الصحفي والقاضي
عادل درويش
شهد المغرب حوارا ساخنا، وصل إلى حد الجدل العنيف، بين الصحافة في ناحية، وبين قضاة المغرب في ناحية أخرى.
المغرب من البلدان التي فضلت حكمة التطور الديمقراطي بسلامة التأني وبخطى جادة على تهور طفرات القفز إلى المجهول، لذا يستمر في السير النامي باتجاه استكمال نظام سياسي برلماني ناضج بملكية دستورية، خاصة بعد أن أثبت التاريخ، بلا استثناء واحد، أن الأنظمة الملكية الدستورية أفضل من الجمهوريات، وأكثر تلبية لحاجات المواطنين من البلدان التي ابتليت بكارثة الانقلاب العسكري في شمال أفريقيا والمشرق (اللافنت) وبلاد النهرين وجنوب الجزيرة العربية وتعض شعوبها أصابع الندم تحسرا على العهد الملكي.
الملاحظ أن «المثقفين» العرب والناشطين في بلدان الانتفاضات التي أطاحت بالنظم السائدة تختصر الديمقراطية، بسذاجة سياسية وضحالة فهم للديناميكية السوسيوتاريخية، إلى ممارسة الانتخابات وصناديق الاقتراع، بينما الديمقراطية مناخ وبيئة وبنية شاملة.
أهم أسس الديمقراطية هي سيادة القانون على الجميع من خلال مؤسسة قضاء مستقل عن الحكومة وعن السياسة بترفع يشبه عزلة كهنة التيبت عن أحوال الدنيا.
أثناء اجتماع السبت الماضي، اتهم الصحافيون المغاربة القضاة بالتحول إلى مساعد للحكومة على عرقلة العمل الصحافي. في العام الماضي كان هناك 106 قضايا للصحافيين والناشرين أمام القضاء المغربي (119 حالة عام 2011) في مخالفات، تحول كثير منها إلى جنائية.
في حدة النقاش قال الصحافيون إن القضاة ينقصهم الفهم العميق لخصوصيات مهنة الصحافة، وطبعا رد القضاة بأن الصحافيين يهينون العدالة والتي بلا احترام قدسي لها تنهار دولة القانون.
وربما أختلف مع الزملاء الصحافيين المغاربة، فليس المطلوب من القضاة التفهم العميق لخصوصيات المهنة ودقائقها، بل على العكس كلما ازدادت عزلة القاضي عن مشاغل الحياة اليومية والإثارات التي تشغل الرأي العام (وهي الوقود اليومي لمحرك الصحافة)، وثق المجتمع فيه كحكم محايد بين الأطراف المتنازعة في المحكمة. ولا يشترط في القضاة فهم خصوصيات الصحافة أو أي مهنة أخرى (فمحامو الطرفين يضعون الخبراء والمتخصصين في منصة الشهود)، بل النزاهة والحياد والاستقلالية وقطع أي رابط بين العواطف ومنطق القانون.
اندمجت مع 70 من الصحافيين المغاربة في الشهرين الماضيين بإدارتي لثلاث دورات تدريبية، وحلقتي نقاش مع مديري التحرير تقيمها الجمعية الدولية للإصلاحات الانتخابية، ومؤسسة حرية الإعلام والتعبير المغربية (حاتم) بدعم السفارة البريطانية في المغرب.
أكثر ما يشغل بال الصحافيين هي القوانين والتعامل مع القضاء والحكومة والمسؤولين.
طرح الزميل طلحة جبريل، مسؤول مكتب «الشرق الأوسط» في الرباط سؤالا يتجاوز المغرب إلى العالم كله بقوله: «إن الحكومة والمسؤولين لا يزعجهم نشر رأي مضاد أو انتقادي أو نعتهم بما ليس فيهم في صفحة الرأي بقدر ما يزعجهم نشر معلومات يحاولون إخفاءها». وتذكرت تعريف اللورد نورثكليف (مؤسس صحيفة «الديلي ميل» عام 1896) للخبر «إنه ما يريد أحد إخفاءه».
لعبة القط والفأر في محاولة المسؤولين التكتم على المعلومات ومحاولة الصحافي الدائبة معرفتها لنشرها هي جوهر ديناميكية العمل الصحافي، والتحدي الأكبر للمهنة الذي وصفه الصحافيون المغاربة.
ففي استطلاع أجريته في الدورات الثلاث قال 80% من المشاركين والمشاركات، إن صمت المسؤولين ووضعهم العراقيل أمام حصول الصحافيين على المعلومات هو أكبر تحد يواجههم.
من ناحية القانون، فإن خُمس المشاركين فقط يرون أنه لا حاجة لوجود قوانين تنظم عمل الصحافة، وأن إلغاء القوانين الحالية المنظمة للصحافة والنشر سيسهم إيجابيا في رفع مستوى الصحافة المغربية كخطوة كبيرة نحو الديمقراطية.
ويرى ثلثا من يعتقدون بضرورة وجود قانون للصحافة أنه مهم «لحماية الصحافي».
أثار التفسير اهتمامي، خاصة أن 95% منهم أجاب بنعم عن سؤال «هل للصحافي دور في المجتمع؟» (النسبة المماثلة في ديمقراطيات ناضجة كبريطانيا أقل 15%، وغالبا في مطبوعات مؤدلجة لجماعات الضغط في القضية الواحدة كحزب الخضر، أو النسويات المتطرفات).
ويرى ثلاثة أرباعهم أن دور الصحافة «تثقيف الشعب» ووضع 60% منهم «حماية أخلاق المجتمع» ضمن أهم أربعة أولويات مع «رفع مستوى المعيشة» و«الدفاع عن المصالح الوطنية» و«الدفاع عن حقوق الإنسان».
أي أن الغالبية من الصحافيين اعتبروا أنفسهم وعملهم «حالة خاصة» وليس مهنة كالطب أو المحاماة، وبالتالي «لا تكفي» القوانين العادية لحمايتهم.
مبالغة الصحافي لدوره في المجتمع تضخم في ذاته لا شعوريا، فيتراخى في اتباع أهم قواعد المهنة وهي الدقة، وكثيرا ما يتكاسل زملاء عن إعادة التأكد من معلومة يعتقدون معرفتها مسبقا أو يتجاوز حيادية نقل الأخبار ليضع رأيه الشخصي فيها إيمانا بدور الصحافة في «تثقيف الشعب»، أو «حماية الأخلاق» أو «الدفاع عن المصالح الوطنية».
هذه المبالغة وتضخيم دور الصحافي قد تسوقه إلى إيقاع نفسه في فخ تضييق الحكومة الخناق على استقلاليته.
فمثلا تقبل الدولة وجهازها التنفيذي (الحكومة) بأن ينظم الأطباء والممرضات والمحامون بأنفسهم ميثاق عملهم وقوانين الممارسة في نقاباتهم الخاصة (فصل طبيب من عضوية اتحاد الأطباء في معظم بلدان العالم يعني سحب ترخيص مزاولة المهنة)، فلماذا لا تقبل ذلك من الصحافيين بتنظيمهم مواثيق ولوائح عملهم المهنية بقوة القانون من خلال نقابتهم المستقلة ويلتزمون بها بلا تدخل من الدولة والقضاء؟
وقد طرحت السؤال، وتطرحه أيضا مؤسسة «حاتم»، في ندوة المائدة المستديرة عندما أثار عدد من المشاركين، خاصة خبراء حقوقيين في مجال الصحافة، مسألة الحاجة لإصدار قانون جديد.
المفارقة أنه إذا كانت المشكلة التي أثارها الصحافيون هي في طريقة تعامل القضاة مع القوانين الحالية التي تخلط بين القوانين المدنية والجنائية ويجد الصحافي نفسه في قفص الاتهام الجنائي، ويقضي عقوبة السجن، فإنه من الطبيعي أن يعتبر الصحافي أن القضاء أصبح أداة في يد الحكومة لمنع وصول المعلومات للناس. ما الذي يضمن ألا يتحول القانون الجديد إلى سوط آخر في يد القضاء يلهب ظهور الصحافيين؟
هل المشكلة في القضاء أم في عدم وجود ما يكفي من القوانين؟
والبديهي طبعا أن نعمل على إلغاء جميع القوانين المتعلقة بتنظيم الصحافة التي يجب أن تنظم نفسها بنفسها مهنيا، بينما تكفي القوانين المدنية العادية لتناول أي ظلم أو إهانة تقع على أي شخص أو مؤسسة أو جماعة من النشر.
اترك تعليقاً