الحبس وأدلته
1 ـ موارد جواز الحبس:
لا شبهة في جواز حبس المجرم بل تخليده في السجن حتى يموت في الموارد المنصوصة مثل السارق الذي قطعت يده اليمنى، وسرق ثانية، وقطعت رجله اليسرى، فهذا إن سرق ثالثة سجن مؤبداً حتى يموت، وينفق عليه من بيت المال قضى بذلك أمير المؤمنين (ع)، ورواه محمد بن قيس، وزرارة عن أبي جعفر (ع)، والقاسم، وسماعة، وأبو بصير، والحلبي، وعبدالرحمن بن الحجاج، وغيرهم عن أبي عبدالله (ص).
وعنه (ع): لا يخلد في السجن إلا ثلاثة: الذي يمثل، والمرأة ترتد عن الإسلام، والسارق بعد قطع اليد والرجل.
وروى الشيخ (قده) مثله إلا أنه قال: الذي يمسك على الموت بدلاً عن (الذي يمثل).
ولا ينبغي الشك أيضاً في جواز الحبس في كل مورد امتنع مَن عليه حق عن أدائه وتوقف إلزامه على الأداء بحبسه.
وقد ورد الحبس في التسعة من العشرة الذين قتلوا رجلاً أدى كل واحد من التسعة عُشر الدية (إن الولي بعديلي أدبهم وحبسهم).
وفي قضية أمير المؤمنين (ع): وقضى (ع) في الدَّين أنه يحبس صاحبه، فإن تبين إفلاسه والحاجة فيخلى سبيله حتى يستفيد مالاً وكذا يجوز الحبس في كل مورد توقف إنتهاء فاعل المنكر على الحبس أو نفي البلد فيحبس حتى ينتهي عن المنكر أو يعمل بالمعروف ويتوب، وفي أشباه ذلك من الموارد التي ليست بقليلة، وهذا باب واسع يتمكن معه الفقيه الجامع للشرائط من سد باب أكثر ذرائع الفساد.
ويدل على ذلك ما رواه الصدوق (قده) بإسناده عن الحسن بن محبوب عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (ع) قال: جاء رجل إلى رسول الله (ص) قال: إن أمي لا تدفع يد لامس، فقال: فاحبسها، قال: قد فعلت … قال: قيِّدها فإنك لا تبرّها بشيء أفضل من أن تمنعها من محارم الله عزوجل.
وما رواه أيضاً عن البرقي عن علي (ع) أنه قال: يجب على الإمام أن يحبس الفساق من العلماء، والجهال من الأطباء، والمفاليس من الأكرياء.
2 ـ عدم جواز الحبس في غير الموارد المنصوصة:
وأما الحبس بعنوان العقوبة على ارتكاب الحرام أو ترك الواجب مطلقاً وفي غير الموارد المنصوصة، فالأصل عدم جوازه، وقد روى شيخنا الكليني (رضوان الله تعالى عليه) عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن أبي عمير عن عبدالرحمان بن الحجاج رفعه أن أمير المؤمنين (ع) كان لا يرى الحبس إلا في ثلاث رجل أكل مال اليتيم أو غصبه أو رجل أؤتمن على أمانة فذهب بها.
ولا ريب أن الحصر المذكور إضافي لوجود موارد متعددة يجوز فيها الحبس، بل قد يجب إلا أنه يدل على عدم جوازه في غير هذه الموارد التي لم يعلم أن الحبس فيها من باب العقوبة على الذنب أو لأجل إجباره على أداء الحق وكيف كان دلالته على الحصر الإضافي بالنسبة إلى ما كان من باب العقوبات أو الإلزام على فعل الواجب، وترك الحرام مما لا يخفى.
3 ـ أدلة مَن يقول بجوازه والجواب عنها:
فإن قلت: روي الكليني والشيخ بإسناده عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبدالله (ع): أن أمير المؤمنين (ع) أتى برجل اختلس درة من إذن جارية، فقال: هذه الدّغارة المعلنة فضربه وحبسه.
وهذا الحديث كما ترى يدل على جواز العقوبة بالحبس، بل على جواز الجمع بينه وبين الضرب، وإن لم يسم بالتعزيز، واقتصر على تسمية الضرب بما دون الحد تعزيراً.
ونحوه في الدلالة ما ورد أن علياً (ع) كان إذا أخذ شاهد زور، فإن كان غريباً بعث به إلى حيِّهِ، وإن كان سوقياً بعث به إلى سوقه، فطيف به ثم يحبسه أياماً ثم يخلي سبيله.
وعلى هذا يمكن أن يقال: إن المجرم يعاقب بما يراه الحاكم من التعزير والحبس بل وغيرهما من العقوبات التي ير ى الحاكم المعاقبة بها لعدم حصر معاقبة المجرم بالتعزير بعدما جاء في الأحاديث عقابه بالحبس أيضاً، ولدلالة بعض الأحاديث على المعاقبة والتأديب في بعض الموارد بغيرهما، فلا ينحصر بهما ـ أيضاً ـ فمن جميع ذلك يستفاد عدم خصوصية في المعاقبات إلا ما يراه الحاكم.
قلت: أولاً إن الدليل الذي تمسكتم به أخص من مدعاكم، ولا أقل من أنه لا يثبت به عموم ما ادعيتم من كون الحبس، والجمع بين الحبس والضرب، والتلويث في المخروة وإطافة المجرم في سوقه وبلده وغيرها مطلقاً كالتعزير الذي هو الضرب دون الحد، ومن أنواع العقوبات الشرعية التي يختار الحاكم نوعه، ومقداره بما يراه سواء كان مساوياً في الشدة مع الحد أو أشد منه، أو كان كالتعزير، وأخف من الحد، فإن ما ذكر من الحبس وغيره في هذه الأحاديث أخف من التعزير الذي عرفت أنه ضرب دون الحد.
وثانياً: لازم الغاء الخصوصية في هذه الرايات التي وردت في عقوبة مجرم خاص بعقوبة خاصة جواز العقوبة بغيرها، ورفع اليد عنها حتى في مواردها، ويكون من الغاء الخصوصية في الحكم كما أن إلغاء الخصوصية في الموضوع يقتضي جواز إجراء هذه العقوبات في سائر الجرائم، فمثلاً يلوث في المخروة أو يطاف في السوق كل مَن يرى الحاكم في معاقبته ذلك، وإن لم يكن شاهد الزور أو لم يوجد تحت فراش رجل أو امرأة وورد النص فيه بالتعزيز والضرب، ولا أظن أحداً يتعدى عن مورد هذه الروايات إلى غيره.
وثالثاً: حبس أمير المؤمنين (ع) الرجل الذي اختلس الدرة يمكن أن يكون لأنه (ع) رأى أن المختلس مصرٌّ على ذنبه فحبسه نهياً عن المنكر وحفظاً للنظام وأمن العامة، ومع ذلك الاحتمال، وعدم معلومية وجه الفعل لا يجوز الاستناد إليه حتى في حبس المختلس بعنوان العقوبة زايداً على الضرب. نعم في شاهد الزور الظاهر أن حبسه أياماً مع الاطافة به من باب التأديب، والعقوبة، وعليه فإن كان لنا عموم أو إطلاق يدل على أن كل مَن خالف الشرع عليه الحد أو التعزير يخصص بذلك بناء على أن التعزير هو الضرب دون الحد مضافاً إلى أنه (ع) إنما كان يعاقب شاهد الزور هكذا لأن المعاقبة بذلك أخف من الحد، بل أخف من بعض أفراد الضرب دون الحد.
فإن قلت: فما تقول فيما رواه الكليني (قده) في باب النوادر من كتاب القضاء والأحكام باسناده عن أبي عبدالله (ع): إن أمير المؤمنين (ع) قضى في جارية أتى بها عمر بن الخطاب، وكان من قصتها أنها كانت يتيمة عند رجل فتخوفت زوجته أن يتزوجها زوجها، فدعت بنسوة حتى أمسكنها فأخذت عذرتها باصبعها فرمت اليتيمة بالفاحشة ـ والقصة طويلة تطلب شرحها من الكافي والفقيه ـ فألزم أمير المؤمنين (ع) على المرأة حد القاذف، وألزمهن جميعاً العقر، وجعل عقرها أربعمأة درهم، وأمر امرأة أن تنفى من الرجل ويطلقها زوجها، وزوّجه لجارية، وساق عنه (ع) المهر فإنه يمكن أن يقال: إن المستفاد من الرواية أن تطليق الزوج زوجته تعزير لها، وأمره (ع) الزوج بتطليقها كان من باب أن أمر التعزير موكول إلى الحاكم فيعزر المجرم بما يراه وبأي نوع من العقوبات المناسبة للجرم، فهذا الحديث وغيره مما مرَّ نقله من الأحاديث في غير هذا المورد يدل على عدم كون التعزير منحصر بالضرب دون الحد، بل أمره موكول إلى نظر الحاكم فيعزر بما يراه مناسباً في كل مورد.
قلت: أما سائر الروايات في ذلك فقد سمعت ما فيه، وأما هذه الرواية ففي الاستدلال به نقول:
أولاً إنها غير معمول بها في بعض ما يستفاد منها من الأحكام، وهو قبول شهادة النساء منفردات في الزنا.
وثانياً معارضة بمرفوعة رواها أيضاً الكليني في الكافي في باب حد القاذف من كتاب الحدود في مثل هذا الموضوع، قال في آخره: فأخذ الرجل بيد امرأته ويد الجارية فمضى بهما حتى أجلسهما بين يدي أمير المؤمنين (ع9، وأخبره بالقصة كلها، وأقرت المرأة بذلك، قال: وكان الحسن (ع) بين يدي أبيه، فقال له أمير المؤمنين (ع): إقض فيها، فقال الحسن (ع): نعم على المرأة الحد لقذفها الجارية، وعليها القيمة لافتراعها إياها، قال: فقال أمير المؤمنين (ع): صدقت … الحديث.
وهذه الرواية وإن كانت لا تصلح من حيث السند للمعارضة مع الرواية الأولى إلا أنها من حيث المتن أقوى، لأنها أوفق بالقواعد من الأولى، لأناها جعلت عقرها على التي أزالت بكارتها.
وثالثاً ظاهر الرواية الأولى أنه (ع) لم يلزم حد القذف على النسوة التي شدهن عليها بالزنا، وهذا أيضاً لا توافق القواعد، ومع هذه الجهات المضعفة للرواية كيف يمكن التمسك بها لتأسيس قاعدة كلية، وهي أن أمر تأديب المجرمين وعقوبتهم موكول برأي الحاكم مطلقاً بحسب النوع والمقدار، وإن كان أشد من الضرب دون الحد، هذا مع أني لم أجد مَن أفتى بهذه الرواية في باب الحدود والتعزيرات في موردها فضلاً عن أن يقول: إن الحاكم يعمل في نفس المورد بما يراه من تطليق المرأة أو تعزير آخر.
هذا وربما يقال: إن صاحب الجواهر في مسألة (التماس الخصم إحضار خصمه مجلس الحاكم وأنه إن استخفى بعث مَن ينادي على بابه أنه إن لم يحضر إلى ثلاث سمرت داره أو ختم عليهم، فإن لم يحضر بعد الثلاث وسأل المدعي السمر أو الختم أجابه إليه) قال: لم نجد له دليلاً بالخصوص، وإنما هو أحد أفراد التعزير التي هي للحاكم وكلامه هذا صريح في أن أمر التعزير مطلقاً يكون موكولاً برأي الحاكم وأنه أعم من الضرب دون الحد فما استظهرتم من كلامه من ذي قبل ليس في محله.
قلت: أولاً عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، مضافاً إلى أنه يمكن أن يقال: إن جزم مثل المحقق والعلامة ـ عليهما الرحمة ـ بخصوص هذا التأديب من غير أن يكون وارداً في رواية أو مذكوراً في كلام مَن لا يفتي إلا بالروايات بألفاظها بعيد جداً.
وثانياً: لا يدل كلامه هذا على أن التعزير أعم من الضرب دون الحد مطلقاً، وإن كان أشد من الضرب، وكان التعزير بالضرب ممكناً، فإن تسمير الباب، والختم عليه حتى يحضر صاحبه مجلس الحكم أخف من الضرب الذي لا يمكن إيقاعه على المجرم هنا.
وثالثاً: إن ذلك ليس من باب العقوبة على الجرم بل يمكن أن يكون ذلك لالزام الخصم على حضوره مجلس الحكم، وفي مثله يجوز ذلك من باب الأمر بالمعروف، كما أنه يجوز حبس الغريم إذا امتنع عن أداء ما عليه.
ورابعاً: أن ما استظهرنا من كلامه من أن التعزير هو الضرب دون الحد إنما استظهرناه من كلماته الكثيرة الظاهرة، بل والصريحة في ذلك في كتاب الحدود والتعزيرات، ولا يرفع اليد عنها لا يجوز نسبة القول بكون التعزير أعم من الضرب إليه بكلامه هنا الذي قاله لتوجيه كلام المحقق رحمة الله عليهما.
وكيف كان لا يصير مثل هذه الكلمات مستنداً لرفع اليد عن ظواهر الأحاديث، وما صرح به أهل اللغة وتخصيص العمومات والخروج عن الأصل.
ـ تنبيه في أن الحبس المذكور ليس لعقوبة المجرم:
قد ذكرنا في تحقيق مفاد بعض الروايات أن الحبس المذكور فيه ليس لعقوبة المجرم، بل لمنعه عن ارتكاب الذنب والاضرار، والافساد والاضلال ونحوها، ولذا قد يجمع بينه وبين الحد والتعزير، ويؤيد هذا الاستظهار أقوال علماء اللغة في الحبس والسجن. قال الراغب: الحبس المنع من الانبعاث قال عزوجل: (تحبسونهما من بعد الصلاة) المائدة/ 106، والحبس مصنع الماء الذي يحبسه والإحباس جمع، والتحبيس جعل الشيء موقوفاً على التأبيد يقال: هذا حبس في سبيل الله.
وقال: السجن الحبس في السجن وقرئ (رب السجن أحب إليّ) يوسف/ 33 بفتح السين وكسرها.
وقال في تاج العروس: الحبس المنع والامساك وهو ضد التخلية.
وقال في لسان العرب: حبسه يحبسه حبساً، فهو محبوس وحبيس واحتبسه وحبسه أمسكه عن وجهه، والحبس ضد التخلية.
وعلى هذا نقول: إن الحبس المنع والامساك عما كان يفعله أو يعتاده المحبوس من الأفعال والأشغال، والافساد والاصلاح، والاضرار، وغيرها، سواء كان الحابس مريداً مختاراً كالانسان أو غير مريد كما تقول: حبسني عن الصوم أو عن الدعاء أو عن الحج أو عن أمر كذا المرض أو المطر أو السارق أو السلطان، وسواء كان المحبوس مريداً مختاراً أو غير مريد، وغير ذي روح كالماء ونحوه.
ويطلق الحبس على السجن لمنعه المسجون عن الخروج منه وذهابه في حوائجه، ويطلق بهذه العناية المحبوس على المسجون سواء سجن عقوبة على جرم ارتكبه أو منعاً عن فعل اعتاده، ولكن الأبلغ إطلاق الحبس في موارد يحبس بالسجن مَن أريد حبسه عن الذنب، واطلاق السجن في موارد العقوبة.
فظهر من ذلك أن الأظهر في لفظ حبس ويحبس في كلام الفصحاء إذا كان الحابس والمحبوس إنساناً هو منعه من فعله وفساده وعصيانه، وفي لفظ سجن ويسجن حبسه عقوبة إلا إذا كان في الكلام قرينة على خلاف ذلك. وعلى ذلك يستظهر معنى الروايات الواردة فيها الحبس والسجن، ويخرج به أكثر الروايات الواردة فيها الحبس عن توهم كون الحبس فيها من باب العقوبة على الجرم، ويسقط الاستدلال بها لكون الحبس من أنواع التعزير فتدبر جيداً.
اترك تعليقاً