عقد المقاولة
تعددت أشكال المقاولة وصورها في العصر الحاضر، وكثر الإقبال عليها سواء على الصعيد الحكومي بإنشاء كثير من المرافق الحيوية كالمصانع والمشافي والمدارس، أم على الصعيد الخاص في الإنشاء والتعمير، ويزداد حجم المقاولات كل عام في مختلف الدول، مما كان لها أثر واضح في اقتصاد البلاد وفي أوضاع العاملين في هذا القطاع، مما أوجب تنظيم عقد المقاولة في القوانين المدني
والمقاولة: عقد يتعهد أحد طرفيه بمقتضاه بأن يصنع شيئاً أو يؤدي عملاً لقاء بدل يتعهد به الطرف الآخر.وقد حلت المقاولة محل كل من الاستصناع وإجارة الأعمال ((الأجير المشترك أو العام)) في التنظيم القانوني، وأصبحت منفصلة عن هذين العقدين. فإذا قدم المقاول العمل والمواد فهي كالاستصناع، وإن قدم المقاول العمل فقط فهي إجارة على العمل. ولإبرام المقاولة صور أهمها ثلاث: أن تتم مباشرة بين المقاول والمستفيد، أو تتم من الباطن (المقاول الثاني) أو بواسطة مؤسسة مالية: بنك أو غيره، عن طريق ما يعرف بالاستصناع الموازي،( وجميع هذه الصور جائز شرعاً، مستمد أحكامها من الفقه الحنفي.)
أما المقاولة من حيث البدل فلها أيضاً صور ثلاث: إما أن يحدد البدل بمبلغ إجمالي، وهي الصورة الغالبة أو النمطية، وإما بالتكلفة وضم نسبة ربح للمقاول، وإما على أساس سعر الوحدة القياسية وكل إضافة أو تعديل على بنود المقاولة يلزم صاحب العمل بدفع المقابل باتفاق جديد بين الطرفين.
ولهذه الإضافات حالات ثلاث:
الأولى: حالة تعديل التصميم أو زيادة التكاليف لسبب يرجع إلى صاحب العمل، كتقديمه معلومات خطأ عن أبعاد البناء. الثانية: إذا حدث في التصميم تعديل أو إضافة بإذن صاحب العمل. الثالثة: حالة إقامة بناء أو إنشاء على أرض مقدمة من صاحب العمل إذا كانت تشوبه عيوب تبلغ من الجسامة حداً يجعله غير صالح للاستعمال المقدر له، ويقتضي الأمر إزالته، والإزالة قد ترتب أضراراً بالغة للمقاول. وعقد المقاولة ينشئ التزامات متقابلة على كل من صاحب العمل كدفع البدل بعد تسلم العمل كله أو بعضه، والمقاول كإنجاز العمل بنحو جيد في الوقت المحدد، وضمان الضرر أو الخسارة الناشئة عن فعله ضمن مدة عشر سنوات أو أطول منها. وتنقضي المقاولة في حالات مشابهة لانتهاء الإجارة وهي إنجاز العمل المتفق عليه، وفسخ العقد بالتراضي، أو لعذر، أو بسبب عجز المقاول عن إتمام العمل، وموت المقاول. وإذا وجد مقاولان: أول وثانٍ (المقاولة من الباطن) كانا مسؤولين بالتضامن في التعويض لصاحب العمل عما يحدث خلال عشر سنوات تبدأ من وقت تسليم العمل، من تهدم كلي وتصدع جزئي في البناء، وعن كل عيب يهدد متانة البناء وسلامته، إذا لم يتضمن العقد مدة أطول. وإذا اقتصر عمل المهندس على وضع التصميم دون الإشراف على التنفيذ، كان مسؤولاً فقط عن عيوب التصميم، لأن الخراج بالضمان أو الغرم بالغنم .
تعريفها :
كل عقد ينشئ التزامات على عاتق الطرفين المتعاقدين، والمقاولة كغيرها من العقود ترتب التزامات معينة على كل من صاحب العمل والمقاول.
أما التزامات صاحب العمل:
1- تسلّم ما تم من العمل بعد إنجازه: على صاحب العمل تسلّم ما تم من العمل، متى أتجزه المقاول ووضعه تحت تصرفه، فإذا امتنع بغير سبب مشروع، على الرغم من إنذاره رسمياً، وتلف في يد المقاول أو تغيب دون تقصير منه، فلا ضمان عليه، لأن المقاول (أو الأجير الخاص) أمين على في يده، فلا يضمن ما تلف في يده من غير تعد ولا تقصير.
2- دفع الأجرة عند تسلّم المعقود عليه: على صاحب العمل دفع البدل المتفق عليه عند تسلم العمل المعقود عليه، لأن الأجرة تلزم باستيفاء المنفعة ما لم يتفق أو يتعارف على غير ذلك. فإذا كان عقد المقاولة على أساس الوحدة، مثل كل بناء على حدة، وبمقتضى تصميم معين، ثم تبين أن تنفيذ التصميم يقضي زيادة جسمية في النفقات، جاز لرب العمل أن يتحلل من العقد، مع إيفاء المقاول حقه عما أنجزه من الأعمال مقدرة على وفق شروط العقد. أما إن كان تنفيذ العمل على أساس تصميم لقاء أجر إجمالي، فليس للمقاول المطالبة بأية زيادة في الأجر. وإذا لم يعين في العقد أجر على العمل، استحق المقاول أجر المثل، مع قيمة المواد التي يتطلبها العمل. وإذا لم يتفق المهندس الذي صمم البناء وأشرف على تنفيذه على الأجر، استحق أجر المثل حسب الجاري عرفاً، فإن طرأ ما يحول دون إتمام تنفيذ العمل وفقاً للتصميم الذي أعده، استحق أجر مثل ما قام به من عمل دون الباقي.
وأما التزامات المقاول:
1- المسؤولية عن جودة مادة العمل: إذا تعهد المقاول تقديم مادة العمل كلها أو بعضها، وهي المواد الأولية، كان مسؤولاً عن جودتها على وفق شروط العقد أو العرف الجاري.
2- الحفاظ على مصلحة صاحب العمل: إذا قدَّم صاحب العمل مادة العمل، وجب على المقاول الحرص عليها ومراعاة الأصول الفنية في صنعها، وردّ ما بقي منها لصاحبها، لأنه أمين على مصلحة صاحب العمل، فإن أهمل أو قصر في ذلك، فتلفت أو تعيبت أو فقدت، فعليه ضمانها.
3- تقديم ما يحتاجه إنجاز العمل من آلات وأدوات: على المقاول أن يأتي عملاً بمقتضى العقد بما يحتاج إليه في إنجاز العمل من آلات وأدوات إضافية على نفقته، ما لم يقض الاتفاق العرف بغير ذلك.
4- إنجاز العمل بحسب شروط العقد: يجب على المقاول إنجاز العمل وفقاً لشروط العقد، فإذا أخل بشرط منها، جاز لصاحب العمل طلب فسخ العقد في الحال إذا تعذر إصلاح العمل.
وأما إذا كان إصلاح العمل ممكناً، كان لصاحب العمل إنذار المقاول بتصحيح العمل خلال أجل معقول، فإذا انقضى الأجل دون إتمام التصحيح، جاز له أن يطلب من القاضي فسخ العقد أو الترخيص له في العهدة لمقاول آخر بإتمام العمل على نفقة المقاول الأول.
5- ضمان الضرر أو الخسارة: يضمن المقاول ما تولد عن فعله أو صنعه من ضرر أو خسارة، سواء أكان بتعدية أو بتقصيره أم لا، لأنه (كالأجير المشترك) ضامن لما يسلّم إليه من أموال الناس. ويستثنى من ذلك ما إذا وقع الضرر بسبب حادث لا يمكن التحرز عنه، عملاً بالقاعدة الشرعية: ((كل ما لا يمكن التحرز عنه لا ضمان فيه)).
فإن كان محل عقد المقاولة إقامة مبانٍ أو منشآت ثابتة أخرى، يصممها المهندس وينفذها المقاول تحت إشرافه، كانا متضامنين في التعويض لصاحب العمل عما يحدث خلال عشر سنوات تبدأ من وقت تسليم العمل، من تهدم كلي أو جزئي في البناء، وعن كل عيب يهدد متانة البناء وسلامته، إذا لم يتضمن العقد مدة أطول، حتى ولو كان الخلل أو التهدم ناشئاً من عيب في الأرض ذاتها، أو رضي صاحب العمل بالعيب. وإذا اقتصر عمل المهندس على وضع التصميم دون الإشراف على التنفيذ، كان مسؤولاً فقط عن عيوب التصميم، لأن ((الخراج بالضمان)) أو ((الغرم بالغنم)).
ويبطل كل شرط يقصد به إعفاء المقاول أو المهندس من الضمان أو الحد منه، لأن ذلك يتنافى مع المصلحة ومع حق الآخرين.
واحتياطاً من القانون المدني الإسلامي أبان أنه لا تسمع دعوى الضمان بعد انقضاء ثلاث سنوات على حصول التهدم أو اكتشاف العيب، أخذاً بمبدأ المنع من سماع الدعوى وتخصص القضاة.
وأما حق المقاول في الأجر أو البدل
فمأخوذ من مذهب الحنفية في ضمان الأجير المشترك، بحسب التفصيل الآتي: أ- إذا كان لعمل المقاول أثر في العين التي يعمل فيها، كالخياط والصباغ، جاز له حبسها، حتى يستوفي الأجرة المستحقة، وإذا تلفت في يده قبل سداد أجره، فلا ضمان عليه ولا أجر له. ب- وأما إذا لم يكن لعمله أثر في العين كالحمال والملاح، فليس له أن يحبسها لاستيفاء الأجرة، فإن فعل وتلفت، كان عليه ضمان الغصب وهو أنه يضمن الشيء، أياً كان سبب تلفه، قضاء وقدراً، أو بالتعدي أو بالتقصير.
انقضاء المقاولة:
نصت القوانين المدنية على حالات انتهاء أو انقضاء المقاولة وهي الحالات المشابهة لحالات انتهاء الإجارة لدى الحنفية : 1- إنجاز العمل المتفق عليه: إذا أنجز المقاول العمل المطلوب منه، لم يبق مسوغ لبقاء عقد المقاولة. 2- فسخ العقد بالتراضي أو بالقضاء: ينتهي العقد باتفاق الطرفين على إنهائه أو فسخه، فإن لم يتفقا على ذلك، جاز فسخه قضاءً بطلب أحد الطرفين. 3- فسخ العقد لعذر: إذا حدث عذر يحول دون تنفيذ العقد، أو إتمام تنفيذه، جاز لأحد عاقديه أن يطلب فسخه أو إنهاءه حسب الأحوال، كما تفسخ الإجارة في مذهب الحنفية بالأعذار الطارئة، فإذا تضرر أحد العاقدين بالفسخ، جاز له مطالبة الطرف الآخر بالتعويض المتعارف عليه.
4- عجز المقاول عن إتمام العمل: إذا أصبح المقاول عاجزاً عجزاً كلياً عن إتمام العمل لسبب لا يد له فيه من مرض أو حادث جسيم، فإن المقاولة تنتهي، ويستحق المقاول قيمة ما أتم من الأعمال وما أنفق في سبيل التنفيذ.
5- موت المقاول: ينتهي عقد المقاولة بموت المقاول إذا كان متفقاً مع صاحب العمل على أن يعمل بنفسه أو اعتباراً بمؤهلاته الشخصية.
فإن لم يكن هناك مثل هذا الشرط أو لم تكن مؤهلات المقاول الشخصية محل اعتبار في التعاقد، جاز لصاحب العمل طلب فسخ العقد إذا لم تتوافر في الورثة الضمانات الكافية لحسن تنفيذ العمل. وفي حال الموت أو الفسخ يدخل في التركة قيمة ما تم من الأعمال والنفقات بحسب شروط العقد وبمقتضى العرف.
– حكم الشرط الجزائي في عقود المقاولات :
يجوز هذا الشرط في عقود المقاولات بالنسبة للمقاول و يجوز في المقاولة الأخذ بالشرط الجزائي، منعاً من تأخر المقاول من إنجاز عمله في الوقت المحدد في صلب عقد المقاولة إذا نص في عقد المقاولة بين العاقدين على الأخذ بمقتضاه، أو باتفاق لاحق قبل حدوث الضرر.
– حكم تحديد ضمان العيوب بمدة معينة والبراءة بعدها: ليس من المعقول ولا من المقبول شرعاً تحقيقاً للعدالة وتوازن المصالح بين عاقدي المقاولة تحمل المقاول تبعة ضمان العيوب المحتملة أو التي قد تقع في المستقبل لمدة طويلة أو مفتوحة، وإنما لابدَّ من تحديد مدة معينة لتوجيه المسؤولية له، ثم يصبح بريئاً بعدها، وهذا ما عليه عرف المقاولات وواقع تنفيذ الأعمال. وقد حسمت القوانين هذا الحكم وأنهت مشكلة المدة، وقررت كما تقدم في بيان التزامات المقاول بأنه إن كان محل عقد المقاولة إقامة مبانٍ أو منشآت ثابتة أخرى، يصممها المهندس وينفذها المقاول تحت إشرافه، كانا متضامنين في التعويض لصاحب العمل عما يحدث خلال عشر سنوات، تبدأ من وقت تسليم العمل، من تهدم كلي أو جزئي في البناء، وعن كل عيب يهدد متانة البناء وسلامته إذا لم يتضمن العقد مدة أطول، حتى ولو كان الخلل أو التهدم ناشئاً عن عيب في الأرض ذاتها أو رضي صاحب العمل بالعيب، أي إن المسؤولية تظل قائمة ضمن هذه المدة، ولو حدث تراضٍ على الإعفاء منها أو التخفيف منها، رعاية للمصلحة العامة. ويتبين من هذا أنه يمكن بالاتفاق أو التراضي بقاء المسؤولية عن العيوب لمدة أطول من عشر سنوات من تاريخ تسليم العمل، ويعد هذا التوجه مجالاً لتشديد المسؤولية وإطالة أمدها، ضماناً لمصلحة صاحب العمل ورعاية النفع العام .
اترك تعليقاً