرية في حق السجناء الأحداث المصابين بأمراض خطيرة ومستعصية طالما أن المشرع ترك المجال مفتوحا حين أشار بقانون المسطرة الجنائية إلى أنه بإمكانه ممارسة مهامه حسب هذا القانون وكذا بموجب نصوص أخرى []
* بالإضافة إلى التدابير الإصلاحية المشار إليها والتي لا تمس حرية الحدث فإن المشرع قد ارتأى أن بعض الأصناف من الأحداث لا تلائمهم تلك التدابير فسن إلى جانبها تدابير سالبة للحرية والتي تجد مكانا لتنفيذها بمؤسسات حماية الطفولة، هاته الأخيرة يطغى عليها الأسلوب أو السياسة العلاجية بالدرجة الأولى من خلال البرامج الإصلاحية التي تهدف من ورائها إعداد الأحداث الجانحين أو المهيئين للجنوح عبر 3 محاور بشكل المحور العلاجي التقويمي في إطار العمل الداخلي لهذه المؤسسات المغلقة أخطرها.
حيث يتم الاعتماد على منهجية استقبال الحدث بفرع الملاحظة كخطوة أولى لتهييء الجو النفسي الملائم للحدث من طرف أخصائي نفسي أو اجتماعي تليها مرحلة التشخيص بعد جمع المربي لمختلف السياسات والمعلومات خلال دراسة حالة النزيل (عن أسرته ومواردها المادية وعن ظروف ارتكاب الفعل الجرمي ومدى تأثيرها على نفسيته) وبعد ذلك يتم توظيف هذه المعلومات لوضع خطة للعلاج ] وتحديد المقترح الملائم قصد تربيته وتعويده على ارتكاب السلوك الحسن والتدريب على الحياة داخل الجماعة من خلال البرامج التعليمية والمهنية التأهيلية تمكنه من عمل منتج بعد الإخراج عنه.
والملاحظ أنه وعلى الرغم من تحديد قضاء الأحداث لجملة من التدابير الوقائية التقويمية أو الإصلاحية وعرضه لجملة من الإجراءات المتميزة خلال محاكمة الأحداث في أفق إصلاحهم وإعادة إدماجهم في المجتمع نلاحظ تعثر هاته السياسة الجنائية في تحقيق الأهداف المرجوة منها فالجنوح ما فتئ يتصاعد وتظهر الممارسة اليومية أن أغلب الذين خضعوا للتدابير الوقائية أو التقويمية المشار إليها قد عادوا إلى نفس الأفعال من جديد فأين يكمن الداء؟ هل في المؤسسات التقويمية والعلاجية التي لا تتوافر على آليات ووسائل الإصلاح والتأهيل؟ أم في غياب التنسيق بين أجهزة الدولة المعنية ومختلف مكونات المجتمع المدني؟ [32]، الواقع أن إعادة تأهيل الحدث وتربيته هي عملية شاملة وغاية في التعقيد والتداخل لارتباطها بعدة معطيات واقعية واجتماعية واقتصادية سياسة سيكولوجية خاصة وأن الاتجاهات الحديثة لم تعد تنظر إلى المعتقل باعتباره واجهة قانونية مجردة بل يجب النظر إليه من خلال خصائصه النفسية البيولوجية وأوضاعه التربوية والاجتماعية وإعادة تربيته تحتاج إلى رؤيا عميقة توفق بين الاصالة من جهة والأفكار الجديدة في التربية من جهة أخرى حتى لا نسقط في التبعية .
2- من ناحية القانون الموضوعي
نلاحظ أن القانون الجنائي المغربي كان ثمرة تطور تاريخي طويل من خلال ما نص عليه من مبادئ تتماشى والسياسة الجنائية الحديثة التي أضحت في ظلها التدابير الاحترازية تقوم بجانب العقوبة بوظيفة علاجية قصد الإصلاح والتأهيل انعكست إيجابا على المعاملة العقابية داخل السجون.
* وهكذا فمن ضمن المبادئ الأساسية التي ارتكز عليها القانون الجنائي اعترافه بالمسؤولية الجنائية القائمة على أساس حرية الاختيار والإرادة وتدرج المسؤولية بين الانعدام والنقصان والكمال اعتبارا لأن حياة الإنسان تمر بمراحل متعددة يتأثر بها الفرد في كل مرحلة بتغيرات بيولوجية ونفسية واجتماعية واختلاف التدابير تبعا لذلك حسب كل مرحلة من مراحل هذه المسؤولية بطريقة تتلائم وخصوصية الحدث الهادفة إلى إصلاحه وتأهيله .
وفي إطار تبني المشرع لفلسفة المدرسة الوضعية نلاحظ أن القانون الجنائي قد أعطى اهتماما في بعض الأحيان وإن كانت نادرة للباعث على ارتكاب السلوك الإجرامي كحالة التعاطي المزمن للمخدرات على أساس هذه الجريمة تتسبب في ألم محقق لمرتكبيها وتهدد صحته وسلامته البدنية وهذا ما نص عليه من حل استشفائي [33] في المادة 80 و 83 من ق ج حيث نصت هذه المادة إلى جانب العقوبة على تدابير علاجية لمدة كافية وتحت المراقبة.
ونفس الشيء إذا تعلق الأمر بشخص عديم المسؤولية بسبب اختلال عقلي حيث تأمر المحكمة في حالة استمرار الخلل العقلي بإيداعه في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية طبقا للمادة 75 من ق ج ].
علما أن هذه القواعد هي نفسها المطبقة على الأحداث في غياب قانون جنائي موضوعي خاص بالأحداث.
هذا المنطلق العلاجي يبرز أيضا في الدور المسند للخبراء أثناء مراحل المحاكمة وتأثير تقاريرهم على تحديد المسؤولية واختيار العقوبة أو التدبير المناسب للحدث.
وفي إطار مبدأ الشرعية التي تعرفها فصول القانون الجنائي تبرز السلطة التقديرية لقاضي الأحداث تحت غطاء ما يسمى بتفريد العقوبة وهذا يتطلب فحص لشخصية الجانح قصد قياس التدبير أو العقوبة بدرجة من الدقة تستجيب معها لما بتطلبه علاج الجاني.
وتبرز تمظهرات هذا التفريد على المستوى القضائي والتنفيذي .
فبالنسبة للتفريد القضائي فقد منح المشرع للقاضي سلطة تقديرية واسعة للاختيار بين العقوبة المخففة أو التدبير وذلك حسب درجة خطورة الحدث وظروف ارتكابه للفعل الجرمي، بل إن المشرع ذهب أبعد من ذلك وأعطى لقاضي الأحداث إمكانية إعادة النظر في التدابير المؤقتة والعدول عنها أو الجمع بينها وبين العقوبة .
وقد كان الفصل 141 من ق ج امتدادا لهذه السلطة التقديرية التي يتمتع بها القاضي في تفريد العقاب بين الحدين الأدنى والأعلى.
في حين يعتبر الإفراج المقيد بشروط المنصوص عليه في الفصل 59 من ق ج إحدى آليات التفريد التنفيذي التي منحها هذا الأخير من أجل التقليص من مدد العقوبات السالبة للحرية تسمح للأحداث المحكوم عليهم معانقة الحرية من جديد وإتاحة فرصة اكبر لاندماجهم بشكل سليم ضمن النسيج الاجتماعي، ونظرا لأهميته نأمل أن يتم مراجعة الطريقة التي يتم من خلالها معالجة الملفات المتعلقة بالإفراج باختزال الإجراءات التي تكون وراء تطويل المسطرة دون فائدة تذكر.
كما نأمل أن يعمل المشرع على التوسيع في مجال التفريد التنفيذي وإدخال تدابير أخرى كتدبير التخفيض التلقائي للعقوبة التي أثبتت التجاريب بالقانون المقارن إيجابيته في تنفيذ الهدف من العقوبة السالبة للحرية إلا وهو تسهيل عملية الاندماج].
* على أن أهم تمظهر لهاته السياسة الحديثة هي تلك المعاملة الإنسانية التي أصبحت تعرفها المؤسسات العقابية والهادفة إلى توجيه العقوبة نحو الإصلاح والتـأهيل بدل العقاب والمغرب وفي إطار ملائمة قوانينه للاتفاقات الدولية وخاصة قواعد الحد الأدنى لمعاملة الأحداث المجردين من حرياتهم تم إصدار قانون جديد للسجون رقم 98/23 أولى عناية خاصة بالأحداث الجانحين، بتخصيص أماكن معينة لهم عند تنفيذهم للعقوبة السالبة للحريةوبتقريره لحقهم في معاملة إنسانية مختلفة وفق لمعايير التصنيف بين فئات النزلاء داخل المؤسسات الإصلاح والتهذيب بصورة تحقق الغرض الأساسي من المعاملة وهو تأهيل المسجون للحياة اللاحقة على الإفراج عنه وذلك من خلال تعليمه إحدى المهن أو الحرف تساعده على لانخراط في سوق العمل والاندماج فضلا عن البرامج التعليمية لإعادة تربيته والثقافية لتحويل انشغالاته الانحرافية وأخرى اجتماعية لخلق نوع من الثقة تساعد الحدث الجانح على الانخراط بصفة تلقائية بعد الإفراج عنه.
إضافة إلى تمظهرات السياسة العلاجية من خلال البرامج الصحية والنفسية التي يستفيد منها الحدث داخل هذه المراكز بعض خضوعه لعملية الفحص والتصنيف كأولى خطوات تساعد المربي أو الأخصائي على صياغة البرنامج العلاجي والتربوي الخاصة بكل حالة على حدة تسهيلا لإعادة إدماج الحدث بعد الإفراج عنه والانتقال لمرحلة الرعاية اللاحقة.
لكن الواقع العملي يجسد تعثر هذا الجانب التأهيلي الإصلاحي في الاستراتيجية المعتمدة من طرف الدولة للتصدي بجنوح الأحداث مما يدفعنا للتساؤل عن مكامن الخلل في هاته السياسة أمام تصاعد حالة العود وارتفاع ظاهرة الجنوح بشكل تصاعدي.
وهكذا وبصرف النظر عما أحرزه الإصلاح السجوني من تحسينات خاصة بالصحة وظروف السكن، والغذاء، والرياضة، والاتصال بالعالم الخارجي ، وبصرف النظر عن مختلف المعوقات المادية الهزيلة التي تعاني منها هذه المؤسسات والتي تنعكس سلبا على مختلف البرامج الإصلاحية وضعف الأطر البشرية وعدم كفاءتها وتخصصها، وبصرف النظر أيضا عن نقص في بدائل العقوبات السالبة للحرية والقصيرة المدة أو عدم تفعيلها لطغيان الهاجس الردعي على كل مسؤول وما يترتب عن هذه السياسة من اكتظاظ في السجون وعد الاستفادة من أي برنامج إصلاحي بل على العكس من ذلك تتم الاستفادة من بؤر الإجرام السائدة داخل هذه الزنازن.
كل هذه العوامل لا يمكن الاستهانة بها أو التقليص من خطورتها وعلاقتها بهذا التعثر في السياسة الجنائية إلا أن المسألة هي أعمق من ذلك إنها مسألة منهج فالمقصود ليس هو العلاج يما يعنيه هذا المصطلح بل إن المسألة تتطلب معرفة كيفية استقبال الحدث الضائع والتعامل معه من جانب الذين سوف يعيش معهم فنكون بهذا حسب مارك أنسل داخل منظور خاص بالمساعدة المقصودة في سياسة الدفاع الاجتماعي .
وتمة سؤال آخر يطرح في شأن السياسة الجنائية السليمة لمعرفة ما إذا كان رد الفعل ضد عمل مضاد للجريمة يلزم أن يكون عن طريق فرض عقوبة؟
إن مجتمعا عادلا وإنسانيا على العكس من ذلك يجب أن يجعل العقوبة استثناء داخل السياسة العامة فالأمر يقتضي التأمل في الواقع هذا الواقع الذي تطبق فيه العقوبة بصفة أصلية والتدبير كاستثناء جعل من العقوبة السالبة للحرية وإن بطريقة غير مباشرة عقوبة بدنية [ لما يترتب عن تنفيذها من أمراض وسوء معاملة يدفع للتساؤل مرة أخرى في ما إذا كانت هذه الوسيلة البسيطة قد أسيء استعمالها بدون قياس مخاطرها أمام الواقع الذي جعل من الحبس أفضل مدرسة للعود.
دون إغفال فصول القانون الجنائي وطريقة التعامل الطبي المسيطرة عليه أثبت الواقع تجرده من وظيفته الأساسية كضامن للحقوق والحريات وعجزه عن الوصول إلى تقنية دقيقة لتوزيع العقوبة أو التدبير على كل جانح ، وفي نفس الوقت احترام كرامة الإنسان وضمان حقوقه الطبيعي
اعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً