حقوق المواطنين في تكوين النقابات المهنية في الاردن
حق الأردنيين في تكوين النقابات المهنية / المحامي موسى الأعرج
– يعهد الدستور الأردني إلى المجلس العالي لتفسير أحكام الدستور (المنصوص عليه في المادة (57) من الدستور) بوظيفة تفسير أحكام الدستور، اذا طُلب إليه ذلك بقرار من مجلس الوزراء أو بقرار من مجلس الأعيان أو بقرار من مجلس النواب.
– وتنص المادة (16) من الدستور (فقرة 2) على حق الأردنيين في تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية وتضيف نفس المادة أن القانون ينظم طريقة تأليف هذه الجمعيات والأحزاب (فقرة 3).
– وتوكل المادة (120) من الدستور الى مجلس الوزراء “إصدار أنظمة بموافقة الملك لتحديد كيفية تعيين الموظفين وعزلهم والإشراف عليهم وحدود صلاحياتهم واختصاصاتهم”.
– أصدر المجلس العالي قراره رقم (1) لسنة 1994 (بناء على طلب مجلس الأعيان) القاضي “بأن الأحكام الدستورية لا تجيز إصدار قانون لنقابة المعلمين الموظفين العموميين” ((وسوف يشار إلى هذا القرار فيما بعد بـ “قرار 1/94”)) بعد ان كان المجلس قد أخفق بتاريخ 20/3/1993 بإصدار قرار تفسير في نفس الشأن بناءً على طلب مجلس الوزراء ((سوف يشار إلى ذلك فيما بعد بـ “تفسير 93”)).
– وتأتي هذه الدراسة لإلقاء الضوء على مفاهيم “التفسير” و”الجمعية” و”الوظيفة العامة” وعلى المواد الدستورية ذات العلاقة وعلى ما سبق صدور القرار 1/94، ومحاولة للخروج من مأزق دستوري نشأ عن هذا القرار، خاصة وان المجلس العالي سبق له أن نظر نفس موضوع هذا القرار كما اسلفنا ولم يتوصل إلى قرار.
– ولغايات ذلك فإننا نقسِّم هذه الدراسة كما يلي:-
أولاً: المفاهيم الثلاثـــــة.
1- مفهوم التفسير.
2- مفهوم الوظيفة العامة.
3- مفهوم الجمعية.
ثانياً: المواد الدستورية ذات العلاقة:
1- المادة (16) من الدستور.
2- المادة (120) من الدستور.
3- المادتان (57) و (59) من الدستور.
4- المادة (122) من الدستور.
ثالثاً: قرار المجلس العالي رقم (1/94):
1- مختصر للوقائع.
2- ملاحظات وتساؤلات.
رابعاً: الخلاصــــــــــــة:
1- في الموضـــــوع.
2- خلاصة الخلاصـــة.
أولاً: المفاهيم الثلاثـــــة.
– يُشكل الوقوف على دلالات مصطلحــات “التفسير” و “الوظيفة العامـة” و”الجمعية” مدخلاً لازماً وضرورياً، لأن هذه الدراسة تتمحور حول هذه المصطلحات الثلاثة:
1- التفسيــــر
: يعرف الدكتور توفيق فرج التفسير بقوله “هو تحديد المعنى الذي تتضمنه القاعدة القانونية (بدهي ان القاعدة الدستورية هي قاعدة قانونية باعتبار أن الدستور هو القانون الأساسي) وتعيين نطاقها و ذلك حتى يمكن الاستدلال على ما تضمنته القاعدة وحتى يمكن مطابقتها على الظروف الواقعية التي يثار بصددها تطبيق هذه القاعدة، وأن التفسير التشريعي هو التفسير الذي يقوم به المشّرع نفسه، وقد يصدر التفسير التشريعي عن جهة غير الجهة التي اصدرت التشريع”، أي كالتفسير الذي يصدر عن المجلس العالي لتفسير الدستور أو عن الديوان الخاص لتفسير القوانين، ولعله لا جدال مطلقاً في أن المجلس العالي هو مجلس يُفسّر نصوص الدستور وليس من وظيفته النظر في دستورية او عدم دستورية القوانين او النصوص القانونية، أيّ ليس من وظيفته إعلان ان هذا القانون أو النص يتفق مع الدستور (دستوري)، أو انه يخالف الدستور (غير دستوري)، فهذه وظيفة محكمة دستورية ليست موجودة في البناء القانوني الأردني، وإن كانت محكمة العدل العليا لها إلى درجة كبيرة هذا الإختصاص بصفة غير مباشرة.
2- الوظيفة العامة : وكما تعرفها بعض الدساتير العربية مثل الدستور الكويتي فهي “خدمة تناط بالقائمين عليها ويهدف موظفو الدولة في أداء وظائفهم المصلحة العامة” ويطلق عليها مصطلح Public Service بالإنجليزية، ومصطلح Fonction Publique بالفرنسية، ويسود العالم مفهومان رئيسيان للوظيفة العامة الأول هو المفهوم الفرنسي الأوروبي (ويستمد فكرته من النظام العسكري النابوليوني) وفيه تتصف الوظيفة العامة بالديمومة وتقوم على اعتبار من يشغل الوظيفة (الموظف، مؤهلاته وخبراته)، ويلتحق الموظف بها في مقتبل حياته ، ويتدرج فيها بالترفيع (من درجة الى درجة أعلى) القائم على الأقدمية (عدد سنوات الخدمة) أو على عاملي الأقدمية والاختيار مجتمعين، ويستمر الموظف في الوظيفة حتى يبلغ سن التقاعد، ويخضع اثناء خدمته لتسلسل السلطة الرئاسية، ولكل ذلك اعتبرت الوظيفة العامة بهذا المفهوم (الفرنسي الأوروبي) مهنة كسائر المهن، ويتبنى هذه المفهوم جميع الدول الأوروبية وكافة الدول العربية بما فيها الاردن ومن هنا كانت الوظيفة العامة في الأردن وفي كافة الدول العربية وفي الدول الأوروبية مهنة يتفرغ لها الموظف طيلة حياته العملية، وتتمتع بالإستمرار والاستقرار، وقد ورد النص على ديمومة الوظيفة العامة في المادة 22/2 من الدستور الأردني.
والمفهوم الثاني هو المفهوم الأمريكي للوظيفة العامة (ويستمد فكرته من الفكرة التي قامت عليها الدولة الأمريكية وهي فكرة الشركة) ويقوم هذا المفهوم على مبدأ توقيت الوظيفة وعلى اعتبار الوظيفة نفسها وواجباتها ومسؤولياتها (وليس على اعتبار مؤهلات وخبرات من يشغلها) ويُعبّر عن هذا المفهوم بعبارة Hire & Fire التي مدلولها أن الالتحاق بالوظيفة العامة هو كالالتحاق بوظائف المشروعات الخاصة (الشركات) والمعبرة عن فكرة الاستغناء عن خدمة الموظف في أي وقت.
3- الجمعيــــة : لعل من الواضح أن “جمعية” مشتقة من الثلاثي “جَمَع”، ومن اشتقاقاتها أيضاً “المجتمع” لأنه عبارة عن افراد اجتمعوا على مصالح مشتركة أو جمعتهم مصالح مشتركة، فاجتماع أي فئة من الناس بغية تحقيق هدف مشترك يمكن أن يطلق عليه جمعية وكلمة Assemble الانجليزية وكلمة Assembler الفرنسية وكلمة Associate الانجليزية وكلمة Associer الفرنسية لهما نفس معنى كلمة “جمع” العربية، وكذلك Asscciation الانجليزية و Associes الفرنسية لهما نفس معنى كلمة “جمعية” العربية، وكل من هاتين الكلمتين الانجليزية والفرنسية تعني مجموعة من الأشخاص مجتمعين مع بعضهم لتحقيق هدف عام ويرادف مصطلح الجمعية مصطلح “النقابة” الدارج في معظم الأنظمة العربية القانونية، وكلمة “نقابة” هي اشتقاق من الفعل “نقَبَ” بمعنى بحَثَ، وفي القاموس أن نقيب القوم هو شاهدهم وضمينهم وعريفهم وسيدهم، وسمي بذلك لأنه يُنقّب عن أمورهم أي يبحث عنها (بهدف رعايتها واصلاحها) ومن هنا جاء مصطلح النقابة التي يوكل اليها رعاية شؤون ومصالح فئة معينة من المجتمع تجمع بينهما رابطة مهنية وهو مرادف تماماً لمصطلح جمعية.
ثانياً: المواد الدستورية ذات العلاقة:
1- تنص المادة (16) من الدستور الأردني في فقرتها الثانية على أن للأردنيين حق تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية وفي فقرتها الثالثة على أن القانون ينظم تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية، فما المقصود بمصطلح “الجمعيات” هذا:
أ – تم النص على حق الأردنيين في “تأليف الجمعيات” (دون الأحزاب السياسية) في المادة (11) من القانون الأساسي الأردني لعام 1928 وتم النص كذلك على حق الأردنيين في “تكوين الجمعيات” من المادة (18) من الدستور الأردني لعام 1947.
ب – ويقول العميد الدكتور محمد الحموري أن المادة (21) من الدستور المصري لعام 1923 ((للمصريين حق تكوين الجمعيات….)) مأخوذة حرفياً من المادة (27) من الدستور البلجيكي لعام 1921، وان المادة (16) (فقرة 3،2) من الدستور الأردني الحالي مأخوذة من المادة (21) من الدستور المصري لعام 1923 ونصها “للمصريين حق تكوين الجمعيات وكيفية استعمال هذا الحق يبينها القانون”.
ج – يكاد لا يخلو قانون أساسي أو دستور للأقطار العربية سواءً قبل الاستقلالات أو بعدها من النص على الحق في تأليف الجمعيات، ولم يرد في أي من هذه القوانين الأساسية أو الدساتير النص صراحة على النقابات.
(القانون الأساسي للقطر الطرابلسي وقطر برقة لعام 1919، نظام اساسي حكومة اللاذقية، ونظام اساسي حكومة جبل الدروز 1920، ليبيا 1951، 1963 العراق 1925، مصر 1923، 1930، الكويت 1962، لبنان 1926، السودان 1953، 1956، 1964…….)
د – في جميع الدول الأوروبية التي تعتبر الوظيفة العامة فيها مهنة (وهي تأخذ بمفهوم الوظيفة العامة الفرنسي الأوروربي كما هي الأردن) يوجد نقابات مهنية للموظفين العموميين سواءً كانوا معلمين أو غير معلمين (فرنسا، اسبانيا، اليونان….) وعلاقة الموظف العام بالدولة في هذه الدول هي علاقة لائحية أو نظامية كما في الأردن وسائر الدول العربية يحددها القانون أو النظام، وهذه النقابات هي غير نقابات العمال المصطلح على تسجيلها في أوروبا وامريكا Trade Unions.
هـ- إن مصطلح “نقابة” في الدول العربية يقابله مصطلح “جمعية” في الدول الأوروبية التي تسمى نقابات الموظفين العموميين فيها بـ Associations، فمصطلح “نقابة” يجد جذوره فقط في الثقافة العربية، وقد تجذر بمعنى الجماعة ذات المصالح المشتركة التي تسعى ويسعى نقيبها الى تحقيقها، ففي القرآن الكريم في الاية (12) من سورة المائــدة ((…… وبعثنا منهم أثنى عشر نقيبا…..)) وكما أسلفنا فإن مصطلح النقيب والنقابة مرتبطين بمجموعة أو فئة لها مصالح مشتركة ومرتبطين برعاية هذه المصالح.
و – كما أن مصطلح “الجمعيات” المشار إليه فيما سبق وفي المادة (16) من الدستور هو نص عام ومطلق من النصوص التي تحتمل التأويل، ومن قواعد التفسير أن النص اذا كان كذلك، (عاماً ومطلقاً) فإنه بالإمكان تخصيصه أو تقييده عن طريق القياس باعمال قاعدة من “باب أولى” فإذا كان من حق الأردنيين تأليف الأحزاب السياسية (وهو حق مقرر لكل الأردنيين بما فيهم الموظفين العموميين) فمن باب أولى أن يكون للأردنيين حق تكوين النقابات المهنية فمصطلح “الجمعيات” يدخل فيه مصطلح النقابات، وبالتالي فإن للأردنيين الموظفين العموميين حق تكوين النقابات المهنية.
ز – وقد تضمن قرار المجلس العالي رقم 2/1990 ما نصه “وحيث أن التعامل في تطبيق الدستور الأردني قد جرى على سبيل التكرار وفي عدة دورات استثنائية منذ عام 1948 على جواز إضافة أمور أخرى على ما تضمنه الدعوة الأولى فإن ما يُبنى على هذا التعامل المتكرر أن يشكل ((عرفاً دستورياً وقاعدة صالحة لتفسير النص المطلوب تفسيره)) فوجود قواعد دستورية مكتوبة (دستور مكتوب) لا يعنى بالضرورة عدم إعمال قواعد دستورية عرفية استقرت وترسخت مع تطور المجتمع، بل أن هكذا قواعد تكون أكثر تعبيراً عن ارادة المجتمع الجمعية المتراكمة، وقد استقر منذ اكثر من نصف قرن قيام السلطة التشريعية بسن قوانين تنظم مختلف المهن، أي قوانين النقابات المهنية.
ح – واتساقا مع ما تقدم فإن جميع النقابات المهنية تنظمها قوانين صادرة عن السلطة التشريعية، وأن العديد من اعضاء هذه النقابات هم موظفون عموميون، وقد استقر ذلك منذ أكثر من نصف قرن كعرف دستوري، فلا وجه للقول أنه لا يصح إنشاء نقابة للمعلمين بقانون لأن المعلمين موظفون عموميون، فالمعلمون كغيرهم من أعضاء النقابات المهنية اما ينتمون إلى القطاع العام أو الخاص وان كانت الغالبية العظمى من المعلمين موظفين عموميين.
ط – ان مجلس الأمة وهو صاحب الولاية العامة في التشريع (بموجب الدستور) من حقه ان يشّرع (وقد شّرع منذ قيام الدولة الأردنية) في كافة المجالات والشؤون التي تخص المجتمع، حتى لو لم تكن هذه المجالات مشاراً اليها في الدستور، فقانون الجنسية مثلاً إشار إليه الدستور وأما قانون الملاحة البحرية مثلاً فلم يشر إليه في الدستور، لذلك فإنه لا يستقيم القول أن حق التنظيم النقابي هو فقط للعمال لأنه تم النص عليه في الدستور.
2- تَعْهد المادة (120) من الدستور الأردني الى مجلس الوزراء إصدار أنظمة لتحديد “كيفية تعيين الموظفين وعزلهم والإشراف عليهم وحدود صلاحياتهم واختصاصهم”:
أ – لعله من البدهي القول أن اختصاص مجلس الأمة بالتشريع هو اختصاص ولاية عامة وأصيل، فالقاعدة العامة أن يقوم بإصدار التشريعات مجلس الأمة على النحو المبين في الدستور.
ب – ويُبنى على ما تقدم أن اختصاص السلطة التنفيذية (مجلس الوزراء) في التشريع هو على سبيل الاستثناء، وهذا الاستثناء محصور حصراً في المادة (120) من الدستور، وبالنسبة للموظفين محصور في المجالات الخمسة التي حددتها المادة، ومن القواعد الراسخة ان الاستثناء لا يجوز التوسع فيه ولا القياس عليه، وعليه فإن ما عدا ذلك من شؤون الموظفين يختص بالتشريع فيه مجلس الأمة، وان كان جرى العمل على خلاف ذلك.
ج – إن اختصاص مجلس الوزراء بالنسبة للموظفين العموميين في المادة (120) من الدستور هو اختصاص حصري في مجالات معدودة من شؤون الموظفين هي : كيفية تعيينهم، كيفية عزلهم، كيفية الإشراف عليهم، تحديد صلاحياتهم وتحديد اختصاصاتهم، وعليه فإن الدستور لم يوكل الى مجلس الوزراء التشريع في كافة شؤون الموظفين، فلم ينص مثلاً على تأديب الموظفين، وعليه فإن نصوص التأديب مثلاً الواردة في نظام الخدمة المدنية هي نصوص غير دستورية.
د – ان المادة (23) من الدستور المتعلقة بالعمل والعمال تنظم حقلاً مستقلاً تماماً عن حقول شؤون الموظفين العموميين المحددة في المادة (120) من الدستور، فالحديث في الفقرة (و) من المادة (23) هو حديث عن تنظيم نقابات العمال وليس نقابات المهن، ولا مجال للمقابلة بين المادتين (23 ، 120).
هـ- لقد تضمن قرار المجلس العالي رقم 1/1965 ما نصه “إن أي تشريع يتعلق بالتعليمات الإدارية وشؤون الموظفين يجب ان يصدر عن السلطة التنفيذية بنظام اذا كانت الموضوعات التي يتناولها ذلك التشريع من المسائل المنصوص عليها في المادة (120)” والعديد من شؤون الموظفين بما فيها حقهم في تكوين نقابات مهنية لم تتناولها المادة (120) من الدستور عندما عددت حصراً شؤون الموظفين العموميين الجائز تناولها بأنظمة.
و – وما دامت المادة (120) لم تتناول الموضوعات الأخرى الخاصة بشؤون الموظفين فإن الاختصاص في تنظيمها يعود الى مجلس الأمة (صاحب الولاية العامة في التشريع بموجب المادة (25) من الدستور) كما انه لا يصح القول أن السلطة التشريعية مقيدة بالتشريع فقط في المجالات التي حددها الدستور فالمشرع مجلس الأمة له الحق المطلق في أن ينظم بقانون أي شأن او جانب من حياة المجتمع، وهذه مسألة من البداهة بمكان .
3- المادتان (57) و (59) من الدستور:
– تتناول المادة (57) تشكيل المجلس العالي، فيرأسه رئيس مجلس الأعيان وعضوية ثلاثة من الأعيان وخمسة من القضاة، وبحسب المادة (59) تكون قرارات المجلس بأغلبية ستة اصوات.
أ – من الواضح أن تشكيلة المجلس تغلب عليها الصفة القضائيــة (5 قضاه) وهذا أمر مبرر، لأن عملية تفسير القوانين من الناحية الواقعية والفنية منوطة بالقضاء (المحاكم)، إلا أن الاشتراط في المادة (59) أن تكون قرارات المجلس بأغلبية ستة أصــوات (من أصل9) يمكن ان يدفع الى الاعتقاد بأن هذه الصفة القضائية التي تم خلعها على المجلس قد تم نقضها، وعليه فإننا نكون امام تشكيلة للمجلس ذات صفة مختلطة (قضائية وسياسية).
ب – إن الأصل ان يقوم المشّرع بتفسير التشريع ولكن العهدة بتفسير الدستور الى جهة غير المشرع (الديوان العالي) يقتضيها جمود الدستور وصعوبة تعديله.
ج – لم يتعرض الدستور الى تحديد نصاب اجتماع المجلس العالي وان كان العرف الدستوري قد استقر على ان يجتمع بكامل أعضائه، ولعل هذا يؤيد وجه النظر القائلة بأن العرف الدستوري معتبر مع مرور الزمن، أي بالإستمرار والاستقرار، فإستقرار واستمرار تشريع مجلس الأمة لقوانين النقابات هو عرف دستوري في درجة قوة الدستور.
4- المادة (122) من الدستور:
– تُشكل هذه المادة مناط اختصاص المجلس العالي بتفسير احكام الدستور، هذا التفسير الذي يجب ان يكون اما بناءً على قرار (طلب) من مجلس الوزراء أو قرار (طلب) من مجلس الاعيان او قرار (طلب) من مجلس النواب بالأكثرية المطلقة.
أ – يختص المجلس العالي بتفسير احكام الدستور ، وهنا نعود لنذكر ان التفسير يعني “تحديد المعنى الذي تتضمنه القاعدة القانونية وتعيين نطاقها وذلك حتى يمكن الاستدلال على ما تضمنته القاعدة وحتى يمكن مطابقتها على الظروف الواقعية التي يثار بصددها تطبيق القاعدة”.
ب – أي أن التفسير يستلزم وجود قاعدة قانونية (في قالب لفظي) وان الحاجة يجب ان تكون قائمة الى تحديد معنى هذه القاعدة أو أن الحاجة يجب ان تكون قائمة الى تحديد نطاق تطبيقها وذلك لتسهيل تطبيقها على وقائع مثارة بصدد تطبيقها.
ج – ولا بد أن يُعّبر طلب التفسير الذي يرد الى المجلس العالي عن الحاجة القائمة الى تحديد معنى القاعدة الدستورية او الى تحديد النطاق الذي يجب ان تشمله القاعدة الدستورية وبدهي ان يرد في نهاية الطلب سؤال او تساؤل.
د – وبالرجوع الى معظم طلبات التفسير الموجه إلى الديوان العالي نجد إما أنها تخلط بين طلب اعلان دستورية او عدم دستورية وبين طلب تفسير نص او نصوص دستورية او انها طلبات اعلان دستورية او عدم دستورية نصوص قانونية والطلب الذي اجاب عليه القرار 1/94 هو مثال واضح على هذا النوع الأخير.
ثالثاً: قرار المجلس العالي رقم (1/94):
1- مختصر الوقائع:
– تتلخص الوقائع التي سبقت صدور القرار 1/94 بالآتي:
أ – بجلسته المنعقدة بتاريخ 18/2/1992، احال مجلس النواب الى الحكومة اقتراحاً لإنشاء نقابة للمعلمين لوضعه في صيغة مشروع قانون، وبتاريخ 17/2/1993 أرسل رئيس مجلس الوزراء مشروع قانون لنقابة المعلمين لمجلس النواب .
ب – بتاريخ 4/3/1993 طلب رئيس مجلس الوزراء من المجلس العالي تفسير المواد (22، 23، 45، 47، 120) من الدستور “وبيان ما اذا كان من الجائز بموجبها للسلطة التشريعية الموافقة على مشروع قانون نقابة المعلمين والذي يقضي بتأسيس نقابة للموظفين العموميين الذين يعملون كمعلمين في وزارة التربية والتعليم”.
ج – عرض الموضوع على المجلس العالي الذي انعقد بكامل أعضائه (9) حيث توصل خمسة أعضاء بتاريخ 20/3/1993 إلى “أن نص 6/أ من المشروع مخالف للدستور”، في حين رأي الأربعة الآخرون “أن إصدار مثل هذا القانون لا يخالف الدستور”.
د – بتاريخ 6/4/1993 أقر مجلس النواب المشروع وتم إرساله إلى مجلس الأعيان.
هـ- بتاريخ 13/1/1994 طلب رئيس مجلس الاعيان بناءً على قرار من مجلس الاعيان من المجلس العالي “للنظر من جديد فيما اذا كانت احكام الدستور تجيز اصدار قانون نقابة للمعلمين الموظفين العموميين من معلمي وزارة التربية والتعليم على غرار قانون نقابة المعلمين المعروض على مجلس الامة”.
2- ملاحظات وتساؤلات:
– أصدر المجلس العالي بتاريخ 4/6/1994 قراره رقم 1/94 والقاضي كخلاصة “ان الاحكام الدستورية لا تجيز اصدار قانون لنقابة المعلمين الموظفين العموميين” وذلك جواباً على طلب مجلس الأعيان، ولعل الملاحظات والتساؤلات التالية يمكن ان ترد على الطلب السابق (طلب تفسير 93) وعلى طلب التفسير الثاني (طلب مجلس الأعيان) وعلى صلب القرار 1/94:
أ – من المفيد ان نذكر أن مشروع القانون قد تم إعداده من قبل مجلس الوزراء بناءً على اقتراح من مجلس النواب، وان مجلس الوزراء بذلك قد استجاب لرغبة مجلس النواب فأعد مشروع القانون وأرسله الى مجلس النواب الذي أقره وأرسله الى مجلس الأعيان.
ب – في الواقع أن الطلب المقدم من رئيس مجلس الوزراء الى الديوان العالي (طلب تفسير93) ليس طلب تفسير حكم دستوري وانما بيان اذا كان من الجائز للسلطة التشريعية الموافقة على مشروع قانون (كما جاء في الطلب).
ج – وعلى فرض أن طلب تفسير 93 هو طلب تفسير فعلاً فإن فرصة التفسير تكون قد استنفذت لعدم توصل المجلس العالي الى قرار، أضف إلى ذلك ان الأعضاء الخمسة الذين قالوا بعدم الدستورية لم يقولوا بعدم دستورية مشروع القانون، انما انحصر رأيهم” بأن نص 6/أ من المشروع مخالف للدستور”.
د – أن طلب مجلس الأعيان التفسير قد انصب على نفس الموضوع الذي انصب عليه الطلب السابق (طلب تفسير93 المقدم من مجلس الوزراء)، وهنا يثور تساؤل هل يجوز طلب التفسير لنفس الموضوع مرتين، اذا تم التسليم بذلك فإن التقدم بطلب للمرة الثالثة حول نفس الموضوع قد يكون أمراً مقبولاً.
هـ- كما يمكن طرح تساؤل آخر، هل يجوز لمجلس الأعيان التقدم بطلب تفسير بشأن مشروع قانون أقره مجلس النواب؟ ان ما هو متاح دستورياً امام مجلس الأعيان في هذه الحالة فقط إما الموافقة على المشروع أو تعديله أو رفضه؟ ويطرح التساؤل هل رفض مجلس الأعيان المشروع؟.
و – إن مجمل الوقائع ينبئ عن أن السلطة التنفيذية قد استعملت حقها الدستوري (طلب التفسير93) لتعطيل عمل السلطة التشريعية، ولمَّا لم ينجح هذا الاستعمال طلب مجلس الأعيان التفسير مرة ثانية.
ز – ولعل طلبي التفسير المشار إليهما قد اخطأ كل منهما في طرح المواد الدستورية التي طلب تفسيرها، فطلب التفسير كان يجب ان ينصب على المادة (16) من الدستور الأمر الذي لم يتعرض له أي من الطلبين أو القرار 1/94.
رابعاً: الخلاصــــــــــــة:
1- في الموضوع:
أ – إن مفهوم تفسير القواعد القانونية غير ملحوظ في الطلبات التي قدمت للديوان العالي حتى الآن، وأن هناك خلط بين تفسير القاعدة القانونية والرقابة الدستورية (اعلان دستورية أو دستورية القاعدة القانونية).
ب – إن اصطلاح “الجمعيات” الوارد في المادة (16) من الدستور يدخل في معناه وبالتالي في تفسيره (حسب قواعد التفسير) النقابات المهنية كافة، القائم منها والذي يمكن ان يقوم بالمستقبل كنقابة المعلمين، كما هو الحال في الدول الأوروبية وبعض الدول العربية.
ج – إن انتساب الموظف العمومي الى نقابة مهنية لا يتعارض مع المصلحة العامة أو مصلحة المرفق العام باعتبار ان الوظيفة العامة بالمفهوم السائد في الأردن (المفهوم الفرنسي الأوروبي) هي مهنة كسائر المهن، كما هو الحال في كافة الدول الأوروبية والدول العربية، واذا كانت الخشية واردة من إساءة استعمال حق الإضراب فإن هذا الحق يمكن تقنينه بالقانون كما هو الحال في جميع الدول التي تقنن حق الإضراب.
د – بالإضافة إلى أن دستورية قوانين النقابات المهنية مستمدة من الدستور فإنها أيضاً مستمدة من خلال استقرار واستمرار عرف دستوري له نفس قوة القواعد الدستورية المكتوبة.
هـ- إن المادة (120) من الدستور قد عهدت الى مجلس الوزراء بإصدار الأنظمة في مجالات خمسة محددة حصراً من مجالات شؤون الموظفين وما عدا ذلك من شؤون الموظفين يعود تنظيمه إلى القانون.
2- خلاصـــة الخلاصـــة:
أ – نخلص من كل ما تقدم أن حق تكوين النقابات المهنية هو حق دستوري للأردنيين، وان هذا الحق ينظم بموجب القانون، ولكن يحول دون ذلك حالياً من حيث الشكل قرار الديوان العالي رقم 1/94.
ب – ولتجاوز ذلك فإنه يمكن لمجلس الوزراء أن يطلب من الديوان العالي تفسير مصطلح “الجمعيات” الوارد في المادة (16) من الدستور، فهذه المادة لم يتعرض لها طلبي التفسير المشار إليها ولا القرار 1/94، ولم يسبق أن تم طلب تفسيرها من قبل.
ج – وكما نرى ان مفردات طلب التفسير يمكن ان تشتمل على ما يلي:
– تنص الفقرتان الثانية والثالثة من المادة (16) من الدستور على:
2- للأردنيين حق تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية على أن تكون غايتها مشروعة ووسائلها سليمة وذات نظم لا تخالف احكام الدستور.
3- ينظم القانون طريقه تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية ومراقبة مواردها.
– دأبت مجالس الأمة المتعاقبة وفي ظل دستور 1947 والدستور الحالي 1952 على اصدار قوانين تنشئ نقابات مهنية وتنظم عضويتها واعمالها، بدءاً من قانون نقابة المحامين الملغى رقم 31/1950 وانتهاءً بقانون نقابة الأطباء البيطريين رقم 28/2008، كما ودأبت على تعديل هذه القوانين كلما دعت الحاجة الى التعديل.
– إن النقابات المهنية المشار إليها أعلاه تشمل في عضويتها من حيث المبدأ جميع المنتسبين للمهنة الواحدة سواءً كانوا يعملون في وزارات وأجهزة الدولة او في القطاع الخاص.
– إن الوظيفة العامة في النظام القانوني الأردني تعتبر مهنة كسائر المهن وان الدول التي تأخذ أنظمتها بهذا المفهوم للوظيفة العامة (فرنسا وسائر دول اوروبا وجمهورية مصر العربية والعديد من الدول العربية) تحتوي دساتيرها على نص مماثل او مشابه لنص الفقرتين (2 ،3) من المادة (16) من الدستور، وان هذه الدول جميعها قد شرَّعت نقابات للمعلمين في القطاع العام والخاص.
وذلك لبيان ما اذا كان مصطلح “الجمعيات” الوارد في الفقرتين الثانية والثالثة من المادة (16) من الدستور يدخل في مضمونه نقابات المهن المشار إليها أعلاه وبالتالي اذا ما كان يدخل في مضمونه نقابة مهنية للمعلمين
اترك تعليقاً