الجريمة التي لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم
من منطلق أن للإنسان الحق في الحرية وفي أن يعيش متمتعا بكامل حقوقه الشخصية والاجتماعية والدينية والفكرية وحقه وحريته في التعبير وتقرير المصير فقد اهتمت الإنسانية بترسيخ القيمة الإنسانية للفرد والجماعة ووضعت جميع دساتير الدول في مقدمة إصداراتها الحقوق الإنسانية كأساس للنظام العام الذي يقوم عليه الحكم وبما يحفظ للإنسان حريته وكرامته في شتى نواحي حياته العامة والخاصة وقد استمدت غالبية الدساتير العالمية والمنظمات الدولية التى تختص في مجال حقوق الإنسان في وضع اللبنة الأولى للأنظمة العالمية والدولية إلى ما جاءت به الشرائع السماوية من بيان وهدي في مجال حرية الإنسان والحفاظ على كرامته وكانت الشريعة الإسلامية في مقدمة هذه الشرائع.
وعليه كان القانون الأساسي الذي تم سنه من قبل السلطة الوطنية الفلسطينية جاء متناغم مع هذه المبادئ و مرسخ لها بل جاء الم واشمل من بعض الدساتير في دول الجوار فمن المعلوم بان لكل جريمة تقع مدة تقادم تزيل الأثر القانوني للجريمة الا ان القانون الأساسي و في نص المادة 32 منه التي جاء بها ( كل اعتداء على أي من الحريات الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للإنسان وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها القانون الأساسي أو القانون، جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم، وتضمن السلطة الوطنية تعويضاً عادلاً لمن وقع عليه الضرر)
حيث جاءت الم واشمل من نص المادة المقابله لها في الدستور المصري و التي جاء في نص المادة 57 منه (كل اعتداء علي الحرية الشخصية او حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون جريمة لا تسقط الدعوي الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم ، وتكفل الدولة تعويضا عادلا لمن وقع عليه الاعتداء )
و بالمقارنة فيما بين النصين نجد انه في القانون الاساسي اخذ بالمعيار الانساني مما يتفق مع حقوق الانسان المتعارف عليها دوليا و لم يقيدها بحقوق المواطنة و في القوانين الوطنية كما فعل المشرع المصري و كذلك بخصوص صاحب الحق بالتعويض ففي القانون الاساسي كان لكل من تضرر من هذا الاعتداء و لو كان هذا الاعتداء بشكل غير مباشر اما الدستور المصري فقد حدده بشخص الذي وقع عليه الاعتداء فقط و اما بخصوص الحقوق المحفوظة و المكفولة فكانت جميع الحريات التي يحفظها القانون الاساسي او أي قانون اخر و بالمقارنه فكانت فقط الحريات التي يكفلها الدستور و القانون معا و من هنا يجب معرفة هذة الحريات و الجرائم التي تقع عليها و التي تندرج تحت هذا النص .
فقد استقر الفقه و القضاء على ان هذه الحريات هي التي تكفلها جميع مواثيق حقوق الانسان مثل استخدام العمال بالسخرة و بدون اجر او تعذيب المتهمين لحملهم على الاعتراف او الامر بعقاب المحكوم عليه بعقوبة اشد من العقوبة المحكوم بها او بعقوبة لم يحكم بها عليه او القبض على الناس دون وجه حق حيث ان الحرية الشخصية هي حق طبيعي و مصونه و لا تمس الا بالحالات التي يحدده القانون أي انه منع الاعتداء على الحرية الشخصية و مفاد ذلك ان الاعتداء الذي منع القانون الاساسي وقوعه على الحرية الشخصية هو كل ما من شانه تقيدها في غير الحالات التي ينص عليها القانون كالقبض و الحبس والتفتيش و تقيد او منعه من التنقل بدون وجود سند قانوني.
و لعله من اهم الحقوق هو عدم تعرض الانسان للتعذيب من قبل السلطة وفي حالة تعرض الافراد للتعذيب من قبل رجال السلطة فلا تسقط الدعوى الناشئة عن ذلك بالتقادم و بالتالي تكون المسؤولية على الدولة و لا تقتصر على مرتكب التعذيب او الجهة التي قامت بذلك و هذا يدل على أن المشرع قدر أن التعذيب الذى ترتكبه السلطة ضد الأفراد هو عمل إجرامى ذو طبيعة خطيرة أياً كانت الظروف التى يقع فيها أو السلطة الآمرة بارتكابه وأن الدعاوى الناشئة عنه قد يتعذر الوصول إلى الحق فيها ما بقبت الظروف السياسية التى وقع فى ظلها قائمة ولذلك استثنى المشرع هذه الدعاوى من القواعد العامة فمنع سقوطها بالتقادم ولم يقصر المسئولية فيها على مرتكبى التعذيب والجهات التى يتبعونها بل جعل هذه المسئولية على عاتق الدولة بأسرها.
و ذلك يتفق مع ما جاء في اتفاقية مناهضة التعذيب التي اقرتها الجمعية العامة للامم المتحدة في سنة 1984 و المفهوم منها انه تتخذ كل دولة إجراءات تشريعية أو إدارية أو قضائية فعالة أو أيه إجراءات أخرى لمنع أعمال التعذيب فى أى إقليم يخضع لاختصاصها القضائي ولا يجوز التذرع بأية ظروف استثنائية أياً كانت سواء أكانت هذه الظروف حالة حرب أو تهديداً بالحرب أو عدم استقرار سياسى داخلى أو أية حالة من حالات الطوارئ العامة كمبرر للتعذيب ولا يجوز التذرع بالأوامر الصادرة عن موظفين أعلى مرتبة أو عن سلطة عامة كمبرر للتعذيب . و هنا لا بد ان نوضح دور القضاء حيث ان حق التقاضي مكفول و محفوظ بمواد القانون الاساسي و ان الفرد و سلطات الدولة سواسية امام القضاء اي أن الدولة بجميع سلطاتها تخضع للقانون شأنها شأن الأفراد فلا سيادة لأحد فوق القانون وان لكل مواطن الحق فى التقاضي وفي أن يلجأ الي قاضيه الطبيعي مطالبا بحقه فيصدر القاضي حكمه وفقا للقانون والا اعتبر منكرا للعدالة ومرتكبا لجريمة يعاقب عليها القانون ولا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية عنها بالتقادم و هنا يجب ان نبين ان نص المادة 32 من القانون الاساسي بان الاعتداء علي الحرية يعتبر جريمة لا تسقط الدعوي الجنائية والدعوي المدنية الناشئة عنها بالتقادم انما هو صالح بذاته للإعمال من يوم العمل بهذا القانون دون حاجة الي سن تشريع آخر أدني في هذا الخصوص اي ان صلاحية النص بذاته للأعمال دون حاجة لصدور تشريع به .
و في النهاية لا بد ان نبين بان الحقوق الشخصية و الحقوق الخاصة التي كفلها القانون للإفراد لا تندرج تحت نص هذه المادة و انما نظم القانون طرق تقادم الجريمة الجنائية و الدعوى المدنية الناشئة عنها ما دامت وقاعة على حق الفرد الشخصي و لم تمس حرياته الشخصية فمثلا وقائع القذف والسب التى يتضمنها النشر لا تندرج تحت هذا النص كونها من الحقوق الخاصة وكذلك الاعتداء علي حق الملكية وحق المالك في تأجير ملكه لا يندرج تحت نص المادة المذكورة وعلى ذلك يكون المشرع قد أحاط بالحريات الشخصية والإنسانية التي يتمتع بها الشخص إحاطة تجعله بمنأى عن التعدي عليه أو إيذاؤه بدنيا أو معنويا أو تقييد حريته أو النيل من كرامته ولمن وقع عليه اعتداء أو جريمة من هذه الجرائم أن يستعمل الحق المقرر له في القانون في أي وقت او أي فرصه تتاح له و بغض النظر عن المدة مما رسخ مبدأ ان مثل هذه الجرائم التي تمس حرية الانسان لا تسقط بالتقادم و كذلك لا بد من الإشارة الى ان هناك بعض الجرائم الأخرى التي حددها المشرع بقانون خاص لا تسقط الدعوي الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم مثل قانون مكافحة الفساد و ذلك لطبيعة هذه الجرائم و أشخاص مرتكبيها و لما لهم من سيطرة و هيمنه حيث أنهم بالأغلب أنهم أصحاب سلطة و نفوذ .
مع الاحترام
خالد خفش
وكيل نيابة نابلس
اترك تعليقاً