المسئولية الجنائية عن جريمة استغلال النفوذ في النظام السعودي
عاصم بن سعود السياط
يعتبر الموظف العام ركيزة أساسية في أي دولة حديثة، فالدولة كشخص معنوي لا يمكن لها أن تستقيم بلا عناصر بشرية تسيّر بها أعمالها، والموظف العام وسيلة تعبر بها الدولة عن إرادتها، ولسان ينطق برغبتها، ويد قوية تقدم بها خدمات المرافق العامة وتحقق بها سيادتها وسلطانها، تلكم الأمور لا تتحقق إلا من خلال الموظف العام أيّاً كانت درجته الوظيفية، ومهما كان حجم السلطة التي يتمتع بها. لذلك كان الاعتناء بالموظف العام من أولى أولويات الدول، لأن أي خلل يعتري الوظيفة العامة يجعل المواطن يوجه سهام نقده إلى الدولة التي تأتمن الموظف على مرافقها وعلى سيادتها.
ولهذا تحاول الدول جاهدة أن تُحسن اختيار موظفيها من كافة الوجوه ليتولى الوظيفة الرجل الأكفأ، ثم تُوفر لهم الحماية القانونية حال أداء أعمالهم. إلا أنه مهما حاولت الدولة أن تنتقي الموظف العام بعناية فيبقى هذا الموظف بشراً له غرائز، فقد تتسرب إليه نوازع الهوى والانحراف فيحيد عن جادة الصواب، وينزلق إلى مدارك الفساد، ويكون بعد ذلك الفساد الوظيفي أمام مسؤولية قد تكون جنائية وقد تكون إدارية بحسب كل حالة وظروفها. وقد أدركت الدول هذه الحقيقة فأولت الدول عنايتها الفائقة لوضع التنظيمات القانونية الصارمة لردع أي موظف عام تسول له نفسه الخروج على مقتضيات الوظيفة العامة والمتاجرة بها، فسُنَّت لذلك التشريعات التي تُجرِّم انتهاك حرمة الوظيفة العامة، كما أولت عناية فائقة لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، خصوصاً أن القاعدة المعروفة في القانون الجنائي هي أن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص! وفي النظام السعودي تُعد جريمة استغلال النفوذ أحد أهم الجرائم التي تمثل عدواناً على الوظيفة العامة،
وقد نص نظام مكافحة الرشوة السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم 36/م بتاريخ 29-12-1412هـ في مادته الخامسة على أن: «كل موظف عام طلب لنفسه أو لغيره أو قَبِل أو أخذ وعداً أو عطية لاستعمال نفوذ حقيقي أو مزعوم للحصول أو لمحاولة الحصول من أية سلطة عامة على عمل أو أمر أو قرار أو التزام أو ترخيص أو اتفاق أو توريد أو على وظيفة أو خدمة أو مزية من أي نوع يُعد مرتشياً ويُعاقب بالعقوبة المنصوص عليها في هذا النظام». وبتأمل هذا النص يتضح لنا ما يلي:
1- أن هذه الجريمة تقع من موظف عام ومن في حكمه طبقاً للمادة الثامنة من النظام وتفترق عن جريمة الرشوة في أنها اتجار بالنفوذ من موظف بينما تصب الرشوة على الاتجار بأعمال الوظيفة أو استغلال الوظيفة لأنها جريمة وظيفية فقط.
2- أن هذه الجريمة تتم لدى سلطة عامة سواءً كانت سلطة مركزية أو لدى وحداتها في الأقاليم، وكذلك الأشخاص المعنوية والمؤسسات الخاضعة لها سواءً كانت إدارية أو ثقافية أو اقتصادية أو غيرها، فلا تقع هذه الجريمة إذا كان النفوذ لدى جهة أخرى غير السلطات العامة.
3- أن هذه الجريمة تفترض وجود ثلاثة أشخاص، صاحب نفوذ، وصاحب حاجة، وصاحب وظيفة، فيسعى صاحب النفوذ مقابل عطية أو وعد بها لدى صاحب الوظيفة لقضاء مصلحة صاحب الحاجة. أما الرشوة فتفترض شخصين فقط صاحب حاجة وصاحب وظيفة، وهذه من أهم الفروقات بين جريمتي الرشوة واستغلال النفوذ. ونتيجةً لهذا فإن جريمة استغلال النفوذ تتكون من صاحب نفوذ حقيقي أو مزعوم من الموظفين العموميين أو من هو في حكمهم، طلب لنفسه أو لغيره أو قَبل أو أخذ وعداً أو عطية كمقابل لاستعمال نفوذه الحقيقي أو المزعوم لدى سلطة عامة للحصول على مزية ما، مع وجود القصد الجنائي.
ويثور السؤال هنا حول مَن هو الموظف العام الذي لا تقع جريمة استغلال النفوذ إلا منه؟ والحقيقة أن نظام مكافحة الرشوة لم يضع تعريفاً محدداً للموظف العام، كما أنه بالرجوع إلى مبادئ القانون الإداري يتبين لنا أن الفقهاء قد أبحروا كثيراً في تعريفات الموظف العام ولم تتفق كلمتهم على تعريف محدد، فلكل فقيه اجتهاده المنطلق من زاويته التي يرى منها، كما أن اختلاف النظام الوظيفي بين دولة وأخرى يساهم في اختلاف الاجتهاد، وحتى المنظم السعودي لم يضع تعريفاً للموظف العام في أيٍ من أنظمته وإنما ترك ذلك للفقه القانوني، إلا أنه بجمع النصوص وتحليلها نستطيع القول إن الموظف العام هو: «كل من يعين في خدمة مرفق عام يدار بالإدارة المباشرة»، ويقصد بالإدارة المباشرة أن تتولى الحكومة إدارة المرفق بنفسها ولا تتفق مع شركة خاصة على إدارته، أو هو «كل من يشغل وظيفة عامة خاضعة لنظام الخدمة المدنية أو أحد الأنظمة الوظيفية الخاصة كالوزراء أو القضاة أو أعضاء هيئة التدريس وغيرهم».
أي أنه يشترط إجمالاً لنكون أمام موظف عام، تعيينه من قبل السلطة المختصة، وأن تكون علاقته بالدولة دائمة ومستمرة، بهدف خدمة مرافق عام يدار بالإدارة المباشرة. فإذا كان هذا هو الموظف العام الحقيقي ففي المقابل هناك الموظف العام الحكمي والمقصود بالموظف العام الحكمي ذلكم الأشخاص الذين ليسوا موظفين عموميين وفقاً للقانون الإداري ولكن نظام مكافحة الرشوة قد أضافهم لمفهوم الموظف العام في تجريمه للرشوة، وهم من نص عليهم النظام بقوله (يعد في حكم الموظف العام)، وهم كما بينت المادة الثامنة من النظام ما يلي:
1 – كل من يعمل لدى الدولة أو لدى أحد الأجهزة ذات الشخصية المعنوية العامة سواء كان يعمل بصفة دائمة أو مؤقتة.
2- المحكم أو الخبير المعين من قبل الحكومة أو أية هيئة لها اختصاص قضائي.
3- كل مكلف من جهة حكومية أو أية سلطة إدارية أخرى بأداء مهمة معينة.
4- كل من يعمل لدى الشركات أو المؤسسات الفردية التي تقوم بإدارة وتشغيل المرافق العامة أو صيانتها أو تقوم بمباشرة خدمة عامة وكذلك كل من يعمل لدى الشركات المساهمة والشركات التي تساهم الحكومة في رأس مالها والشركات أو المؤسسات الفردية التي تزاول الأعمال المصرفية.
5- رؤساء وأعضاء مجالس إدارات الشركات المنصوص عليها في الفقرة 4 . هذا فيما يتعلق بالموظف العام ومن في حكمه. وإلى جانب هذا فيجب توافر النفوذ الحقيقي أو المزعوم إذ لابد أن يستخدم الموظف في هذه الجريمة نفوذه الحقيقي أو المزعوم حتى تقع الجريمة، والاستخدام يكون بطلب صاحب النفوذ من الموظف المختص مخالفة القانون استناداً إلى نفوذه الحقيقي، أو الادعاء بنفوذ معين على خلاف الحقيقة. وإذا علمنا أن للجريمة ركنين أساسيين مادي ومعنوي، فإن الركن المادي لجريمة استغلال النفوذ يتكون من نشاط يتمثل في صورة من الصور الآتية: طلب أو أخذ أو قبول من موظف عام. ومحل هذا النشاط هو تقاضي فائدة في مقابل استخدام النفوذ. أما الطلب: فهو إيجاب من الموظف بأنه على استعداد لاستخدام نفوذه لقاء فائدة معينة ويتحقق ذلك طبقا للفروض التالية: الفرض الأول: الموظف يطلب وصاحب الحاجة يوافق، فالموظف فاعل وصاحب الحاجة شريك في جريمة استغلال نفوذ! الفرض الثاني: الموظف يطلب وصاحب الحاجة يرفض، فالموظف فاعل أصلي وصاحب الحاجة بريء، فهو في هذا الفرض شاهد وليس متهماً. وأما الأخذ: ففي هذه الصورة يأخذ الموظف من صاحب الحاجة الفائدة، فقد يعرض صاحب الحاجة مبلغاً من النقود فيأخذه الموظف منه نظير استغلال نفوذه.
وأما القبول: فيفترق القبول عن الأخذ في أن الموظف العام لم يأخذ المقابل ولكنه قَبِل الوعد بالحصول على هذا المقابل، فتقع جريمة استغلال النفوذ وفقاً لهذا الفرض إذا عرض صاحب الحاجة على الموظف أن يتقاضى عمولة معينة إذا سهل له الموظف مثلاً رسوّ العطاء عليه نظير حصوله بعد ذلك على مبلغ معين أو خدمة معينة كأن يعين قريب له في عمل معين على سبيل المثال. ولا يقع استغلال النفوذ إذا لم يكن هناك فائدة يحصل عليها الموظف مستغل النفوذ، أو كان من المتفق عليه أن يحصل عليها فيما بعد. فإذا قام الموظف بأداء خدمة معينة في عمله ولكن بدافع من المجاملة، فإن جريمة استغلال النفوذ لا تقع، غير أنه لا يشترط أن يحصل مستغل النفوذ بالفعل على الفائدة بل يكفي أن يكون قابلاً الوعد بها.
وتشمل الفائدة أي ميزة يحصل عليها الموظف أو يقبل وعداً بها، فقد تكون ميزة مادية أو معنوية، ومن قبيل الميزة المادية الحصول على مبلغ من المال، أو الحصول على هدية عينية كسيارة أو عقار! وقد تكون ميزة معنوية كتعيين شخص يهم الموظف في عمل معين أو حصوله على ترقية في عمله! فقد يكون المستفيد من الفائدة الموظف نفسه أو ابنه أو زوجته أو أي شخص آخر يُعيّنه للاستفادة من تلك الميزة. ويجب أن يكون الطلب أو الأخذ أو القبول كمقابل لاستخدام نفوذ حقيقي أو مزعوم لدى سلطة عامة وطنية، وبالتالي فاستخدام النفوذ لدى جهة أجنبية لا يدخل في جريمة استغلال النفوذ. أما الركن الثاني من أركان هذه الجريمة فهو الركن المعنوي حيث أن استغلال النفوذ جريمة عمدية يتشكل الركن المعنوي فيها من القصد الجنائي، وهذا القصد الجنائي هو قصد عام يتكون من العلم والإرادة، أي علم مستغل النفوذ بأن هناك فائدة قُدِّمت له، مع علمه بأن تقديم تلك الفائدة هي في مقابل استخدامه لنفوذه لدى موظف، وإرادته أن يحصل عليها ! ومما يجدر الإشارة إليه أن المنظم السعودي قد توسع في تحديد الطوائف التي تندرج تحت جرائم إساءة استعمال الوظيفة، فلم يقتصر على المفهوم الضيق للموظف العام في القانون الإداري وإنما توسع ليشمل طوائف أخرى أخذت صفة الموظف العام حكماً، وهذا بلا شك توسع محمود وفيه حماية للوظيفة العامة.
ومن جانب آخر قد يكون عدم تحديد الصلاحيات وتوزيعها بدقة في بعض الجهات أو لدى بعض الموظفين من أسباب جرائم استغلال الوظيفة حيث يفتح الباب واسعاً أمام الموظفين لاستغلال وظائفهم في التربح وخاصة في مجال المنافسات الحكومية. وإنه من الحسن أن تقوم الجهات الإدارية عموماً كالوزارات وفروعها بعقد برامج ودورات تدريبية لمنسوبيها من قِبل المختصين القانونيين لتبيان خطورة جرائم الوظيفة العامة وحجم العقوبات التي ترد على مرتكبيها والتحذير من التهاون فيها، وتُكثَّف هذه الأنشطة خصوصاً في حق الموظفين الغير مختصين في القانون لجهلهم الكثير من أحكامه، لا سيما والسبيل إلى هذا لم يعد الآن ذا صعوبة مع وجود جامعة في كل منطقة من مناطق المملكة وفي كل جامعة يوجد قسمٌ للقانون يضم نخبة من المختصين. ولعله من نافلة القول إن استغل هذا المقام لحث المنظم السعودي على القيام بتحديد تعريف مانع جامع للموظف العام في النظام السعودي لسد باب الاجتهاد، خصوصاً إذا تعلق الأمر بمسألة جنائية تُرهق كاهل القاضي من أجل تحديد ما إذا كان الماثل أمامه موظف عام في نظر القانون أم لا في بعض الأحوال!
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً