دراسات في القانون الجنائي الدولي, مهم لمن يهتم بالمقياس
“لقد أصبح مرتكب التعذيب، مثل القرصان وتاجر الرقيق من قبله، عدواً للبشرية بأسرها”.
محكمة الاستئناف بالولايات المتحدة، الدائرة الثانية ـ قضية فيلارتيغا ضد بينا إيرالا”
أولا: بينوشيه والطغمة الحاكمة في شيلي عام 1973
في ليلة 16 أكتوبر/تشرين الأول 1998 ألقت شرطة مدينة لندن القبض على الجنرال أوغسطو بينوشيه، بناءً على أمر قضائي إسباني بالقبض على الدكتاتور السابق بتهمة ارتكاب جرائم ضد حقوق الإنسان في شيلي إبان فترة حكمه التي دامت 17 عاماً؛ ورفضت المحاكم البريطانية ما زعمه بينوشيه من الحق في الحصانة، وحكمت بجواز تسليمه إلى إسبانيا لمحاكمته هناك.
ولكن قضية بينوشيه لم تبدأ في أكتوبر/تشرين الول 1998، بل بدأت في الواقع في أوائل سنوات حكم بينوشيه الدكتاتوري الذي استمر من عام 1973 حتى عام 1990، عندما شرع دعاة حقوق الإنسان الشجعان في رصد وتوثيق كل حالة من حالات التعذيب والقتل العمد و”الاختفاء” التي ارتكبتها قوات بينوشيه. وعندما عادت الديموقراطية إلى شيلي تشكلت لجنة رسمية لتقصي الحقيقة، فاستندت إلى ما أنجزه هؤلاء في إعداد البيانات التفصيلية الخاصة بما يربو على 2000 حالة من حالات القتل و”الاختفاء”. ولكن الجنرال بينوشيه كان قد أقام لنفسه ولمعظم شركائه هيكلاً قانونياً يكفل لهم الإفلات التام من العقاب ـ أو قل إن ذلك ما كان يتصوره.
ففي عام 1996، قام المحامون الموكلون للدفاع عن ضحايا القمع العسكري في الأرجنتين وشيلي، بعد أن عجزوا عن رفع الدعوى في أي منهما، برفع دعاوى جنائية في إسبانيا ضد الحكام العسكريين السابقين لهاتين الدولتين، ومن بينهم الجنرال بينوشيه. وعلى الرغم من أن معظم تلك الجرائم كانت قد ارتكبت في الأرجنتين وشيلي، فقد سمحت المحاكم الإسبانية بنظر تلك الدعاوى في إسبانيا، عملاً بمبدأ “عالمية الاختصاص القضائي” بنظر الانتهاكات البشعة لحقوق الإنسان، وهو المبدأ الراسخ في التشريع الإسباني وفي القانون الدولي، ولو أنه نادراً ما يُطبَّق أو يستند إليه.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 1998، توجه بينوشيه إلى بريطانيا، وفي السادس عشر من ذلك الشهر طلب القاضي بلتسار غارثون، الذي كان يتولى التحقيق في إحدى القضايا الإسبانية، من السلطات البريطانية إلقاء القبض على الدكتاتور السابق؛ ولم يلبث أن اعتُقل في مساء اليوم نفسه في لندن؛ ثم قدمت إسبانيا طلباً رسمياً بتسليم بينوشيه إليها، وحذت حذوها كل من بلجيكا وفرنسا وسويسرا. وطعن بينوشيه في أمر اعتقاله بدعوى أنه يتمتع بالحصانة من الاعتقال والتسليم لبلد آخر باعتباره رئيس دولة سابقاً. ولكن مجلس اللوردات البريطاني، وهو أعلى محكمة في بريطانيا، رفض مرتين مزاعم الحصانة التي قدمها بينوشيه؛ فقضى في الحكم الأول، الذي ألغاه فيما بعد، بأن رئيس الدولة السابق يتمتع بالحصانة فيما يتعلق بالأفعال التي يقوم بها في إطار ما يؤديه من وظائف باعتباره رئيساً للدولة، ولكن الجرائم الدولية مثل التعذيب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية ليست من “وظائف” رئيس الدولة. أما في الحكم الثاني، الذي كان ذا نطاق أضيق، فقد أفتى مجلس اللوردات بأنه ما دامت بريطانيا وشيلي قد صادقتا على “اتفاقية مناهضة التعذيب” الصادرة عن الأمم المتحدة، فليس من حق بينوشيه أن يطالب بالحصانة من المحاكمة فيما يتعلق بالتعذيب. ومن ثم حكم أحد القضاة البريطانيين بجواز تسليم بينوشيه إلى إسبانيا بناءً على اتهامه بارتكاب التعذيب والتآمر لارتكاب التعذيب. ولكن الفحوص الطبية التي أُجريت على بينوشيه أظهرت، فيما قيل، أنه لم يعد يتمتع بالأهلية العقلية اللازمة لمحاكمته؛ ومن ثم أُفرج عنه في مارس/آذار 2000 وعاد إلى وطنه شيلي.
وقد وصفت منظمة “مراقبة حقوق الإنسان” اعتقال بينوشيه بأنه “رنين الهاتف الذي يوقظ” الطغاة في كل مكان، ولو أن أحد الآثار المترتبة على هذه القضية، وهو لا يقل في أهميته عن ذلك، هو أنه يفتح باب الأمل أمام الضحايا الآخرين، في أن يتمكنوا من إحالة من عذبوهم إلى المحاكمة في الخارج. وسرعان ما تحقق ذلك إذ ساعدت منظمة “مراقبة حقوق الإنسان” الضحايا من أبناء تشاد على رفع قضية جنائية في يناير/كانون الثاني 2000 في السنغال ضد حسين حبري، دكتاتور تشاد السابق المقيم في المنفى، الذي وُجِّه الاتهام إليه، وينتظر الآن محاكمته بتهم تتعلق بارتكاب التعذيب (انظر أدناه).
ويحاول هذا الكتيب رسم الخطوط العريضة لأهم عناصر قضية بينوشيه باعتبارها سابقة قانونية، خصوصاً “عالمية الاختصاص القضائي”، وذلك حتى يتمكن الضحايا والمدافعون عن حقوق الإنسان من مواصلة الجهد لإحالة سائر الساسة المجرمين إلى العدالة في الخارج، وحتى يتفهموا العراقيل الكثيرة التي تواجههم في هذا الجهد.
ثانيا: ما هي عالمية الاختصاص القضائي؟
كان أهم ملامح قضية بينوشيه هو أن قضائياً إسبانيا مارس سلطة الأمر باعتقال بينوشيه بسبب الجرائم التي ارتُكب معظمها في شيلي، والتي كان معظم ضحاياها من أبناء شيلي. وتستند هذه السلطة إلى قاعدة “عالمية الاختصاص القضائي”، أي المبدأ الذي يقضي بأنه من مصلحة كل دولة أن تحيل إلى العدالة مرتكبي جرائم معينة تهم المجتمع الدولي بأسره، بغض النظر عن مكان ارتكاب الجريمة، وبغض النظر عن جنسية مرتكبيها أو جنسية ضحاياها.
ويعتمد الاختصاص القضائي بجريمة ما، في الأحوال العادية، على الصلة بين الدولة التي ترفع الدعوى وبين الجريمة نفسها، وهي صلة إقليمية في العادة؛ “أما في حالة الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية”، على نحو ما أوضح أحد كبار المحامين، “فيكفي أن تكون هذه الصلة أننا جميعاً من أبناء البشر”. والسبب الواقعي الرئيسي لنص القانون الدولي على عالمية الاختصاص القضائي هو أن يضمن عدم إتاحة “الملجأ الآمن” للمسؤولين عن ارتكاب أخطر الجرائم.
وكانت جريمة القرصنة هي الجريمة “العالمية” المعهودة في سالف الأزمان، ثم أضيفت إليها تجارة الرقيق. ولكن هذين اللونين من الجرائم كانا يرتكبان عبر حدود الدول أو في عرض البحار. وقد ازداد عدد الجرائم التي تتطلب عالمية الاختصاص القضائي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وطالت القائمة فأصبحت تتضمن كثيراً من الفظائع التي ترتكب داخل الحدود الوطنية، مثل جريمة الإبادة الجماعية، والتعذيب، والفصل العنصري، وغيرها من “الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية”. وقد نظرت إحدى محاكم الولايات المتحدة قضية هامة أصبحت من معالم تاريخ القضاء، وهي قضية فيلارتيغا التي رفعت فيها أسرة شخص من باراغواي كان من ضحايا التعذيب ثم انتقل للإقامة في الولايات المتحدة، دعوى مدنية ضد من قام بتعذيبه بعد أن انتقل هو أيضاً إلى الولايات المتحدة؛ وقالت المحكمة في حكمها: “لقد أصبح مرتكب التعذيب، مثل القرصان وتاجر الرقيق من قبله، عدواً للبشرية بأسرها”.
ثالثا: ما هي الجرائم التي تنطبق عليها عالمية الاختصاص القضائي؟
إذا أردنا تحديد الجرائم التي تنص عليها عالمية الاختصاص القضائي بموجب القانون الدولي، فعلينا أن ننظر في المعاهدات الدولية مثل “اتفاقية مناهضة التعذيب” الصادرة عن الأمم المتحدة، أو اتفاقيات جنيف الخاصة بجرائم الحرب، وكذلك في العرف السائد بين الدول (أو بما يسمى “بالقانون الدولي القائم على العرف”) وهي التي تعتبر:
- التعذيب
- الإبادة الجماعية
- الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية
- جرائم الحرب
رابعا: بعض الجرائم التي تنطبق عليها عالمية الاختصاص القضائي
جريمة الإبادة الجماعية و”الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية” جرائم تنطبق عليها عالمية الاختصاص القضائي. ولكننا نرى في كل حالة أن أساس البت فيما إذا كان من الممكن إقامة الدعوى استناداً إلى عالمية الاختصاص القضائي هو قوانين الدولة التي تقام فيها الدعوى (والتي تسمى “دولة الادعاء”). ومن بين الجرائم المرتكبة ضد حقوق الإنسان التي تنطبق عليها عالمية الاختصاص القضائي، بموجب القانون الدولي، الجرائم التالية:
التعذيب
تنص “اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”، التي أصدرتها الأمم المتحدة عام 1984 ـ والتي رفعت بموجبها الحصانة عن الجنرال بينوشيه وصدر الحكم بجواز تسليمه إلى إسبانيا ـ على أن “تقوم الدولة الطرف التي يوجد في الإقليم الخاضع لولايتها القضائية شخص يُدعى ارتكابه [للتعذيب]… بعرض القضية على سلطاتها المختصة بقصد تقديم الشخص للمحاكمة، إذا لم تقم بتسليمه”. وكما قال اللورد براون ويلكنسون، كبير القضاة في قضية بينوشيه “إن هدف الاتفاقية هو استحداث مبدأ التسليم أو العقاب، أي أن على الدولة أن تتولى معاقبة الشخص إذا لم تقم بتسليمه”. والقضية السنغالية المرفوعة ضد حسين حبري تستند في المقام الأول كذلك إلى “اتفاقية مناهضة التعذيب”.
وقد بلغ عدد الدول التي صادقت على “اتفاقية مناهضة التعذيب” 118 دولة حتى شهر فبراير/ شباط 2000؛ ولما كان الأمر الوارد في الاتفاقية واضحاً لا لبس فيه ولا غموض، فربما كانت تهمة التعذيب أقرب التهم إلى النجاح في القضايا المرفوعة في تلك الدول بصدد الجرائم المرتكبة خارج إقليم الدول نفسها، على نحو ما اتضح في قضية بينوشيه وقضية حسين حبري.
وتعرِّف الاتفاقية التعذيب بأنه “أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسدياً كان أم عقلياً، يلحق عمداً بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث، على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبة على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه، هو أو شخص ثالث أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث ـ أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أياً كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية”. وتنص الاتفاقية على ألا تقتصر العقوبة على الشخص الذي يقوم فعلاً بارتكاب أعمال التعذيب، بل أن تشمل أيضاً من يتواطأون معه أو يشاركونه في هذه الأعمال.
الإبادة الجماعية
حظيت اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها بالمصادقة على نطاق واسع، وهي تتضمن التعريف التالي لهذه الجريمة: “تعني الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية بصفتها هذه:
(أ) قتل أعضاء من الجماعة
(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة
(ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً
(د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة
(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى”.
ومن الأمثلة القريبة العهد على جريمة الإبادة الجماعية قتل أفراد طائفة التوتسي في رواندا، وقتل الأكراد في العراق، وقتل المسلمين في البوسنة. وقد اتهمت إسبانيا الجنرال بينوشيه بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية استناداً إلى تعريف أوسع للإبادة الجماعية، وهو التعريف الوارد في نص القانون الإسباني، الذي يتضمن أيضاً النص على معاقبة كل من يحاول القضاء على الجماعات السياسية، ولكن بريطانيا لم تحتفظ بهذه التهمة في لائحة الاتهام.
وعلى الرغم من عدم وجود نص محدد في اتفاقية منع الإبادة الجماعية، فإنه يجوز لأي دولة، استناداً إلى القانون الدولي القائم على العرف، أن تحيل كل من يتهم بالإبادة الجماعية إلى العدالة بموجب عالمية الاختصاص القضائي.
الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية
لم يتخذ مفهوم “الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية” شكل القانون المكتوب إلا بعد وضع “ميثاق محكمة نورمبرغ” التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية لمحاكمة قادة النازي. أما القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الناشئة فيتضمن (في المادة السابعة) تعريفاً للجرائم المرتكبة ضد الإنسانية قائلاً إنها أفعال معينة، مثل القتل العمد، والإبادة، والتعذيب، والاسترقاق، و “الإخفاء”، والاغتصاب، والاستعباد الجنسي، وما إلى ذلك بسبيل، إذا ارتكبت في إطار “هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، وعن علم بالهجوم”. وتوجد تعريفات مماثلة لهذا المفهوم في النظام الأساسي لكل من المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة وتلك الخاصة برواندا. والذي يجعل جريمة ما في عداد الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية هو ما تتسم به من اتساع نطاقها وطابعها المنهجي.
ويقضي القانون الدولي القائم على العرف بعالمية الاختصاص القضائي بالنسبة للجرائم المرتكبة ضد الإنسانية. وهنا يجب أن نعرب عن ضرورة الحذر؛ إذا ما أقل الدول التي انتهت من وضع تعريف للجرائم المرتكبة ضد الإنسانية وإدراجها في نصوص قوانينها الوطنية (مثل بلجيكا وفرنسا وإسرائيل). ولن تقدم دول كثيرة على رفع الدعوى القضائية أو قبولها إذا كانت قائمة على جرائم غير منصوص عليها في قوانينها الوطنية، حتى ولو كانت جريمة يعترف بها القانون الدولي، وتتضمن بعض الأفعال المحظورة بالفعل في القوانين الوطنية (مثل القتل العمد أو التعذيب). كما أن قضاة المحاكم الوطنية ممن لم يتمرسوا في القانون الدولي، مثل قضاة مجلس اللوردات البريطاني الذين نظروا قضية بينوشيه، لا يطمئنون إلى استعمال مفاهيم القانون القائم على العرف اطمئنانهم لاستخدام اللغة الواضحة للمعاهدات. وهكذا فإن النظرة الواقعية قد تجعل من “الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية” أسساً أقل ثباتاً لرفع الدعوى القضائية خارج حدود البلد من جرائم التعذيب أو جرائم الحرب التي تحظى بتعريفات واسعة النطاق في المعاهدات الدولية، بل وأصبح منصوصاً عليها في التشريعات الوطنية.
جرائم الحرب
كانت النظرة التقليدية إلى جرائم الحرب تقصر مفهومها على الجرائم التي ترتكب في الصراعات الدولية المسلحة، أو كانت تقصره بتعبير أدق على “الانتهاكات الخطيرة” لاتفاقيات جنيف الأربع المعقودة عام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول الذي ألحق بها عام 1977.
ولكن هناك من يسوق الحجج على أن التطورات الأخيرة أدت إلى توسيع هذا المفهوم بحيث أصبح يشمل الانتهاكات الخطيرة لأعراف وقوانين الحرب، سواء ما يرتكب منها في الصراعات المسلحة الدولية أو الصراعات المسلحة الداخلية. ولا خلاف على عالمية الاختصاص القضائي بالنسبة للانتهاكات الخطيرة لاتفاقيات جنيف والبروتوكول الإضافي الأول الصادر عام 1977. إذ إن كل اتفاقية من اتفاقيات جنيف الأربع، وقد صادقت جميع البلدان تقريباً عليها كلها، تنص على “أن يلتزم كل طرف متعاقد بملاحقة المتهمين باقتراف مثل هذه المخالفات الجسيمة أو بالأمر باقترافها، وبتقديمهم إلى محاكمه، أياً كانت جنسيتهم”.
و”الانتهاكات الخطيرة” لاتفاقيات جنيف والبروتوكول الإضافي الأول تتضمن ما يلي على سبيل المثال: القتل العمد، التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية، بما في ذلك التجارب البيولوجية؛ وتعمد إحداث المعاناة الشديدة، أو الأذى الخطير للبدن أو للصحة؛ وتدمير الممتلكات والاستيلاء عليها، دون مبرر من حيث الضرورة العسكرية، إذا حدث ذلك عمداً ودون وجه حق؛ وإرغام أسير الحرب أو غيره ممن يتمتعون بالحماية على الخدمة في قوات دولة معادية؛ وتعمد حرمان أسير الحرب أو غيره من الأشخاص المحميين من حقوق المحاكمة العادلة والمعتادة؛ واحتجاز الرهائن؛ واتخاذ السكان المدنيين أو أي فرد من المدنيين هدفاً للاعتداء؛ وشن الهجوم دون تمييز مع الوعي بأنه سوف يتسبب في إحداث خسائر أكثر مما ينبغي في الأرواح، أو إحداث الإصابات بالمدنيين أو الإضرار بأهداف مدنية؛ وقيام سلطات دولة الاحتلال بنقل بعض سكانها المدنيين إلى الإقليم الذي تحتله، أو نقل جميع أو بعض سكان الإقليم المحتل إلى أمكنة أخرى داخل ذلك الإقليم أو خارجه.
ومن المرجح أن تكون عالمية الاختصاص القضائي سارية على الانتهاكات الخطيرة للقوانين والأعراف الخاصة بالصراعات الدولية المسلحة، حتى ولم لو تكن تعتبر “انتهاكات خطيرة” لاتفاقيات جنيف، مما يسمح للدولة بملاحقة المسؤولين عنها، وإن لم تكن ملزمة بذلك. وتتضمن هذه الفئة ما يلي: تعمد شن الهجمات على السكان المدنيين، وفق المفهوم السائد، أو على الأفراد المدنيين الذين لا يشاركون بصورة مباشرة في العمليات العسكرية؛ وتعمد توجيه الهجمات إلى الأهداف المدنية (أي الأهداف التي لا تعتبر أهدافاً عسكرية) وشن الاعتداء مع الوعي بأنه قد يتسبب عَرَضاً في إحداث خسائر في الأرواح أو إصابة المدنيين أو إحداث الأضرار بالأهداف المدنية؛ والهجوم على بلدات أو مبانٍ لا يدافع عنها أحد وليست من الأهداف العسكرية؛ وقتل المحاربين أو إصابتهم بجروح بعد استسلامهم؛ والتشويه البدني أو إجراء التجارب الطبية أو العلمية على الأفراد رغماً عنهم؛ والسلب والنهب؛ واستخدام أنواع معينة من الأسلحة التي لا تميٌز بين الضحايا؛ والاغتصاب؛ والاسترقاق الجنسي والإرغام على الدعارة؛ وتعمد تجويع السكان؛ وتجنيد الأطفال دون الخامسة عشرة من العمر أو إلحاقهم بصفوف المقاتلين أو استخدامهم في العمليات العسكرية. كما يضم القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية عدداً كبيراً من جرائم الحرب التي ترتكب في غمار الصراعات المسلحة الدولية والتي لا تعتبر من “الانتهاكات الخطيرة”.
وقد شهدت السنوات الأخيرة توسيع مفهوم جرائم الحرب بحيث أصبح يتضمن ما يُرتكب منها في غضون الصراعات الداخلية أيضاً مما يعطي الدولة الثالثة الحق في ممارسة الاختصاص العالمي (وإن لم يكن يلزمها بذلك بالضرورة). وقد حظيت المادة الثالثة المشتركة بين جميع اتفاقيات جنيف بالقبول على أوسع نطاق باعتبارها المعيار المعتمد للسلوك في الصراعات المسلحة غير الدولية، وهي التي تحرِّم “الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، وبخاصة القتل بجميع أشكاله، والتشويه، والمعاملة القاسية، والتعذيب؛ وأخذ الرهائن؛ والاعتداء على الكرامة الشخصية، وعلى الأخص المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة؛ وإصدار الأحكام وتنفيذ العقوبات دون إجراء محاكمة سابقة أمام محكمة مشكلة تشكيلاً قانونياً، وتكفل جميع الضمانات القضائية اللازمة في نظر الشعوب المتمدنة”.
وإلى جانب ذلك، فإن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية قد عرف الجرائم التي تقع في غمار الصراعات الداخلية بحيث تشمل أفعالاً من قبيل: تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين بصفتهم هذه أو ضد أفراد مدنيين لا يشاركون مباشرة في الأعمال الحربية؛ وتعمد توجيه هجمات ضد المباني والمواد والوحدات الطبية ووسائل النقل؛ ونهب أي بلدة أو مكان؛ والاغتصاب، والاستعباد الجنسي، والإكراه على ممارسة البغاء، والحمل القسري، والتعقيم القسري.
خامسا: ما هي الدول التي تسمح برفع الدعوى في الجرائم المرتكبة خارج إقليمها؟
تختلف القوانين من دولة إلى أخرى، ولكنه لا يكفي – مع الأسف – أن تصادق دولة ما على معاهدة تلزمها بمقاضاة من يزعم قيامهم بالتعذيب أو ارتكابهم جرائم حرب، ولا يكفي النص في القانون الدولي القائم على العرف على مقاضاة مرتكبي جريمة الإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، حتى نضمن في كل الأحوال أن تسمح قوانين تلك الدولة برفع الدعوى القضائية.
ونرى في بلدان كثيرة أن المعاهدات (بل والقانون الدولي القائم على العرف في بعض الحالات) تصبح بصورة تلقائية جزءاً من القانون الوطني، دون حاجة إلى إصدار تشريع محدد “بتنفيذ” تلك المعاهدات، وذلك أساساً في البلدان التي استوحت قانونها المدني من تقاليد القانون المدني الفرنسي، على نحو ما نشهده في بلدان إفريقيا الناطقة بالفرنسية وفي مصر على سبيل المثال. وهكذا فإذا كان القانون الدولي التقليدي أو القائم على العرف ينص على عالمية الاختصاص القضائي، فلا بد أن يتوافر لدى محاكم هذه الدول الأساس الكافي لرفع الدعوى القضائية.
وعلى غرار ذلك نجد أن الكثير من بلدان أمريكا اللاتينية وأوروبا لديها من القوانين ما يشير بصفة عامة إلى المعاهدات التي صادقت عليها تلك البلدان؛ فعلى سبيل المثال، ينص قانون العقوبات في بنما على ما يلي: “بغض النظر عن القانون الخاص بالمكان الذي ارتكب فيه الفعل، وبغض النظر عن جنسية المتهم ، فإن القانون الجنائي في بنما يسري على كل من يرتكب فعلاً يُعاقَب عليه، مما هو منصوص عليه في المعاهدات الدولية التي صادقت عليها جمهورية بنما”.
وهكذا نرى أنه، من حيث المبدأ، يخضع مرتكب التعذيب في الخارج للعقاب في بنما بناءً على “اتفاقية مناهضة التعذيب”. وهذا هو المتبع في النمسا وبوليفيا والبرازيل وكوستاريكا وقبرص وجمهورية التشيك والدانمرك وإكوادور والسلفادور وإثيوبيا وفرنسا وجورجيا وألمانيا وغواتيمالا وهندوراس وباراغواي وبيرو وروسيا وإسبانيا وسريلانكا، وسويسرا وأوروغواي وغيرها.
ولكن بلداناً كثيرة أخرى تصر على ضرورة “إدماج” المعاهدات بصورة محددة في القوانين الوطنية قبل الارتكان إليها؛ وكثيراً ما تقوم البلدان بالمصادقة على المعاهدة ثم لا تصدر اللوائح التنفيذية لإدماج المعاهدة في القانون الوطني. وفيما يلي عرض موجز لما نعرفه عن القوانين المحلية في شتى البلدان، وإن كان على الضحايا أن يستشيروا المحامين في كل حالة في دولة الادعاء قبل اتخاذ أي خطوة من الخطوات.
توجد في بلدان كثيرة تشريعات محددة تضع “اتفاقية مناهضة التعذيب” موضع التنفيذ، مثل قانون العدالة الجنائية في المملكة المتحدة، وهو الذي استمدت بريطانيا منه سلطة اعتقال بينوشيه؛ وهو ينص على ما يلي: “تتوافر أركان جريمة التعذيب إذا تعمد مسؤول حكومي أو أي شخص يمارس عمله باعتباره مسؤولاً حكومياً، أياً كانت جنسيته، وسواء كان ذلك في المملكة المتحدة أو في أي مكان آخر، إحداث ألم أو معاناة شديدة لغيره، في غضون أدائه لواجباته الرسمية أو بقصد أدائه لهذه الواجبات”. وتوجد تشريعات مماثلة فيما يتعلق بالتعذيب لدى دول أخرى من بينها أستراليا وكندا وبلجيكا وفرنسا ومالطا، وهولندا، ونيوزيلندا والولايات المتحدة.
وعلى غرار ذلك قامت بلدان كثيرة بإدماج اتفاقيات جنيف في قوانينها الوطنية، وإن كان ذلك عادة دون التعميم الذي تتسم الاتفاقيات به؛ وهكذا فإن قوانين الولايات المتحدة تقضي بمعاقبة “كل من يرتكب جريمة حرب، سواء أكان ذلك داخل الولايات المتحدة أم خارجها”، وهي تحدد جريمة الحرب هنا بأنها أي انتهاك خطير لاتفاقيات جنيف أو أي انتهاك للمادة الثالثة المشتركة بينها. ولكن هذا النص لا يُطبَّق إلا إذا كان الجاني أو المجني عليه فرداً من أفراد قوات الولايات المتحدة أو مواطناً من مواطنيها. وموقع الإنترنت الخاص باللجنة الدولية للصليب الأحمر يتضمن أسماء كثير من البلدان التي أدرجت في قوانينها الأحكام الخاصة بجرائم الحرب المرتكبة خارج إقليمها بعض البلدان التي تمنح محاكمها الاختصاصات والسلطة اللازمة لمحاكمة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية خارج إقليمها، مثل بلجيكا وكوستاريكا وألمانيا ونيكاراغوا وإسبانيا. وثمة بلدان قليلة لديها من القوانين ما يسمح بصفة محددة بمحاكمة من يرتكب جريمة ضد الإنسانية في الخارج، ومن بينها بلجيكا وفرنسا وإسرائيل وفنزويلا؛ كما إن بعض بلدان شمال أوروبا، مثل النرويج والسويد، تعتبر أن جميع الجرائم المرتكبة في الخارج من الجرائم التي يعاقب عليها القانون مادام مرتكبها موجوداً في دولة الادعاء.
سادسا: وما هو الحال إذا كانت هناك ضحايا من أبناء دولة الادعاء؟
بالإضافة إلى عالمية الاختصاص القضائي، تمنح بلدان كثيرة محاكمها صلاحية معاقبة من يرتكب جريمة في الخارج ضد أحد مواطنيها (وهو ما يسمى بالاختصاص القائم على أساس “الجنسية السلبية” أو “الشخصية السلبية”)؛ وعادة ما يشترط في هذه الحالة أن يكون الفعل المرتكب من الأفعال التي تعتبر من الجرائم في البلد الذي تقع فيه أيضاً، وألا يكون مرتكبه قد عُوقب عليه. وهكذا فإن القضايا المرفوعة ضد بينوشيه في بلجيكا وفرنسا وسويسرا كانت تستند إلى الشكاوى التي قدمها أفراد من مواطني هذه الدول، وزعموا فيها أنهم تعرضوا للضرر على يدى بينوشيه في شيلي. ولا شك أن وجود ضحايا من أبناء الدولة نفسها يزيد من المصلحة السياسية للدولة في إقامة الدعوى.
مسألة الإرادة السياسية
تعتبر الإرادة السياسية للدولة التي ترفع الدعوى (أو التي تقوم بتسليم الشخص) من العوامل التي تحسم إمكانية مقاضاته، خصوصاً إذا كان القانون لا يسمح للمجني عليهم بالشروع في إجراءات التقاضي الجنائي بصورة مباشرة. ففي حالة بينوشيه، قامت الشرطة البريطانية على الفور بتنفيذ الأمر القضائي الذي أرسلته إسبانيا لإلقاء القبض عليه؛ كما قام وزير الداخلية البريطاني جاك سترو مرتين باتخاذ القرار الصعب من الناحية الدبلوماسية وهو قرار السماح بالمضي في إجراءات طلب التسليم الذي قدمته أسبانيا.
وأغلب الظن أن بعض الدول الأخرى، إذا واجهت مثل هذا الموقف، ستميل إلى اتخاذ قرار يعفيها من الثمن السياسي الذي لابد من دفعه مقابل الخروج على الأوضاع الدولية الراهنة، على نحو ما حدث مؤخراً، حين قام عزة إبراهيم الدوري، أحد كبار مساعدي الرئيس العراقي صدام حسين، بزيارة فيينا في أغسطس/ آب 1999 بقصد العلاج، إذ رفع أحد أعضاء المجلس المحلي للمدينة دعوى جنائية عليه استناداً إلى الدور النشيط الذي اضطلع به في حملة الإبادة الجماعية التي شنها العراق على الأكراد؛ ولم تمضِ ثمانٍ وأربعون ساعة حتى تركته الحكومة النمساوية يغادر البلد، فوضعت بذلك علاقاتها مع العراق فوق التزاماتها بموجب المعاهدات الدولية. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 1999، قام طاغية إثيوبيا الأسبق، منغستو هايلي ماريام، الذي تسعى السلطات الإثيوبية لاعتقاله بتهمة الإبادة الجماعية والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، بزيارة جنوب إفريقيا بقصد العلاج؛ وعلى الرغم من الأصوات التي ارتفعت من الجماعات المحلية والدولية للمطالبة باعتقاله، وعلى الرغم من السجل المشرف لحقوق الإنسان في جنوب إفريقيا، فإنه لم يتعرض للاعتقال بل عاد إلى منفاه في زمبابوي، حيث تؤويه الحكومة منذ سقوطه. وعندما اعتقل أبو داود في فرنسا عام 1976، وهو المتهم في حادثة المذبحة التي وقعت لفريق ألعاب القوى الإسرائيلي في دورة ميونيخ الأوليمبية عام 1972، لم تأبه باريس لطلبات تسليمه التي قدمتها ألمانيا الغربية وإسرائيل، بل أطلقت سراحه بعد القبض عليه بأربعة أيام.
ومن الواضح أن وجود حكومة ديموقراطية وسلطة قضائية مستقلة، وربما وجود جالية كبيرة من أبناء البلد الذي ارتكبت فيه الجرائم ممن يعيشون في المنفى، سوف يساعد على إيجاد المناخ السياسي المواتي الذي يسمح بالسير في إجراءات القضية في دولة الادعاء. ولم يكن من الممكن أن ترفع الدعوى على بينوشيه في إسبانيا، حيث تتعرض حكومتها المحافظة للضغط من شركائها التجاريين في أمريكا الجنوبية لإغلاق القضية، إلا بسبب استقلال السلطة القضائية في إسبانيا، ووجود جالية كبيرة من أبناء شيلي الذين يعيشون في المنفى في إسبانيا، وقوة التأييد الشعبي لمحاكمته. كما سمحت السنغال بالسير في إجراءات الدعوى المرفوعة على حسين حبري دون تدخل سياسي، ولا غرو، إذ تفخر السنغال بأنها كانت أول دولة في العالم تصادق على معاهدة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، كما كان لها وجودها البارز في القضايا الدولية لحقوق الإنسان. ولكننا نرى، من جهة أخرى، أنه من المستبعد أن تُرفع الدعوى القضائية على عيدي أمين، دكتاتور أوغندا السابق، الذي يقيم حالياً في المملكة العربية السعودية؛ فهي دولة لا تتمتع بأي مشاركة سياسية تُذكر، ولا بسلطة قضائية مستقلة، ولم تستجب حكومتها للطلبات التي قدمتها المنظمات غير الحكومية الدولية ومجموعات الضحايا لإحالة عيدي أمين إلى العدالة.
وقد تحاول حكومة البلد الذي ارتكبت فيه الجرائم منع رفع الدعوى، وإن كان ذلك يتوقف ـ إلى حد ما ـ على ما إذا كان النظام الحاكم الذي ينتمي إليه مرتكب الجريمة ما زال قائماً؛ فقد تكون لذلك آثاره الهامة من حيث إمكان الحصول على المعلومات وعلى الأدلة، بل ومن حيث سلامة الشهود والضحايا وأسرهم. بل إن مثل تلك الحكومات قد تحاول أيضاً إغلاق ملف القضية، على نحو ما فعلت شيلي في قضية بينوشيه؛ وعندها قد تتوقف نتيجة الدعوى على الإرادة السياسية لدولة الادعاء، وعلى استقلال سلطتها القضائية، وعلى النفوذ المضاد الذي قد تتمتع به الجماعات ذات المصلحة.
والواقع أنه حتى إذا لم تكن السياسة الدولية تمثل عاملاً من عوامل رفع الدعوى، فقد يكون من العسير إقناع النائب العام أو قاضي التحقيق في بلد أجنبي بالشروع في التحقيق في جريمة ارتكبت خارج بلده، لأن ذلك يقتضي اقتطاع قدر من الموارد المالية والبشرية اللازمة للقضايا المحلية، خصوصاً بسبب التكاليف الباهظة للقضايا الدولية، واحتمال عدم الاهتمام محلياً بالقضية المزمع رفعها. وهكذا لابد من القيام بحملة توعية قوية؛ ومن بين الحجج التي قد يسوقها المؤيدون المحليون لرفع الدعوى أن بلدهم لا يجوز أن يصبح “ملجأً آمناً” لمرتكبي جرائم حقوق الإنسان.
وتسمح بعض البلدان للضحايا وللمنظمات غير الحكومية برفع الدعوى في المحاكم مباشرة دون الحاجة إلى موافقة النيابة العامة، ولو أن هذه الصعوبات ذاتها قد تنشأ عند إقناع القاضي بنظر القضية.
سابعا: ما هي القضايا الأخرى المرفوعة استناداً إلى مبدأ عالمية الاختصاص القضائي؟
عقد الحلفاء بعد انتصارهم في الحرب العالمية الثانية آلاف المحاكمات في محاكمهم الوطنية للأفراد من الألمان المتهمين بارتكاب جرائم ضد السلم وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، وكانت تستند أساساً إلى مبدأ عالمية الاختصاص القضائي. ولكن العقود التالية لم تشهد إلا عدداً محدوداً من مثل هذه القضايا؛ ففي عام 1961 قامت إسرائيل بمحاكمة أدولف أيخمان وأدانته بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية، واعتمدت في ذلك ، إلى حد ما، على مبدأ عالمية الاختصاص القضائي. وفي عام 1985 قضت إحدى محاكم الولايات المتحدة بالسماح بتسليم جون ديميانيوك إلى إسرائيل، الذي زُعم أنه ارتكب جريمة الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية أثناء الحرب العالمية الثانية، بناءً على حق إسرائيل في رفع الدعوى الذي يستند إلى عالمية الاختصاص القضائي. (ولكن ديميانيوك أُطلق سراحه، بعد محاكمته وصدور الحكم بإعدامه في إسرائيل، وذلك على أساس عدالة الإجراءات، بعد أن أثارت الأدلة المقدمة شكوكاً في صحة إثبات التهمة المحددة التي أدت إلى تسليمه لإسرائيل).
وفي أعقاب جرائم الإبادة الجماعية التي وقعت في يوغوسلافيا السابقة وفي رواندا، أحال عدد من البلدان الأوروبية مرتكبيها إلى المحاكمة استناداً إلى مبدأ عالمية الاختصاص القضائي؛ ففي بلجيكا، اعتقلت السلطات البلجيكية مواطناً رواندياً يُدعى فنسنت نتزيمانا، ووجهت إليه تهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. وفي ألمانيا، حكمت محكمة عليا من محاكم بافاريا على مواطن من صرب البوسنة يدعى نوفيسلاف ديايتش بالسجن خمس سنوات في عام 1997، بموجب اتفاقيات جنيف، بتهمة المعاونة والتواطؤ في قتل 14 رجلاً من مسلمي البوسنة في عام 1992. وفي سبتمبر/أيلول 1997 حكمت محكمة دوسلدورف العليا على نيكولا يورغيتش، الزعيم الأسبق لإحدى الجماعات البرلمانية الصربية، بالسجن المؤبد بعد إدانته بإحدى عشرة تهمة في إطار جريمة الإبادة الجماعية، وثلاثين تهمة بجريمة القتل العمد؛ ولكنها لم تبت بعد في قضية ثالثة مرفوعة ضد رجل من صرب البوسنة متهم بجريمة الإبادة الجماعية. وفي الدانمرك، يقضي رجل من مسلمي البوسنة يُدعى رفيق ساريتش حكماً بالسجن ثماني سنوات لارتكابه جرائم الحرب، بعد أن وُجِّهت إليه تهمة تعذيب المعتقلين في أحد السجون التي كان يديرها الكرواتيون في البوسنة عام 1993، وذلك بموجب اتفاقيات جنيف. وفي إبريل/نيسان 1999 أدانت إحدى المحاكم العسكرية السويسرية مواطناً روانديا بارتكاب جرائم حرب في رواندا. وتحاكم السلطات الهولندية حالياً رجلاً من صرب البوسنة بتهمة ارتكاب جرائم حرب، أمام محكمة عسكرية. كما تحاكم السلطات الفرنسية حالياً قساً رواندياً يدعى ونسيسلاس مونيشياكا، بتهمة الإبادة الجماعية وارتكاب جرائم ضد الإنسانية، والتعذيب. كما قامت الشرطة الفرنسية في يوليو/تموز 1999 باعتقال ضابط موريتاني برتبة عقيد يُدعى علي ولد داه، أثناء دراسته بإحدى الأكاديميات العسكرية الفرنسية، استناداً إلى أحكام “اتفاقية مناهضة التعذيب”، وذلك عندما تعرّف عليه مواطنان موريتانيان يقيمان في المنفى، وقطعاً بأنه هو الذي قام بتعذيبهما. وفي فبراير/شباط 2000 وجهت محكمة سنغالية إلى دكتاتور تشاد المنفي حسين حبري تهمة ارتكاب التعذيب.
ثامنا: الدعوى المرفوعة على حسين حبري “بينوشيه الإفريقي”
في فبراير/شباط 2000 وجهت محكمة سنغالية تهمة ارتكاب التعذيب إلى حسين حبري، دكتاتور تشاد السابق المقيم في المنفى، ووضعته تحت الإقامة الجبرية في منزله، وكانت تلك أول مرة تتهم فيها إحدى المحاكم في دولة إفريقية شخصاً من دولة إفريقية أخرى بارتكاب الفظائع.
حسين حبري ،بينوشيه الافريقي
وقد ظل حسين حبري يحكم تشاد منذ عام 1982 حتى عام 1990، وهو العام الذي خلعه فيه الرئيس الحالي إدريس ديبي، فاضطر إلى الفرار إلى السنغال. ومنذ سقوط حبري وأبناء تشاد يحاولون إحالته إلى العدالة، فقامت “الرابطة التشادية لضحايا القمع السياسي والجريمة” بتجميع المعلومات الخاصة بكل فرد من الضحايا البالغ عددهم 792، وهم من تعرضوا لوحشية حبري، آملين الانتفاع بما سجلوه عن هذه الحالات في رفع الدعوى القضائية على حبري. وفي عام 1992 أصدرت لجنة تقصي الحقيقة تقريراً يتضمن اتهام نظام حبري بارتكاب 40 ألف جريمة من جرائم القتل السياسي، و200 ألف حالة من حالات التعذيب. ولما كان عدد كبير من كبار المسؤولين في حكومة ديبي، ومن بينهم ديبي نفسه، ضالعين في جرائم حبري، فإن الحكومة الجديدة لم تطلب من السنغال تسليمه إليها.
وفي عام 1999، تقدمت “الرابطة التشادية لنصرة حقوق الإنسان والدفاع عنها ـ وعينها على السابقة القانونية المتمثلة في حالة بينوشيه ـ بطلب إلى منظمة “مراقبة حقوق الإنسان” ترجو فيه مساعدتها في إحالة حبري إلى العدالة في السنغال. وقام الباحثون في منظمة “مراقبة حقوق الإنسان” بزيارة تشاد مرتين، واطلعوا على الوثائق التي أعدتها رابطة الضحايا المذكورة في عام 1991 واستفادوا منها، عاملين في الخفاء، خشية قيام المسؤولين التشاديين بإبلاغ حبري الذي قد يفر إثر ذلك من السنغال؛ واجتمع الباحثون بالضحايا والشهود، ساعين للحصول على كل ما من شأنه توثيق الجرائم التي ارتكبها حبري. وفي غضون ذلك قامت منظمة “مراقبة حقوق الإنسان”، دون إحداث ضجة، بتنظيم تآلف من المنظمات غير الحكومية التشادية والسنغالية والدولية، تدعيماً للشكوى، وكان من بينها “الاتحاد الدولي لجمعيات حقوق الإنسان”، ومنظمة “الحقوق الدولية” (إنتررايتس)، إلى جانب مجموعة من المحامين السنغاليين الذين يمثلون مصالح الضحايا. وكان من بين من رفعوا الدعوى باعتبارهم أفراداً سبعة أفراد تشاديين، وأرملة فرنسية راح زوجها ضحية نظام حبري وكذلك رابطة الضحايا المذكورة.
وتقدم الشاكون بالدعوى الجنائية التي رفعوها إلى محكمة داكار الإقليمية، والتي يتهمون فيها حبري رسمياً بارتكاب التعذيب وجرائم ضد الإنسانية، كما حضر العديد منهم إلى السنغال خصيصا لهذا الغرض. أما تهم التعذيب فكانت تستند إلى القانون السنغالي الخاص بالتعذيب، وكذلك إلى “اتفاقية مناهضة التعذيب” التي اعتمدتها الأمم المتحدة عام 1984، والتي صادقت عليها السنغال في عام 1987. كما أشارت هذه الجماعات أيضاً إلى التزامات السنغال بموجب القانون الدولي القائم على العرف، والتي تقضي برفع الدعوى على المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
وفي مستندات القضية المرفوعة إلى قاضي التحقيق، قدمت منظمة “مراقبة حقوق الإنسان”، وغيرها من المنظمات، البيانات التفصيلية الخاصة بسبع وتسعين حالة من حالات القتل السياسي، و142 حالة تعذيب، و100 حالة “اختفاء”، و736 حالة اعتقال تعسفي، قامت بتنفيذ معظمها “إدارة التوثيق والأمن” التابعة لحسين حبري، والتي كانت تلقي الرعب في القلوب، إلى جانب تقرير أعده فريق طبي فرنسي عام 1992 عن التعذيب في ظل نظام حبري، وكذلك تقرير “لجنة تقصي الحقيقة” التشادية. كما قدمت المنظمات أيضاً الوثائق التي تبين كيف وضع حبري “إدارة التوثيق والأمن” تحت إشرافه المباشر، وعين فيها موظفين من أقرب أصدقائه، وألزمها برفع تقاريرها إليه بصورة منتظمة. كما قدمت المنظمات أيضاً الشهادة التي أدلى بها، بعد حلف اليمين، اثنان من السجناء السابقين؛ وكانت اللجنة المذكورة قد أمرتهما بحفر قبور جماعية لدفن خصوم حبري. ووصف اثنان من الشاكين كيف تعرضا لأسلوب من أساليب التعذيب الواسعة الانتشار، وهو الذي يُسمَّى “أربعة عشر”، وفيه يُشدُّ وثائق السجين بتقييد أطرافه الأربعة خلف ظهره مما يعطل الدورة الدموية ويتسبب في الشلل.
وعشية رفع الدعوى قابل ممثلو المنظمات غير الحكومية والشاكون وزير العدل السنغالي الذي أكد لهم أنه لن يحدث أي تدخل سياسي في عمل القضاء. وكانت القضية مرفوعة باعتبارها شكوى تتخذ صفة الادعاء الشخصي، وسارت إجراءاتها بسرعة مذهلة. فأحال القاضي ملف القضية أولاً إلى المدعي العام طلباً لمشورة غير ملزمة؛ وكان المدعي العام قد أُبلغ بضرورة الإسراع حتى لا تتاح الفرصة لحسين حبري للفرار من البلد، وكذلك حتى يدلي الضحايا بأقوالهم قبل عودتهم إلى تشاد، ومن ثم أصدر مشورته، التي يوافق فيها على إقامة الدعوى، في غضون يومين فقط. وفي اليوم التالي أدلى الضحايا بشهادتهم أمام القاضي في جلسة مغلقة ـ وهو ما كانوا ينتظرونه من تسع سنوات! وعندها أمر القاضي باستدعاء حبري يوم 3 فبراير/شباط 2000، وأعلنه بتهمة “التواطؤ لارتكاب التعذيب”، وأمر بوضعه تحت الإقامة الجبرية في منزله. كما أمر بفتح التحقيق مع أشخاص تحدد أسماؤهم فيما بعد بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، والاختفاء، والأعمال الوحشية؛ بمعنى أنه يستطيع فيما بعد توجيه هذه التهم إلى حبري أو إلى غيره من الأشخاص.
وسوف يواصل القاضي الآن التحقيق الذي يقوم به في القضية، وربما قام بزيارة إلى تشاد في غضون ذلك. وقد قام حبري بتوكيل بعض المحامين لإعداد الدفاع عنه، في حين تستمر منظمة “مراقبة حقوق الإنسان” وشركاؤها في إجراء المزيد من البحوث، بعد أن انتفت الحاجـة الآن إلى التكتم. وقد تعقد محاكمة حبري إما في أواخر عام 2000 أو في عام 2001.
ويعتبر إقدام السنغال على السماح بالسير في إجراءات القضية عملاً فريداً إذ ربما تقاعست عنه بلدان كثيرة. فالسنغال بلد ذا تقاليد ديموقراطية، يتمتع القضاء فيها بدرجة عالية من الاستقلال بالمقارنة بغيره في إفريقيا؛ وهي تعتز بأنها كانت أول دولة في العالم تصادق على معاهدة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، كما كان لها دورها البارز في مجال الحقوق الدولية. وعلى الرغم مما قيل من استثمارات حبري الكبيرة في الصناعة السنغالية، فلم تكن هناك جماعات ضغط قوية تعمل لصالحه، سواء على المستوى الوطني أو الدولي.
وقال ريد برودي، من منظمة “مراقبة حقوق الإنسان”، الذي عمل في قضية بينوشيه وقضية حبري: “إن قضية بينوشيه قد أكدت من جديد مبادئ القانون الدولي التي تقضي بأن بلداً ما يستطيع محاكمة مرتكب جريمة التعذيب، بغض النظر عن مكان ارتكابها، وأنه لا حصانة من المحاكمة حتى لرئيس دولة سابق؛ ولكنها أظهرت لنا أيضاً أن هناك بلداناً يمكن تطبيق هذه المبادئ السامية فيها عملياً، ولنا أن نعد السنغال اليوم من بين هذه البلدان”.
تاسعا: هل يلزم أن يكون المتهم موجوداً في دولة الادعاء؟
يتوقف ذلك على القوانين الخاصة بكل بلد، وعلى الغرض من إقامة الدعوى، وإمكان تسليم المتهم آخر الأمر؛ ويجب أن نذكر أن بينوشيه كان موجوداً في وطنه شيلي عندما بدأت إجراءات إقامة الدعوى ضده في أسبانيا.
وهل تشترط قوانين دولة الادعاء حضور المتهم؟ لا تتطلب بلدان كثيرة وجود المتهم بارتكاب الجريمة في البلد قبل الشروع في التحقيق؛ ولكن معظم البلدان تحظر إجراء المحاكمة في غياب المتهم. كما يعتمد هذا، إلى حد ما، على أساس الاختصاص القضائي. ففي الحالات التي يكون فيها الاختصاص القضائي قائماً على جنسية المتهم (أساس الاختصاص القضائي القائم على “الجنسية السلبية”) مثلاً، تسمح فرنسا وإيطاليا بإجراء المحاكمة غيابياً. وهذا هو ما حدث عندما قُدِّم ضابط بحري أرجنتيني يدعى ألفريدو أستيز للمحاكمة في فرنسا، بتهمة المشاركة في تعذيب راهبتين فرنسيتين في الأرجنتين، فأُدين بهذه التهمة وحُكم عليه بالسجن المؤبد رغم أنه لم يكن في فرنسا. ولكن هاتين الدولتين أنفسهما تتطلبان أن يكون المتهم بارتكاب الجريمة موجوداً في الإقليم التابع لكل منهما في الدعاوى القائمة على الاختصاص القضائي العالمي.
وإذا كانت بعض البلدان تسمح بإجراء المحاكمات الغيابية، فإن منظمة “مراقبة حقوق الإنسان” تعتقد أن الإنصاف يقتضي حضور المتهم في المحكمة أثناء محاكمته حتى يمكنه تقديم دفاعه. فإذا قُبض على متهم بعد إجراء محاكمة أدين فيها غيابياً، فيجب في هذه الحالة إلغاء حكم الإدانة وإجراء محاكمة جديدة تماماً له.
وعلى الضحايا بطبيعة الحال أن ينظروا فيما يمكن أن يعود عليهم من رفع الدعوى على فرد غير موجود بشخصه في دولة الادعاء؛ أما الفائدة العملية لذلك فقد تعتمد على إمكان الحكم بتسليمه. ولكن رفع الدعوى قد تكون له أيضاً قيمة رمزية، أو قد تضع قيوداً على انتقالاته وأسفاره المعتزمة، أو قد تتيح تجميد حساباته في المصارف الدولية وغير ذلك من الأرصدة.
تسليم الأشخاص
إذا كان المتهم غير موجود في دولة الادعاء، فلابد من السعي لاحتجازه؛ والأسلوب التقليدي في هذه الحالة هو طلب تسليمه، وإن كانت هناك بدائل مثل ترحيل أحد الأجانب إلى البلد التي يحمل جنسيتها؛ وذلك ما فعلته بوليفيا عندما رحلت كلاوس باربي، المشهور باسم “سفاح ليون” في الحرب العالمية الثانية، إلى فرنسا لمحاكمته.
وتسليم الأشخاص هو المصطلح الذي يطلق على قيام إحدى الدول بتقديم طلب إلى دولة أخرى بتسليم شخص إليها زاعمة أنها تتمتع بالحق في محاكمته.
ولا تقوم بعض الدول بتسليم الأشخاص إلا بناءً على معاهدة تسليم معقودة مع دولة أخرى، ولذلك فلابد من التأكد من وجود مثل هذه المعاهدة بين البلدين؛ ولو أن بلداناً كثيرة توافق على تسليم الأشخاص حتى دون وجود مثل تلك المعاهدة، استناداً إلى مبدأ المعاملة بالمثل ـ أي تلبية كل من الدولتين لطلبات الدولة الأخرى. ومن ناحية أخرى نجد أن الدستور في بلدان كثيرة يحظر تسليم أحد مواطنيها حتى في حالة وجود معاهدة معقودة لتسليم الأشخاص.
وإذا كان الواقع العملي يتفاوت من حالة إلى أخرى، خصوصاً بناءً على أحكام المعاهدات المعقودة، فإن تسليم الأشخاص عادة ما يتبع قواعد متماثلة، وهي:
1- التجريم المزدوج: ومعناه اشتراك البلدين في تجريم عمل ما، أي ضرورة النص على تجريم الأفعال التي يزعم ارتكابها في قوانين كل من الدولة التي تطلب تسليم الشخص والدولة التي تتلقى الطلب. وتحدد معظم معاهدات تسليم الأشخاص الجرائم التي يسمح فيها بتسليم الأشخاص. ولكن بعض المعاهدات الأخرى تشير فحسب إلى فئات من الجرائم أو إلى مستوى العقوبة (ولنقل، على سبيل المثال، تلك الجرائم التي يُعاقب مرتكبها بالحبس سنة واحدة على الأقل).
وفي قضية بينوشيه فسر مجلس اللوردات هذه القاعدة بحيث تنص على ضرورة اعتبار أفعال بينوشيه من الجرائم في بريطانيا في الوقت الذي ارتكبت فيه، لا في الوقت الذي تلقت فيه بريطانيا طلب تسليم بينوشيه. ولم تصبح جريمة التعذيب خارج إقليم البلد (أي التعذيب المرتكب “في المملكة المتحدة أو في غيرها”، انظر ما تقدم) من الجرائم التي تسري عليها عالمية الاختصاص القضائي في المملكة المتحدة إلا في عام 1988، أي بعد أن أدمجت المملكة المتحدة “اتفاقية مناهضة التعذيب” في نصوص قوانينها، في حين أن معظم حالات التعذيب التي ارتكبت في ظل حكم بينوشيه قد وقعت قبل هذا التاريخ؛ ومن ثم فإن مجلس اللوردات قد قلل كثيراً من عدم الجرائم التي تجيز تسليم بينوشيه إلى أسبانيا.
2- عبء الأدلة: تلتزم الدولة التي تطلب تسليم الشخص إليها، في الأحوال العادية، بتقديم أدلة إثبات مبدئية ضد المشتبه فيه قبل تسليمه، وهو ما يضمن عدم القبض على الأشخاص وتسليمهم دون توافر الأدلة اللازمة. ولكن بعض المعاهدات لا تنص على هذا الشرط، إذ تكتفي الاتفاقية الأوربية الخاصة بتسليم الأشخاص، مثلاً، وهي التي استندت إليها إسبانيا عندما طلبت من بريطانيا تسليم بينوشيه إليها، بالنص على تقديم إجراءات الاتهام الرسمية. والواقع أن الاتفاقية تنص بصورة محددة على أنه “ليس من الضروري… إبلاغ المحكمة… بالأدلة الكافية التي تبرر محاكمة ذلك الشخص”.
3- استثناء “الجرائم السياسية”: لا تقوم معظم البلدان بتسليم المشتبه في ارتكابه “جريمة سياسية”؛ أما معايير البت فيما يعتبر من “الجرائم السياسية” فهي تتفاوت، وإن كانت تتضمن بصورة عامة التمرد على الحكومة القائمة، وما يتصل بذلك من الجرائم. أما الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، والتعذيب، وإبادة الجنس وجرائم الحرب فليست من الجرائم السياسية. بل إن اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية تنص صراحة على أن هذه الجريمة لا تعتبر جريمة سياسية فيما يتعلق بتسليم الأشخاص. وتنص “اتفاقية مناهضة التعذيب” على مثل هذا ضمناً، إذ تستوجب إدراج التعذيب في قائمة الجرائم التي يجوز فيها تسليم الأشخاص فيما بين الدول الأطراف في معاهدات تسليم الأشخاص.
4- مبدأ التخصيص: لا يجوز للدولة التي تطلب تسليم شخص ما أن تحاكمه وتعاقبه إلا على الجرائم التي استندت إليها الدولة الأخرى في تسليمه إليها. ففي حالة بينوشيه مثلاً طلبت إسبانيا تسليم الجنرال إليها لاتهامه بجرائم الإرهاب والإبادة الجماعية واحتجاز الرهائن والتعذيب. ولكن مجلس اللوردات لم يسمح بتسليم بينوشيه إلا استناداً إلى تهمة التعذيب والتآمر على ارتكاب التعذيب بعد ديسمبر/كانون الأول 1998. فإذا تم تسليم بينوشيه إلى إسبانيا، فلا يجوز محاكمته إلا على هاتين الجريمتين.
مشكلة الإثبات في القضية
من الصعوبات الكأداء في إقامة الدعوى في الجرائم المرتكبة خارج إقليم الدولة صعوبة جميع الأدلة؛ إذ لن نجد الضحايا ومعظم الأدلة في دولة الادعاء بل في البلد الذي ارتكبت فيه الجرائم، ومن ثم فإن الإثبات في القضية سوف يقتضي نقل الضحايا والشهود والوثائق إلى دولة الادعاء، مما قد يتسبب في مصاعب مالية هائلة وبعض قضايا الأمن، إلى جانب بعض المشاكل الثقافية واللغوية والقانونية. فإذا كانت حكومة البلد الذي ارتكبت فيه الجرائم تعارض إقامة الدعوى، فسوف تزداد هذه العراقيل شدة.
والمعروف عن منظمات حقوق الإنسان أنها عادة ما تفتقر إلى التجربة والخبرة اللازمتين لتجميع الأدلة المقبولة شكلاً، أو حتى في محاولة تحديد هوية مرتكبي الجرائم من الأفراد. والتحقيق المطلوب لإثبات المسؤولية الفردية عن انتهاك محدد يختلف تماماً عن التحقيق اللازم لتوثيق مسؤولية الدولة. أو بتعبير آخر قد يكون من اليسير نسبياً إثبات تعرض شخص ما للتعذيب في حجز الشرطة، ولكن تحديد أسماء جميع الأشخاص الذين يتحملون المسؤولية القانونية عن التعذيب، سواء من قاموا به بأنفسهم أو كانوا من المتواطئين فيه، قد تكتنفه صعوبات أكبر.
قوانين التقادم
إذا كانت قد انقضت عدة سنوات على ارتكاب الجريمة، فربما نشأت مشكلة تتعلق بقوانين التقادم؛ ذلك أن معظم الدول لديها قوانين تنص على عدم جواز محاكمة مرتكبي جريمة ما إذا انقضى على ارتكابها عدد معين من السنوات ـ 3 أو 10 أو 15، أو أي عدد آخر على حسب البلد والجريمة. والظاهر أن القانون الدولي القائم على العرف لا يقر قوانين التقادم بالنسبة للجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وقد صادقت 43 دولة على اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بعدم سريان قوانين التقادم على جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية. وقد قطعت المحاكم الفرنسية والبلجيكية بعدم جواز تطبيق قوانين التقادم على الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية تحديداً. كما أنه يجوز لنا أن نقول إن شروط قوانين التقادم تعتبر “معطلة” (أي غير سارية) ما دام المتهم يتمتع فعلياً بما يقيه سيف العدالة؛ ومع ذلك فإن القضاة المحليين يقومون أولاً بالنظر في القانون الوطني، فإذا وجدوا أن الحد الزمني المنصوص عليه في القانون الذي ينطبق على الدعوى المرفوعة قد فات، فإن بلداناً كثيرة قد ترفض الدعوى شكلاً.
ولكن قد يكون من الأيسر تجنب قاعدة التقادم في حالات “الاختفاء” مثلاً؛ فإعلان الأمم المتحدة بشأن حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري ينص على أن “الأفعال التي تشكل اختفاءً قسرياً تعتبر جريمة قائمة ما دام مرتكبوها يستمرون في إخفاء مصير ومكان وجود الأشخاص الذين اختفوا، وطالما استمر الغموض الذي يكتنف مصيرهم ومكان وجودهم”. وهذا منطقي، إذ إن عدم الإقرار باحتجاز الشخص المعتقل، أو عدم الإفصاح عما آل إليه مصيره أو عن مكان وجوده، تعتبر من الأركان الأساسية في جريمة “الاختفاء”. وقد حكمت المحاكم في شيلي والأرجنتين مؤخراً بأن طابع الاستمرارية الذي تتسم به جرائم “الاختفاء” معناه أن هذه الجرائم تظل قائمة حتى بعد صدور العفو العام الذي يحظر رفع الدعوى في الجرائم التي ارتكبت قبل تاريخ محدد. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه لما كان الرأي السائد هو أن “الاختفاءات” قد تؤدي إلى شكل من أشكال التعذيب النفسي لأحباء الشخص “المختفي”، مما قد يعتبر أساساً قانونياً لتطبيق بعض الأحكام الواردة في “اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب”، وهي الأحكام الخاصة بضرورة “محاكمة الشخص أو تسليمه”؛ وهكذا فإن القاضي الذي نظر في طلب تسليم بينوشيه قال إنه على الرغم من قيام مجلس اللوردات بتحديد التهم الموجهة إليه وقصرها على التعذيب والتآمر لارتكاب التعذيب بعد ديسمبر/ كانون الأول 1988، فإن أعضاء النيابة العامة الإسبانية قد يسعون لإثبات أن مقصد بينوشيه من جعل خصومه “يختفون” قبل عام 1988، وعدم الإفصاح عن مكان وجودهم بعد ذلك، كان إنزال التعذيب النفسي المستمر بأقاربهم.
الحصانة
يكاد يكون من المؤكد أن تنشأ مسألة الحصانة الحكومية عن رفع الدعوى على مرتكب أي جريمة من الجرائم التي “ترعاها” الدولة في مجال حقوق الإنسان. فقد يدفع المتهم بالحصانة التي يتمتع بها باعتباره من المسؤولين حالياً، أو من المسؤولين العموميين، أو باعتباره دبلوماسياً، أو باعتباره رئيساً حالياً أو سابقاً للدولة. ولكن الحصانة، مهما تكن، تنتمي للدولة لا للمتهم، ولذلك فمن حق الدولة أن تتنحى عنها، بل يجب الضغط عليها حتى تتنحى عنها.
ويكاد يكون من المؤكد أن الرئيس الحالي لدولة ما، أو الدبلوماسي المعتمد في بعثة رسمية، سوف يعتبر ذا حصانة تمنع اعتقاله في أي بلد أجنبي (ولو أن ذلك لا ينطبق على المحاكم الدولية، مثل المحكمة الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، والمحكمة الخاصة برواندا، والمحكمة الجنائية الدولية في المستقبل). فالحصانة المذكورة تستند إلى مكانة الشخص لا إلى فئة الأفعال المرتكبة؛ وهكذا رفضت فرنسا وبلجيكا الطلبات التي تقدمت بها المنظمات الأوروبية في نوفمبر/ تشرين الثاني 1998 لمحاكمة لوران كابيلا، رئيس جمهورية الكونغو الديموقراطية، أثناء زيارته لتلك الدولتين.
ولكن المسؤولين العموميين لا يتمتعون، بصفتهم هذه، بالحصانة وفقاً للقانون الدولي؛ بل إن “اتفاقية مناهضة التعذيب”، على سبيل المثال، تعتبر مشاركة المسؤول الحكومي أو أي شخص يعمل بصفته مسؤولاً حكومياً، ركناً من أركان جريمة التعذيب.
أما موقف رئيس الدولة السابق فهو يتسم بالمزيد من التعقيد؛ فالقانون الدولي القائم على العرف يعتبر أن رئيس الدولة السابق يتمتع بالحصانة فقط فيما يقوم به من أفعال رسمية في حدود وظيفته كرئيس للدولة. أما البت فيما إذا كان يمكن اعتبار الجريمة المطروحة فعلاً رسمياً أو جزءاً من وظائف الحاكم فهو المسألة التي نظرها مجلس اللوردات عند بحث قضية بينوشيه؛ فقال اللوردات في الحكم الأول أن جرائم التعذيب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية لا تعتبر من “وظائف” رئيس الدولة. (أما في حكمهم الثاني فقد استندوا إلى أساس أضيق، وهو أن مصادقة المملكة المتحدة وشيلي على “اتفاقية مناهضة التعذيب” ينفي أي إمكانية للتمتع بالحصانة في قضايا التعذيب).
ويقول القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الناشئة، وفقاً للمبادئ التي أرسيت في نورمبرغ، إن “الصفة الرسمية للشخص باعتباره رئيساً للدولة لا تعفيه بحال من الأحوال من المسؤولية الجنائية”. وتوجد أحكام مماثلة في القانون الأساسي للمحكمتين الجنائيتين الدوليتين لرواندا وليوغوسلافيا السابقة (وقد وجهت الأخيرة الاتهام في عام 1999 إلى سلوبودان ميلوسيفيتش، رئيس جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية). ولكن هذا المبدأ لم يطبق بعد في المحاكم الوطنية، ولو أن القانون الجديد الذي أصدرته بلجيكا بشأن الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية وجرائم الحرب يرفض بصورة محددة أي حصانة حكومية.
مسؤولية القيادة
لا يشارك كبار المسؤولين مشاركة شخصية في التعذيب أو القتل، في معظم الحالات، وإن كان من الممكن محاكمتهم، بطبيعة الحال، إذا كانوا قد أصدروا الأمر فعلياً بارتكاب مثل هذه الجرائم. وبالإضافة إلى ذلك، فإن مبدأ مسؤولية القيادة يقضي بإلقاء المسؤولية الجنائية على كل من يملك السيطرة على مرؤوسيه وكان يعلم، أو كان عليه أن يعلم، بأن جريمة ما توشك أن تُرتكب ثم لم يمنع وقوعها أو لم يحاول منعها، أو لم يعاقب المسؤولين عنها. وينطبق هذا المبدأ على السلطات العسكرية وعلى المدنيين الذين يتمتعون بمواقع السلطة القيادية.
ولعله من الأيسر، من وجهة النظر العملية بطبيعة الحال، إثبات وقوع الجريمة، أو إقناع النيابة بالشروع في التحقيق إذا كان المتهم هو الذي ارتكب الجريمة مباشرة، دون أن تضطر المحكمة إلى إجراء تحقيق معقد في مسؤولية القيادة في بلد أجنبي. ويبدو أن وجود اثنين من المجني عليهم/الشهود المباشرين في فرنسا كان العامل الحاسم الذي جعل فرنسا تلقي القبض على ضابط في الجيش الموريتاني برتبة نقيب بتهمة التعذيب عام 1999.
وحيثما كانت القضية قائمة على مبدأ مسؤولية القيادة، فلابد في العادة من وجود الشهود أو الوثائق اللازمة لإثبات سلطة المتهم على مرؤوسيه أو معرفته بالأحداث. فإذا كان الشهود أو كانت الوثائق في بلد أجنبي، حيث لا تملك دولة الادعاء إرغام أحد على الإتيان بهم أو بها، فسوف تزداد صعوبة إعداد حجة الادعاء.
عاشرا: من يملك إقامة الدعوى؟
يتفاوت ذلك من بلد إلى بلد؛ ففي بعض البلدان، وأساساً في البلدان ذات التقاليد القائمة على القانون العام الأنجلو أمريكي، يقتصر حق الأمر بإجراء تحقيق جنائي على النيابة العامة، وتتمتع النيابة هنا بسلطة تقديرية واسعة في أن تقرر تحريك الدعوى؛ ومن ثم يتعين على المجني عليهم إقناع المدعي العام برفع الدعوى، وإن كان من المحتمل ألا يبدي ذلك المسؤول المحلي اهتماماً، على نحو ما سبق تبيانه، بمتابعة الجرائم المرتكبة بعيداً عن وطنه. أما في بعض بلدان القانون المدني، فإن مسألة “المبدأ القانوني” تفرض على المدعي العام أن يقوم بالتحقيق في أي جريمة يعلم بوقوعها.
ونرى، على العكس من ذلك، في الكثير من بلدان القانون المدني المستوحى من القانون الفرنسي، أن من حق الضحية أن يرفع الشكوى مباشرة إلى قاضي التحقيق الذي يعتبر ملتزماً في هذه الحالة بالشروع في التحقيق. وفي بعض الحالات يكون الضحية أو أحد أقاربه طرفاً من أطراف الإجراءات الجنائية (أطراف مدنية)، وقد تحكم له المحكمة بالتعويض عما أصابه. ففي القضية السنغالية المرفوعة على حسين حبري، أقام سبعة من الضحايا التشاديين، والأرملة الفرنسية لمواطن تشادي، ورابطة الضحايا التشادية، دعواهم باعتبارهم أطرافاً مدنية. أما القضية الإسبانية المرفوعة على بينوشيه فقد اتخذت شكل الدعوى الشعبية، وهو شكل إجرائي يسمح لأي من المواطنين الإسبان بإقامة دعوى جنائية خاصة في حالات تمس المصلحة العامة، بغض النظر عما إذا كانت قد عادت بالضرر على أحدهم شخصياً أم لا.
وقد سمحت بعض بلدان أمريكا اللاتينية في الآونة الأخيرة، مثل غواتيمالا وكوستاريكا، للضحايا باكتساب صفة “المدعين المرافقين” بحيث يكون من حقهم صياغة التهم، واتخاذ قرارات الاستئناف، وتوفير الأدلة. وبالنسبة لبعض الجرائم، تعترف هذه البلدان بالمنظمات غير الحكومية والجمعيات الأهلية باعتبارها من قبيل “المدعين المرافقين” إذا كانت لها مصلحة مباشرة في القضية، وخصوصاً فيما يتعلق بحقوق الإنسان.
حادي عشر: مَنْ مِن المتهمين الآخرين يقيم حالياً في الخارج؟
فيما يلي بعض الزعماء السابقين المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، والذين يقيمون حالياً في بلدان أجنبية:
من بين هؤلاء عيدي أمين الذي تؤويه المملكة العربية السعودية؛ وكان إبان حكمه المستبد في أوغندا من عام 1971 إلى عام 1979، قد طرد جميع السكان من ذوي الأصول العرقية الآسيوية من أوغندا؛ كما قيل إن نظام أمين كان مسؤولاً عن قتل عدد يتراوح بين 100 ألف و 300 ألف شخص، وحين سئل أحد السفراء السعوديين عن إمكانية تسليم عيدي أمين أو محاكمته، أوضح لمنظمة “مراقبة حقوق الإنسان” أن كرم الضيافة البدوي معناه أنك إذا استقبلت ضيفاً بالترحاب في خيمتك، فالواجب ألا تطرده منها.
ومن المعتقد أن عهد الرئيس التالي ملتون أوبوتي في أوغندا (1980 – 1985) كان أشد وحشية من عهد سلفه عيدي أمين. وتشير التقديرات إلى أن المدنيين الذين قتلتهم قوات أوبوتي في منطقة مثلث لويرو، حول العاصمة كمبالا، يتراوح عددهم بين 100 ألف و 300 ألف؛ وكان السجناء في الحجز العسكري يتعرضون للتعذيب بصفة منتظمة. وبعد خلعه في الانقلاب العسكري عام 1985، فر أوبوتي إلى زامبيا حيث يقيم الآن آمناً.
أما منغستو هايلي ماريام فيقيم حالياً في زمبابوي التي رفضت الطلب الذي قدمته إثيوبيا إليها لتسليمه ومحاكمته عن الجرائم التي ارتكبها في الفترة من 1974 إلى 1991؛ إذ قتل في تلك الفترة عشرات الآلاف من المعارضين السياسيين، خصوصاً إبان حملة “الرعب الأحمر” في 1977 ـ 1978. كما زج بمئات الآلاف من معارضي الحكومة في غياهب السجون ظلماً وتعسفاً؛ ومن بينهم أفراد طائفة أورومو العرقية، وموظفو الحكومة الإمبراطورية السابقة، والطلاب الماركسيون، ونقاد الحكومة المسالمون؛ وكان تعذيب السجناء السياسيين يجري بصورة منتظمة وعلى نطاق واسع. وحينما ذهب منغستو إلى جنوب إفريقيا في نوفمبر/تشرين الثاني- ديسمبر/كانون الأول 1999 لتلقي العلاج، لم تستجب حكومة ذلك البلد للطلبات التي قدمها دعاة حقوق الإنسان بالقبض عليه، ولم ترد على الطلب الذي أرسلته إثيوبيا بتسليمه حتى عاد منغستو إلى زمبابوي. (ولم تؤيد منظمة “مراقبة حقوق الإنسان” طلب تسليمه إلى إثيوبيـا خشية ألا يتلقى منغستو محاكمة عادلة هنـاك، وأن يُحكم عليه بالإعدام).
وفي عام 1991 قاد اثنان من الجنرالات، هما راؤول سيدراس وفيليبي بيامبي، انقلاباً دموياً ضد رئيس هايتي جان برتراند أريستيد، الذي وصل إلى الحكم عن طريق الانتخابات الدستورية؛ ومن ثم قاما بفرض حكم دكتاتوري في البلاد، تعرض فيه الآلاف للقتل والتعذيب والاغتصاب. وعندما أعيد الرئيس أريستيد إلى هايتي، فر الاثنان إلى بنما حيث ظفرا باللجوء السياسي.
ورفضت بنما الطلب الذي قدمته هايتي بتسليمهما إليها، على الرغم من أن بنما قد صادقت على “اتفاقية مناهضة التعذيب” في عام 1987، ولديها من القوانين ما يسمح بمحاكمة مرتكبي جرائم التعذيب في الخارج. وفي عام 1999 وجه أحد القضاة في هايتي الاتهام إلى الجنرالين سيدراس وبيامبي بأنهما شاركا في المذبحة التي ارتكبت في إبريل/نيسان 1994 في أحد الأحياء الفقيرة، وهو حي رابوتو، والتي قامت فيها قوات الجيش بقتل نحو 20 شخصاً. ورفضت وزارة الخارجية البنمية الطلب الذي قدمته منظمة “مراقبة حقوق الإنسان” بمحاكمة الاثنين أو تسليمهما، وقالت في نوفمبر/تشرين الثاني 1999: “قد يصبح ذلك سابقة خطيرة، أي أن نمنح حق اللجوء ابتغاء حل مشكلة سياسية في بلد من بلدان الجوار ثم نعود فننكر حقوق الذين منحوا حق اللجوء”.
ويقيم إيمانويل “توتو” كونستانت، قائد فرقة الاغتيال التابعة “لجبهة الرقي والتقدم في هايتي”، في نيويورك في الوقت الحاضر، وتسعى النيابة العامة في هايتي للقبض عليه ومحاكمته بتهمة القتل العمد، والتعذيب، وإشعال الحرائق عمداً، إبان الفترة التي كان الجنرال سيدراس يمارس فيها الحكم فعلياً. وقد اعترف كونستانت بأنه كان يتلقى الأموال والتشجيع من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أثناء إنشائه شبكة الرعب في هايتي. وعندما أعيد أريستيد إلى السلطة، صدر الأمر بإحالة كونستانت إلى المحكمة ولكنه فر إلى الولايات المتحدة حيث قبض عليه في مارس/آذار 1995. ووصف وزير الخارجية الأمريكي وارين كريستوفر الجبهة المذكورة بأنها “منظمة شبه عسكرية غير شرعية”، وكان أعضاؤها مسؤولين عن ارتكاب العديد من انتهاكات حقوق الإنسان في هايتي”، ومن ثم طلب ترحيل كونستانت فوراً إلى هايتي؛ ولكن الذي حدث هو أنه أطلق سراحه بناءً على اتفاق سري بين حكومة الولايات المتحدة وبينه، كشفت عنه صحيفة “بولتيمور صن”، يسمح لقائد فرقة الاغتيال “بترحيل نفسه” في أي وقت يشاء إلى بلد آخر يختاره بنفسه، مما أتاح له في الواقع أن يفر من وجه العدالة في هايتي التي كانت تطلب تسليمه إليها.
ويقيم ألفريدو سترونسر، رئيس باراغواي السابق، في البرازيل اليوم؛ وكان حكمه الدكتاتوري (1954 ـ 1989) يستخدم التعذيب على نطاق واسع ضد الخصوم السياسيين. كما كان سترونسر حليفاً للجنرال بينوشيه فيما يسمى “بعملية الكندور”، وهي شبكة متعددة الجنسيات تقوم بعمليات بوليسية وعسكرية في شتى أرجاء الأرجنتين والبرازيل وشيلي وباراغواي وأوروغواي؛ وقد دأب أفرادها على ممارسة التعذيب، والإخفاء، والقتل العمد، إلى جانب شن “حرب قذرة” ضد المشتبه في ميولهم اليسارية في المنطقة.
ويقيم جان كلود “بيبي دوك” دوفالييه، الذي كان قد عُين “رئيساً مدى الحياة” لجمهورية هايتي (1971 ـ 1986) في فرنسا الآن. وقد اتُّهم الحكم الدكتاتوري لهذا الرجل بارتكاب الآلاف من حالات القتل السياسي والاحتجاز التعسفي. وفي سبتمبر/أيلول 1999 قدم أربعة من ضحايا التعذيب في هايتي شكاوى إلى المدعي العام الفرنسي يتهمون فيها دوفالييه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية؛ غير أن المدعي العام رفض هذه الشكاوى استناداً إلى أنها لا تتفق مع التعريف الفرنسي الذي كان قائماً قبل عام 1994 للجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وهو الذي كان يقصرها على الجرائم التي ارتكبت لصالح قوات المحور إبان الحرب العالمية الثانية، وأن التهم التي انطوت عليها الشكاوى لا يسري عليها قانون 1994 الخاص بالجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، لأن ذلك القانون لا يمكن تطبيقه بأثر رجعي.
ثاني عشر: ما هي البدائل المتاحة للمحاكمة الجنائية في بلد أجنبي؟
المحاكمة الوطنية
الوضع المثالي هو أن يُقدَّم مرتكبو الجرائم للمحاكمة أمام محاكم بلدانهم نفسها؛ فمن الأيسر إثبات وقوع الجرائم في البلد الذي ارتكبت فيه، حيث يوجد الضحايا والشهود والشركاء والأدلة؛ كما أن العدالة التي تأخذ مجراها في البلد نفسه تتيح للضحايا النهوض بأكبر دور ممكن، وربما كانت لها أكبر دلالة لهم. فإذا كان المتهم بارتكاب الجريمة يقيم بالفعل خارج البلد، فيمكن التقدم بطلب تسليمه إليها.
ولكنه لما كانت أوسع انتهاكات حقوق الإنسان نطاقاً قد ارتكبت باسم الدولة، فمن المستبعد، دون حدوث تغيير سياسي شامل، أن تتمتع محاكم تلك الدولة بالقدرة أو أن يتاح لها المجال السياسي اللازم لإجراء تلك المحاكمات. بل إننا سوف نشهد في حالات كثيرة صدور مراسيم العفو العام التي ترمي إلى عرقلة أو حظر المحاكمات. وذلك هو ما حدث في شيلي في قضية بينوشيه، وكذلك في بعض البلدان الأخرى مثل البرازيل وغواتيمالا والسلفادور وسيراليون وأوروغواي.
المسؤولية المدنية
تسمح الولايات المتحدة برفع قضايا التعويض المدني عن انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في الخارج. وينص قانون طلبات التعويض من الأجانب على أنه يجوز للضحايا من غير مواطني الولايات المتحدة أن يرفعوا دعوى التعويض المادي والجزائي عن الأضرار التي لحقت بهم ضد شخص موجود في الولايات المتحدة بتهمة انتهاك ما يسمى “بقانون الأمم”. وقد طبقت محاكم الولايات المتحدة هذا القانون على جرائم التعذيب والقتل خارج نطاق القضاء “والاختفاء” وجرائم الحرب، والاعتقال التعسفي، والاغتصاب، وحكمت بدفع مبالغ مالية ضخمة.
أما قانون حماية ضحايا التعذيب فهو يسمح لمواطني الولايات المتحدة وللأجانب أيضاً بأن يرفعوا الدعوى ضد التعذيب والإعدام الفوري، وذلك أيضاً عندما يكون المتهم موجوداً في الولايات المتحدة. ولكن المتهمين كانوا في العادة من غير المقيمين في الولايات المتحدة ودون أرصدة فيها، مما تسبب في ضآلة عدد حالات الدفع الفعلي للتعويضات المالية. أما في القضية المدنية التي أقامها أحد أبناء الفلبين باسم من تعرضوا لانتهاكات حقوق الإنسان على يدي فرديناند ماركوس، الدكتاتور السابق لذلك البلد، وكانت الدعوى مرفوعة ضد أملاك ماركوس الذي كانت له أرصدة كبيرة في الولايات المتحدة، فقد تمكن الضحايا من الحصول على مبلغ كبير من المال. ومثل هذا القضايا تتيح للضحايا كذلك فرصة رسمية لسرد ما حدث لهم، وتتيح للمحكمة التثبت من الجريمة المرتكبة، ومنع المذنبين من دخول الولايات المتحدة أو البقاء فيها ولا يستطيع الضحايا في معظم البلدان التي تطبق القانون المدني بأن يشاركوا في الادعاء باعتبارهم أطرافاً مدنية أو بتحريك الدعوى المدنية. وفي أي من هاتين الحالتين يستطيعون الحصول على التعويض المالي وليس التعويض الجزائي.
الترحيلة
قد تلجأ بعض البلدان إلى ترحيل المسؤولين عن ارتكاب الفظائع إلى البلدان التي يحملون جنسيتها بدلاً من محاكمتهم؛ وقد كان ذلك لا يزال الاتجاه الذي سارت فيه كندا على سبيل المثال.
المحاكم الجنائية الدولية
أنشأ مجلس الأمن بالأمم المتحدة محكمتين جنائيتين دوليتين ليوغوسلافيا السابقة ورواندا؛ وتشمل الاختصاصات القضائية لكل من هاتين المحكمتين “المخصصتين” جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية في هاتين الدولتين. ولكن كان من المحال تكرار الحصول على اتفاق الآراء السياسي النادر الذي أدى إلى إنشاء هاتين المحكمتين عندما طرأت أحوال مماثلة اقتُرح فيها إنشاء محاكم من هذا اللون، على نحو ما شهدنا في تيمور الشرقية، وفي كمبوديا، وفي مذبحة اللاجئين من طائفة الهوتو في زائير في عام 1996-1997.
المحكمة الجنائية الدولية :
كانت الموافقة على النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية الدائمة في يوليو/تموز 1998 من أهم الأحداث وأبرزها في إطار الكفاح العالمي ضد ظاهرة الإفلات من العقاب. وعندما يصل عدد الدول المصادقة على ذلك النظام الأساسي إلى 60، فسوف يشمل الاختصاص القضائي لتلك المحكمة كل حالة تقع في المستقبل من حالات الإبادة الجماعية.
ثالث عشر:المحكمة الجنائية الدولية
وجرائم الحرب، والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، إذا كانت المحاكم الوطنية عاجزة أو عازفة عن محاكمة مرتكبيها. ويجوز إحالة القضايا إلى هذه المحكمة إما عن طريق مجلس الأمن أو عن طريق الدول الأطراف مباشرة. كما أن المدعي العام لهذه المحكمة سوف يتمتع بسلطة تحريك الدعوى القضائية بناءً على معلومات موثوق بها، بما في ذلك المعلومات المستقاة من الضحايا ومن المنظمات غير الحكومية.
وإذا كانت المحكمة الجنائية الدولية سلاحاً ماضياً يستخدم في محاربة أسوأ الفظائع، فإنها لن تلغي الحاجة إلى رفع الدعاوى خارج البلد الذي ترتكبه فيه، استناداً إلى مبدأ عالمية الاختصاص القضائي. فالمحكمة الجنائية الدولية، أولاً، لن تعمل بأثر رجعي، أي أنها تقتصر على نظر الجرائم التي ترتكب بعد أن يصبح نظامها الأساسي ساري المفعول؛ وهي، ثانياً، لن تستطيع التصدي إلا لعدد محدود من القضايا. وهي، ثالثاً، تعاني من القيود المفروضة على اختصاصها القضائي؛ فإذا لم يكن مجلس الأمن هو الذي أحال القضية إليها، فلابد أن تكون الدولة التي ارتكبت الجريمة في إقليمها هي، أو الدولة التي يحمل المتهم جنسيتها، من الدول الأطراف في نظامها الأساسي أو أن توافق على اختصاصها القضائي. ولما كانت الدولة التي تُرتكب الجريمة في إقليمها هي، في الواقع العملي، الدولة التي يحمل المتهم جنسيتها، ولما كان من المحتمل ألا تكون هذه الدولة من الدول الأطراف، فمن الجائز أن تُرتكب في المستقبل فظائع كثيرة لا تستطيع يد المحكمة أن تصل إليها.
اترك تعليقاً