بحث قانوني مميز حول حجية الإثبات الإلكتروني في المسائل المدنية و التجارية و المصرفية
المحامي يونس عرب
دراسة في مسائل وتحديات الاثبات في المعاملات المصرفية الالكترونية ومتطلبات التشريع الملائم لتجاوز هذه التحديات .
نشرت على جزأين في مجلة البنوك في الاردن – العدد لشهر سنة . والعدد لشهر سنة .
الجزء 1 :-
مسائل وتحديات الإثبات الإلكتروني في المسائل المدنية والتجارية والمصرفية
تمهيد :-
تناولنا في دراستين سابقتين – على مدى ستة اعداد من مجلة البنوك في الاردن – موضوعي التجارة الالكترونية والبنوك الالكترونية ، وفي اطارهما تحدثنا عن التحديات القانونية التي تواجه الاعمال عبر الانترنت وشبكات المعلومات والاعمال الالكترونية بوجه عام ، ومن بين هذه التحديات وفي مقدمتها مشكلات الاثبات القانوني بوساطة مستخرجات الحاسوب والمراسلات الالكترونية والملفات الرقمية ، ومع تزايد الاعتماد يوما بعد يوم على وسائل تقنية المعلومات في ادارة وانفاذ الاعمال المختلفة ، ومع حمى التوجه نحو عالم الرقميات كبديل لعالم المحسوسات ، عالم البيانات والملفات المخزنة في انظمة المعلومات كبديل للبيانات المحررة على الورق وحوافظ الملفات التقليدية ، يزداد الاهتمام بمدى حجية وقوة وسائل التخزين التقني للمعلومات في الاثبات ومدى حجية مستخرجات الحاسوب ومدى امكان النظام القانوني للاثبات استيعاب هذه الانماط المستجدة من وسائل اثبات التصرفات التعاقدية . ولا يقف التساؤل عند حد التصرفات القانونية المدنية والتجارية والمصرفية ، بل يتعداه الى التساؤل حول قوة وحجية الدليل ذي الطبيعة الالكترونية في المواد الجنائية ، وفي هذا العدد من مجلة البنوك في الاردن نقف على مسائل وتحديات الإثبات الإلكتروني في المسائل المدنية والتجارية والمصرفية ، وفي الاعداد القادمة باذن الله نتناول المشكلات العملية المثارة بشان الاثبات الالكتروني في الدعاوى المصرفية ونتناول ايضا مسائل الإثبات الإلكتروني في المواد الجنائية وما يتصل بها من مسائل اجرائية تتعلق بامن المعلومات .
1-1 في الاثبات بوجه عام .
اثبات الحق هو اقامة الحجة عليه ، وقد تاسست نظريات الاثبات على حقيقة اساسية – كان للرومان قصب السبق في التعبير عنها – وهي ان الحق المجرد عن الدليل لا وجود له ويعدو عدما عند حصول المنازعة .
وقد احتلت الكتابة من بين الادلة القانونية منزلة متقدمة وتحديدا في المسائل المدنية والتصرفات العقدية ، ففي النظام اللاتيني – ونموذجيه القانونين الفرنسي والمصري – تمثل الكتابة اقوى الادلة ، في حين بقي للشهادة منزلة متقدمة في النظام الانجلو امريكي – ونموذجيه القانونين الامريكي والبريطاني – مع اتجاه فيهما – بدرجات متفاوتة بينهما – الى اعلاء شان الكتابة والتضييق من شان الشهادة او ما يعبر عنه بالبينة الشخصية .
ووفقا للنظام القانوني الاردني فان ادلة الاثبات او البينات على ستة انواع :- 1 . الادلة الكتابية ، 2 . الشهادة ، 3 . القرائن ، 4 . الاقرار ، 5 . اليمين ، 6 . المعاينة والخبرة .( م2 من قانون البينات الاردني لعام 1952 ) ، اما الادلة الكتابية ، وهي ما يعنينا في هذا المقام ، فهي وفقا للمادة 5 من القانون المذكور :- 1 . الاسناد الرسمية ، 2 . الاسناد العادية ، 3 . الاوراق غير الموقعة .
اما الاسناد الرسمية فتشمل السندات التي ينظمها الموظفون المختصون بتنظيمها ، وتسبغ الرسمية على محتواها كله ولا يطعن فيها الا بالتزوير ، وتشمل ايضا السندات التي ينظمها اصحابها ويصدقها الموظفون الذين من اختصاصهم تصديقها ، وتكون الرسمية بالنسبة لهذا النوع محصورة في التاريخ والتوقيع فقط ( م 6 من قانون البينات ) . اما الاسناد العادية او العرفية فتشمل أي سند يتضمن توقيع من صدر عنه او خاتمه او بصمة اصبعه ولا ينطبق عليها وصف السند الرسمي ( م 10 بينات ) . اما الاوراق غير الموقعة ، فانها ليست حجة بوجه عام ، الا ان قانون الاثبات حدد طائفة حصرية منها تكون حجة في اوضاع وضمن احكام خاصة ، وتشمل الاوراق غير الموقعة في قانون البينات:- 1. البرقيات بشرط ان يكون اصلها مودعا في دائرة البريد وموقعاً عليه من مرسلها ( م 13/2 بينات ) . 2. والدفاتر التجارية وهي حجة على التجار فقط ، ولا تكون حجة على غير التجار الا في حدود صلاحيتها لتوجيه اليمين المتممة ( م 15 ) ، وهي حجة على صاحبها سواء اكانت منظمة ام لا وليست حجة له الا اذا كانت منظمة وفي حدود نزاعه مع تاجر آخر ( م 16 ) . 3. الدفاتر والاوراق المنزلية ، وهذه لا تكون حجة لصاحبها وانما حجة عليه فيما تضمنته من بيانات تفيد استيفائه للدين او اثبات حق لمصلحة الغير ، ( م 18 ) . 4. التأشير من قبل الدائن على سند ولو دون توقيع بما يفيد براءة ذمة المدين شرط عدم خروج السند من حوزة الدائن ( م 19 ) .
وعليه ، ووفقا لهذه الاحكام ، فان القواعد العامة في الاثبات في النظام القانوني الاردني لا تقبل اية مستندات او محررات غير موقعة من منظمها ، ولا تقبل الاحتجاج بالسندات العادية – ما لم يقر الخصم بها – الا عن طريق ابرازها من قبل منظمها ، وتنحصر الاسناد غير الموقعة بما حدده حصرا قانون البينات وفي حدود ما قرره لها من احكام ، وعلى ذلك فان كشوف الحسابات غير الموقعة وغير المبرزة من منظمها ليست حجة وكذا الفواتير او المستندات المحاسبية او غيرها ، وفي ذلك قضت محكمة التميز الاردنية (( ان الفواتير التي تخلو من التوقيع او لم تعزز باقرار او بينة لا تصلح حجة على الخصم ، ولذلك لا يؤخذ بالدفع المجرد من الدليل ) (ت ح 619 / 85 ص 1884 سنة 1987 ) وقضت ايضا بان (( الاسناد العادية هي التي تشتمل على توقيع من صدرت عنه او على خاتمه او بصمة اصبعه عملا بالمادة 10 من قانون البينات وعليه فان سندي الاقرار بتعيين محكم وقرار التحكيم غير الموقعين من المميز ولا يحملان توقيعا يمكن نسبته اليه يجعل من الاحتجاج ضد المميز بهذين السندين غير قائم على اساس طالما انهما جاءا خاليين من اي توقيع منسوب له.)) (ت ح 830 /96 ص 1253 سنة 1997 ) .
1-2 في الإثبات بالوسائل الإلكترونية والاتجاه التشريعي للتعامل معها .
1-2-1 اثر تقنية المعلومات على وسائل التعاقدات المدنية والمصرفية ووسائل اثباتها
لقد امكن استغلال وسائل تقنية المعلومات في إبرام العقود المختلفة وتبادل البيانات التي تتصل بالذمة المالية ، واتيح بفضل ربط الحواسيب وشبكة الانترنت ، التعاقد الفوري بين شخصين غائبين مكانا واجراء مختلف التصرفات القانونية ، واذا كانت التشريعات المدنية والتجارية قد وقفت فيما سبق امام فكرة التعاقد بواسطة التلكس اوالهاتف ، فانها من جديد تقف امام مسالة استخدام نظم الكمبيوتر و شبكات المعلومات في التعاقد وامام مسائل الإثبات فيما انتجته الحواسيب والشبكات من مخرجات ، وبحث مدى حجية مستخرجات الحاسوب والبريد الإلكتروني وقواعد البيانات المخزنة داخل النظم وغيرها . واستخدام وسائل تقنية المعلومات لابرام العقود والتصرفات القانونية وتبادل البيانات واجراء عمليات تتصل بالذمة المالية اثار ويثير العديد من الاشكالات حول مدى اعتراف القانون ، وتحديدا قواعد التعاقد ، بهذه الاليات الجديدة للتعبير عن الايجاب والقبول وبناء عناصر التعاقد ، كما اثارت وتثير اشكالات في ميدان الاثبات بكون النظم القانونية قد حددت الادلة المقبولة وحددت قواعد الاحتجاج بها وسلامة الاستدلال منها على نحو ما اوضحنا اعلاه بشان النظام القانوني الاردني . وفي خضم البحث في قانونية التعاقد بالطرق الالكترونية وحجية مستخرجات الوسائل التقنية في الاثبات ، ظهرت التجارة الالكترونية كنمط جديد من انماط التعامل التجاري ، لا في ميدان البيع والشراء وانما في ميادين التعاقد كافة كعقود التأمين والخدمات وغيرها . واثارت وتثير التقنية العالية وتحديدا محتواها الفني والمعرفي تحديات كبيرة في ميدان نقل التكنولوجيا والتبادل الفني والمعرفي والتزام مورد التكنولوجبا ومتلقيها ، واظهرت التقنية تحديات قانونية تستلزم التنظيم بالنسبة لعقود تقنية المعلومات ، التوريد والبيع والصيانة والتطوير ورخص الاستخدام ، وبالنسبة لعقود الوكالات التجارية والتوزيع ، وعقود اشتراكات المعلوماتية وخدمات الاتصال ، وكان – وسيبقى الى حين – اوسع اثر لها في حقل التجارة الالكترونية والتعاقد الالكتروني.
ولم يتوقف تأثير تقنية المعلومات على قواعد التعاقد والاثبات ، بل امتد الى كل ما يتصل بآليات الوفاء يالالتزامات العقدية وفي مقدمتها آليات الدفع النقدي واداء الالتزامات المالية محل التعاقد ، وفي هذا الاطار آفرزت تقنية المعلومات وسائل حديثة لتقديم الخدمات المصرفية وادارة العمل البنكي ، ابرزها ظهر في حقل انظمة الدفع الالكتروني والدفع على الخط وادارة الحسابات عن بعد ، كما حدث بفعل التقنية شيوع بطاقات الدفع والائتمان المالية ، ويشيع الان مفهوم المحفظة والبطاقة الماهرة التي تمهد الى انتهاء مفهوم النقد الورقي والمعدني وتفتح الباب امام مفهوم النقد الالكتروني او الرقمي او القيدي . الى جانب ذلك تطورت وسائل تداول الاوراق المالية وخدماتها ، فظهرت فكرة التعاقد الالكتروني والتبادل الالكتروني للاوراق الى جانب الاعتماد شبه الكلي في اسواق المال على تقنيات الحوسبة والاتصال في ادارة التداول وقيده واثبات علاقاته القانونية . ويشيع الان مصطلح البنوك الالكترونية التي تنفذ خدماتها المصرفية – بل وخدمات ذات محتوى غير مصرفي ضمن توجه نحو الشمولية .
1-2-2 الاتجاه التشريعي بشان ادلة الإثبات الحديثة وحجيتها وتحدياتها
لقد اتجهت النظم القانونية والقضائية والفقهية بوجه عام الى قبول وسائل الاثبات التي توفر من حيث طبيعتها موثوقية في اثبات الواقعة وصلاحية للدليل محل الاحتجاج ، وتحقق فوق ذلك وظيفتين :- امكان حفظ المعلومات لغايات المراجعة عند التنازع ، التوسط في الاثبات عن طريق جهات الموثوقية الوسيطة او سلطات الشهادات التعاقدية ، ومن هنا قبل نظام ( سويفت ) التقني لغايات الحوالات البنكية – وكذا نظامي شيبس وشابس ونحوهما – وكذلك قبل التلكس لتحقيقهما هذه الطبيعة والوظائف، في حين بقي الفاكس خارج هذا الاطار ومجرد دليل ثبوت بالكتابة او بينة مقبولة ضمن شرائط خاصة ، ومن هنا ايضا اثارت وتثير الرسائل الالكترونية عبر شبكات المعلومات كالانترنت والرسائل المتبادلة عبر الشبكات الخاصة ( الانترانت ) والبريد الالكتروني مشكلة عدم تحقيق هذه الوظائف في ظل غياب المعايير والمواصفات والتنظيم القانوني الذي يتيح توفير الطبيعة المقبولة للبينات وتحقيق الوظائف التي تجيز قبولها في الاثبات .
وقد خضعت القواعد القانونية للتعاقد والاثبات في النظم المقارنة الى عملية تقييم في ضوء مفرزات تقنية المعلومات وتحدياتها ، وذلك من اجل تبين مدى توائم النصوص القائمة مع ما افرزته وسائل الاتصال الحديثة وتحديدا شبكات المعلومات بانواعها ( انترنت ، انترانت ، اكسترانت ) ، باعتبار ان القواعد القائمة في نطاق التشريعات عموما وفي غير فرع من فروع القانون تتعامل مع عناصر الكتابة والمحرر والتوقيع والصورة طبق الاصل و … الخ من مفاهيم ذات مدلول مادي . وقد ادت عملية التقييم هذه الى اتخاذ تدابير تشريعية في اكثر من دولة ، فعلى الصعيد العالمي كان للجنة اليونسترال في الامم المتحدة وقفة مبكرة حيث انجزت القانون النموذجي للتجارة الالكترونية لعام 1996 الذي عالج من بين ما عالج مسائل التواقيع الالكترونية وقرر وجوب النص على قبول التوقيع الالكتروني كوسيلة للتعاقد واثبات الانعقاد ، ولم يحدد قانون اليونسترال معنى معينا للتوقيع الالكتروني او معيارا معينا لمسائله الإجرائية واكتفى بالمبادئ العامة القائمة على فكرة إيجاد وسيلة تكنولوجية تحقق نفس المفهوم والغرض الذي تحققه التواقيع العادية . وضمن هذا التوجه سارت العديد من التشريعات في اوروبا وامريكا وشرق اسيا .
اما عن الاتجاه التشريعي العربي للتعامل مع تحديات الوسائل الالكترونية في الاثبات ، فان البناء القانوني للتشريعات العربية عموما في حقلي التعاقد والاثبات لم يعرف الوسائل الالكترونية وتحديدا تلك التي لا تنطوي على مخرجات مادية كالورق ، وجاء مبناه قائما – بوجه عام مع عدد من الاستثناءات – على فكرة الكتابة ، المحرر ، التوقيع ، الصورة ، التوثيق ، التصديق ، السجلات ، المستندات ، الاوراق ….. الخ ، وجميعها عناصر ذات مدلول مادي وان سعى البعض الى توسيع مفهومها لتشمل الوسائل التقنية ، وهي وان كان من الممكن شمولها الوسائل التقنية ذات المستخرجات التي تتوفر لها الحجية ، فانها لا تشمل الوسائل ذات المحتوى الالكتروني البحت ( طبعا بشكل مجرد بعيدا عن الحلول المقررة تقنيا وتشريعيا في النظم المقارنة التي نظمت هذا الحقل ) .
والتحديد القانونيِ للرّسائل الإلكترونيةِ يثير السّؤالِ حول ما اذا كانت قوانين الاثبات العربية القائمة تنظم وتحكم المعلومات المتبادلة الكترونيا ( electronically ) مثلما تنظم وتحكم المستندات والرسائل والمخاطبات الصادرة عن طريق الوسائلِ الورقيةِ التّقليديةِ . فتعبير ” رسالة إلكترونية ” يَعْني المعلوماتَ المدخلة ، المرسلَة ، المستلمة أو المخَزنةَ بالوسائلِ الإلكترونيةِ، ويشمل ذلك – لا بشكل حصري – البيانات إلكترونية المتبادلة ، بريد إلكتروني، برقية، تلكس . .ونجد العديد من التّشريعِات تنظم وتستخدم وتشير الى تعبيرات مثل ” كِتابَة “، ” توقيع “، ” وثيقة “، ” أصلي “، ” نسخة مطابقة “، ” نشر “، ” ختم “، ” سجل “، ” ملف “، ” طبعة ” ” سجل “، ” يُسلّمُ “، الخ. ومن المهم ابتداء التنبه الى ان المقصود بالرسائل الإلكترونيةِ الشكل إلكتروني أو الرقمي ولَيسَ الشّكلَ الورقيَ اللاحقَ حينما يتم استخراج الرسائل الإلكترونية ( طباعتها ) على الورق . فاذا اخضعنا هذه الحقائق للتحليل نجد ان التعاريف المستقرة بالمفاهيم القانونية والعرفية والقضائية تعرف الكِتابَة بما يفيد انها يَجِبُ أَنْ تَكُونَ نتيجةَ فعلِ يدِّ شخصِ أو بالطّباعةِ. وتعرف الطباعة بانها يَجِبُ أَنْ تكُونَ نتيجةَ الفعلِ بافراغ الرسالةِ على ” ورقة “. من هنا لا يشمل ذلك الرسائل إلاكترونية .وتعرف التوقيع بانه يَتضمّنُ قيام شخصِ بفعل ” التوقّيعُ ” أي وضع الرمز الكتابي الدال على شخصيته ، وهذا الفعل لا يشمل التحديد الرقمي الدال على الشخص في بيئة التجارة والاعمال الالكترونية . كما ان مفهوم الوثيقة يتعلق بالكتابَة ” ومن هنا تَكُونُ مَحْصُورة بالوثائقِ الورقيةِ. وبالتالي فان تّعبير ” كِتابَة ” لا يشمل الرسائل إلكترونيةِ. وهذا ينطبق على التعابير الاخرى ، مثل ” وثيقة “، ” توقيع “، الخ. باعتبارها محصورة بالمظاهر المادية الورقية . ومن جهة اخرى لا يوجد في تعاريفِ القاموسِ المكافئةِ ما يتيح ( وان كان لا يمنع في بعضها ) لهذه التعابيرِ أَنْ تَتضمّنَ مفهوم الرسائل إلاكترونية والتواقيع الرقمية. وكخلاصة لهذا التحليل فانه يتعين إزالةِ التناقض وعدم الموائمة بين الرّسائل الإلكترونيةِ ونظيراتها في البيئة الورقة او المادية ، وهو ما يتركنا اما الخيارات التالية :- اما ترك الامر للقضاء ، واثر ذلك احتمال صدور قرارات قضائية متناقضة وفوات وقت طويل – لا ينسجم وعصر المعلومات فائق السرعة – قبل استقرار الاتجاه القضائي مع مخاطر اعتبار بعض القرارات عدم وجود حلول تشريعية من قبيل النقص التشريعي . وهذا قد يؤثر على مستقبل التنظيم القانوني للتجارة والاعمال الالكترونية بل ومستوى تطورها . او خيار تعديل التشريعات القائمة ، لجهة اعتبار تعبيرات الكتابة والوثيقة والتوقيع و…. الخ شاملة للرسائل والتواقيع الإلكترونية ومشكلة ذلك سعة نطاق التعديل وصعوبته والاهم حاجته الى دراسة شاملة لكافة تشريعات النظام القانوني . او خيار اصدار تشريع خاص بمفهوم الرسائل الالكترونية وهي طريقة احالة الى سائر التشريعات الاخرى بحيث ينص على ان مفهوم الكتابة والوثيقة والتوقيع وغيرها بانه يشمل الرسائل والتواقيع الالكترونية اينما وردت ، وهذا الخيار يمثل ما يمكن تسميته بتشريع اولي لا يعالج مسائل التجارة والاعمال الالكترونية بشكل شامل وانما احد تحدياتها . والخيار الاخير الذي نتبناه اصدار تشريع خاص بالتجارة والاعمال الالكترونية ينظم من بين ما ينظم مفهوم الرسائل الإلكترونية والتواقيع الإلكترونية وغيرها ، وهذا الخيار او المسلك هو ما تتجه اليه مختلف النظم القانونية القائمة في تعاملها مع تحديات التجارة الإلكترونية .
1-3 في موقف المشرع الاردني من الوسائل الحديثة للاثبات وموقف قانون البنوك الجديد .
1-3-1 اتجاه – غير شامل – نحو الاعتراف بحجية الوسائل الالكترونية :-
تمشيا مع اتجاهات الاعتراف بحجية مستخرجات الحاسوب والمراسلات الالكترونية ظهرت في الاردن دعوات عديدة الى وجوب التنظيم التشريعي لوسائل الاثبات الالكترونية واعادة النظر بقانون البينات وغيره من التشريعات ذات العلاقة لتحقيق هذا الغرض ، غير ان المشرع الاردني لم يتيسر له الوقوف بشكل شمولي امام هذه المسالة ، وجاءت استجاباته لهذه الدعوات جزئية في حدود عدد ضيق من التشريعات الحديثة التي استلزمتها ظروف تحرير التجارة واستحقاقات عضوية منظمة التجارة الدولية ، ومن خلال استقراء التشريعات الاردنية الجديدة واخضاعها لعملية المسح من زاوية تبين احكامها المستحدثة في حقل الاثبات ، يلحظ ان ثمة اتجاه تشريعي لقبول حجية المستخرجات الالكترونية في الاثبات بالنسبة لطائفتين من التشريعات ، تشريعات الخدمات المالية ( ان جاز الوصف ) ، وتشريعات الملكية الفكرية ، ففي الطائفة الاولى ، نص المشرع الاردني في المادة 72 / ج من قانون الاوراق المالية رقم 23 لسنة 1997 على انه ((على الرغم مما ورد في اي تشريع آخر يجوز الاثبات في قضايا الاوراق المالية بجميع طرق الاثبات بما في ذلك البيانات الالكترونية او الصادرة عن الحاسوب وتسجيلات الهاتف ومراسلات اجهزة التلكس والفاكسميلي )) ، كما نصت المادة 92 / ب من مشروع قانون البنوك الجديد على انه (( على الرغم مما ورد في أي تشريع اخر يجوز الاثبات في القضايا المصرفية بجميع طرق الاثبات بما في ذلك البيانات الالكترونية او البيانات الصادرة عن اجهزة الحاسوب او مراسلات اجهزة التلكس .)) ونصت الفقرة ج من ذات المادة على ان (( للبنوك ان تحتفظ للمدة المقررة في القانون بصورة مصغرة ( ميكروفيلم او غيرة من اجهزة التقنية الحديثة )) بدلا من اصل الدفاتر والسجلات والكشوفات والوثائق والمراسلات والبرقيات والاشعارات وغيرها من الاوراق المتصلة باعمالها المالية وتكون لهذه الصورة المصغرة حجية الاصل في الاثبات .)) ونصت الفقرة د. من المادة نفسها على ان (( تعفى البنوك التي تستخدم في تنظيم عملياتها المالية الحاسب الالي او غيرة من اجهزة التقنية الحديثة من تنظيم دفاتر التجارة التي يقتضيها قانون التجارة النافذ المفعول وتعتبر المعلومات المستفادة من تلك الاجهزة او غيرها من الاساليب الحديثة بمثابة دفاتر تجارية . )) وقررت الفقرة هـ من هذه المادة انه (( تعتبر جميع الاعمال المصرفية والنشاطات المالية تجارية بحكم ماهيتها الذاتية بغض النظر عن صفة العميل المتعاقد او المتعامل مع البنك سواء كان مدنيا او تجاريا ,وتسري عليها احكام قانون التجارة الساري المفعول كما لا تخضع لاحكام نظام المرابحة . ))
اما في ميدان تشريعات الملكية الفكرية فقد نصت المادة 3 / ج من قانون الرسوم والنماذج الصناعية رقم 14 لسنة 2000 على انه (( يجوز استعمال الحاسوب الالي لتسجيل الرسوم الصناعية والنماذج الصناعية والبيانات المتعلقة بها وتكون البيانات والوثائق المستخرجة منه المصدقة من المسجل حجة على الكافة ما لم يثبت صاحب الشان عكسها .)) وذات النص ورد في المادة 3/ج من قانون حماية التصاميم للدوائر المتكاملة رقم 10 لسنة 2000 ، كما نصت المادة 3/ب/3 من قانون العلامات التجارية رقم 33 لسنة 1952 المعدل بالقانون رقم 34 لسنة 1999 على انه (( يجوز استعمال الحاسوب الالي لتسجيل العلامات التجارية وبياناتها وتكون البينات والوثائق المستخرجة منه المصدقة من المسجل حجة على الكافة )) وذات النص ورد في المادة 7/ج من فانون براءات الاختراع رقم 32 لسنة 1999 .
1-3-2 تحديات الاثبات الالكتروني في ميدان الاعمال المصرفية .
بالرجوع الى نص المادة 92 من مشروع قانون البنوك ، نجدها تقرر جملة احكام تتعلق بما واجهته المصارف من مشكلات خلال عمليات التقاضي ، ويسجل في هذا الميدان جهد مميز لجمعية البنوك في الاردن في تبين هذه المشكلات وعقد عدد من الندوات العلمية لابراها والنقاش حولها كما يسجل لها دورها المميز في ايجاد هذه المادة ، وفي هذا الاطار فان هذه المادة تنشئ احكام جديدة او تعدل احكاما قائمة في حقول نظام التقاص والاثبات والتوثيقات العينية ، وحوالة الحق والشيكات . وحيث ان المقام محصور بالبحث في الاثبات فاننا نتناول تاليا احكام هذه المادة بهذا الخصوص اما ما ورد في الفقرات ( أ ، و ، ز ) فانها موضوعات تتطلب دراسات مستقلة ، ولا نشير هنا الى هذه الفقرات الا في حدود اتصالها بالاثبات ، ونكتفي في هذا المقام بعرض الاحكام العامة المستحدثة وبعض تحدياتها على ان تكون محلا للدراسة التفصيلية الخاصة من ناحية المشكلات العملية المثارة بشانها .
واول ما يتعين لاشارة اليه ، ان النص المستحدث في قانون البنوك بشان الاثبات لا يمكن ان يسري باثر رجعي على ما سبقه من حالات او دعاوى ، ذلك ان القانون يسري باثر فوري وللحالات المستقبلية ما لم ينص صراحة على غير ذلك ، وهو ما لم يحصل في مشروع القانون مدار البحث ، كما ان القضاء الاردني مستقر على ان مسائل الاثبات محكومة بالقانون النافذ وقت التصرف او العقد بحسب الحالة ، وفي ذلك تقول محكمة التمييز الاردنية :-
(( استقر الفقه والقضاء على ان القانون الذي يفصل في طرق الاثبات هو القانون الذي كان معمولا به وقت العقد حتى لو كان القانون الجديد ادخل تغييرا على ذلك. ومبنى هذه القاعدة هو ان الناس لهم حق مكتسب في ان يبقى صحيحا بمقتضى القانون الذي كان موجودا وقت العقد.)) (ت ح 322/1959 ص 370 سنة 1959 ) .
اما المسالة الثانية المتعين الاشارة اليها ، ان الاحكام الواردة في المادة 92 بخصوص الاثبات شانها شان الاحكام الواردة في طائفة التشريعات المشار اليها اعلاه ، هي احكام خاصة ينحصر قبولها واعمال مفاعيلها على الحالات التي تطبق عليها هذه القوانين ولا تمتد الى نزاعات او دعاوى اخرى ، لانها احكام خاصة تقيد القواعد العامة في الاثبات بالنسبة لما تنظمه ، فالبيانات الالكترونية حجة في حقل دعاوى الاوراق المالية سندا لنص المادة 72/ج من قانون الاوراق المالية وذات القول يرد بالنسبة للدعاوى المصرفية لكن سندا لنص المادة 92 من مشروع قانون البنوك . وسنرى ان هذه الحقيقة تثير اشكالا هاما وكبيرا ، ذلك ان تحديد نطاق النزاع الذي تطبق فيه المادة المتضمنة لقاعدة خاصة ليس دائما امر سهل كما سنرى لدى بحث المشكلات العملية لتطبيق النصوص المتقدم الاشارة اليها .
اما عن الاحكام الجديدة المقررة في المادة 92 مدار البحث ، فهي الاعتراف بحجية البيانات الالكترونية او البيانات الصادرة عن اجهزة الحاسوب او مراسلات اجهزة التلكس ( م 92/ب) والاعتراف بحجية الميكروفيلم او الصور المصغرة عن البرقيات والاشعارات والمراسلات والسجلات والكشوف وحسم الجدل حول طبيعتها بانزالها منزلة الاصل لا باعتبارها صورة مستنسخة عن الاصل المدخل او المعالج بطريقة الميكروفيش . ( م 92 / ج ) ، وكذلك انزال البيانات المخزنة في نظم المعلومات منزلة الدفاتر التجارية والاعفاء من مسك الدفاتر والسجلات التجارية التقليدية ( م 92 /د ) ، واخيرا اعتبار اية علاقة مع البنك تجارية ليتحقق مبدأ جواز الاثبات فيها بكافة طرق الاثبات بما فيها الوسائل الالكترونية للاثبات . ( م 92/ هـ ) .
ويلاحظ ان الفقرة ب من المادة 92 ذكرت صراحة البيانات الالكترونية ، ومستخرجات الحاسوب ، ومراسلات التلكس ، لكنها لم تذكر الفاكس وتسجيلات الهاتف على خلاف قانون الاوراق المالية المشار اليه فيما تقدم ، وهو ما يثير التساؤل عن مدى اعتبار الفاكسات حجة في الدعاوى المصرفية ؟؟ وبالرجوع الى النص المذكور نجده قد قرر ابتداء جواز الاثبات في الدعاوى المصرفية بكافة طرق الاثبات واستخدم بعد هذا الحكم عبارة ( بما فيها … الخ ) وهو ما يدفع الى القول ان ما اورده النص ليس اكثر من امثلة مذكورة على سبيل المثال ، غير اننا نجد ان في هذه الصياغة القانونية ما يمكن ان يثير اشكالات حقيقية في الواقع العملي بشان تطبيق هذا الحكم ، ذلك ان نظامنا القانوني يقرر الحق في الاثبات بكافة طرق الاثبات في عدد من المنازعات ، كالتجارية والجزائية والعمالية ، ورغم ذلك فان احكام القضاء لم تتجه الى قبول الادلة التي تخرج عن نطاق البينات الستة المقررة في قانون البينات بسند من القول ان المقصود بكافة طرق الاثبات ، الطرق التي اقر بها القانون ونظمها واعترف لها بهذه الصفة وليس أي طريق لا يعرفه النظام القانوني ، ومن هنا مثلا لم يقبل القضاء في المنازعات التجارية الفاكس حجة في الاثبات في كل الحالات مع ان النزاعات التجارية جائز اثباتها بكاف طرق الاثبات ، وبالتالي وحسما لكل جدل كان يتعين ان يورد المشرع في المادة 92 الفاكس والتسجيلات الهاتفية على نحو ما اوردها في قانون الاوراق المالية . سيما وان الكمبيوتر ذاته يستخدم حاليا كجهاز مراسلات بل ان من المراسلات الصادرة عنه البريد الالكتروني والفاكس بالمعنى المعروف ، فرسالة الفاكس لم تعد حكرا على جهاز الفاكسميلي وترسل بواسطة برمجيات الفاكس المخزنة داخل نظم الكمبيوتر ،، فهل نعد مثل هذه المراسلات الصادرة عن الكمبيوتر حجة باعتبارها مستخرجات للحاسوب ام انها ليست كذلك لانها مروسة بعبارة ( رسالة فاكسميلي )) اذا ما سرنا على ما هو مستقر قضائيا من وجوب النص صراحة على البينة التي تعد مقبولة في الاثبات .
وقد تناولت لمادة 92 مدار البحث ولاول مرة في القانون الاردني حجية المصغرات الفلمية او ما يعرف بالميكروفيلم او الميكروفيش ، فقررت ان للبنوك الحق في ان تحتفظ بصورة مصغرة ( ميكروفيلم او غيرة من اجهزة التقنية الحديثة )) بدلا من اصل الدفاتر والسجلات والكشوفات والوثائق والمراسلات والبرقيات والاشعارات وغيرها من الاوراق المتصلة باعمالها المالية وتكون لهذه الصورة المصغرة حجية الاصل في الاثبات .
والمصغرات الفلمية باشكالها المختلفة تقوم على فكرة ادخال المحرر او الورقة الاصلية الى اجهزة تستنسخ عنها صورة وتخزنها بشكل مصغر او مضغوط يتيح استرجاعها واعادة طباعة نسخة عنها ، وتقنيا فان المخزن في الذاكرة اللاكترونية هو صورة عن الأصل والمستخرج من الجهاز التقني صورة عن الاصل ايضا ، وقد تم اللجوء مبكرا الى هذه الوسائل للخلاص من اطنان الاوراق المتجمعة لدى البنوك ، وتطورت فكرة إدخال صورة المستند الى أنماط جديدة من القراءة الضوئية باستخدام الماسحات الضوئية وبرمجيات ضغط الملفات والوثائق والنصوص .
ويتعين في هذا المقام تثبيت الحقائق التالية بشان هذا النص ، اولها ان النص من حيث الاصل حسم الجدل حول ما اذا كانت الحجية في الاثبات لازمة لاصل المصغر الفلمي ام للمصغر الفلمي نفسه ، وذلك لجهة منح الحجية للمصغر الفلمي باعتباره حكما كالاصل ، لكن هذا لا يمنع ان يثار النزاع واقعا بشان صور المستندات المعالجة بهذه الطريقة ، وذلك بالنسبة لحالات انكار التوقيع او حالات التزوير او نحوه وفي كل ما يتطلب عمليات المضاهاة ، وهو ما كان يتعين معه اقرار صلاحية المصغر الفلمي للمضاهاة عند النزاع ، مع ان الاشكال يبقى قائما من حيث مدى صلاحية المصغر الفلمي لعمليات المضاهاة من الوجهة التقنية كما سنرى لدى التعرض للمشكلات العملية المتصلة بتطبيق النص . كما ان تقديم المصغر الفلمي كبينة يواجهه مشكلة تثبت القضاء من ان ما قدم له فعلا هو مستخرج من نظام المعالجة العائد للبنك وانه حقيقة مخزن فيه وهو ما قد يستدعي اصدار شهادة من البنك بذلك لنعود من جديد الى مشكلة وجوب ابراز هذه الشهادة من منظمها ، وكاننا استبدلنا اشكالات حفظ الاوراق باشكالات الشهود على صحة الحفظ وسلامته ، مع ان الاشكالات الاخيرة تظل اقل ضررا واعاقة من مشكلات حفظ الاوراق .
اما الحقيقة الثانية فهي ان قبول هذا الدليل منوط حقيقة بثقة القضاء به ، وهو ما كان يستوجب – شانه شان مستخرجات الحاسوب والبيانات الالكترونية – ان يترافق مع اعتماد معايير تقنية موحدة لدى سائر البنوك واعتماد مواصفات نظامية تعزز الثقة بامن نظم المعلومات وعدم امكان العبث ببياناتها وتحويرها ، وهذه المسالة كانت محل اهتمام النظم القانونية المقارنة ، اذ تلاقى اقرار حجية البيانات المحوسبة والمنقولة الكترونيا باعتماد معايير تقنية ونظامية اهمها اتاحة الاشراف والرقابة على سلامة النظم التقنية لدى البنوك وامنها من قبل جهات الاشراف ، وهذا موضوع متشعب ويثير مسائل عديدة نجد من المناسب تركه لدراسة تفصيلية مستقلة مكتفين بالقول ان احد اهم عوامل قبول أي دليل في الاثبات ثقة المتعاملين معه والقضاء بصحته وسلامته الى مدى يكفل عدم امكان العبث به او تحويره وهو ما يعرف بمبدا الموثوقية والصلاحية في الاحتجاج .
وتثير المادة 92 تساؤلا هاما حول مدى حق الخصوم في الدعاوى المصرفية تقديم بينات لها نفس الطبيعة التي قبلها القانون من البنك ، وبتدقيق النص نجد ان قبول البينات الالكترونية والتلكس ومستخرجات الحاسوب جاء مطلقا بحيث يتيح للاطراف في الدعاوى المصرفية الاحتجاج بها ، اما عن المصغرات الفلمية فان النص يشير الى حق البنك في الاحتفاظ بمثل هذه المصغرات مما يجعلها واقعا من البينات التي يستخدمها البنك فقط ما لم يطلبها الخصم عبر مؤسسة الزام الخصم بتقديم بينة تحت يده ، وهو ما يثير تساؤلا حول مدى ملائمة المواد المقررة في قانون البينات بهذا الشان للطبيعة التقنية للمصغرات الفلمية ؟؟
هذه جملة تساؤلات ولا يزال الكثير مما يقال بالنسبة لهذا النص المستحدث ، واستكمالا لهذه الدراسة فاننا سنتناول في دراسة قادمة المشكلات العملية لتطبيق نص المادة 92 من مشروع قانون البنوك كما سنعرض لما تثيره من مشكلات في حقل الاثبات الجنائي وتحديدا قواعد تفتيش نظم الحاسوب واتصال ذلك بالخصوصية والسرية المصرفية الى جانب البحث في المعايير المتطلبة لضمان موثوقية وصلاحية الادلة ذات الطبيعة الالكترونية .
الجزء 2 :-
المشكلات العملية في الاثبات المصرفي بالوسائل الالكترونية والدليل المعلوماتي في المواد الجنائية
تناولنا في الجزء الاول من هذه الدراسة مسائل وتحديات الإثبات الإلكتروني في المسائل المدنية والتجارية والمصرفية ، واستكمالا لهذا الموضع نعرض في هذا الجزء من الدراسة للمشكلات العملية المثارة بشان الاثبات الالكتروني في الدعاوى المصرفية ونتناول ايضا مسائل الإثبات الإلكتروني في المواد الجنائية وما يتصل بها من مسائل اجرائية تتعلق بامن المعلومات .
2-1 تحديد المشكلات العملية .
2-1-1 قبول الوسائل الالكترونية والثقة بها .
في لقاء مجموعة الخبراء الأوروبيين القانونيين المناط بهم وضع التصور للدليل الارشادي حول حجية سجلات الكمبيوتر والرسائل الالكترونية المنعقد عام 1997 قيل ان الحلول الالكترونية في بيئة العمل المصرفي لا يتعين ان تكون عبئا اضافيا للحلول الورقية القائمة ، ولتوضيح الفكرة ، فان اعتماد العمل المصرفي على التقنيات الحديثة المتعددة المحتوى والاداء والغرض ، لا يجب ان يكون بحال من الاحوال وسيلة مضافة للانماط التقليدية للعمل تسير معها لنكون في الحقيقة امام آليتين لادارة العمل وتوثيقه ، إحداها تعتمد التقنية بما تتميز به من سرعة في الاداء وكفاءة في المخرجات وربما تكاليف اقل ، وثانيها استمرار الاعتماد على الورق وعلى وسائل العمل التقليدية غير المؤتمتة ، ليبقى مخزون الورق هو المخزون الاستراتيجي للعمليات المصرفية تنفيذا واثباتا وتقييما .
هذه الحقيقة تضعنا امام اهم مشكلات الاثبات بالوسائل التقنية ، الا وهي مشكلة مقبولية هذه الوسائل من قبل القطاعات المتعاملة بالانشطة التجارية والمالي سواء الافراد ( الزبائن ) او مؤسسات الاعمال ، والقاعدة الاساسية التي يمكن الانطلاق منه لتحقيق هذه المقبولية ، هي مدى الاطمئنان لسلامة الوسائل الالكترونية في التعاقد والاثبات ، وهذا يعتمد بشكل رئيس على ثلاثة عناصر اساسية ، الاول :-التكنيك المستخدم ومحتوى التقنية والقدرة على تبسيط الفكرة وايصالها للمتعاملين ، الثاني مدى كفاءة نظام التراسل الالكتروني ( البند 1-2 أدناه ) ، والأخير ، الثقافة والتاهيل للتعامل مع مشكلات التراسل الالكتروني .
ان تحقيق درجة قبول مميزة لوسائل التعاقد والإثبات الالكترونية ، يتطلب برنامجا توعويا شاملا ، للمتعاملين ومؤسسات الأعمال والجهات القضائية والقانونية ، ليس فقط للدفع نحو قبول وسائل التعاقد الالكتروني ، ولكن لإيجاد ثقافة عامة تمثل الأساس للتعاطي مع كافة افرازات عصر المعلومات الآخذة بالتطور السريع ، هذه الافرازات التي تقدم يوما بعد يوم نماذج جديدة للعمل والاداء وتتطلب توظيفا للمنتج منها المتوائم مع مستويات الثقافة والمقبولية ومتطلبات حسن ادارة العمل . وحتى لا تكون ثمة فجوة بين قدرة المتعاملين مع التقنية وبين الجديد من فتوحها ، ولضمان سلامة توظيف التكنولوجيات المستجدة لا بد من اساس ثقافي عام يجد محتواه من خلال ترويج المعرفة بالتقنية ومتطلبات عصر المعلومات ، ابتداء من المفاهيم الاساسية ومرورا بتعظيم الفوائد والايجابيات وتجاوز السلبيات والمعيقات ، وانتهاءا بالقدرة على متابعة كل جديد والافادة منه والتعامل معه لكفاءة واقتدار.
2-1-2 بناء النظم التقنية القادرة على اثبات الموثوقية .
ان نظم التقنية المؤهلة لبناء الثقة بالوسائل الالكترونية الحديث للتعاقد والاثبات في الحقل المصرفي او في غيره من حقول النشاط التجاري والمالي ، هي النظم بسيطة البناء ، المحصنة من الاعتداء على المحتوى المعلوماتي سواء من داخل المنشاة او خارجها ، المنسجمة من حيث طريقة الاداء والمخرجات مع المستقر والسائد من معايير ومواصفات تقنية ، المؤهلة للاستمرار في العمل دائما دون انقطاع او خلل ، القائمة على افتراض حصول الخلل والحاجة للبدائل الطارئة لتسيير العمل .
واذا كان ثمة اهتمام لدى المؤسسات المالية بحداثة النظم ودقتها وكفاءتها من حيث السرعة وسعات التخزين ، فان الاهتمام بامن النظم وامن المعلومات لا يسير بالقدر ذاته ، ربما لما يشهده قطاع امن المعلومات من تطور بالغ وتغيرات متتالية ليس في الوسائل المعتمدة لتوفير امن المعلومات فحسب بل بالنظريات التي يرتز عليها امن المعلومات .
ان تجربتنا البحثية المتواضعة ، والحالات العملية التي تعاملنا معها اظهر غياب استراتيجيات شاملة ودقيقة للتعامل مع امن نظم المعلومات والبيانات المتبادلة ، اذ تنطلق كثير من خطط حماية البيانات ووسائل تبادلها من نماذج مستوردة قد لا تراعي خصوصيات المنشاة وخصوصيات القواعد المعلوماتية فيها وخصوصيات التوظيف ومحدداته والثقافة السائدة ، لهذا كانت انجح الاستراتيجيات تلك القائمة على تطوير وسائل الامن الداخلية المراعية للاعتبارات المذكورة ، ولا نبالغ ان قلنا ان احد اهم اسباب فشل وسائل حماية نظم وامن المعلومات حتى في المنشآت الكبرى يرجع الى عدم ادراك الاحتياجات الواقعية للمنشأة وعدم مراعاة تباين النماذج الجاهزة مع الواقع الفعلي للمؤسسة .
ويرتبط بكفاءة النظم كفاءة المتعاملين معها وكفاءة مزودي الخدمات المتصلة بها داخليين كانوا ام خارجيين عن المنشأة ، ومن هنا تكمن أهمية وظائف مستشاري النظم ومراقبي الأداء ووظائف مطوري النظم المناط بهم التواصل مع كل جديد والانفتاح على احتمالات الفشل والإخفاق بنفس القدر من الانفتاح على احتمالات النجاح والتميز .
2-1-3 مشكلات التوثق من شخص المتعاقد .
عالجنا في اكثر من دراسة من الدراسات المنشورة في الاعداد السابقة من مجلة البنوك في الاردن مسائل التوثق من شخصية المتعاقد ومشكلاتها التقنية والقانونية ضمن معالجتنا لموضوعات التجارة الالكترونية والبنوك الالكترونية ، ولا نكرر في هذا المقام ما سبق لنا ايراده ، لكننا نكتفي بالاشارة الى مسائل تتصل بالاثبات في الاعمال المصرفية .
ان التوثق من شخص المتعاقد مرتكز تقنيات العمل المصرفي كافة ، اذ لا أداء لأية عملية ولا مقبولية لانفاذ أي طلب دون تحقيق ذلك ، وسواء اختير الرقم السري او التوقيع الرقمي او التشفير، او اختيرت وسائل إثبات الشخصية الفيزيائية او البيولوجية او الرقمية او نحوها ، ودون الخوض في أي من هذه الوسائل اكثر نجاعة او كفاءة او موثوقية ، فان الاهم تخير وسيلة تقنية تفي بالغرض ، تحقق الارتياح في الاستخدام من طرف المتعامل ومن طرف القائمين بالعمل ، وتتلاءم مع البناء القانوني السائد ( البندين 4 و5 ادناه ) .
2-1-4 مشكلات المعايير القانونية للإيجاب والقبول .
ان التعاقد الالكتروني يتطلب التزام معيار قانوني معين لتحديد احكام الايجاب والقبول في البيئة الالكترونية وتوقيت اعتبارهما كذلك قانونا وتحدي المكان المعتبر للتعاقد ، وهذه مسائل على قدر كبير من الاهمية في حالة المنازعات ، لانها تتعلق بمدى قبول النظام القانوني لوجود التعاقد ابتداء وموقفه من الزامية الايجاب وما اذ كان القبول قد صدر صحيحا ام لا ، الى جانب تحديد القانون المطبق على النزاع والمحكمة المختصة بنظره تبعا لعناصر التنازع الزماني والمكاني . ان التعاقد الالكتروني ومسائل الايجاب والقبول ، ومعايير اعتبارها في حقل المراسلات الالكترونية والعقود على الخط والعقود النموذجية غير الموقعة كرخص البرامج وغيرها ، اكثر مسائل البحث القانوني اثارة للجدل خلال العشرة اعوام الاخيرة لدى الهيئات والمنظمات الدولية والاقليمية الساعية لتنظيم الاعمال الالكترونية ، والتوجه العام الذي عكسه القانون النموذجي لمنظمة اليونسترال ( الامم المتحدة ) ليس الا قاعدة عريضة يبنى عليها التدبير القانوني المناسب للنظام القانوني المعني ، هذه القاعدة تقوم على اساس احداث تساو في القيمة بين العقود التقليدية والعقود الالكترونية ، بين وسائل الاثبات المؤسسة على الكتابة والتوقيع المادي وبين المراسلات الالكترونية والتواقيع الرقمية ، لكن هذه القاعدة لم تمنع الكثير من الخلافات والتناقض ، ولان المقام ليس استعراض الاتجاهات الدولية ، وانما التاكيد على ان بيئة التعاقدات والاعمال الالكترونية – ويرتبط بها مسائل الاثبات بالرسائل والوسائط الالكترونية – لا يمكن ان تتحقق دون توفر معايير قانونية واضحة وجلية والى ان يتحقق ذلك تظهر الاهمية الكبيرة لبناء الوثائق العقدية للاعمال المصرفية ، اذ يتعين ان تراعي هذه الوثائق غياب المعايير فتتحول بذاتها الى قانون المتعاقدين وان تراعي عناصر اساسية تتجاوز المشكلة اهمها تحديد القانون المطبق وجهة الاختصاص القضائي . وتركز ضمن اهم ما يتعين ان تركز عليه على التوجه نحو طرق التقاضي البديلة التي تجيز التحرر من كثير من القيود القانونية القائمة ، ولعل التحكيم والمفاوضات والوساطة وغيرها من طرق فض المنازعات خارج المحاكم الانسب للنشاط المصرفي وتعدو ضرورية للاعمال المتصلة بالعلاقات القانونية في البيئة الالكترونية والمعلوماتية .
2-1-5 مشكلات الإقرار بحجية الوسائل الالكترونية في الإثبات .
اتجاه دولي عريض نحو الاعتراف بحجية المراسلات الالكترونية بمختلف انواعها والاعتراف بحجية الملفات المخزنة في النظم ومستخرجات الحاسوب والبيانات المسترجعة من نظم الميكروفيلم والميكروفيش ، وحجية الملفات ذات المدلول التقني البحت ، والاقرار بصحة التوقيع الالكتروني وتساويه في الحجة مع التوقيع الفيزيائي والتخلي شيئا فشيئا عن اية قيود تحد من الاثبات في البيئة التقنية ، والسنوات القليلة القادمة ستشهد تطورا ايضا في الاتجاه نحو قبول الملفات الصوتية والتناظرية والملفات ذات المحتوى المرئي وغيرها .
في خضم هذه البيئة المفعمة بالتغير اتجه المشرع الاردني نحو قبول الوسائل الالكترونية كبينة في الدعاوى المصرفية ، وقد عالجنا في العدد السابق موقف قانون البنوك الجديد وما قرره في هذا الصدد ، ولا نكرر ما قلناه مكتفين بالاشارة الى ان المشكلة لا تزال تكمن في التعاطي الجزئي مع تدابير عصر المعلومات التشريعية ، ومع التأكيد على تفهمنا للواقع وتقديرنا العالي لما ينجز الا ان قانون البينات واحكام التعاقد المدني والتجاري تظل حجر اساس تعكس مدى تفهمنا لمتطلبات عصر المعلومات .
2-2 اتجاهات الحلول والتدابير القانونية المقارنة والتجربة الاردنية للتعامل معها .
حين نعلم ان لجنة الامم المتحدة لتوحيد القانون التجاري قد بدات اعمالها منذ عام 1985 لتغطية مسائل المراسلات الالكترونية والتعاقدات الالكترونية وحجية مستخرجات الحاسوب والتجارة الالكترونية والتواقيع الرقمية ، وانها حتى الوقت الحاضر لا تزال في خضم المعركة ولم تنجز الا جزءا من المطلوب انجازه للتعاطي مع مشكلات الاعمال الالكترونية ، فاننا سندرك حجم العمل المطلوب انجازه .
وليس من باب التقييم ، سواء لجهة المدح او الانتقاد ، نقول ان التجربة الاردنية في اعقاب اطلاق مبادرة ( Reach ) الخاصة بقطاع تقنية المعلومات الاردني ، اظهرت اصرارا نحو تبني استراتيجية سليمة في التعامل مع تحديات القانون في عصر التقنية ومن ضمنها البنوك الالكترونية والتجارة الالكترونية وغيرها ، اذ يشهد المتابع انه قد اجريت ضمن انشطة برنامج امير وانشطة جمعية انتاج وضمن خطة المبادرة المشار اليها دراسات قانونية لعدد من التشريعات الاردنية ذات العلاقة وجرى تحليل موقفها من تحديات الاعمال الالكترونية ، واقترحت التوصيات اللازمة للتعاطي معها ، وهو جهد مثمن ومقدر عاليا سواء للجهة المشرفة او المنفذة ، لكن التعاطي مع نتائج هذه الدراسة لا يزال في اضيق من اطاره المطلوب ، كما ان الجهد لا بد ان يتكامل بمزيد من الدراسات البحثية ، واذا كانت التوجهات لدى الفريق العامل بخصوص المسائل القانونية اعتماد الدليل التوجيهي للاتحاد الاوربي بشان التجارة الالكترونية واعتماد القانون النموذجي لليونسترال اساسا لسن تشريع اردني في حقل التجارة الالكترونية موقف متصور في ضوء اتجاه عدد من الدول المتقدمة والنامية الاخرى ، لكنه لا يمكن ان يكون موقفا مكتملا دون تقدير الحاجة الى نصوص وقواعد تتفق مع معطيات الخصوصية الاردنية وربما نقول الخصوصية العربية من حيث مرتكزات وقواعد النظم القانونية العربية ، ولنا في تجربة جنوب افريقا مثلا نموذجا يحتذى في التعامل مع المسائل القانونية للتجارة والبنوك والحكومة الالكترونية ، فهي وان اتخذت من النماذج الدولية والاقليمية اساسا للعمل لكنه ترافق مع انشطة بحثية واعمال للجان متخصصة كل في حقلها اقله لان النماذج الدولية والاقليمية لا تغطي كل الموضوعات القانونية ، اذ لا تغطي النماذج مثلا مسائل الخصوصية والملكية الفكرية ومن البيانات والاختصاص القضائي وغيرها .
2-3 الادلة المعلوماتية في المواد الجنائية .
مع ازدياد الاعتماد على نظم الكمبيوتر والشبكات في الاعمال اثيرت ولا تزال تثار مشكلة امن المعلومات ، أي حماية محتواها من انشطة الاعتداء عليها ، سواء من داخل المنشاة او من خارجها ، وانماط الاعتداء عديدة تبدأ من الدخول غير المصرح به لملفات البيانات الى احداث تغيير فيها وتحوير بمحتواها او اصناع بيانات وملفات وهمية ، او اعتراضها اثناء نقلها ، او تعطيل عمل النظام ، او الاستيلاء على البيانات لاغراض مختلفة او احداث تدمير او احتيال للحصول على منافع ومكاسب مادية او لمجرد الاضرار بالاخرين وحتى لاثبات القدرة واحيانا مجرد انشطة تستهدف المزاح الذي سرعان ما يكون عملا مؤذيا يتجاوز المزاح.
والحماية من هذه الاعتداءات واثبات قدرة النظام على التعامل الآمن مع البيانات يثير مشكلات اجرائية عديدة في معرض تفتيش نظم الحاسوب او تقديم الدليل في الدعوى الجزائية ، طبعا في النظم القانونية التي تنص على تجريم افعال الاعتداء على المعلومات – انظر دراستنا جرائم الكمبيوتر المنشورة في مجلة البنوك في الاردن خلال عام 1999 – ، وحيث ان هذه الدراسة تتناول الاثبات ، فان من مقتضى وموجبات الموضوع التعرض للاثبات في الدعاوى الجزائية باستخدام الادلة ذات الطبيعة التقنية طبعا في حدود المساحة المتاحة مع الاشارة الى حاجة الموضوع لدراسة شاملة اكثر تخصصا .
2-3-1 الطبيعة الخاصة بالادلة في جرائم المعلوماتية .
القاعدة في الدعاوى الجزائية جواز الاثبات بكافة طرق الاثبات القانونية ، والقيد على هذه القاعدة ان الدليل يتعين ان يكون من الادلة التي يقبلها القانون ، وبالتالي تظهر اهمية اعتراف القانون بالادلة ذات الطبيعة الالكترونية ، خاصة مع احتمال ظهور انشطة جرمية عديدة في بيئة الاعمال والتجارة والبنوك الالكترونية .
والمعلومات ، وان كانت قيمتها تتجاوز شيئا فشيئا الموجودات والطاقة ، فانها ليست ماديات لتقبل بينة في الاثبات ، ووسائط تخزينها – غير الورق كمخرجات – لا تحظى ( من حيث محتواها ) بقبولها دليلا ماديا ، من هنا كان البحث القانوني في العديد من الدول يتجه الى الاعتراف بالحجية القانونية لملفات الكمبيوتر ومسستخرجاته والرسائل الالكترونية ذات المحتوى المعلوماتي ليس بصورتها الموضوعة ضمن وعاء مادي ولكن بطبيعتها الالكترونية المحضة .
المشكلة تكمن في القواعد المخزنة ، في صفحات الفضاء الالكتروني ، في الوثيقة الالكترونية اذ ما تحتويه من بيانات قد يكون الدليل على حصول تحريف او دخول غير مصرح به او تلاعب او … الخ ، فكيف يقبلها القضاء وهي ليست دليلا ماديا يضاف الى الملف كالمبرز الخطي او ( محضر ) اقوال الشاهد او تقرير الخبرة ، ولتجاوز هذه المشكلة يلجا القضاء الى انتداب الخبراء لاجراء عمليات الكشف والتثبت من محتوى الوثائق الالكترونية ومن ثم تقديم التقرير الذي يعد هو البينة والدليل وليس الوثائق الالكترونية ، لكنه مسلك تأباه بعض النظم القانونية عوضا عن معارضته لاسس واغراض اجراء الخبرة وطبيعتها كبينة تخضع للمناقشة والاعتراض والرفض والقبول .
لقد اتجه الاتحاد الاوروبي منذ منتصف الثمانينات الى توجيه مشرعي دول اوروبا لاقرار حجية الوثائق الالكترونية ومساواتها بالوثائق الكتابية من حيث الحكم ، والاهم من ذلك التوجيه بعدم اشتراط ان تبرز من قبل منظميها والاستعاضة عن ذلك بشهادات خطية صادرة عن الجهات مالكة النظم او جهات وسيطة ، لما ظهر عمليا من مشكلات أبرزها ان جانبا من المعلومات لا يدخلها او ينظمها الأشخاص وانما يخلقها الجهاز نفسه ضمن عمليات المعالجة وفي اطار تقنيات البرمجيات القائمة على الذكاء الصناعي .
2-3-2 مشكلات التفتيش والضبط .
ان تفتيش مسرح الجريمة وما يتصل به من اماكن وضبط المحرزات ذات العلاقة بالجرم امور نظمتها قوانين الاصول ، ويثور التساؤل حول مدى انطباق القواعد القائمة على حالة تفتيش نظم الكمبيوتر وقواعد البيانات ، ليس ذلك فحسب ، بل تثير اهمية الخبرة في هذا الحقل اذ كما يرى احد اشهر محققي التحقيقات الفدرالية الامريكية ان الخطا في تفتيش وضبط الدليل قد يؤدي الى فوات فرصة كشف الجريمة او فوات فرصة الادانة حتى مع معرفة الجاني ؟؟؟
ان تفتيش نظم الحواسيب تفتيش للفضاء الافتراضي واوعية التخزين ، تفتيش للاجراءات التي يحفظها الجهاز ان كان مزودا بحافظات الكترونية للعمليات المنجزة عبره ، وهو امر يتعلق بالقدرة على تحديد المطلوب مسبقا وليس مجرد سبر غور نظام الكتروني ، لان التعامل وفق المسلك الاخير قد يكون له عواقب قانونية اهمها بطلان الاجراءات لانها خارج نطاق امر التفتيش والضبط او قد تنطوي الاجراءات على كشف خصوصية البيانات المخزنة في النظام ( بند 3 تاليا ) .
2-3-3 مراعاة الخصوصية والقواعد الدستورية لضمانات المتهم المعلوماتي .
البيانات المخزنة داخل النظم ليس جميعا تتصل بجريمة الاعتداء على النظام ، منها بيانات خاصة واخرى ذات قيمة استراتيجية ، لهذا اهتم الخبراء القانونيون بمخاطر الاعتداء على الخصوصية او الحياة الخاصة في معرض الكشف عن الدليل او في معرض الاقرار باستخدام دليل ذي طبيعة الكترونية .
وفي دولة ليس ثمة بعد قواعد لحماية الخصوصية سواء من حيث تنظيم اعمال جمع وتخزين ومعالجة ونقل البيانات ، او من حيث حقوق الدخول اليها وحق اصحابها بسلامتها وصحتها وتعديلها ، او من حيث اقرار الحمايات الادارية التنظيمية والمدنية والجزائية لهذه البيانات ، يكون ثمة صعوبة في حماية الخصوصية ويكون ثمة احتمالات اكبر لاهدار الادلة غير القانونية ونشوء نزاعات في هذا الحقل .
ان النظم القانونية المقارنة وفي الوقت الذي تحركت فيه نحو حماية المعلومات واقرار حجية الادلة ذات الطبيعة التقنية اتجهت ايضا من زاوية اخرى لاقرار ضمانات دستورية للمتهم المعلوماتي وضمانات اجرائية لكفالة سلامة اجراءت الملاحقة الجزائية في الدعاوى المتصلة بالمعلومات ونظم الكمبيوتر . ابرزها الحق بالخبرة المقابلة للخبرة المجراة من النيابة ، والحق بعدم اجراء اية عمليات ضبط وتفتيش على نظم الكمبيوتر دون حضور المعني او من يمثله قانونا .
واذا كانت الخصوصية وسرية البيانات امر ذو اهمية بالغة في شتى المواقع والقطاعات فانها تكتسي اهمية اوسع في القطاع المصرفي ، مرد ذلك التزام البنك القانوني بالحفاظ على السرية واحترام الخصوصية وتحمله مسؤوليات الإفشاء بالسر المصرفي .
2-3-4 نطاق الافشاء وصلاحيات الاستشهاد في دعاوى المعلوماتية .
ان من اكثر المسائل جدة في حقل الابعاد الاجرائية لدعاوى المعلوماتية في نطاقيها الحقوقي والجزائي ، مسالة نطاق الافشاء بالمعلومات المطلوب او الجائز للشاهد المعلوماتي – ان جاز التعبير ، فالشاهد يشهد فيما شهد بذاته او قال او علم ، لكن الامر في دعاوى المعلوماتية مختلف ، اذ ثمة نظام معين للمنشأة وثمة اعمال لا تتصل بالشاهد بذاته بل ربما لا تتصل بشخص طبيعي وقد تكون متصلة بنظام الكتروني او نحوه ، كما ان الشاهد يعلم الكثير وجزء مما يعلم واقع ضمن اطار الخصوصية والسرية .
ان التنظيم القانوني للواعد الاجرائية والاثباتية في الدعاوى المعتمدة على ادلة معلوماتية او تتصل بعوالم التقنية والالكترونيات يجب اعادة توصيفها قانونا بل وتنظيمها بشكل لايضع الشاهد موضع المساءلة ولا يحرم القضاء فرصة الافادة من شهادة الشاهد في سبر غور الحقيقة التي تتوقف في احيان كثيرة على ما يعلمه الشاهد بالخبرة النظرية لا ما يعلمه بالواقع من حقائق رآها او سمعها او نقلت له .
الخلاصة :-
في العجالة المتقدمة سعينا لاثارة جملة من التساؤلات بشان ما يمكن تسميته الاثبات الالكتروني ، وهو في الحقيقة الاثبات بالوسائل الالكترونية من رسائل الكترونية وتعاقدات الكترونية ومستخرجات الحاسوب وبينات وادلة ذات طبيعة تقنية .
في عالم يعلي قيم المعلوماتية ويسعى للافادة منها ، يتعين ان نظل متيقظين لما يتعين علينا التعامل معه ، اننا الان مضطرين – كما يبدو – ان نتعامل مع النماذج التشريعية القائمة او لنقل الجاهزة كما حصل في حقل تشريعات الملكية الفكرية ، في حين كانت الفرصة امانا لانتاج معارفنا الخاصة ، ولاننا – كاردن – بدانا بداية موفقة في حصر الواقع التشريعي المتصل بالتجارة الالكترونية والبنوك الالكترونية والحكومة الالكترونية حين اسندت المهمة لفريق عمل حقق انجازا طيبا ، فان الخطوة التالية انتاج تشريعات توافق احتياجاتنا تعكس تعاملا موضوعيا ومعمقا مع افرازات عصر التقنية .
اترك تعليقاً