أثر الإكراه في التكليف والرضا والاختيار
ويشتمل هذا الفصل على مبحثين:
الأول: أثر الإكراه في أهلية الإنسان وصلاحيته للتكليف.
الثاني: أثر الإكراه في الرضا والاختيار.
المبحث الأول: أثر الإكراه في أهلية الإنسان وصلاحيته للتكليف
لا يؤثر الإكراه بجميع أنواعه السابقة في أهلية الوجوب؛ لأن مناطها الإنسانية، فهي تثبت لكل إنسان بوصفه حيًّا، ومعلوم أن هذا الأهلية لا يؤثر فيها إلا الموت حيث يزيلها.
وكذلك لا يؤثر الإكراه بجميع أنواعه في أهلية الأداء, فلا يعدم هذه الأهلية، كما لا ينفي صلاحية المكره للتكليف, ولا يوجب سقوط الخطاب عنه، وإنما ينحصر أثره فقط في تغيير بعض الأحكام المترتبة على أهلية الأداء، مع بقاء المكره مكلفًا، وذلك لأمرين:
الأمر الأول: وجود العقل والتمييز اللذين هما مناط أهلية الأداء، وعليهما مدار الخطاب.
الأمر الثاني: أن المكره مبتلى في حالة الإكراه, كما أنه مبتلى في حالة الاختيار، والابتلاء يتحقق بالخطاب.
يدل على ذلك أن فعل المكره ينقسم إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: فرض، كما إذا أكره على أكل الميتة أو شرب الخمر بالقتل، فإنه حينئذ يفرض عليه أكل الميتة أو شرب الخمر، ولو صبر حتى قتل كان آثمًا؛ لأن الأكل والشرب كان مباحًا له؛ لقوله تعالى: }إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ{([1]), فثبتت الإباحة بالاستثناء، ومن أكره على مباح يفرض عليه فعله، فإن امتنع عنه ألقى بنفسه إلى التهلكة
من غير فائدة, إذ ليس فيه قضاء حق الشرع.
القسم الثاني: حرام، كالإكراه على الزنا، وقتل مسلم بغير حق، فإنه يحرم عليه فعلهما عند الإكراه الملجئ، ويؤجر على ترك فعلهما.
القسم الثالث: إباحة([2])، كالإكراه على الإفطار في رمضان، فإنه إذا أكره عليه يباح له الفطر.
القسم الرابع: رخصة([3])، كالإكراه على إجراء كلمة الكفر على اللسان، حيث يرخص له في ذلك مع اطمئنان القلب بالإيمان إذا كان الإكراه ملجئًا.
وتردد المكره بين هذه الأقسام علامة لثبوت الخطاب في حقه؛ لأن هذه الأشياء، لا تثبت بدون الخطاب. ويأثم المكره مرة بالإقدام كما في الإكراه على الزنا وقتل النفس، ويؤجر أخرى كما في الإكراه على أكل الميتة، فإن الإقدام لما صار فرضًا يستحق به الأجر كما في سائر الفروض، أو يأثم بالامتناع مرة كما في الإكراه على الفطر للمسافر, والإكراه على أكل الميتة وشرب الخمر, فإن الصبر عنهما إلى أن يقتل حرام. ويؤجر كما في الإكراه على الكفر, فإن الصبر عنه عزيمة, والإثم والأجر متعلقان بالخطاب([4]).
المبحث الثاني: أثر الإكراه في الرضا والاختيار
الاختيار: هو ترجيح فعل الشيء على تركه أو العكس.
والرضا: هو الرغبة في الشيء والارتياح له, فهو نهاية الاختيار.
وجميع الأعمال الصادرة من الإنسان لا بد لها من اختيار، إذ الإنسان لا يقدم على عمل إلا إذا ترجح عنده جانب الفعل على جانب تركه.
إلا أن الاختيار تارة يكون اختيارًا صحيحًا إذا كان منبعثًا عن رغبة في العمل، وتارة يكون اختيارًا فاسدًا إذا كان ارتكابًا لأخف الضررين, وذلك كمن أكره على أحد أمرين كلاهما شر، ففعل أقلهما ضررًا به, فإن اختياره لما فعله لا يكون اختيارًا صحيحًا, بل اختيارًا فاسدًا.
أما وجود العمل من الإنسان فلا يستلزم رضاه به، أي: رغبته فيه وارتياحه إليه، كما شهد بذلك الواقع، فقد يقوم الإنسان ببعض الأعمال وهو ليس راغبًا فيها, ولا مرتاحًا لها.
وعليه فإنه يمكن القول بأن الإكراه يعدم الرضا والاختيار اللذين هما شرط التكليف عند جمهور العلماء.
أما عند الحنفية: فيختلف تأثير الإكراه في الرضا والاختيار تبعًا لاختلاف نوع الإكراه.
فإن كان الإكراه ملجئًا -الإكراه الكامل- فإنه يعدم الرضا ويفسد الاختيار.
وإن كان الإكراه غير ملجئ -الإكراه الناقص- فإنه يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار.
وإن كان الإكراه بالاغتمام والهم والحزن -الإكراه الأدبي- فإنه لا يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار([5]).
([1]) سورة الأنعام الآية: 119.
([2]) ذكر ابن نجيم وابن ملك وعبد العزيز البخاري وغيرهم: أن قسم الإباحة لا وجود له لدخوله في الفرض أو الرخصة؛ لأن المراد بالإباحة إن كان الإقدام على فعل يباح له بالإكراه, ولو صبر حتى قتل لا يأثم, فهو معنى الرخصة، وإن كان الإقدام على فعل يباح له ولو تركه يأثم فهو معنى الفرض، وإفطار الصائم بالإكراه لا يخلو منهما؛ لأنه إن كان مسافرًا كان إفطاره عند الإكراه فرضًا, كالإكراه على أكل الميتة وشرب الخمر، وإن كان مقيمًا كان مرخصًا فيه كالإكراه= =على الكفر، ولم يوجد في الإكراه ما يتساوى الإقدام عليه والامتناع عنه عند الإكراه في الإثم والثواب وعدمهما، بمعنى أن لا يترتب على شيء منهما ثواب ولا عقاب.
ثم ذكر ابن ملك تعقيبًا على ذلك بقوله: «اعلم أن ما قلنا من الفرض والإباحة والرخصة فيما إذا كان أكثر رأي المكره أن الحامل يوقع ما يوعد به، واعلم أيضًا أن الإثم إنما يكون إذا علم أنه مباح ولم يفعل، أما إذا لم يعلم فلا إثم بالامتناع؛ لأن الموضع موضع الشبهة والخفاء» راجع: شرح المنار ص 993، فتح الغفار 2/ 120، كشف الأسرار للبخاري 4/ 383، نور الأنوار ص 315.
([3]) الفرق بين الإباحة والرخصة: أن في الرخصة لا يباح ذلك الفعل بأن ترتفع الحرمة، بل يعامل معاملة المباح في رفع الإثم فقط، وفي الإباحة ترتفع الحرمة.
([4]) كشف الأسرار للبخاري 4/ 384.
([5]) كشف الأسرار للبخاري 4/ 384، نهاية السول للإسنوي 1/ 185، 186، المحصول للرازي ق 2/ 449، حاشية العطار على جميع الجوامع 1/ 101.
اترك تعليقاً