موقف الإسلام من القوانين الوضعية، وسبقه وتفوقه عليها، انتخبت جلها من الكتاب الشهير: (التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي): للمحامي الكبير الأستاذ عبدالقادر عودة _ رحمة الله عليه _ جعلتها تذكرة للمتخصص، وتثبيتاً لغير المتخصص في علوم الشريعة.
أهمية المحاضرة:
إن هذه المحاضرة تأخذ أهمية قصوى تبرز عبر الآتي:
1. فيها إظهار محاسن الشريعة الإسلامية وتفوقها على القوانين الوضعية، وسبقها إلى تقرير كل المبادئ الإنسانية، والنظريات العلمية والاجتماعية التي لم يعرفها العالم، ولم يهتد إليها إلا أخيراً أو لما يصل إليها بعد.
2. الرد على الذين يعتقدون خطأً أن الشريعة الإسلامية لا تصلح للتطبيق في عصرنا الحاضر، والتي نجزم أنها عقيدة خاطئة مضللة، أساسها الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية مجملة ومفصلة، وعدم العلم بالشيء لا يعنى عدم وجوده وصلاحيته.
3. بيان أن سبب تأخرنا عن غيرنا هو إعمال بعض التشريع دون بعض، مما جعل الصورة غير مكتملة ومشوهة، كما هو الحال في بعض الحقب الحديثة، قال الله تعالى: “أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ” (البقرة: من الآية85).
4. بيان أن الإسلام بتشريعاته السامية قد استطاع الرقي بمعتقديه سابقاً،فإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك قطعاً وجزماً، إنه قادر الآن علي الترقي بمعتقديه لاحقاً ولا ريب، إن هم غيروا ما بأنفسهم، كما قال تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (الرعد: من الآية11)، وكما قال تعالى: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ” (النور: من الآية55).
وهذا الوعد حق لمن تمسك بالإسلام وبتشريعاته، كما قال جل وعلا: “قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ” (المائدة:15، 16).
5. تحقيق عبادة الله جل وعلا بالتحاكم إلى شرعه امتثالاً لقوله تعالى: “إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ” (الأنعام: من الآية57).
ثانياً: محاور المحاضرة:
المحور الأول: التعريف بالشريعة والقانون الوضعي.
أ- التعريف بالشريعة:
هي مجموعة من التعاليم والنظم الربانية المعصومة التي تنظم حياة الأفراد والجماعات والدول وغير ذلك.
ب – التعريف بالقانون الوضعي:
هو مجموعة من التعاليم والنظم البشرية التي تنظم حياة الأفراد والجماعات والدول.
ج – نشأة الشريعة:
جاءت الشرعية متكاملة من عند الله تعالى شاملة جامعة مانعة لا ترى فيها عوجاً، ولا تشهد فيها نقصاً، أنزلها الله تعالى من سمائه على قلب رسوله محمد صلى الله علية وسلم، في مدة قصيرة لا تتجاوز المدة اللازمة لنزولها، بدأت ببعثة الرسول صلى الله علية وسلم وانتهت بوفاته، أو انتهت يوم قال الله تعالى: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً” (المائدة: من الآية3).
فلم تأت الشريعة لجماعة دون جماعة، أو لقوم دون قوم، أو لدولة دون دولة، أو لوقت دون وقت، أو لعصر دون عصر، أو لزمن دون زمن، تبلى جدتها. بل هي متجددة أفضل من تجدد الليل النهار.
د – نشأة القانون:
نشأ القانون الوضعي وليداً صغيراً ضعيفاً في الجماعة التي ينظمها ويحكمها محدود القواعد، ثم تطور بتطور الجماعة، وازدادت نظرياته بحاجة الجماعة وتنوعها، ويزداد كلما تقدمت في تفكيرها وعلومها وآدابها، وعلماء القانون الوضعي حين يتحدثون عن النشأة الأولى للقانون يقولون أنه بدأ يتكون مع الأسرة والقبيلة، حتى تكونت الدولة بما يناسب كل تجمع، إلا إنه لم يتفق في الغالب مع قوانين الدول الأخرى،
وظل الخلاف حتى بدأت المرحلة الأخيرة من التطور القانوني في أعقاب القرن الثامن عشر على هدي النظريات الفلسفية والعلمية والاجتماعية، فتطور إلى الآن تطوراً ملحوظاً وأصبح قائما على نظريات لم تكن في العهد السابق، أساسها العدالة والمساواة والرحمة والإنسانية، وقد أدى شيوع هذه النظريات الأخيرة إلى توحيد معظم القواعد في كثير من دول العالم، ولكن يبقى لكل دولة قانونها الذي يختلف عن غيره من القوانين في كثير من الدقائق والتفاصيل.
المحور الثاني: ميزات الشريعة الإسلامية على القانون الوضعي:
أساس تميز الشريعة على القانون الآتي:
1- أن الشريعة من عند الله جل وعلا، كما قال تعالى: “أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ” (الأعراف: من الآية54). والله العالم بخلقه وبما يصلح لهم، ولا يشك عاقل أن من أحكم خلقه وأعجز غيره أن يأتي بآية أو خلق مثله حكيم، لا يصدر عنه إلا البالغ في الحكمة والدقة والسعة والدوام. قال تعالى: “وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً” (النساء: من الآية82). وكون الشريعة من عند الله تعالى يوجب ذلك احترامها من الجميع وامتثالها تعظيماً لله تعالى وثقة في حكمه.
2- أن القانون الوضعي من صنع البشر وضع بقدر ما يسد حاجاتهم الوقتية، وبقدر قصور البشر عن معرفة الغيب تأتي النصوص التي يضعها البشر قاصرة عن حكم ما لم يتوقعوه. إذ الإنسان عرضة للجهل والهوى والظلم، وبتأثره بواحدة منها يتأثر نتاجه القانوني. وحسبنا أن نشير أن أسمى ما وصل إليه رجال القانون موجوداً في الشريعة من يوم نزولها ناهيك عن ما لم يصلوا إليه بعد وهو الأكثر.
3- أن قواعد الشريعة ثابتة لا تقبل التغيير والتبديل بيد أن لها من المرونة والعموم ما يجعلها تتفق وتتسع لحاجات الجماعات البشرية مهما طال بها الزمان، وتطورت وتعددت تلك الحاجات، كما أنه لا يمكن لنصوصها السامية الرفيعة التأخر في وقت أو عصر عن مستوى الجماعات والأفراد مهما تطورت وارتفعت في تفكيرها وسلوكها أو تشعبت نواحي حياتها.
4– أن قواعد القانون مؤقتة تضعها الجماعة لتنظيم شؤونها وحاجاتها فهي قواعد متأخرة عن الجماعة أوهي في مستوى الجماعة تقريباً ومتخلفة عن تلك الحاجات غداً، لأن القوانين لا تتغير بسرعة تتماشى مع تغيرات حال الجماعات البشرية.
5- أن القانون يتلون بتلون واضعيه وعاداتهم وتقاليدهم وتأريخهم، فالجماعة هي التي تقود القانون وليس هو القائد لها، وإذا كان هذا هو الأصل في القانون من يوم وجدوه، فأن هذا الأصل قد تغير في الوقت الحالي،
بعد الحرب العالمية، الأولى حيث بدأت الدول تدعوا لدعوات جديدة، أو أنظمة جديدة تستخدم القانون لتوجيه الشعوب وجهات معينة، وتستخدمه لتنفيذ أغراض معينة، مثل: ما فعلت روسيا الشيوعية، أو تركيا الكمالية، أو ايطاليا الفاشية، أو ألمانيا النازية، إذن أصبح القانون ينظم الجماعة في الغالب كما يرى الساسة حتى وأن كان من ذلك ما لا يصلح للجماعات أصلاً.
6- أن من قواعد القانون ما هو ميراث من بقايا أديان حرفت لم تخالف قواعد الشريعة. ونستطيع إيجاز ذلك بأن الشريعة تمتاز بالربانية، والسمو والدوام، والشمول، والعالمية، والكمال، والتوازن.
المحور الثالث: مقارنة عامة، وخاصة بين الشريعة والقانون:
ويمكن عقد المقارنة هاهنا كمثال في الآتي:
1. نظرية المساواة:
جاءت الشريعة الإسلامية من وقت نزولها بنصوص صريحة تقرر المساواة وتفرضها فرضاً على الناس جميعاً منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، قال تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” (الحجرات: من الآية13).
وفي السنة ما يؤكد ذلك. فإذا كانت المساواة قد عرفت في الشريعة الإسلامية من ذلك الحين فإن القوانين الوضعية لم تعرفها إلا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وعلية فإن الشريعة سبقت في تقرير المساواة وتوسعت في تطبيقها إلى أقصى حد، أما القانون فقد طبقها تطبيقا محدداً.
ومما يصلح للتمثل هنا: نظرية مساواة المرأة بالرجل: القاعدة العامة في الشريعة الإسلامية أن المرأة تساوي الرجل في الحقوق والواجبات، فلها مثل ما له وعليها مثل ما علية، وهي تلتزم للرجل بما يقابل التزاماته لها، فكل حق لها على الرجل يقابله واجب على الرجل لها، وكل حق للرجل عليها يقابله واجب على الرجل لها،
كما قال تعالى: “وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ” (البقرة: من الآية228)، وهذه هي القاعدة ولم تميز الشريعة الرجل عن المرأة إلا لعلة قوية مثل قوله تعالى: “وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ” (البقرة: من الآية228)، وهذه الدرجة هي درجة الرئاسة والقوامة على شؤونهما المشتركة حيث قال تعالى: “الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ” (النساء: من الآية34)، فالتفضل الذي أعطيته الرجل إنما هو مقابل الرعاية الكاملة والمسؤولية الأولى والأخيرة جرياً على قاعدة “السلطة بالمسؤولية”.
—
أما الشؤون الخاصة فليس هناك تميز، فهي تتملك الحقوق وتتصرف فيها دون أن يكون للرجل ولو كان زوجاً أو أباًً التدخل في أعمالها. هكذا سمت الشريعة من يوم نزولها بتقرير مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة بيد أن القوانين الوضعية لم تسمح بتلك التسوية إلى القرن التاسع عشر وبعضها يمنع المرأة من التصرف في شؤونها الخاصة إلى يومنا هذا إلا بإذن زوجها.
2- نظرية الحرية:
أعلنت الشريعة من الوهلة الأولى حرية التفكير والاعتقاد والقول:
أ- حرية الفكر:
لقد حررت الشريعة العقل من الأوهام والخرافات والتقاليد والعادات حيث احترمت العقل السالم من الشهوات والشبهات والعاهات وجعلته محل تميز على غيره من المخلوقات. فقد دعت الشريعة العقول إلى التفكر في الخلق وأخذ العبرات الإفادة من مكونات السماوات والأرض وقد سارت الشريعة بين من عطل عقله، قال تعالى: “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” (البقرة:164).
ب- حرية الاعتقاد:
أباحت الشريعة حرية الاعتقاد وعملت في صيانة هذه الحرية إلى آخر حد. فليس لإنسان أن يحمل آخر قصراً على عقيدة أياً كانت ولم تمنع من إظهار عقائد الناس بل حمتها. كما قال تعالى: “لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” (البقرة: من الآية256)
والحال في البلدان الإسلامية بعد الفتح يصدق ذلك واقعاً في تعامل المسلمين مع أصحاب الديانات الأخرى، وإذا قارنا ذلك بما عليه العالم الغربي الآن من مصادرة للحريات الدينية باسم قانون محاربة الإرهاب، عرفنا السبق في الخير والفرق في الحرية بين الفريقين.
ج- حرية القول:
أباحت الشريعة حرية القول، وجعلتها حقاً لكل إنسان، بل أوجبته على الإنسان في كل ما يمس الأخلاق والمصالح العامة، والنظام في ما تعتبره منكراً. بشرط ألا يكون القول خارجاً عن الآداب والأخلاق الفاضلة، أو مخالفاً لنصوص الشريعة، قال تعالى: “الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ” (الحج: من الآية41)، وحديث: “من رأى منكم منكر فليغيره….”، وحديث: “الدين النصيحة…”.
وقد انقسم القانونيون إلى قسمين تجاه حرية القول: قسم يرى حرية القول دون قيد أو شرط إلا فيما يمس النظام العام، وهؤلاء لا يعيرون الأخلاق أي اهتمام، وتطبيق رأيهم يؤدي إلى التباغض والتنابذ والتحزب ثم القلاقل والثورات وعدم الاستقرار.
وقسم يرى تقييد حرية العقول والرأي في كل ما يخالف رأي الحاكم ونظرته تجاه الحياة. وتطبيق رأي هؤلاء يؤدي إلى كبت الآراء الحرة وإبعاد العناصر الصالحة عن الحكم، ويؤدي في النهاية إلى الاستبداد ثم القلاقل والثورات.
وتقريرات الشريعة تأخذ بالجمع بين هاتين النظريتين، تجمع بين الحرية والتقييد فلا تقييد بغير التزام الخلاق والآداب واحترام النظام، وألا تمس تلك الحرية الآداب والأخلاق والشريعة. قال تعالى: “لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ” (النساء: من الآية148)، وقال تعالى: “وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ” (العنكبوت: من الآية46).
وإذا كانت القوانين جاءت بشيء لا بأس به من الحرية، فإن ذلك لم يبدأ بتقريره إلا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، أما قبل ذلك فكانت تنزل اشد العقوبات بالمفكرين ودعاة الإصلاح وكل من يخالف عقيدة الحاكم.
3. نظرية الشورى:
جاءت الشريعة مقررة لمبدأ الشورى في قولة تعالى: “وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ” (الشورى: من الآية38). وفي قولة تعالى: “وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ” (آل عمران: من الآية159). وهذا التقرير يؤدي إلى رفع مستوى الجماعة، وحملهم على التفكير في المسائل العامة والاهتمام بها, والنظر إلى مستقبل الأمة نظرة جدية، والاشتراك في الحكم بطريقة غير مباشرة، والسيطرة على الحكام ومراقبتهم.
والشورى هي أن يحكم الشعب فيما لا نص فيه أو فيه أكثر من نص وطلب الإمام الشورى، أو طلبت منه، فيحكم الشعب فيها طبقاً لرأى الأغلبية ويكن ملتزماً له الطاعة والاحترام.
غير أن الشريعة تركت للأمة آليات تنفيذ هذا المبدأ عن طريق رأى الأسر أو العشائر، أو ممثلي الطوائف، أو بأخذ رأى الأفراد الذين تتوافر فيهم صفات معينة بالتصويت المباشر، أو غير المباشر أو أي أسلوب يتوصل به ولى الأمر إلى معرفة رأى الشعب في أمر ما، شرط ألا يكن هناك ضرر أو ضرار بصالح الفرد أو الجماعة أو النظام.
فإذا توصلت الأمة إلى أمر أوجبت الشريعة أتباعها تنفيذه، وأن تكون الأقلية التي لم يؤخذ برأيها مسارعة إلى تنفيذه وابتاعه، وأن تدافع عنه كما تدافع عنه الأغلبية وتحترمه.
وهذه السنة المباركة تعتبر في وقتنا الحاضر العلاج الناجح لفشل الديمقراطية والديكتاتورية معاً. فالديمقراطية فشلت بانعدام الثقة فيمن يتصدون لقيادة الشعب، حيث سمحت الديمقراطية للأقلية أن تناقش الرأي الذي أقرته الأغلبية بعد انتهاء دور المناقشة، وأن تشكك في قيمته وصلاحيته أثناء تنفيذه.
بل إنه ربما يظل موضع الانتقاد والسخرية حتى بعد تمام تنفيذه، ولما كانت القاعدة أن فريق الأغلبية هو الذي يتولى الحكم فإن آراء هذا الفريق وأعماله لا تقابل بما يجب لها من الاحترام، بل تكن محل تشكيك وسخرية، وقد يحدث أن تمتنع الأقلية من تنفيذ القوانين التي تسنها الأغلبية، ويظل هكذا حتى يصبح الفريق الحاكم أقلية، فيترك الحكم ليتولاه فريق الأكثرية الذي تقابل آراؤه وأعماله بمثل ما قوبل به فريق الأكثرية السابق وهكذا.
وأما الديكتاتورية فقد فشلت أشد من الديمقراطية، لأنها تؤدي إلى كتم الأفواه وتعطيل حرية الرأي وحرية الاختبار، وانعدام الثقة بين الشعوب والحكام، وتوريط الشعوب والحكومات فيما لا يعود عليها بالنفع، مما يجعل الفساد يدب ويكون الكبت إيذاناً بتغيير الحاكم ونظام الحكم.
ونستطيع أن نقول: إن الديمقراطية تقوم على الشورى فيما فيه نص، أو غير نص، ومع هذا الخلل يزاد في سوءاً في التطبيق حيث يسلط أحد طرفي الشعب على الآخر، وبه تنعدم الثقة بين الحاكمين والمحكومين، والنظام الديكتاتوري يقوم على السمع والطاعة المطلقة ولكنه انتهى إلى التسلط من الحاكمين على المحكومين.
أما النظام الإسلامي فإنه يقوم على التشاور في مرحلة الشورى والتعاون على أداء رأى صائب، والسمع والطاعة والثقة في مرحلة التنفيذ، ولا تسمح لفريق أن يتسلط على آخر ويقهره. وهذه الميزة بشقيها سبقت وتميزت بها الشريعة من حين نزولها، في حين أن الديمقراطية بعيوبها لم تعرفها إلا بعد الثورة الفرنسية، فيما عدا القانون الانجليزي فقد عرفها من القرن السابع عشر، ولم تقره الولايات المتحدة الأمريكية إلا آخر القرن الثامن عشر وانتشر في أواخر القرن التاسع عشر.
ب- مقارنة خاصة:
هنا نقارن بين الشريعة والقانون في النظر إلى الجريمة أو الجناية.
1. تعريف الجريمة والجناية:
في الشريعة: تعرف الجرائم في الشريعة أو الجنايات: بأنها محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير.
المحظورات هي إتيان فعل منهي عنة أو ترك فعل مأمور به منعته الشريعة وعاقبة عليه. وهي لا تفرق في الغالب بين الجريمة والجناية.
في القانون الحديث: الجريمة هي إما عمل يحرمه القانون، وإما امتناع عن عمل يقضى به القانون، ولا يعتبر الفعل أو الترك جريمة في نظر القانونين الوضعين إلا إذا كان معاقباً عليه طبقاً للتشريع الجنائي.
ويختلف معنى الجناية في التعريف الاصطلاحي في القانون المصري عنة في الشريعة، ففي القانون المصري يعتبر الفعل جناية إذا كان معاقباً عليه بالإعدام أو الأشغال الشاقة أو المؤبدة، أو الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن، طبقاً للمادة العاشرة من قانون العقوبات المصري، فإذا كانت عقوبة الفعل حبساً تزيد على أسبوع، أو غرامة تزيد عن مائه قرش، فالفعل جنحة، فإن لم يزد الحبس على أسبوع، أو الغرامة على مائة قرش فالفعل مخالفة، طبقاً للمادة (11)، والمادة (12) من قانون العقوبات المصري.
أما في الشريعة فكل جريمة هي جناية، وسواء عوقب عليها بالحبس والغرامة أم بأشد منهما، وعلى ذلك فالمخالفة القانونية جناية في الشريعة والجنحة تعتبر جناية والجناية في القانون تعتبر جناية في الشريعة أيضاً. وأساس الخلاف أن الشريعة تجرم أي ترك أو مخالفة محظورة معاقب عليها، والقانون لا يعتبر الجناية إلا الجسمية دون غيرها. وتتفق الشريعة والقانون أن الغرض من تقرير الجرائم والعقاب عليهما هو حفظ مصلحة الجماعة، وصيانة نظامها، وضمان بقائها.
وتختلف الشريعة عن القانون بالآتي:
1. أن الشريعة تعتبر الأخلاق الفاضلة أولى الدعائم التي يقوم عليها المجتمع، ولهذا تحرص على حماية الأخلاق وتتشدد في ذلك بحيث تعاقب على ما يمس بها، أو تكاد، أما القوانين فهي تكاد تهمل الأخلاق تماماً، إلا ما أصاب ضررها المباشر الأفراد أو الأمن أو النظام العام. فلا تعاقب على الزنا إلا إذا أكره أحد الطرفين أو كان محصناً، لأنه أضر بالآخر، وأكثر القوانين لا تعاقب على شرب الخمر ولا تعاقب على المسكر لذاته، وإنما إذ وجد في الطريق العام حتى لا يعرض الناس لأذاه أو اعتدائه، فلم تأخذ حق الفرد نفسه في الصيانة والخيرية وحق الأمة في الخيرية.
2. أن عقوبات الجريمة في الشريعة من عند الله تعالى إما بآية أو بحديث أو باجتهاد الحاكم في التعزيرات، وفق ضوابط لا تحل الحرام ولا تحرم الحلال، بخلاف القوانين التي هي عرضة لأهواء الأكثرية في المجالس التشريعية أو البرلمانات التي توافق هوى الحاكم أوغيره فتخالف النصوص.
المحور الرابع: الدروس والتقريرات:
أ- الدروس:
1. أن الشريعة الإسلامية تراعي مصالح البشر الدينية والدنيوية والأخروية.
2. أن الشريعة الإسلامية توجد مجتمعاً متماسكاً متحاباً متكافلاً فاضلاً.
3. أن الشريعة الإسلامية متوازنة لا إفراط ولا تفريط فهي مع كل صاحب حق، وإن كان ضعيفاً.
4. أن أداء الشريعة الإسلامية لوظيفتها قائم على أحسن وجه طالما كان المسلمون متمسكين بها عاملين بأحكامها كاملة.
5. أنه قد يعذر غير المسلم بجهله الشريعة الإسلامية، ولا يعذر المسلم بانقياده وراء الدعوات المغرضة لتنحيه الشريعة عن الحكم والتحاكم.
6. أن كل من أنصف في بحثه عن الحقيقة شهد للشريعة الإسلامية بالتفوق والسبق في تشريعاتها.
ب- التقريرات:
1. أن كل من اعتقد أن أحداً يسعه غير دين الإسلام والتحاكم إليه، أو شك في صلاحيته فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله علية وسلم. قال تعالى: “وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ” (المائدة: من الآية44). وقال تعالى: “أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ” (المائدة:50).
2. أن الذين يخافون من عدم قدرة الإسلام وتشريعاته على التفوق على النظم الوضعية جاهلون به، فعليهم أن يراجعوا نصوصه.
3. أنه يجب على المربين تأصيل الهوية الإسلامية وإعزازها بتشريعاتها السامية.
4. الحذر من كتابات المستشرقين فإنها قلب وتزوير للحقائق انطلت على البسطاء.
5. أن التعايش مع التشريعات الإسلامية سهل ومحبب للنفس المؤمنة به.
6. أن غير المسلمين عاشوا في الفتح الإسلامي في أمن كفلته لهم التشريعات الإسلامية بل حمتهم من طغيان الطائفية الدينية غير المسلمة وإن كانوا أهل دين واحد.
7. أن نظرة واحدة في البلاد التي استجابت للتغر
يب ونحت الشريعة الإسلامية تؤكد تعاستها وعدم استقرار أوضاعها.
8. أن بلادنا هذه وفقها الله تعالى وحماها بما حمت من شريعته وبما طبقت من أحكامه تعالى.
9. أن على الشعوب الإسلامية العودة الصادقة إلى ما فيه عزهم وشرفهم وهو الكتاب العزيز والسنة المطهرة، والبراءة من القوانين الوضعية أياً كان مصدرها.
10. أنه آن للمتربصين بوحدة مجتمعنا وعز بلادنا أن يكفوا من دعوات التغريب والعلمنة، فقد بانت عمالتهم وسقطت حججهم وكذبت مواطنتهم فليريحوا أنفسهم من عناء التجوال وكثرة النباح.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اترك تعليقاً