بقلم ذ هشام راشد
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
دكتور في الحقوق أستاذ باحث في القانون الخاص
منذ أن أعلنت وزارة العدل والحريات عن مشروع قانون يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة، وبعد أن توصلت
كل الهيئات المعنية بمسودة هذا المشروع، بدأت الأقلام من داخل كتابة الضبط تتفاعل تباعا مع مرتكزاته ومبادئه ومقتضياته، إما عن طريق التنسيق وتوحيد الرؤى فيما بينها بغية إعداد مرافعة مشتركة لتثبيت مصالح كتابة الضبط، وإما عن طريق إحداث مكاتب لدراسة المشاريع تُناقَش خلاصتُها من خلال تنظيم ندوات في مختلف محاكم المملكة، وما منها إلا ويجد في مشروع التنظيم القضائي ما يصلح مادة لنقاشه واعتراضه، ومقال: “الطريق إلى استقلالية كتابة الضبط قراءة نقدية لمشروع يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة” يأتي في هذا السياق، وأحسب أن الأقلام لا تزال منكبة على الدرس والتحليل إلى حين إنضاج كل المقترحات.
بداية، وحتى لا ينعت البعض موظفي كتابة الضبط بالعدمية، فإنا نثمن كل الجهود التي بذلها معدو وحررو هذا المشروع في سبيل تقديم نموذج مغربي لتنظيم قضائي متين يتطلع إلى تجويد الخدمات، ويحمي حقوق المتقاضين في ظل استقلالية السلطة القضائية عن باقي السلط كما نص على ذلك دستور 2011، غير أننا وعلى خلاف ذلك نسجل في بعض مواد هذا المشروع انتقاصا غير مقصود من استقلالية السلطة القضائية من جهة، وسنتولى تبيان وجه هذا الانتقاص عند دراسة بعض مقتضياتها، وكأن التمرين الدستوري الجديد لم يجد حضوره بعد في كل التشريعات المقترحة من قبل وزارة العدل والحريات، ومن جهة ثانية فإن المشروع لم يحفظ للسلطة الحكومية المكلفة بالعدل على طابع الاستقلالية كلما قرأنا في مواده تدخل المسئولين القضائيين في جهاز كتابة الضبط التابع لها إما بالانضباط أو التفتيش أو المراقبة … ، كما أنه لم يحفظ لها على التوازن في التشريع كلما قرأنا أيضا في مواده إحداث لجان ومكاتب وجمعيات للسلطة القضائية دون أن يحدث لها من الهياكل ما يجعلها متوازنة مع السلطة القضائية.
جاء في الفصل الأول من الدستور الجديد للمملكة الشريفة: “… يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسئولية بالمحاسبة …”، الفصل الدستوري الأول واضح لا يحتاج إلى بيان، فمنطوقه نص في مبادئ الفصل والتوازن والتعاون بين السلط الثلاث السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وهذا التصور الأسمى يلزم الجميع عند تحرير وإعداد مشاريع القوانين أو القوانين التنظيمية وغيرها، بلا خلاف.
ونحن إذ نستحضر مقتضيات الفصل الأول من دستور المملكة ونقرأ بمنظاره في مسودة مشروع قانون التنظيم القضائي، نجد إهمال مقتضى الفصل ومقتضى التوازن بين السلطتين القضائية والتنفيذية في المحاكم بدء من العنوان؛ “مشروع قانون يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة” بدلا من “مشروع قانون يتعلق بالتنظيم القضائي والإداري لمحاكم المملكة”، ونجد إهمال التوازن بين السلطتين في عدد الهيئات التي أحدثها المشروع أو التي احتفظ بها للسطة القضائية (اللجان، مكتب المحكمة، الجمعية العامة …)، في مقابل غياب تام لأي هيئة تابعة للسلطة الحكومية موازية ومتعاونة، والاقتصار على منصب مسير إداري للمحكمة يخضع لسلطة وينضبط لأخرى.
ومن جهة ثالثة فإن مشروع التنظيم القضائي جعل من تفتيش ومراقبة المسير الإداري وموظفي كتابة الضبط موضوعا مشتركا بين السلطة القضائية والسلطة الحكومية، دون أن يجعل من تفتيش ومراقبة القضاة هو الآخر موضوعا مشتركا بينهما، والتمرين الدستوري المؤسس على الفصل الأول من الدستور لا يقبل مثل هذا التعاطي التبعيضي والتجزيئي في التشريع، فإما التسليم بطرح من خارج التصور الأسمى للفصل الأول من الدستور؛ بأن تراقب وتفتش فيه السلطتان معا القضاة والموظفين، وإما تفعيل الفصل الدستوري بجعل مراقبة وتفتيش المسير الإداري وموظفي كتابة الضبط شأنا حكوميا تمارس فيه كامل الصلاحية وفق القانون وفي جو من الاستقلالية التامة دون مشاركة فيه من قبل السلطة القضائية، حول هذه الجهات الثلاث نعيد قراءة المشروع قراءة نقدية على النحو التالي:
تفعيل مبدأ الفصل بين السلطتين القضائية والحكومية:
أولا: إذا كانت عضوية المسير الإداري في لجنة محدثة في مشروع يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة تعمل بصفة منتظمة لبحث ودراسة صعوبات سير العمل بالمحكمة في إطار (التعاون) بين السلطتين القضائية والحكومية (انظر المادة 3) له ما يعضده من الناحية الدستورية، فإن عضويته مقررا في مكتب المحكمة والجمعية العامة تنتقص من الاستقلالية التامة للسلطة القضائية بوجود عضو يمثل السلطة الحكومية المكلفة بالعدل في هيئاتها.
ومن باب إعمال مقتضى الفصل بين السلطتين فإنا نؤكد على ضرورة التشطيب على عضوية المسير الإداري في المواد 24 و25 و26 و28 و29 و30 من مشروع التنظيم القضائي، قد يستشكل هذا الأمر على من يقرأ اقتراحنا فيعترض عليه بعلة أنه لا وجه للإطلاع على المضامين التي صادقت عليها الجمعية العامة إلا بحضور المسير الإداري فيها، نعم يبدو للوهلة الأولى أن الإشكال له من الصوابية ما يوجبه، لكنه يرفع بمجرد تعديل بالإضافة في آخر المادة 30: “… توزع نسخ من المحضر على جميع قضاة المحكمة والمسير الإداري بها”، ويدرج المحضر بعد ذلك في جدول أعمال المجلس الإداري حسب ما سنقترحه من تعديل في المادة 31.
ثانيا: لا أحد يمكن أن نخفي الارتباك الدلالي في اللفظ والمعنى الحاصل في المبدأ رقم 20 من قائمة المبادئ الموجهة للتنظيم القضائي، وكذا المادة 19 وما يليها من مواد في المشروع عند الحديث عن خضوع المسير الإداري وموظفي كتابة الضبط للسلطة الحكومية المكلفة بالعدل، وبين انضباطهم في عملهم للسلطة القضائية، وقد حاولنا قدر المستطاع تفكيك لفظ “خضوع” و”انضباط” وإعادة تركيبهما تركيبا مفاهيميا نتلمس فيه معنى قانونيا أو وجها نفهمه كشكل لانضباط المسير الإداري وموظفي كتابة الضبط للسلطة القضائية في ظل الفصل بين السلط لكن دون جدوى، وفي هذا الصدد أيضا نجد في المشروع إغفال مبدأ الفصل عند الحديث عن ترأس قاض لغرفة مكونة من قضاة ومن موظفي كتابة الضبط المواد 48 و65 و73 و79 و83 و97.
ثالثا: إن مشروع يتعلق بالتنظيم القضائي في قسمها الثالث من المادة 100 إلى غاية المادة 107 تتحدث عن تفتيش المحاكم،
فقد جعل تفتيش ومراقبة المسير الإداري وموظفي كتابة الضبط شأنا تتولاه المفتشية العامة للسلطة الحكومية (المادة 102) وجعل أيضا تفتيش ومراقبة المسير الإداري وموظفي كتابة الضبط شأنا تتولاه السلطة القضائية (المواد 100 و101 و103 إلى 107) إذا فالمشروع جعل التفتيش والمراقبة شأنا مشتركا بين سلطتين يقع على هيئة واحدة، دون أن يجعل من تفتيش ومراقبة القضاة هو الآخر موضوعا مشتركا بينهما،
فإما الخروج عن مقتضيات الدستور؛ بأن تراقب وتفتش فيه السلطتان معا القضاة والموظفين، وإما تفعيل الفصل الدستوري بجعل مراقبة وتفتيش المسير الإداري وموظفي كتابة الضبط شأنا حكوميا تمارس فيه كامل الصلاحية وفق القانون وفي جو من الاستقلالية التامة دون مشاركة فيه من قبل السلطة القضائية كما سبق الذكر.
تفعيل مبدأ التوازن بين السلطتين القضائية والحكومية:
المادة 7 من المشروع: “… يتولى كل من الرئيس الأول لمحكمة النقض والوكيل العام للملك لديها، خلال هذه الجلسة، التعريف بنشاط المحكمة برسم السنة المنصرمة، والنتائج التي انتهى إليها مكتبها بخصوص التدابير التنظيمية للسنة القضائية الجديدة …”، من مبدأ تحقيق التوازن المؤسس على المسئولية والمحاسبة أن يتولى وزير العدل أو من يمثل إدارته في هذه الجلسة التعريف بالنشاط الإداري والمالي لمحاكم المملكة خلال السنة المنصرمة، والكشف عن مشروع السلطة الحكومية المتعلقة بالعدل في التدبير المالي والتنظيم الإداري للسنة القضائية الجديدة.
المادة 31 من المشروع شكلت منفردة فصلا كاملا خصص للتسيير الإداري والمالي للمحاكم وهو الفصل الثاني من الباب الثاني من القسم الأول، وهنا يطرح السؤال: هل المادة 31 قادرة بمفردها على الإجابة تنظيميا على كل متطلبات التسيير الإداري والمالي للمحاكم؟ الجواب بكل تأكيد لا. ومن ثمة يتحمل الجميع عبء توسيع هذه المادة بمقترحات تحافظ على الفصل والتوازن بين السلطتين القضائية والتنفيذية، وفي هذا الصدد نقترح في شأن توسيعها ما يلي:
المادة: 1/31.
يحدث بكل محكمة أول وثاني درجة مجلس إداري ينظم المصلحة الإدارية للمحكمة، يترأسه المسير الإداري أو نائبه، ويتولى إعداد مشروع تنظيم عمل كتابة الضبط من خلال تحديد عدد المصالح أو وتوزيع المهام على موظفي كتابة الضبط والمصادقة عليه، كما يتولى تنظيم العطل الإدارية، وتحديد حاجيات المحكمة من الموارد البشرية ومواضيع التكوين.
ينعقد المجلس الإداري بعد الجمعية العامة في النصف الأول من شهر يناير من كل سنة، كما يمكن أن ينعقد بصفة استثنائية بعد كل جمعية عامة استثنائية.
المادة: 2/31.
يتكون المجلس الإداري من:
– مسير إداري ونائبه.
– رؤساء مصالح بكتابة الضبط.
في حالة عدم وجود أحد رؤساء مصالح بكتابة الضبط يضم وجوبا إلى المجلس الإداري الموظف الأعلى درجة بالمصلحة وفي حالة التساوي أقدمهم.
المادة: 3/31.
تتولى السلطة الحكومية المكلفة بالعدل الإشرا ف الإداري والمالي على المحاكم بما لا يتعارض ومبدأ استقلالية السلطة القضائية.
يتولى ضبط عمل مختلف مصالح كتابة الضبط بالمحكمة مسير إداري، يشرف على موظفي كتابة الضبط العاملين بها، ويخضع إداريا للسلطة الحكومية المكلفة بالعدل ومراقبتها.
تحدد وضعية المسير الإداري واختصاصاته ومهام موظفي كتابة الضبط بمرسوم وزاري.
في الختام، إن إحالة مسودة مشروع قانون يتعلق بالتنظيم القضائي على حالتها هاته دون أخذ بعين الاعتبار ملاحظات واقتراحات مختلف المتدخلين ومنهم هيئة كتابة الضبط، والإبقاء على عدم تفعيل مبدأ الفصل والتوازن بين السلطة الحكومية المكلفة بالعدل والسلطة القضائية يحتم على الجميع الاحتكام إلى المحكمة الدستورية.
بقلم ذ هشام راشد
دكتور في الحقوق أستاذ باحث في القانون الخاص
اترك تعليقاً