حـق الانتخاب في القانون السوري
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
تشهد سورية هذه الأيام استحقاقا دستوريا جديدا يتمثل في انتخابات مجلس الشعب للدور التشريعي الثاني. ولما كان حق الانتخاب أو التصويت هو أبرز الحقوق المدنية والسياسية وأحد الركائز الأساسية للديمقراطية الحديثة، اعتمد كبديل مناسب لتمثيل الشعب بعد تعذر ممارسة الديمقراطية المباشرة. بدأ استعمال مصطلح حق الاقتراع أو التصويت لدى الشعوب القديمة عندما كان التصويت ممنوعاً على مجموعات كثيرة لأن أعضائها لم يكونوا رجالاً أحراراً حيث كان محصوراً بطبقات اجتماعية معينة، كالأغنياء أو ذوي المستوى التعليمي المحدد، كما كان الحال في فرنسا قبل عام 1848، أو حصره بمن يجيد القراءة والكتابة، أو بمن يحسن تفسير الدستور، كما كان حال الزنوج في أميركا في القرن التاسع عشر، وذلك بهدف إبعاد فئات معينة من ممارسة هذا الحق أو السماح لفئات أو لطبقات محددة بالتمتع به.
خضع حق الانتخاب لعملية تطور من خلال الممارسة العملية والسياسية أوصلته إلى مفهومه الحالي، حيث أصبح يمارس ضمن شروط وقواعد أبرزها؛ العمومية والاختيارية والسرية، والتي يرى فيه بعض الفقه الدستوري أحد الحقوق الطبيعية. فلا يمكن سحبه من الشعب على حد تعبير جان جاك روسو إنطلاقاً من مبدأ السيادة الشعبية، بينما يرى فيه البعض الآخر نوعاً من الواجب الملزم قانوناً، كما حصل في العديد من الدول الديمقراطية التي اعتمدت التصويت الإلزامي، أبرزها بلجيكا واستراليا >وقد جمع فريق ثالث بين الرأيين إذ رأى فيه نوعاً من الواجب والحق في نفس الوقت.
وبقي حق الانتخاب محصوراً بالرجال دون النساء حتى القرن العشرين حيث بدأ السماح للنساء بالمشاركة بحق الانتخاب بدءاً بالولايات المتحدة الأميركية عام 1918، وفرنسا عام 1945، وفي سورية عام 1950، ليصبح في نهاية القرن العشرين ظاهرة شائعة في العديد من دول العالم بعد أن وضعت له آليات التطبيق ونظمت القواعد الضرورية لحمايته. ونجد أن هناك حوالي /108/ دول من أعضاء الأمم المتحدة تنص دساتيرها على حق المواطنين باختيار ممثليهم السياسيين؛ بعض هذه الدول نصت دساتيرها على قواعد انتخابية مفصلة، وبعضها الآخر أعلن هذا الحق كحق أساسي تاركاً للقوانين وضع القواعد التفصيلية التي تنظم ممارسته وحمايته، كما هو الحال في سورية، بعد أن كرّس كأحد الحقوق الأساسية في “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” ـ الذي أكد في المادة 21 منه على حق الناس في المشاركة في سياسة شؤون بلدهم مباشرة أو عبر ممثلين يتم إختيارهم بحرية ـ معتبراً أن الانتخاب يعبر عن الإرادة الشعبية. وفي الفقرة الثالثة نص الإعلان على الصفات أو الخصائص التي يجب أن يتمتع بها حق الانتخاب وهي “الدورية، النزاهة، العمومية، المساواة، والسرية .”وهذه الأسس أو الركائز التي قامت عليها قوانين الانتخاب تعد معايير عالمية وردت في المادة 21 من “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، وتم تكريسها في المادة الخامسة من “العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية” وتلخص بـ:
1- نزاهة الانتخابات،
2- دورية الانتخاب،
3- عمومية الاقتراع العام،
4- المساواة بين الناخبين،
5- التصويت السري،
6- التعبير الحر عن إرادة الناخبين.
والتي أخذ بها جميعاً المشرّع السوري عند النص على حق الانتخاب في الدستور، مُحيلاً تنظيم العملية الانتخابية إلى قانون الانتخابات الذي صدر عام 2014 بالقانون رقم (5).
فالدستور نص في المادة 49 منه، على حق الانتخاب المباشر والسري في مقدمة الدستور كواحد من الحقوق والحريات فأصبح حقاً أساسياً وواجباً، وأصبح للناخبين حرية الاختيار في ممارسة هذا الحق أو التخلي عنه، كما هو الحال في الأكثرية الساحقة من الدول التي تعتبر الانتخاب حقاً قانونياً ولكن لم يعتمد مبدأ الانتخاب الإلزامي، وبعد أن كرس الدستور حق الانتخاب كواحد من الحقوق الأساسية، أحال إلى قانون الانتخاب وضع القواعد والتفاصيل لممارسة هذا الحق، وفق المعايير العالمية، والتي تتجلى في النقاط التالية:
أولاً- نزاهة الانتخابات:
نزاهة الانتخاب كانت أول المعايير التي نص عليها القانون الذي يعتبر أن أعمال الرشوة التي يقوم بها المرشح، أو التي تتم بمعرفته وموافقته من دفع مال أو تقديم طعام وشراب أو تأمين وسائل نقل للناخبين لا تبطل الانتخاب فحسب، بل ويُعاقب عليها. كما أن القانون تضمن نصوصاً تمنع كل عمل أو وسيلة غير مشروعة تسيء إلى حرية الاقتراع وتمس بمبدأ المساواة بين الناخبين, مثل تقديم وسائل النقل وإقامة الولائم ودفع المال والوعود بالوظائف. وقد أناط القانون الإشراف على نزاهة العملية بالقضاء من خلال لجنة تسمى اللجنة القضائية العليا للانتخابات.
ثانياً- دورية الانتخاب:
تعتبر دورية الانتخابات الناتجة عن مبدأ تداول السلطة، من أبرز خصائص النظم الديمقراطية والتي جاءت على أنقاض الملكية الوراثية، فاتحةً المجال للتبديل في العملية السياسية لإتاحة المجال أمام تقدم الشعوب وتطورها. هذه الدورية أصبحت من ركائز قوانين الانتخاب والسلاح الفعال بيد الشعب للتمكن من تغيير سلطاته السياسية ضمن مدة معقولة، ولمراقبة وتجديد وتطوير مؤسساته السياسية. وقد جاءت الدورية نتيجة تسوية ما بين الطموح الديمقراطي بوضع المنتخبين تحت الرقابة المستمرة للناخبين، وما بين إعطائهم الفرصة الكافية لاكتساب الخبرة وإبراز كفاءاتهم. واعتمدت سورية مبدأ الدورية منذ الاستقلال وقد حددت كل قوانين الانتخاب فيها مدة ولاية المجلس بأربع سنوات.
ثالثاً- عمومية الاقتراع:
يشكل الانتخاب العام المعيار العالمي الثالث من معايير حق الانتخاب، ويقصد به النظام الانتخابي الذي يسمح لجميع المواطنين بممارسة حق الانتخاب، واشتراكهم بالتالي في عملية إسناد السلطة ضمن شروط عامة وقيود واضحة وموحدة، مثل السن والجنسية والأهلية القانونية. وتماشياً مع هذا التطور الديمقراطي في معظم الأنظمة السياسية، اعتمد الدستور السوري صراحة نظام الاقتراع العام، حيث لم يشترط لا كفاءة علمية ولا ثروة مالية على ممارسته، إنما أعطي هذا الحق لكافة السوريين على السواء. وكرّس الدستور هذا المعيار في المادة 49 منه، عندما نص على أن: “الانتخاب والاستفتاء حق للمواطنين وواجب عليهم وتُنظم ممارستهما بقانون”.
وقد أوضحت مواد قانون الانتخاب الشروط التي يتوجب توفرها في الناخب، وهي:
1ـ الجنسية:
يقتصر حق الانتخاب على مواطني الدولة لجهة المبدأ، حيث تفرض الدساتير شرط الجنسية لأنها الرابطة القانونية والسياسية بين الفرد والدولة. وهذه الرابطة تشكل الشرط الطبيعي لممارسة الحقوق السياسية، فلا يزال حق الانتخاب على المستوى العالمي محصوراً بمواطني كل دولة؛ أي الحائزين على جنسية هذه الدولة.. مع أن بعض الدول تمنع المجنسين الجدد من ممارسة حقوقهم السياسية بالكامل، إلا أن القانون في سورية يسمح لمن اكتسب الجنسية السورية منذ عشرة أعوام ممارسة حق الانتخاب والترشيح.
2ـ السن:
تطور هذا الشرط كما تطورت شروط الانتخاب الأخرى، فبعد أن كان سن الانتخاب في أوروبا يتجاوز الـ30 عاماً، أي سن النضج، عمدت الدول الديمقراطية إلى تخفيفه إلى 21 عاماً ثم إلى 18 عاماً، لتدمج سن الرشد السياسي بسن الرشد المدني، كما هو الوضع في سورية، حيث نصّ الدستور على ذلك بالمادة 59 منه، والمادة 4 من قانون الانتخابات.
3ـ الأهلية المدنية:
إضافة إلى حيازة الأهلية السياسية فإن الدساتير وقوانين الانتخاب تفرض أن يكون الناخب متمتعاً بكامل حقوقه المدنية. لذلك يُحرم المرضى العقليين والسفهاء والمحجور عليهم من ممارسة حق الانتخاب مؤقتاً حتى تزول عنهم الحالة الموجبة للمنع. كما أن القانون في المادة 5 يحرم بعض المجرمين المحكوم عليهم بجرائم عادية أو أخلاقية من ممارسة حقوقهم السياسية لفترة معينة، كنوع من الجزاء الاجتماعي لخرقهم بعض قوانين المجتمع. وفي ضوء التعديل الجديد لقانون الانتخابات أصبح من حق العسكريين ممارسة حق الاقتراع دون حق الترشيح.
رابعاً- المساواة بين الناخبين:
بعد إلغاء التصويت التعددي الذي يسمح بممارسة الناخب لحقه في التصويت بصفات متعددة، أصبح مبدأ “مواطن واحد، صوت واحد” مبدأً عالمياً، ويعني أن يعطى لكل صوت القيمة المتساوية مع أصوات باقي المواطنين.
خامساً- سرية الانتخاب:
سرية التصويت مبدأ انتخابي أو معيار عالمي لحق الانتخاب تضمنه كافة الدساتير الديمقراطية الحديثة. هذا المبدأ الذي يسمح للناخب بأن يختار من يريد دون خوف أو إكراه أو إغراء، يتمثل اليوم بدخول الناخب إلى مكان عازل يمنع اطلاع الغير على الأسماء المختارة. وقد أقر هذا المبدأ في فرنسا عام 1871، وفي بريطانيا عام 1872. ويعتبر قاعدة انتخابية حديثة العهد نسبياً، لأن التصويت في السابق كان يتم بشكل علني، وكانت العلنية تتمتع بتأييد عدد من الفقهاء والفلاسفة؛ مونتسكيو مثلاً كان يعتبر أن علنية التصويت هي من القوانين الديمقراطية لأنها تسمح بتوعية الناخبين الأميين، وجون ستيوارت ميل كان يرى أن علنية الانتخاب تعلم الناخبين على تحمل مسؤولياتهم المدنية والسياسية.
لكن هذه العلنية التي جاءت نتيجة مستوى ثقافي معين من الديمقراطية كانت تؤدي إلى امتناع الكثير من الناخبين عن المشاركة خوفاً من عقوبات قد تفرض عليهم إذا ما جاءت مخالفة لإرادة أصحاب النفوذ، إضافة إلى ما كانت تتم به من صفقات لشراء الأصوات وإفساد لجوهر العملية الانتخابية، مما كان يشكل إساءة للديمقراطية وتكريساً لنفوذ القوى المهيمنة التي كانت تغلف ديكتاتوريتها بشكل ديمقراطي. لهذا بدأت الدول بالتخلي عن العلنية من أجل ضمان حرية الناخب في اختيار مرشحيه بعيداً عن الضغوطات ووسائل الترغيب والترهيب وحثّه على التصويت في الاتجاه الذي يريد.. وهو ما نصّ عليه الدستور السوري في المادة 57، وكذلك في المادة 3 من قانون الانتخابات.
سادساً- التعبير الحر عن إرادة الناخبين:
يشكّل التعبير الحر عن إرادة الناخبين المعيار الأخير من المعايير التي فرضها القانون الدولي والتي تشكل حلقات ضمن دائرة، إذا قطعت أي منها أفسدت ديمقراطية الانتخاب وفقدت العملية الانتخابية دورها كوسيلة أساسية من وسائل الديمقراطية التمثيلية. ويصعب وضع تعريف مستقل لمعيار التعبير الحر كونه يتداخل مع المعايير الأخرى، وخاصة مع معيار نزاهة الانتخابات؛ فمفهوم التعبير الحر هو مفهوم نسبي كما هو مفهوم الحرية. وهو معيار لا يمكن توفره إذا لم تتوفر باقي حلقات الدائرة؛ فلا يمكن الحديث عن تعبير حر عن إرادة الناخب إذا لم تتوفر انتخابات نزيهة ودورية وشاملة وسرية وضمن مبدأ المساواة.
وقد حرص قانون الانتخاب السوري على أن يؤمن مزيداً من الضمانات لتمكين الناخبين من التعبير عن رأيهم بحرية، كالضمانات التي توجب فتح صندوق الاقتراع وإحضار الظروف التي فيه، كما تكفل للناخبين وممثلي المرشحين مراقبة عمل لجان القيد وأقلام الاقتراع والتأكد من صحته، وكل ذلك في محاولة لمنح المزيد من الحماية لحرية الناخبين والمرشحين في الاقتراع.
وفي سبيل منع التأثير غير المباشر على إرادة الناخبين في التعبير الحر، أوردَ القانون نصوصاً تحظر توزيع ونشر مخطوطات لصالح المرشحين أو ضدهم يوم الانتخاب، كما حظّرت على كافة وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة تعاطي الإعلان الانتخابي السياسي خلال الحملة الانتخابية حتى إجراء الانتخابات وإعلان النتائج النهائية تحت طائلة التعطيل والإقفال التام بقرار يصدر عن المحكمة المختصة، حيث تنص المادة 113على أنه:
“يعاقب بالحبس من عشرة أيام إلى ثلاثة أشهر وبالغرامة من خمسة وعشرين ألف ليرة سورية إلى خمسين ألف ليرة سورية كل من حصل أو حاول الحصول على صوت ناخب أو حمله على الامتناع من التصويت لقاء مقابل مالي أو بوساطة هدايا أو تبرعات نقدية أو عينية أو وعدٌ بها أو بوظائف عامة أو خاصة أو منافع أخرى قصد بها التأثير في التصويت بشكل مباشر أو غير مباشر”.
من هنا يمكن القول إن قانون الانتخابات السوري جاء منسجماً مع المعايير العالمية التي تنظّم حق الانتخاب, لكن تبقى الممارسة العملية خير برهان على القدرة على التطبيق الحسن لهذه النصوص.
اترك تعليقاً