إفشاء الإسرار بين الإباحة والتجريم
القاضي ناصر عمران
تشكل المنظومة الشخصية للفرد مجموعة من العناصر الذاتية التي تعطي لكل فرد خصوصيته ومنها الأسرار الخاصة المرتبطة بحياته ومهنته وطريقة تفكيره والتي على اساسها تتكون كينونته الوجودية واذا كان الإنسان اجتماعيا بطبعه فهو بحاجة الى مجتمع ومن لا يحتاج الى مجتمع فهو اما حيوان او اله كما يراه الفيلسوف أرسطو.
وإفشاء الاسرار انتهاك لحق الصفة السرية لوقائع شخصية من شخص مؤتمن عليها بحكم وضعه أو وظيفته أو مهنته أو فنه، بصورة مخالفة للقانون. وقد عُرف واجب كتمان السر منذ القدم، حيث كان يُحرّم على رجال الدين البوح بالأسرار التي يطلعون عليها من الناس بحكم مركزهم. ثم امتدّ تدريجياً هذا الواجب إلى أصحاب المهن الحرة المهمة، كالمحامين والأطباء وغيرهم، فلا يجوز لهم كشف الأسرار التي تصل إلى علمهم أثناء ممارستهم لمهنتهم. والحكمة من تجريم إفشاء الأسرار تكريساً لمبادئ الشرف والأمانة.
وقد تضمنت كافة القوانين والشرائع موجب الحفاظ على الأسرار وتجريم إفشائها، ليس فقط لحماية صاحب السر ومكانته ومركزه وشرفه، بل وأيضاً لصيانة المصلحة العامة في المجتمع، وعدم تعريض سمعة المهن والمراكز السامية النبيلة للإهانة أو لعدم الثقة والاحترام، كالطب والمحاماة والقضاء والوظائف وغيرها. فإن لم يجد المريض طبيباً يركن إليه ويودعه سرّه، أو لم يجد المتهم محاميا يطمئن إليه ويصارحه بسرّه، لأدى ذلك إلى المس بحقوق الإنسان والإضرار بالمجتمع ككل.
وفي الوقت الذي نصت عليه المادة (17) من الدستور العراقي على حق الخصوصية الشخصية للفرد بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين والآداب العامة فان القوانين العقابية جرمت افشاء الاسرار فقد جرم قانون العقوبات افشاء الأسرار في المواد (437،438) فقد عاقب المشرع بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تزيد مائتي دينار او بإحدى هاتين العقوبتين كل من علم بحكم وظيفته او مهنته او صناعته او فنه او طبيعة عمله بسر فأفشاه في غير الأحوال المصرح بها قانونا او استعمله لمنفعته او لمنفعة شخص آخر، وجريمة افشاء الاسرار لا تقوم الا بتوافر ثلاثة اركان هي:
1. الركن المادي وهو افشاء السر وقد ترد صعوبات في تحديد المعنى القانوني للسر، إذ يعتبره البعض أنه واقعة أو صفة ينحصر نطاق العلم بها في عدد محدد من الأشخاص، أو أنه كل ما يضر إفشاؤه بالسمعة والكرامة والنفس والمال، أو أن توجد مصلحة مشروعة في أن يبقى العلم بواقعة معينة محصوراً بين أشخاص محدودين.
ويلزم في تحديد المقصود بالسر أن يكون من شأن البوح به إلحاق الضرر بشخص صاحبه، ويستوي أن يكون الضرر مادياً أو معنوياً. فالمريض الذي يعاني من مرض معين قد تكون له مصلحة في أن يبقى سر مرضه لدى طبيبه فقط، وعدم انتشار خبر مرضه، منعاً من إلحاق الضرر به اجتماعياً أو مهنياً أو معنوياً. كما أن المتقاضي له مصلحة في عدم علم خصمه بالمعلومات السرية التي أفضى بها إلى محاميه للدفاع عنه.ويجب أن يكون السر محصوراً بأشخاص محدودين ومحددين.
أما إذا كانت الواقعة معلومة لعدد من الناس بدون تمييز، فتنتفي عنها صفة السر. إلا أن ذلك لا يعني أن وجود عدد كبير من الأشخاص على علم بالواقعة ينفي عنها صفة السر بشكل مطلق، فإذا كانوا معينين بشكل حصري، فلا ينفي ذلك عن الواقعة صفة السر، كمعرفة الفريق الطبي بالمرض المصاب به مريض معين، فيبقى له صفة السر، لأن العالمين به لهم صفة الأطباء. وقد يعد النبأ سراً ولو كان شائعاً بين عدد غير محدد من الناس، إذا كان غير مؤكد. أما متى تأكد ذلك النبأ الشائع، زالت عنه صفة السرية. ويجب أن تكون لصاحب السر مصلحة مشروعة في عدم إفشائه. فلا يلتزم المحامي بعدم إفشاء علمه بعزم موكله على ارتكاب جناية معينة، كالتحضير لارتكاب جريمة قتل بحق خصمه، لأن مصلحة الكتمان غير مشروعة. إلا أن المحامي يلتزم بعدم إفشاء الأسرار التي أسرّ بها إليه موكله عن ارتكابه جريمة سابقة، لأن مهمته هي الدفاع لجلاء الحقيقة وإحقاق الحق وفق ما يقرره القاضي المختص.
ولا يُشترط طلب صاحب السرّ عدم الإفشاء به بشكل صريح، بل قد يكون ذلك ضمنياً، كواجب الطبيب والمحامي والمصرفي بعدم إفشاء أسرار الزبون، ولو لم يطلب منهم صاحب السر صراحة كتمان سره، وواجب الزوجة عدم إفشاء أسرار زوجها ولو بعد طلاقها منه. كما يلتزم المؤتمن على السر بعدم البوح به، ولو كان صاحب السر لا يعلم بوجوده، كاكتشاف الطبيب إصابة المريض بمرض يجهله المريض نفسه، فلا يحق للطبيب إفشاء مرضه، استناداً إلى إرادة المريض المفترضة بعدم إفشائه.
2- صفة المؤتمن على السر: يقتضي فعل الإفشاء أن يكون قد جرى الإفضاء بالسر إلى الغير، ويراد بالغير أي شخص لا ينتمي إلى فئة من الناس ينحصر فيها نطاق العلم بالواقعة أو بالمعلومات التي توصف بالسر، كأن يتم النقاش بتلك المعلومات بين عدة أطباء ضمن الفريق الطبي الذي يعالج المريض، أو الدراسة ضمن مجموعة المحامين الذين يتولّون الدفاع عن المتهم، أو الحديث بين الموظفين المصرفيين الذين ينظمون حسابات أحد العملاء، فلا يعتبر ذلك إفشاء للسر. كما لا يعتبر إفشاء، البوح بالواقعة أو المعلومات إلى صاحب السر، أو إعطاء هذا الأخير أو لمن يفوّضه، تقريراً يتضمن تلك الأسرار. أما إذا كان الإفضاء بالسر إلى غير الفئة التي ينحصر فيها العلم به، ولو كانوا من المقرّبين لصاحب السر، فيعتبر مشكلاً لجريمة إفشاء الأسرار
3_ الركن المعنوي : تعتبر جريمة إفشاء الأسرار من الجرائم العمدية التي تتطلب توافر القصد الجرمي لقيامها. فلا يعتبر المتهم مرتكباً لهذه الجريمة إذا لم يتوافر لديه القصد الجرمي في إفشاء الأسرار والقصد المتطلب في هذه الجريمة هو القصد الجرمي العام الذي يقوم على عنصرين، هما: العلم والإرادة، إذ يجب أن يعلم المتهم بأن للواقعة صفة السر الممنوع إفشاؤه، وأن تتجه إرادته إلى إفشاء ذلك السر، وإلى النتيجة التي تترتب عليه وهي علم الغير بالواقعة التي تتسم بطابع السرية، وأن يرتكب ذلك بدون سبب شرعي أو يستعمل السر لمنفعته الخاصة أو لمنفعة شخص آخر، إذا كان من شأن الإفشاء أن يسبب ضرراً.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً