حقوق المستهلك وتطبيقات حمايته !!
إذا كان المشرِّع الوضعي الغربي لم يضع حماية للمستهلك في قوانينه الوضعية إلا بعد عام 1945م. فإنّ صياغة حقوق المستهلك في الإسلام تمّت في عصر تكوين الرسالة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. لذا، فإن تخلف أكثر النظم الإسلامية المعاصرة في مجال تأصيل حقوق المستهلك وتطبيقات حمايته لا يمثل الاهتمام الحقيقي للفكر الإسلامي. فقد حدّد الإسلام الحقوق التي يتمتع بها الفرد في الدولة الإسلامية تحديداً واضحاً، إذ وجدت أسسها في القرآن والسنة، ثم تولى الفقهاء بيانها وتحديد نطاقها. فهناك حق الله تعالى، وهناك حق العبد، وقيل: الحق ينقسم إلى حق عام وحق خاص، ومثلوا لما سبق: بحق الإيمان، وحق القذف، وحق القصاص، وحق الملكية، وحق الشفعة، وحق الخيار. وتبرز من هذه التقسيمات عناية الفكر الإسلامي بحقوق الفرد، ومن ضمنها حقوقه المتعلقة باستهلاكه.
خاصة أن الفكر الإسلامي قد أفرد للمستهلك ضمن ما يسميه الفقهاء (حقوق العباد) حقوقاً تندرج ضمن الحقوق العينية المالية. إنّ مدلول مصطلح المستهلك يتسع ليطلق على مَنْ يحصل على متطلباته الأساسية أو الكمالية لسد حاجاته الشخصية والأسرية. ذلك لأن عملية الاستهلاك تنصب على التناول الإنساني المباشر للسلع والخدمات لإشباع رغبات الإنسان وحاجاته. ولذا، اعتبر الاقتصاديون الاستهلاك الهدف النهائي من النشاط الاقتصادي. إن الاستهلاك في الإسلام ليس مجرد استهداف لإشباع الغرائز وسد الحاجات الإنسانية، إنه عبادة من العبادات وطاعة من الطاعات وقربة من القرب، وهو تعود فطري حياتي وهو وسيلة مؤدية إلى رضا الله سبحانه، بشرط الإخلاص والنية الصالحة وتحري الكسب الحلال واستهلاك الطيبات والتقوي على عبادة الله ثم العمل المثمر لصالح المجتمع المسلم. يقول تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون)) البقرة/172، وقد قيل إن النية في الاستهلاك تحوله من عادة ومطلب غريزي إلى عبادة يثاب عليها الإنسان.
إن أهم حقوق المستهلك في الإسلام حقه في الملكية الخاصة الفردية، وحريته المنضبطة، وتوفير حد الكفاية له، وحقه في الخيار، وحقه في الضمان، وتوفير نظام لرقابة الأسواق، ودفع أسباب الضرر، وحقه في الحصول على معلومات كافية. فالتملك غريزة فطرية للإنسان، وحقٌ للمستهلك من هذا الباب، بَيْدَ أنه ليس حقاً مطلقاً فالإسلام ينادي بمبدأ الإباحة للتملك، ويضع من القيود والحدود ما يضمن قيام الملكية دون ظلم أو استغلال أو إضرار بالآخرين، فهي مقيدة بالطيبات والمباحات. والحرية الاستهلاكية حق للمستهلك بشرط أن تكون منضبطة، بالتزام الضوابط الشرعية في كسب المال وإنفاقه، فحرية التعامل في الإسلام مقيدة، فلا تصح العقود إلا إذا خضعت للشروط المعتبرة شرعاً. وتوفير حق الكفاية حق للمستهلك، بحيث تصان هيئته باللباس والزِّينة، وأن يكون له سكن مناسب، ووسيلة مواصلات جيدة، وأن ينال من طيبات المطعم والمشرب، قال تعالى ((ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً)) الإسراء/70. وللمستهلك في عمليات البيع والشراء حق الخيار بأنواعه المختلفة: خيار الشرط، وخيار التعيين، وخيار الرؤية، وخيار العيب، وخيار المجلس، وخيار الغبن، وخيار التدليس، وتفصيلات هذه الأنواع يمكن الاطلاع عليها ضمن بحث معاصر موثق للدكتور: يوسف المرصفي، وبحثه بعنوان ((الخيارات في العقود في الفقه الإسلامي)).
إن من يسر الإسلام وسماحته إقراره حق الخيار، رفعاً للحرج وتيسيراً على الناس، وتجنباً لما قد يلحق بأحد المتعاقدين من ضرر وحرج في حالة لزوم العقد، وهذا هو سبب وحكمة تشريع الخيار في الإسلام. ومن أجل حفظ حقوق المستهلك وتوفيرها له، أقرّ الإسلام ضوابط تحمي المستهلك والمشتري من صور التبادل والبيوع والممارسات التسويقية المحرّمة، التي تستغله أو تجعله فريسة لعقد ضاع حقه فيه بسبب غبن أو تغرير أو غرر أو تطفيف أو خداع أو مكر أو احتكار من البائع أو المنتج. ومن ثم فقد دعا الإسلام إلى مجموعة من الضوابط والأحكام الضامنة لحقوق المستهلك في عملية البيع والشراء من مثل:
تجنب الغش والخداع والبعد عن التغرير والتدليس، ومنع الاحتكار. إنّ من حق المستهلك أن يعرف أفضل ما يمكن أن يتاح له من معلومات تتعلق بما ينفق عليه دخله وذلك حتى يكون في إمكانه تحقيق أمثل درجات الإشباع الاقتصادية والنفسية براحة واطمئنان. ومن أهم الجوانب التي تدخل ضمن توفير المعلومات الكافية لاتخاذ قرار المستهلك بشكل سليم:
1ـ وضوح أسعار السلعة المعروضة.
2ـ تاريخ صلاحية السلعة.
3ـ مكونات السلعة.
وقد توصلت دراسة فقهية خاصة بمجال حماية المستهلك في الفقه الإسلامي إلى أنه يجب على كل من يقدم سلعة للمستهلك أن يبيِّن كيفية استعمالها وتاريخ صلاحيتها وإلا كان غشاً محرماً منعه الإسلام. ولأهمية حماية المستهلك في الإسلام، كان على المنتج أن يُعْـلِم المستهلك بالبيانات الخاصة بصفات وخصائص السلعة. إن الإسلام نظام كامل للحياة، يشمل النشاطات التي يقوم بها الإنسان. ويتضح شمول الفكر الإسلامي للاقتصاد خاصة بتجاوزه المنافع المادية أو الجانب المادي لحياة الإنسان، إلى الجوانب المعنوية، سواء جاء ذلك في شكل توجيهات خلقية لنمو حياة البشر، أو جاء في شكل خدمات يصل نفعها إلى الإنسان. لذا، فالإسلام لا يرى حرجاً في سعي الفرد المسلم إلى تكثير ما يحصل عليه من منافع في سلوكه الاقتصادي، بحيث لا إسراف ولا تبذير، ولا ضرر ولا ضرار، ولا ترف ومباهاة. وفي سبيل ذلك وفر الإسلام للمستهلك الضمانات الكافية والحقوق الضرورية والتنظيمات المناسبة ليستطيع توفير الحياة الكريمة له ولأسرته ولمجتمعه وأمته، وليتمكن من تحقيق رفاهيته وإشباع حاجاته الأساسية ويلبى رغباته وطموحاته. أحاول هنا ومن خلال سلسلة من الوقفات أن أتناول أبعاداً مهمة ترتبط بسلوك المستهلك ارتباطاً وثيقاً، وأن أذكّر بحقائق ربما غابت عن الكثيرين، وأن أقدّم توصيات مفيدة في مجال التوعية الاقتصادية المطلوبة في هذا العصر.
الوقفة الأولى: (مفاهيم منتقدة).
أولاً: المستهلك: إن تعريف المستهلك فيه درجة عالية من العمومية، فهو شخص أو أسرة يقوم (أو تقوم) بشراء سلع وخدمات بغرض التحقيق المباشر للإشباع. تمييزاً عن الشراء من أجل إنتاج سلع وخدمات أخرى. فمن غير المعروف مهنة أو طبقة أو وطن أومرحلة هذا الشخص، رجل أو امرأة، ذكي أو أبله، مسلم أو مسيحي، ريفي أو حضري.
ثانياً: الهدف من الاستهلاك: الغرض من الاستهلاك هو تحقيق أكبر قدر من الإشباع أو المنفعة. وفي هذا شيء من العمومية أيضاً، إذ هناك أهداف أخرى للاستهلاك ومنها: غريزة البقاء، اللذة، التباهي والظهور، الأمن، الترفيه.
ثالثاً: العوامل المحددة للاستهلاك: الدخل وسعر السلعة وأسعار السلع الأخرى وذوق المستهلك، كما يقول الاقتصاديون، والسؤال أين العوامل الأخرى، وهي أكثر أهمية، من مثل: الظروف المتعلقة بالدين، والتاريخ والسن، والجو، والمؤسسات والقيم الاجتماعية، والتركيب الطبقي للمجتمع؟!.
رابعاً: اللاعقلانية: الجانب الشيق والجدير بالاهتمام في موضوع الاستهلاك والمستهلك هو اللاعقلانية أي أن سلوك المستهلك الآدمي قد يصيبه الملل أو التعب، أو يكون للمستهلك عادات، وأنه قد يخدع بلون السلعة أو شكل الورق، أو تصميم الزجاجة، أي أن المستهلك الآدمي وحده هو الذي يمكن أن يقع فريسة للإعلان بتوهم وجود علاقة بين السلعة وما تحققه بالنسبة له. هذا الجانب من السلوك اللاعقلاني هو المثير بالفعل للفكر والمستحق حقاً بالاهتمام، وليس ما يقرره الاقتصاديون من أن المستهلك كائن عقلاني عقلانية كاملة، أقرب ما يكون إلى الآلة التي تحسب بدقة كل شيء، بينما هو في الواقع غير ذلك، والسؤال: أين علم النفس الذي يدرس بواعث الإنسان النفسية وآماله من الاقتصاديين ودراساتهم؟!.
الوقفة الثانية: (المستهلكون وعاداتهم الاستهلاكية). إن شريحة كبيرة في مجتمعنا الاستهلاكي لا تتابع بدقة واهتمام وموضوعية مجريات الأحوال السوقية داخل وخارج بلادنا. فمعظم المستهلكين تستهويهم وتثير أحاسيسهم الاستهلاكية عقدة الندرة، فكل شيء نادر، يتسابق الناس لاختطافه من الأسواق. ولذا، عمدت بعض الشركات المنتجة إلى إغراء المستهلك بأساليب عديدة، ومن ذلك: إحلال سلع مماثلة للسلع الأصلية، أقل جودة، وبالطبع أقل سعراً، ليقبل الناس عليها، حتى تزول السلع الأصلية من السوق، وعندها ترفع سعر السلعة المثيلة.
إن الثروة الاستهلاكية والإنتاج الكبير أجبرت المستهلك على التخلي عن ذوقه وقدرته على الاختيار. حتى أصبح خيارنا خياراً عشوائياً، حسب ما يمليه ذوق المصمم، أو حسب النص الإعلاني في التليفزيون، ولا خيار لنا كمستهلكين، ففي بعض الأحيان نشتري بضاعة لا لتلبية حاجة خاصة، بل لأنها ظهرت في إعلان مثير. إن الأسواق الاستهلاكية في منطقة الخليج تتميز بشدة التنافس والحيوية، وتتأثر مبيعات هذه الأسواق بمجموعة من المتغيرات بما في ذلك القوة الشرائية للمستهلك، والمستويات العامة للأسعار، وسمعة العلامة التجارية للسلعة، وتوفر التقنية الحديثة، والإعلان وخدمات الصيانة، وتغير حجم وطبيعة العمالة الأجنبية في المنطقة. ولقد بدأت السلوكيات الاستهلاكية تتغير إما بسبب ثورة المتغيرات والإنتاجية الكبيرة، أو لأننا ننتهج مسلكاً استهلاكياً، لإخفاء شيء معين في نفوسنا كمستوانا المالي أو الثقافي مثلاً.
الوقفة الثالثة: (نصائح موجهة للمستهلكين).
أولاً: أيها المستهلكون، إن الوعي الاستهلاكي محدود، وأنتم في حاجة إلى تنمية هذا الوعي والحرص على فهمه واتقانه.
ثانياً: لابد من تنمية مفهوم العرض والطلب، وكيف أن المستهلك غير الواعي يسهم إلى حد كبير في ارتفاع قيمة السلعة، وأن هناك من المجتمع من لا يفرِّق بين الجملة والتجزئة.
ثالثاً: لابد أن نتحرك معاً في اتجاه واحد لتصحيح أوضاعنا الاستهلاكية، ووسائل التسويق، وكذلك من خلال القنوات المتاحة لنا، للمساهمة في رفع مستوى مفهوم الاستهلاك لدى المستهلكين.
رابعاً: أيها المستهلكون، أنتم في حاجة إلى إعلام استهلاكي واع، يقوم بتعليم أسلوب التعامل مع كل جديد، إعلام خليطٍ من الفن، والحرفية، والتجارة، وشيء من التقنية.
خامساً: إن السوق الآن في حاجة إلى هيئة المستهلكين، والموجودة مثيلاتها في أغلب الدول، ويكون دورها تقديم خدمات إلى المستهلكين والصناعيين والمنتجين والمستوردين، وكذلك وكالات الإعلان، التي تقوم بحملات إعلانية مستمرة للمنتجات.
سادساً: أيها المستهلكون، أنتم في حاجة إلى إقامة جمعية أهلية، لتعميق هذه المفاهيم والمساهمة بشكل إيجابي في هذا الصدد، وإن كان هذا لا يغنينا عن إدارة حماية المستهلك، وعن المبادرات الفردية في هذا الاتجاه. وهذه المناداة بجمعية أهلية للمستهلك سبق وأن أطلقها الأستاذ أبوهاني العبادي بتاريخ 13/8/1409هـ من خلال جريدة الرياض، في الصفحة الخامسة، تحت عنوان ((جمعية أهلية للمستهلك)).
الوقفة الرابعة: (التوعية الاقتصادية للمستهلكين). إن التوعية الاقتصادية ضرورة ملحة، ليتفاعل الناس مع فعاليات الاقتصاد بطريقة إيجابية تخدمهم وتخدم الاقتصاد، ذلك لأن الغالبية العظمى من أفراد المجتمع تفتقر إلى هذه الميزة وتتلهف إلى المعلومة الاقتصادية، والروشتة الاقتصادية والتحليل الاقتصادي، والتي تتمثل في المواطن العادي وصغار رجال الأعمال والمبتدئين.
ولكن: مَنْ المسئول عن التوعية الاقتصادية؟!. إنها مسؤولية فعاليات الاقتصاد في القطاع العام والقطاع الخاص من جهة، وأصحاب الفكر الاقتصادي والأقلام المتخصصة من جهة أخرى. ومعنى ذلك أن قنوات التوعية الاقتصادية يمكن أن تتمثل في الآتي:
التلفزيون: يعتبر من أهم قنوات الإعلام المعنية بالتوعية عامة، والتوعية الاقتصادية خاصة. والذي ينبغي أن يسهم بدور فعّال في إيجاد برامج جادة تسهم في التوعية الاقتصادية.
الصحف والمجلات: من قنوات التوعية الاقتصادية، والذي ينبغي أن تقدم خدمات جليلة في التوعية الاقتصادية، من خلال كتابات وتحليلات أصحاب المقدرة على التحليل الاقتصادي، وحملة أقلام الخبرة الاقتصادية في التعاون لتقديم مادة اقتصادية تحليلية تعالج القضايا الاقتصادية المختلفة المطروحة على الساحات المحلية والعربية والدولية.
الغرف التجارية والصناعية: ومن خلال ندواتها ودوراتها التدريبية وإصداراتها، تمثل خطوات إيجابية نحو إثراء مسألة التوعية الاقتصادية.
جمعيات الاقتصاد المختلفة: تسهم في التوعية الاقتصادية، ولكن ينبغي أن تكون أكثر تواجداً وحضوراً في الساحة الإعلامية الاقتصادية. البنوك التجارية تتحمل مسئولية المساهمة في مسألة التوعية الاقتصادية، وإن كان دورها حتى الآن ضعيفاً.
الجامعات ومراكز البحث العلمي: إن لها دوراً لا ينبغي إغفاله في سبيل المساهمة في خدمة المجتمع من خلال إقامة الندوات والملتقيات والدورات التدريبية لإثارة وعي المستهلك.
المؤسسات التربوية: من معاهد ومدارس: ينبغي أن تلتزم بدورها في مجال توعية الطلاب والدارسين وإيجاد مفاهيم صحيحة وجديدة للاستهلاك والترشيد وتوزع عليهم المطبوعات اللازمة. وبلا شك فإن هناك محاولات جادة وناجحة من جهات أخرى في إثراء مسألة التوعية الاقتصادية.
زيد المستشار الاقتصادي وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً