عقود التأمين التجاري: حقيقتها وحكمها
د.رجب أبو مليح محمد
التعريف بعقد التأمين:
التأمين لغة:
التأمين مصدر للفعل الرباعي (أمَّن) بتشديد الميم المفتوحة، ومضارعها يؤمن.
وفي قواميس اللغة وروت كلمة (أمّن)، ومصدرها التأمين، بمعنى التأمين على الدعاء، وهو قول “آمين”، ومعناها: استجب، وليس لهذا المعنى صلة بالمعنى الاصطلاحي؛ إذ الاصطلاحي عقد مالي، وهذا قول طلبي.
وبالبحث في معاني (أمن) نجد لها معنيين: أحدهما: الأمانة التي هي ضد الخيانة، ومعناها سكون القلب. والثاني: التصديق، ومن أبرز مشتقات هذا الأصل:
• الأمن والأمنة: ضد الخوف.
• الإيمان: ضد الكفر، وهذا هو التصديق.
• الأمان: إعطاء الأمنة؛ أي الأمن.
ومن الاشتقاق الأخير أخذ عقد التأمين بمعناه الاصطلاحي، فقد ورد كما في المعجم الوسيط: “وأمن على الشيء: دفع مالاً منجمًا لينال هو أو ورثته قدرًا من المال متفقًا عليه، أو تعويضًا عما فقده، يقال أمن على حياته أو على داره أو على سيارته” [1].
المعنى الاصطلاحي:
يفرق بعض الدارسين بين التأمين كنظام أو نظرية أو فكرة وبينه كعقد، أو تطبيق، أو تصرف قانوني يحدد العلاقة بين الأطراف [2].
فمن النوع الأول ما جاء في الوسيط بأنه “تعاون منظم تنظيمًا دقيقًا بين عدد كبير من الناس معرضين جميعًا لخطر واحد، حتى إذا تحقق الخطر بالنسبة إلى بعضهم تعاون الجميع على مواجهته بتضحية قليلة، يبذلها كل منهم يتلافون بها أضرارًا جسيمة تحيق بمن نزل الخطر به منهم لولا هذا التعاون” [3].
ويعرفه الزرقا بأنه “قواعد قانونية موضوعة يقصد بها في التشريع فسح المجال للتعاون على تفتيت آثار المخاطر وإزالتها عن عاتق المصاب، وذلك بطريق التعاقد بين جهتين: مؤمن يلتزم بتعويض المصاب عن الأضرار التي تلحقها الحوادث المؤمن منها، ومستأمن يلتزم بقسط من المال يدفعه للجهة المؤمنة لقاء التزامها بالتعويض عليه إذا وقع الحادث أوالخطر الاحتمالي” [4].
ويُعرّف التأمين كعقد أو نظام قانوني بأنه “عقد يلتزم المؤمَّن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمَّن له، أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغًا من المال أو إيرادًا مرتبًا، أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث، أو تحقق الخطر المبين في العقد، وذلك في نظير قسط أو أي دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن”.
وهو مطابق للتعريف في القانون المدني السوري (م713) والمدني الليبي (م747)، وعرفه القانون المدني العراقي (م983) أنه: عقد يلتزم المؤمن أن يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد مبلغًا من المال أو إيرادًا مرتبًا، أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث المؤمن ضده، وذلك في مقابل أقساط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن، وعرفه قانون الموجبات والعقود اللبناني (م950) بما يلي:
“هو عقد بمقتضاه يلتزم شخص يقال له الضامن ببعض الموجبات عند نزول بعض الطوارئ بشخص المضمون له أو بأمواله مقابل دفع بدل يسمى القسط أو الفريضة” [5].
والذي يؤخذ من هذه التعاريف أن شخصًا يسمى المؤمن له أو المستأمن يتعاقد مع شخص آخر يسمى المؤمن، ويكون في الغالب شركة مساهمة، على أن يدفع الأول لهذه الشركة مبلغًا من المال، على شكل أقساط دورية، في مقابل التزام الشركة بأداء مبلغ مالي له أو لمن يعينه ويسمى المستفيد. إذا وقع حادث أو خطر مبيَّن في العقد، ونستطيع أن نستخلص من هذا التعريف عناصر عقد التأمين على الوجه التالي:
عناصر عقد التأمين
يؤخذ من تعريف التأمين السابق أن له عناصر ثلاثة لا يقوم بدونها، وهذه العناصر كما يصرح شراح القانون هي: الخطر المؤمن منه، ومبلغ التأمين، وقسط التأمين. فلا يتصور لعقد التأمين وجود بدون هذه العناصر مجتمعة.
1 – الخطر:
يقصد بالخطر في عقد التأمين الحادث الاحتمالي المستقبل، ومعنى كون الحادث احتماليًّا أنه قد يقع وقد لا يقع، دون أن يكون وقوعه متوقفًا على إرادة أحد العاقدين، بل إن ذلك موكول إلى القدر وحده، وذلك كموت المؤمن على حياته أو بقائه حيًّا إلى وقت معين، أو غرق البضاعة، أو حريق المنزل المؤمن عليه، فإن وقوع الحريق وعدم وقوعه، وبقاء إنسان حيًا في وقت معين وعدم بقائه أمر احتمالي قد يكون وقد لا يكون، وموت إنسان، وإن كان أمرًا محقق الوقوع.. إلا أن زمن وقوعه غير محقق.
وإذا كان شراح القانون يصرحون بأن الخطر أو الاحتمال هو “المحل الرئيسي” و”العنصر الجوهري” في عقد التأمين، وأنه “أصل للعنصرين الآخرين (قسط التأمين ومبلغ التأمين)” كان الغرر ملازمًا لعقد التأمين لا ينفك عنه، ولا يوجد بدونه. بل إن ذلك يجعل عقد التأمين ذاته غررًا بحيث لا يتأتى وصفه بأنه عقد لحقه غرر، أو اشتمل على الغرر، كما يقال في بعض العقود التي يتصور وجودها بدون الغرر، وفي هذا يقول أحد شراح القانون [6]: أما التزام المؤمن فهو التزام غير محقق؛ إذ هو التزام احتمالي وليس هو التزامًا معلقًا على شرط واقف، هو تحقق الخطر المؤمن فيه؛ لأن تحقق الخطر ركن قانوني في الالتزام وليس مجرد شرط عارض، ولو كان تحقق الخطر شرطًا واقفًا وليس مجرد شرط عارض؛ لأمكن تصور قيام التزام المؤمن بدونه التزامًا بسيطًا منجزًا، وهذا لا يمكن تصوره؛ لأن التزام المؤمن مقترن دائمًا بتحقق الخطر، ولا يمكن فصل الاثنين أحدهما عن الآخر.
والخطر في معناه الفني الدقيق عند رجال التأمين يختلف عن الخطر في عرف الاستعمال الذائع، فالخطر في عرف الاستعمال يعني كارثة يكرهها الإنسان ويخشى وقوعها؛ لأن وقوعها يصيبه بضرر في نفسه أو ماله، كالحريق والغرق وتلف المال، وقد يقصد رجال التأمين بالخطر هذا المعنى في الغالب من الحالات، كحالات التأمين من الحريق والسرقة، فإن الحريق والسرقة كوارث، بمعنى أنها أمور يكره الإنسان وقوعها ويصيبه من هذا الوقوع ضرر.
أما الخطر في مجال التأمين فله معنى أوسع من ذلك؛ لأنه يعني كل حادث احتمالي سواء كرهه الإنسان أم أحبه، ترتب على وقوعه ضرر أم لا، فالتأمين على الحياة لحالة البقاء، وتأمين الأولاد، وتأمين الزواج.. كل ذلك تأمين من أخطار لا يكرهها الإنسان، ولا يترتب على وقوعها ضرر بالنفس أو بالمال، فالحياة أمر مرغوب فيه، وكذا إنجاب الأولاد والزواج. ففي التأمين على الحياة لحالة البقاء يتقاضى المؤمن له مبلغ التأمين إذا بقي حيًّا إلى تاريخ معين، وبقاؤه حيًّا إلى هذا التاريخ أمر مرغوب فيه لا يكرهه المؤمن له؛ لأنه لا يترتب على بقائه حيًّا أي ضرر في ماله أو جسمه، وفي تأمين الأولاد يتقاضى المؤمن له مبلغ التأمين كلما رزق بولد، وهو أمر لا يكرهه المؤمن له؛ لأنه لا يصيبه بضرر في نفسه أو ماله، ولذلك رأينا قوانين التأمين تنص في هذه الأنواع من التأمين على استحقاق مبلغ التأمين عند وقوع الخطر، ولو لم يترتب على وقوعه أي ضرر، بل ولو كان وقوع الخطر مفيدًا للمؤمن له أو للمستفيد، ولقد شاع بين شراح القانون أن التأمين على الأشخاص ليست له صفة تعويضية، بمعنى أن المؤمن له يستحق مبلغ التأمين عند وقوع الخطر دون حاجة إلى إثبات ضرر أصابه من جراء وقوعه، بل ولو ثبت يقينًا أنه لم يصبه من وقوعه أي ضرر [7].
2 – قسط التأمين:
قسط التأمين هو محل التزام المستأمن، وهو العوض الذي يبذله لشركة التأمين في مقابل تعهدها بدفع مبلغ التأمين، عند وقوع الخطر.
وهناك علاقة وثيقة بين قسط التأمين ومبلغ التأمين من جهة، وبينه وبين الخطر المؤمن منه من جهة أخرى، فشركات التأمين تحدد قيمة القسط على أساس مبلغ التأمين المتفق عليه، بحيث يزيد القسط بزيادة هذا المبلغ وينقص بنقصه، وهي من جهة أخرى تحدد قسط التأمين على أساس الخطر المؤمن منه، بحيث إذا زاد الخطر ارتفع القسط وبالعكس، وهذا هو ما يعرف بمبدأ “نسبية القسط إلى الخطر” عند شراح القانون، والأصل في القسط أن يكون مبلغًا ماليًّا ثابتًا يدفع بصفة دورية كل شهر أو كل سنة مثلاً، وهذا ما يجري عليه العمل في شركات التأمين. ولذلك يسمى التأمين في هذه الحالة بالتأمين ذي القسط الثابت، غير أن مبلغ التأمين قد يكون أقساطًا متغيرة، ويطلق عليها اشتراكات التأمين، فهي تقل وتكثر من سنة لأخرى، وهذا هو الحال في جمعيات التأمين التبادلي، فإن الاشتراك الذي يدفعه العضو في هذه الجمعيات يحسب على أساس المبالغ الفعلية التي صرفت في خلال سنة التأمين إلى من تضرروا من وقوع الأخطار المؤمن منها من أعضاء الجمعية، وهذه الاشتراكات أو الأقساط، وإن جمعت مقدمًا بطريقة متساوية إلا أن إدارة الجمعية تقوم بعمل تسوية في نهاية العام، بحيث ترد للعضو ما زاد، وتأخذ منه ما نقص عما يخصه في تعويض الأضرار، وتكون النتيجة أن هذه الجمعيات لا تتقاضى من أعضائها إلا مقدار ما يكفي لجبر ما وقع لبعضهم من ضرر دون زيادة أو نقص.
وهذا يخالف ما يجري عليه العمل في الشركات المساهمة، فإنها تتقاضى من مجموع المستأمنين أكثر مما تدفعه لمن وقع عليه الضرر منهم، وهذه الزيادة تمثل مصاريف الإدارة، وربح الأسهم التي يتكون منها رأسمال هذه الشركات، ويترك لشركة التأمين وحدها تحديد قيمة مصروفات الإدارة وأرباح الأسهم دون تدخل من المستأمنين في هذا التقدير. أما جمعيات التأمين التبادلي فإن الأعضاء فيها هم الذين يحددون مصاريف الإدارة ويوافقون عليها؛ إذ الغرض أنه ليس في هذه الشركات مؤمن ومستأمن.. بل كل الأعضاء يجمعون بين هاتين الصفتين [8].
3 – مبلغ التأمين:
مبلغ التأمين هو محل التزام شركة التأمين؛ فشركة التأمين تتعهد بمقتضى عقد التأمين بأن تدفع للمؤمن له أو للمستفيد الذي يعينه مبلغ التأمين، عند وقوع الخطر أو الحادث المؤمن منه، في مقابل الأقساط التي يدفعها المستأمن لهذه الشركة، ويؤكد شراح القانون على أن “مبلغ التأمين” وهو التزام في ذمة المؤمن، هو المقابل لقسط التأمين، وهو التزام في ذمة المؤمن له، ومن ثَم كان عقد التأمين عقدًا ملزمًا للجانبين.
ومبلغ التأمين دين في ذمة المؤمن، يكون تارة دينًا احتماليًّا، وتارة دينًا مضافًا إلى أجل غير معين، فإن كان الخطر المؤمن منه غير محقق الوقوع كان مبلغ التأمين دينًا احتماليًّا، وأما إذا كان هذا الخطر محقق الوقوع في المستقبل، ولكن وقت وقوعه غير معروف؛ كان مبلغ التأمين دينًا في ذمة المؤمن مضافًا إلى أجل غير معين. ففي التأمين على الحياة يكون الخطر المؤمن منه هو الموت، وهو أمر محقق الوقوع، ولكن لا يعرف ميعاد وقوعه، فيكون مبلغ التأمين دينًا في ذمة المؤمن مضافًا إلى أجل غير معين. وفي التأمين من الأضرار، سواء كان تأمينًا على الأشياء، كالتأمين من الحريق، أو كان تأمينًا من المسئولية.. يكون الخطر منه وهو وقوع الحريق مثلاً أو تحقق المسئولية أمرًا غير محقق الوقوع، فيكون مبلغ التأمين دينًا احتماليًّا في ذمة المؤمن [9].
رأي الفقهاء في عقد التأمين
اختلف الفقهاء حول حكم التأمين، فنظر بعضهم إلى التأمين كنظام تعاوني، الغرض منه المواساة والتراحم بين الأفراد المعرضين لخطر واحد، وبناء على ذلك أفتى بالجواز.
ونظر البعض الآخر إلى التأمين كعقد يشتمل على الغرر والمقامرة والربا، فأفتى بالحرمة.
وأول مَن تكلَّم عن التأمين من فقهاء المسلمين هو الفقيه محمد أمين بن عمر المشهور بابن عابدين الدمشقيّ الحنفيّ المُتَوَفَّى سنة 1252هـ = 1836م، وذلك في كتابه “رد المحتار شرح تنوير الأبصار”، وهو الكتاب المشهور باسم: “حاشية ابن عابدين”، وفي كتابه: “أجوبة محققة عن أسئلة متفرقة”.
ويرى ابن عابدين: لو أن تاجرًا استأجر مركبًا تَحْمِلُ بضاعةً تأتيه من خارج بلاد الإسلام، ودَفَعَ أُجرة النقل، ثم دفع مالاً معلومًا لشخص في خارج بلاد الإسلام، على أن يضمن ذلك الشخص سلامة التجارة؛ فإذا هلك منها شيء فذلك الشخص ضامن لما هلك؛ فإن ذلك يكون حرامًا، أي لا يَحِلُّ لهذا التاجر المسلم أن يأخذ عِوَضًا عما هَلَكَ من تجارته.
يقول ابن عابدين رحمه الله: “وبما قررناه يظهر جواب ما كثر السؤال عنه في زماننا، وهو: أنه جرت العادة أن التجار إذا استأجروا مركبًا من حربي يدفعون له أجرته، ويدفعون أيضًا مالاً معلومًا لرجل حربي مقيم في بلاده، يسمى ذلك المال سوكرة، على أنه مهما هلك من المال الذي في المركب بحرق أو غرق أو نهب أو غيره، فذلك الرجل ضامن له بمقابلة ما يأخذه منهم، وله وكيل عنه مستأمن في دارنا يقيم في بلاد السواحل الإسلامية بإذن السلطان يقبض من التجار مال السوكرة، وإذا هلك من مالهم في البحر شيء يؤدي ذلك المستأمن للتجار بدله تمامًا والذي يظهر لي: أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله؛ لأن هذا التزام ما لا يلزم. فإن قلت: إن المودع إذا أخذ أجرة على الوديعة يضمنها إذا هلكت، قلت: ليست مسألتنا من هذا القبيل؛ لأن المال ليس في يد صاحب السوكرة بل في يد صاحب المركب، وإن كان صاحب السوكرة هو صاحب المركب يكون أجيرًا مشتركًا قد أخذ أجرة على الحفظ، وعلى الحمل، وكل من المودع والأجير المشترك لا يضمن ما لا يمكن الاحتراز عنه كالموت والغرق ونحو ذلك.
فإن قلت: سيأتي قبيل باب كفالة الرجلين، قال أحدهما لآخر: اسلك هذا الطريق؛ فإنه آمن فسلك، وأخذ ماله لم يضمن، ولو قال: إن كان مخوفا وأخذ مالك فأنا ضامن ضمن، وعلله الشارح هنالك بأنه ضمن الغار صفة السلامة للمغرور نصا (أي بخلاف الأولى)، فإنه لم ينص على الضمان بقوله فأنا ضامن، وفي جامع الفصولين الأصل أن المغرور إنما يرجع على الغار لو حصل الغرور في ضمن المعاوضة، أو ضمن الغار صفة السلامة للمغرور؛ فيصار كقول الطحان لرب البر: اجعله في الدلو، فجعله فيه، فذهب من النقب إلى الماء، وكان الطحان عالما به يضمن؛ إذ غره في ضمن العقد وهو يقتضي السلامة ا هـ.
قلت: لا بد في مسألة التغرير من أن يكون الغارّ عالما بالخطر كما يدل عليه مسألة الطحان المذكورة، وأن يكون المغرور غير عالم؛ إذ لا شك أن رب البر لو كان عالما بنقب الدلو يكون هو المضيع لماله باختياره، ولفظ المغرور ينبئ عن ذلك لغة لما في القاموس: غره غرا وغرورا فهو مغرور وغرير: خدعه وأطمعه بالباطل فاغتر هو ا.هـ.
ولا يخفى أن صاحب السوكرة لا يقصد تغرير التجار، ولا يعلم بحصول الغرق هل يكون أم لا. وأما الخطر من اللصوص والقطاع فهو معلوم له وللتجار؛ لأنهم لا يعطون مال السوكرة إلا عند شدة الخوف طمعا في أخذ بدل الهالك، فلم تكن مسألتنا من هذا القبيل أيضا، نعم: قد يكون للتاجر شريك حربي في بلاد الحرب، فيعقد شريكه هذا العقد مع صاحب السوكرة في بلادهم، ويأخذ منه بدل الهالك، ويرسله إلى التاجر فالظاهر أن هذا يحل للتاجر أخذه لأن العقد الفاسد جرى بين حربيين في بلاد الحرب، وقد وصل إليه مالهم برضاهم فلا مانع من أخذه، وقد يكون التاجر في بلادهم، فيعقد معهم هناك، ويقبض البدل في بلادنا أو بالعكس، ولا شك أنه في الأولى إن حصل بينهما خصام في بلادنا لا نقضي للتاجر بالبدل، وإن لم يحصل خصام ودفع له البدل وكيله المستأمن هنا يحل له أخذه؛ لأن العقد الذي صدر في بلادهم لا حكم له؛ فيكون قد أخذ مال حربي برضاه، وأما في صورة العكس بأن كان العقد في بلادنا والقبض في بلادهم فالظاهر أنه لا يحل أخذه، ولو برضا الحربي لابتنائه على العقد الفاسد الصادر في بلاد الإسلام، فيعتبر حكمه هذا ما ظهر لي في تحرير هذه المسألة فاغتنمه فإنك لا تجده في غير هذا الكتاب” [10].
وحجة هذا الفريق أن هذا العقد من عقود المعاوضات، وقد اشتمل على غرر فاحش، والغرر الفاحش يفسد عقود المعاوضات، كما اشتمل على الربا والمقامرة، والغرر الموجود في عقد التأمين غرر كبير فاحش؛ لأنه يتعلق بحصول العوضية ومقدارها؛ فجميع عقود التأمين التجاري تتضمن الغرر في الحصول أو الوجود؛ لأن مبلغ التأمين الذي وقع العقد عليه قد يحصل عليه المستأمن وقد لا يحصل.
أما اشتماله على الربا فيأتي من كون حقيقة عقد التأمين التجاري هي بيع نقد بنقد؛ حيث يتفق المستأمن مع شركة التأمين على أن يدفع قسط التأمين مقابل أن يأخذ مبلغ التأمين عند حدوث الخطر، والمبلغ الذي يأخذه المستأمن بعد أجل يحتمل أن يكون مساويا لما دفعه أو متفاضلاً؛ فإن كان مساويا وأخذه بعد أجل كان ربا نسيئة، وإن كان متفاضلاً وأخذه بعد أجل كان ربا فضل وربا نسيئة، وهذا الربا يفسد عقد التأمين بالإجماع.
والمقامرة متحققة في عقد التأمين؛ لأن المستأمن لا يعرف إن كان سيحصل على العوض أو لا؛ لأن حصوله عليه متوقف على حدوث الخطر.
كما يرى هذا الفريق من العلماء أن عقد التأمين في جوهره يعتبر بيع دين بدين من حيث إن الأقساط التي يدفعها المستأجر دين في ذمته، ومبلغ التأمين الذي ستدفعه الشركة دين في ذمتها؛ فهو بيع دين بدين، وهذا لا يصح باتفاق الفقهاء [11].
إن عقد التأمين يتضمن الغرر على كل حال، وفي جميع أنواع التأمين؛ لأن المستأمن لا يدري وقت إبرام العقد: إن كان سيحصل على مبلغ التأمين وهو العوض الذي دفع الأقساط في مقابلته، أم لا، وحتى في الحالات التي يتأكد فيها من الحصول على مبلغ التأمين، في التأمين على الحياة لحالة الموت؛ فإنه لا يدري متى يحصل على هذا المبلغ، وذلك لأن أجل المؤمن على حياته غير معلوم، وهو جهل فاحش في أجل الالتزام يبطل المعاوضة باتفاق الفقهاء. فالغرر واقع في جميع عقود التأمين وعلى كل حال؛ لأنه إما غرر واحتمال في الحصول وعدم الحصول، وإما غرر واحتمال في وقت الحصول، وكلاهما غرر مؤثر باتفاق الفقهاء وليس لمبلغ التأمين الذي يستحقه المستأمن عند وقوع الخطر حد في التأمين على الأشخاص، بل إن المستأمن يستحق ما وقع الاتفاق عليه مع شركة التأمين، دون نظر لحصول ضرر له من جراء وقوع الخطر، أو عدم حصوله، ودون نظر إلى مقدار ذلك الضرر إن كان، ويعبر شراح القانون عن هذا الحكم بقولهم: إن مبلغ التأمين في التأمين على الأشخاص ليست له صفة تعويضية؛ لأن المقصود منه ليس جبر الضرر؛ فقد لا يترتب على وقوع الخطر المؤمن منه في التأمين على الأشخاص أي ضرر، بل وقد يفيد منه المستأمن أو من شرط له مبلغ التأمين، بل المقصود -كما ذكرنا من قبل- الادخار وتكوين رؤوس الأموال.
أما التأمين من الأضرار فإنه يخضع لمبدأ التعويض، فما يتقاضاه المؤمن له في هذا النوع من التأمين لا يزيد عن مقدار الضرر الذي أصابه بسبب وقوع الحادث المؤمن منه، وفي حدود مبلغ التأمين المتفق عليه، فإذا لم يحصل للمؤمن له ضرر من وقوع هذا الحادث، أو حصل وعوضه المسئول عن وقوعه، لم يستحق شيئًا من مبلغ التأمين.
ومن نتائج الصفة التعويضية في هذا النوع من التأمين أن المؤمن له لا يستطيع أن يجمع بين ما تدفعه له شركة التأمين من تعويض، وما قد يستحقه قبل المسئول عن إيقاع الضرر به؛ كالمسئول عن الحريق مثلاً، وذلك بخلاف التأمين على الأشخاص؛ فإن المؤمن له يستحق مبلغ التأمين ولو لم يصبه وقوع الخطر المؤمن منه بضرر، كما يحق له أن يجمع بين مبلغ التأمين وما يحكم له به من تعويض على المسئول عن الوفاة أو الإصابة؛ ذلك أن المقصود من التأمين على الأشخاص -كما قلنا- ليس هو تعويض المؤمن له عن ضرر قد يتعرض له من جراء وقوع الخطر المؤمن منه.. بل المقصود به الادخار وتكوين رأس مال [12].
وذهب فريق آخر [13] إلى جواز هذا العقد، واستدلوا لذلك بما يلي:
أن عقد التأمين يشبه نظام العاقلة، الذي اتفق الفقهاء على مشروعيته، ووجه الشبه بين عقد التأمين ونظام العاقلة تخفيف أثر المصيبة عن المصاب عن طريق توزيع العبء المالي على جميع المشاركين. كما استدلوا على مشروعيته بعقد الموالاة، وهذا أن يقول مجهول النسب لمعروف النسب: “أنت وليي ترثني إذا مت، وتعقل عنى إذا جنيت”، وعقد التأمين يشبه عقد الموالاة من حيث طرفا العقد وعوضاه؛ فالمؤمن يشبه مولى الموالاة، والمستأمن يشبه المعقول عنه، والعوض يشبه الدية التي يدفعها مولى الموالاة.
واستدلوا له أيضا بضمان خطر الطريق، وهو أن يقول رجل لآخر: “اسلك هذا الطريق؛ فإنه آمن، وإن أصابك فيه شيء فأنا ضامن”، فسلكه فأُخذ ماله ضمن القائل، فالشركة التزمت الضمان كما أن القائل التزمه، كما قاسوا عقد التأمين التجاري على التأمين التعاوني أو الضمان الاجتماعي، وهو جائز باتفاق الفقهاء المعاصرين
اترك تعليقاً