حق المتهم في حماية حياته الخاصة بين القانون الدولي والتشريع الجنائي السوداني
إن أخطر ما يتعرض له المتهم في مجال انتهاكات خصوصيته هو التفتيش. والتفتيش هو إجراء من إجراءات التحري يقوم على الإطلاع على محل منح له القانون حماية خاصة باعتباره مكمن سر صاحبه فلا يجوز كقاعدة عامة الإطلاع عليه إلا بحكم القانون أو رضا صاحبه .
والتفتيش يعني البحث عن أدلة الجريمة موضوع التحري وكل ما يفيد في كشف الحقيقة من أجل إثبات نسبتها إلى المتهم فما لم توجد هذه الأدلة فلا محل للتفتيش لأن بعض الجرائم حتى لو تم ضبط المتهم متلبساً بجريمته فلا يجوز تفتيشه إذا كان التفتيش لا يهدف إلى ضبط دليل في هذه الجريمة كمَنء يُضبط بجريمة القذف فلا يجوز هنا تفتيشه . كما أن مجرد البلاغ يجب ألا يكون كافياً للقيام بالتفتيش بل لا بد من وجود أمارات وقرائن قوية ضد المتهم بحيث يكون الغرض حينئذ من التفتيش هو البحث عن الأشياء والأدلة المتعلقة بالجريمة التي وقعت فعلاً . كما أن تفتيش المتهم أثناء تفتيش منزله أو تفتيش غيره من الأشخاص ممن هم موجودون فيه مقيّد أيضاً بوجود قرائن وأمارات تدل على أن من أريد تفتيشه يخفي أشياء تفيد في الكشـف عن الحقيقة . هذا وتعتبر المعلومات التي يسفر عنها التفتيش سراً لا يجوز إفشاؤه سواء كان لها علاقة بالجريمة أو لم تكن . وعليه يمكن القول أن التفتيش باعتباره إجراء من إجراءات التحري يلزم أن يكون قد بوشر بغاية معينة هي الكشف عن أشياء تتعلق بالجريمة أو تفيد في إظهار الحقيقة. وتتميز إجراءات التفتيش بصفة بكونها من تقنيات التحري الجنائي العلنية التي يجب اتخاذها أمام ذوي الشأن وبحضور شهود يؤمنون على سلامة الإجراءات المتخذة وصحة النتائج المحققة .
وينقسم التفتيش من حيث محله إلى : تفتيش خاص وهو التفتيش لمكان معين ومحدد بصورة واضحة ، وتفتيش عام ويتمثل في تفتيش منطقة كاملة كتفتيش حي كامل أو قرية أو مدينة . وكان التفتيش العام في القوانين السودانية السابقة ضمن قانون الطوارئ إلا أن المشرع السوداني وضعه ضمن قانون الإجراءات الحالي في الفقرة الثانية من المادة 86. أما التفتيش من حيث موضوعه فينقسم إلى :
أ – تفتيش الأشخاص : وهو حسب غرضه ينقسم إلى نوعين : تفتيش شخصي الغرض منه تجريد المقبوض عليه مما يحوز من أشياء قبل وضعه في الحراسة . وتفتيش المشتبه فيه الذي يحدث أثناء تفتيش الأمكنة إذا ظن القائم بالتفتيش بأن ذلك الشخص ربما يخفي معه بعض الأشياء المطلوب البحث عنها . كما أن هناك أنواعاً من إجراءات التحري تدخل ضمن التفتيش مثل تحليل الدم والبول إذ أنها عمل يعد اعتداء على سر الإنسان وكذا الحال بالنسبة لغسيل المعدة والتي تعني تفريغها من محتوياتها وتحليل هذه المحتويات بقصد الحصول على دليل إدانة المتهم وينبغي أن تكفل الإجراءات الفعالة لتنفيذ هذه الأنواع من التفتيش بطريقة تتفق مع ما يحفظ كرامـة الشخص الذي يجري عليه التفتيش كأن يتم من قبل أشخاص من نفس الجنس .
ب – تفتيش الأمكنة : وهو الذي يتم على الأمكنة بغرض الحصول على دليل يخدم التحري .
وقد عملت التشريعات على حماية المتهم من انتهاك خصوصيته إذ نص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدية والسياسية في المادة 17 على :
1 – لا يجوز تعريض أي شخص على نحو تعسفي أو غير قانوني لتدخل في خصوصياته أو شئون أسرته أو بيته أو مراسلاته ولا لأي حملات غير قانونية تمس شرفه أو سمعته .
2 – من حق كل شخص أن يحميه القانون من مثل هذا التدخل أو المساس .
وجاء في الفقرة الثامنة من التعليق العام رقم 16 للجنة المعنية لحقوق الإنسان على هذه المادة : وحتى فيما يتعلق بعمليات التدخل التي تتفق مع العهد ، يجب أن يحدد التشريع ذو الصلة بالتفصيل الظروف المحددة التي يجوز السماح فيها بهذا التدخل. وأي قرار باللجوء إلى هذا التدخل المسموح به يجب أن تتخذه السلطة التي يسميها القانون وحدها دون سواها ، وعلى أساس كل حالة على حدة . ويقتضي التقيّد بالمادة 17 ضمان سلامة وسرية المراسلات قانونا . وينبغي أن تسلم المراسلات إلى المرسل إليه دون مصادرتها أو فتحها أو قراءتها. وينبغي حظر الرقابة، بالوسائل الإلكترونية أو بغيرها على السواء ، وحظر اعتراض طريق الاتصالات الهاتفية والبرقية وغيرها من أشكال الاتصالات، والتنصت على المحادثات وتسجيلها. وينبغي أن يقتصر تفتيش منزل الشخص على البحث عن الأدلة اللازمة، وينبغي ألا يسمح بأن يصل إلى حد المضايقة. وفيما يتعلق بالتفتيش الشخصي والبدني ، ينبغي أن تكون هناك تدابير فعالة تكفل إجراء هذا التفتيش بأسلوب يتفق مع كرامة الشخص الذي يجري تفتيشه . وفي حالة الأشخاص الذين يخضعون لتفتيش بدني يجريه مسئولون حكوميون أو موظفون طبيون يقومون بذلك بناء على طلب الدولة ينبغي ألا يجري الفحص إلا بواسطة أشخاص من نفس الجنس . كما ورد ذات المضمون في الميثاق العربي لحقوق الإنسان .
أما التشريع السوداني فقد سار في ذات الاتجاه إذ نص الدستور الانتقالي في المادة 37 على : لا يجوز انتهاك خصوصية أي شخص ولا يجوز التدخل في الحياة الخاصة أو الأسرية لأي شخص في مسكنه أو في مراسلاته إلا وفقاً للقانون .
ولما كان التفتيش كإجراء من إجراءات التحري يهدف إلى ضبط الأدلة التي تؤدي إلى كشف عن الحقيقة أثناء التحري أو التحقيق أو المحاكمة فإنه بذلك يمس المتهم في أسرار حياته الخاصة سواء كان مجال السرية في شخصه أو مسكنه أو مكان عمله ولذا فقد أحاطته القوانين بضمانات كثيرة إذ راعت في التفتيش الشخصي احترام آدمية الفرد وإنسانيته بعدم التفتيش في الأماكن التي تمس تلك القيم كرامة المتهم في شخصه فنصت المادة 93 من قانون الإجراءات الجنائية على : إذا كان الشخص المراد تفتيشه امرأة فعلى الشخص الذي يجري التفتيش انتداب امرأة لإجراء ذلك .
أما في تفتيش الأمكنة فقد اشترط قانون الإجـراءات الجنائية في أمر التفتيش الآتي :
1 – أن يكون مكتوباً .
2 – أن يكون متضمناً الغرض منه .
3 – أن يكون متضمناً بياناً بالمكان المراد تفتيشه . وفي ذلك ذكرت المحكمة العليا في قضية حكومة السودان ضد أوهاج حسين محمد : إن أمر التفتيش لا بد أن يوضح فيه المكان المراد تفتيشه وسبب التفتيش على وجه الدقة والتحديد .
4 – أن يكون موقعاً عليه ومختوماً من الجهة التي أصدرته .
5 – أن يوضح عليه اسم الشخص شاغل المكان المراد تفتشيه .
كما وضع القانون مجموعة من الضوابط لإجراء التفتيش والتي تتمثل في :
1 – أن يجرى التفتيش في حضور شاهدين موثوق بهما من جانب الشخص المكلف بالتفتيش ويفضل أن يكونا من أقارب المتهم أو مقيمين معه أو جيرانه. وقد قضت المحكمة العليا في قضية حكومة السودان حسين عبد اللطيف : بأن قيام الشرطي بتفتيش منزل المتهم دون إحضار شاهدين موثوق بهما ودون أن ينص الأمر الصادر من القاضي على خلاف ذلك يعتبر إجراء باطلاً ومن ثم جوزت أن تعتبر بينة الشرطي غير مقبولة في الإثبات .
2 – أن يسمح لشاغل المكان المراد تفتيشه أو من ينوب عنه بحضور إجراءات التفتيش .
3 – يجب أن تحرر قائمة بكل المضبوطات التي لها علاقة بالجريمة وتعرض على المشتبه به أو المتهم ويطلب منه إبداء ملاحظاته فيها ويحرر بذلك محضراً يوقع عليه المتهم أو يذكر فيه امتناعه عن التوقيع .
4 – تحرز جميع الأشياء المضبوطة أثناء التفتيش والتي لها علاقة بالجريمة في حرز مغلق .
5 – تعرض المضبوطات وقوائمها على وكيل النيابة ليتخذ الإجراء اللازم بشأنها فلربما يعثر على شيء ليـس له علاقة بالجريمة إذ يجب في هذه الحالة رده إلى محله .
6 – يصدق وكيل النيابة أو يوقع أو يؤشر على قائمة تلك الأشياء المضبوطة أو يحرر بشأنها محضراً ويوقع عليه ويسلم الشخص التي ضبطت الأشياء في حيازته صورة منه .
ولكن رغم ذلك فإن قانون الإجراءات الجنائية لم يحدد بصورة قاطعة أثر البينة المقدمة من التفتيش الذي لم تراع فيه هذه الشروط أو بعضها مما جعل الأحكام تتضارب حوله . فهناك من يرى أن هذا التفتيش يعتبر باطلاً باعتبار أن الجهة القائمة به لم تلتزم بالقانون وبالتالي فإن البينة الناتجة عنه يجب ألا تؤثر على مستوى الإثبات المقدم لأن ما بني على باطل فهو باطل استناداً على الفقرة ( 1 ) من المادة 9 من قانون الإثبات لسنة 1994 التي تنص على : مع مراعاة شروط قبول البينة الواردة في هذا القانون , تعتبر البينة مردودة في أي من الحالات الآتية وهي :
أ – البينة التي تنتهك مبادئ الشريعة الإسلاميـة أو القانون أو العدالـة أو النظام العام .
إن انتهاك خصوصية المتهم بلا مبرر قانوني هو انتهاك لمبادئ الشريعة الإسلامية التي كرمت الإنسان ومنعت التجسس عليه ودخول مسكنه دون إذنه أو بإذن من السلطان في الحالات التي يحددها . كما أنها تشكل انتهاك للقانون المنظم لعملية إجراء التفتيش وفي قرار المحكمة العليا في سابقة حكومة السودان ضد محمد بابكر محمد وآخرين : ( إنه عندما تكون الجريمة تحت طائلة قانون العقوبات يجب أن يكون التفتيش على ضوء قانون الإجراءات الجنائية وإن التفتيش الذي يتم بخصوص جريمة تحت قانون العقوبات بواسطة موظفي الصحة العامة دون مراعاة لنصوص قانون الإجراءات الجنائية هو تفتيش غير قانوني وغير ذي أثر في الإجراءات المقامة أمام المحكمة ) . إلا أن هناك رأياً يعارض هذا مستنداً على المادة 10 الفقرة ( 1 ) من قانون الإثبات التي تنص على : ( مع مراعاة أحكام الإقرار والبينة المردودة لا ترد البينة لمجرد أنه تم الحصول عليها بإجراء غير صحيح متى اطمأنت المحكمة إلى كونها مستقلة ومقبولة ) وقضت المحكمة العليا أيضاَ بذلك ، ففي سابقة حكومة السودان محمد البدوي حامد ذكرت المحكمة العليا : ( إذا تم التفتيش دون الحصول على أمر تفتيش من السلطة المختصة وقبل فتح البلاغ يكون غير مشروع أما البينة المتحصل عليها عن طريق التفتيش لا ترفض لمجرد أن الوسيلة غير مشروعة متى اطمأنت المحكمة إلى سلامتها من الناحية الموضوعية ولكن يجوز رفضها إذا كان في قبولها انتهاك لمبادئ الشريعة الإسلامية ) وأكدته في سابقة حكومة السودان ضد عبد الرحيم السيد بقولها : ( العيوب الشكلية لا تأثير لها على التدابير القضائية إذا كانت في جوهرها سليمة ولم يترتب عليها ضرر مقدر بأحد الخصوم ) . إزاء هذا التضارب في الأحكام نرى أنه طالما لم يتقيد من ينفذ أمر التفتيش بالشروط المنصوص عليها في القانون فإنه يكون بذلك قد خالف صريح القانون مما يجعل ما قام به باطلاً وبالتالي يجب أن ترد البينة الناتجة عن أي تفتيش مخالف للقانون لأن قبول مثل هذه البينة فيه ترخيص لانتهاك حق المواطن من قبل الدولة وعليه فإن وجود الفقرة ( 1 ) من المادة 10 من قانون الإثبات لسنة 1994 يعني الدعوة الصريحة لانتهاك حرمات المواطنين .
اترك تعليقاً