التعاقد بالعربون:
عمد المشروع إلى تنظيم التعاقد بالعربون تنظيمًا متكاملاً، وخصه بأربع مواد، وذلك اعتبارًا منه بأهمية هذا النوع من التعاقد وشيوعه في المعاملات المالية، المدنية منها والتجارية على حد سواء.
تعرض المادة (74) لدلالة العربون، إذا قام الشك حولها، وتمثل بذلك أمرها على القاضي غمة، فدفع العربون عند إبرام العقد قد يقصد به المتعاقدان تأكيد قيامه، وأنه بالتالي بات، لا رجوع فيه ولا عدول عنه وقد يقصد به المتعاقدان، على نقيض ما سبق، تخويل كل منهما خيار العدول عن العقد، والأمر هنا وهناك مرده إلى قصد المتعاقدين. وتقتصر مهمة القاضي في البحث عن هذا القصد. ولكن قصد المتعاقدين قد يغم على القاضي، وهنا يثور التساؤل حول الاتجاه الذي يفسر فيه هذا الشك، أيفسر دفع العربون على أن المتعاقدين قد قصدا به أن يكون عربون بتات أم عربون رجوع ؟
وفي سبيل الأخذ بهذا الاتجاه أو ذاك، اختلفت تقنينات الدول وتباينت أحكامها، فمنها ما سار في اتجاه عربون البتات، ومنها ما سار في اتجاه عربون الرجوع، وجاء القانون المصري الحالي وسار في اتجاه عربون الرجوع (المادة 103) وحذا حذوه أكثر قوانين البلاد العربية الأخرى التي استوحته، كالقانون السوري (المادة 104)، والقانون الليبي (المادة 103)، ولم يخالف هذا الاتجاه إلا القانون العراقي حيث اعتبر العربون، عند الشك، عربون بتات (المادة 92). وجاء قانون التجارة الكويتي على نهج القانون المصري ليعتبر دفع العربون، عند الشك، عربون الرجوع (المادة 116/ 1).
وقد آثر المشروع أن يسير في اتجاه عربون الرجوع أيضًا، فاعتبر دفع العربون وقت إبرام العقد، أنه يفيد، عند الشك، قصد المتعاقدين في منح كل منهما خيار الرجوع عن العقد، وهو بذلك أراد أن يتمشى مع حكم ألفه الناس في الكويت وساروا عليه، وأصبح بذلك أقرب إلى قصد المتعاقدين، وقد أدخل المشروع بعض التعديلات على صياغة نص المادة (116) من قانون التجارة اقتضتها الملاءمة، فاستبدل بعبارة (الحق في العدول) عبارة (خيار العدول) لأنها أكثر دقة من وجه، وأكثر تمشيًا مع مصطلحات الفقه الإسلامي من وجه آخر.
كما أنه استبدل بعبارة (إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك)، عبارة (ما لم يظهر أنهما “ المتعاقدان “ قصدا غير ذلك)، توخيًا للدقة والانضباط، واعتبارًا بأن قصد المتعاقدين في اعتبار العقد نهائيًا قد يظهر من ظروف العقد ذاته، ومن غير أن يتفق عليه بطريق مباشر، كما إذا كان مبلغ العربون كبيرًا، لم تجرِ العادة على دفعة باعتباره مخولاً خيار الرجوع في العقد.
وتعرض المادة (75) للجزاء المترتب على عدول المتعاقد عن العقد الذي أبرمه مقترنًا بدفع العربون، عندما يثبت له الخيار فيه، وتركز هذا الجزاء في قيمة العربون ذاته، لا أقل منه ولا أكثر، ما لم يُتفق على غير ذلك. فإذا كان من عدل هو الذي دفع العربون فقده وأصبح مبلغ العربون بذلك حقًا خالصًا للمتعاقد الآخر، أما إذا كان العادل هو من قبض العربون، التزم برده ودفع مثله.
واستحقاق قيمة العربون للمتعاقد الذي يحصل ضده العدول، لا يثبت له على سبيل التعويض عما رتبه له هذا العدول من ضرر، وإنما هو يستحق له اعتبارًا بأنه مقابل استعمال غريمه خيار العدول فالتعويض في مجال العقد، يكون عند الإخلال بالالتزام الناشئ عنه، والمتعاقد بالعربون الذي يعدل عن العقد لا يفعل بعدوله إلا أنه يستعمل حقًا ثابتًا له، ومن يستعمل حقه لا يخل فالجواز الشرعي ينافي الضمان، ولتقرير هذا الحكم، حرص المشرع على النص على أن مبلغ العربون يثبت لمن حصل ضده العدول، دون اعتبار لما يترتب عنه من ضرر له، فهو يستحق له حتى ولو لم ينله من العدول أي ضرر، بل حتى لو استتبع له النفع، كما إذا أعاد الصفقة لآخر بثمن أكبر، وهو من ناحية أخرى، يُستحق له دون زيادة عليه، حتى لو نجم له عن العدول ضرر يتجاوزه، والعربون بهذه المثابة يختلف أساسيًا عن الشرط الجزائي، الذي هو تقدير اتفاقي للتعويض عن الإخلال بالالتزام.
والمادة (75) مستوحاة من المادة (116) من قانون التجارة الكويتي في شطرها الأخير، والتي هي مستوحاة بدورها من الفقرة الثانية من المادة (103) مصري، وذلك بعد إدخال تعديلات لفظية اقتضتها الملاءمة، من غير أن تغير في جوهر الحكم. وذلك الحكم يمكن له أن يتمشى مع السائد في الفقه الحنبلي، وإن كان يتخالف مع ما يقول به الفقه المالكي.
وتعرض المادة (76) لتحديد المدة التي يباشر خلالها خيار العدول عن العقد، عندما يسمح هو بذلك لأي من المتعاقدين أو لكليهما، وإذا حدد الاتفاق لذلك مدة، أو جرى العرف بتحديدها، لم تكن ثمة صعوبة، ووجب مباشرة رخصة العدول خلالها، وإلا تأكد قيام العقد، فإن لم تحدد مدة لمباشرة خيار العدول عن العقد عرفًا أو اتفاقًا، بقي هذا الخيار قائمًا للمتعاقد وحق له أن يعدل عن العقد إلى أن يصدر منه ما ينم عن رغبته في تأكيد قيامه، وبالتالي عن رغبته في النزول عن خيار العدول عنه. وتلك الرغبة من المتعاقد قد تجيء منه صراحةً، وقد تستخلص دلالة من ظروف الحال، وعلى الأخص من قيامه، بعد دفع العربون أو قبضه، على حسب الأحوال، بتنفيذ الالتزامات التي يولدها العقد في ذمته.
وتجيء المادة (76) في فقرتها الثانية، وتقضي بأن قعود المتعاقد الثابت له خيار العدول عن العقد عن تنفيذ الالتزامات الناشئة عنه في الأجل المضروب لأدائها أو تراخيه في ذلك مدة لا تتجاوز المعقول والمألوف عند عدم تحديد أجل لها من شأنه أن يجيز للمتعاقد الآخر اعتبار ذلك منه عدولاً عن العقد مباشرة منه للخيار الثابت له. وحكم المادة (76) بفقرتيها مستحدث وهو مع ذلك لا يعدو أن يكون تقنينًا لما سار الفقه والقضاء عليه.
وتعرض المادة (77) لحالة استحالة تنفيذ الالتزامات الناشئة عن العقد التي تطرأ بعد إبرامه مقترنًا بخيار العدول، كما إذا ذبح البائع بالعربون البقرة المبيعة أو هدم المنزل، وتعذر بذلك عليه الوفاء بالتزامه بالتسليم إلى المشتري نتيجة خطئه، وتقضي هنا باعتبار استحالة التنفيذ في حكم العدول عن العقد، فلا يكون للمتعاقد الآخر أكثر من قيمة العربون المتفق عليه، على نحو ما تقضي به المادة (75) فلا يكون له حق في التعويض، ذلك لأنه كان عليه أن يتوقع من غريمه أن يعدل عن العقد، مباشرةً منه لخيار العدول الثابت له، فكأن ثمة ضررًا لم ينله على أن هذا الحكم لا يسري، بطبيعة الحال، إلا إذا وقعت استحالة تنفيذ الالتزام في الفترة التي يكون فيها خيار العدول قائمًا لما يزل، فإن زال خيار العدول، وصار العقد بالتالي إلى بتاته، ثم وقعت استحالة تنفيذ الالتزام بخطأ التعاقد، أثقلته المسؤولية وفقًا للقواعد القانونية العامة.
وتجيء الفقرة الثانية لتواجه حالة استحالة التنفيذ الراجعة إلى سبب أجنبي لا يد لأحد المتعاقدين فيه، كما إذا هلك محل الالتزام بقوة قاهرة، وهي تقضي هنا برد العربون إلى دافعه، وهذا الحكم إعمال للقواعد القانونية العامة، حيث أن العقد هنا ينفسخ ويعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل إبرامه. والمادة (77) بفقرتيها نص مستحدث، وإن كانت فقرتها في مطلق عمومها، مستوحاة من المادة (338) من القانون الألماني.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً