دراسة حول القيمة الائتمانية لمؤسسة الرهن الحيازي العقاري
يعتبر الرهن الحيازي حق عيني تبعي ينشأ بمقتضى عقد بين الدائن المرتهن والمدين الراهن على شيء قد يكون منقولا أو عقارا، بحيث يخول للدائن المرتهن حق حيازة الشيء المرهون، ويكون محل الرهن بين يدي الدائن مما يجعل إمكانية حماية حقه أمرا مضمونا، إذ يستطيع معه مباشرة التنفيذ على الشيء المحوز لاستيفاء دينه إذا حل أجل الدين، وذلك باستعمال حق الأفضلية على باقي الدائنين الذين لهم حقوق على العقار محل الرهن .
وقد عملت مدونة الحقوق العينية الجديدة الصادرة في 24 يونيو2011 بموجب القانون 39.08، والتي ألغت ظهير 2 يونيو 1915 المطبق على العقارات المحفظة على تنظيم أحكام الرهن الحيازي الوارد على العقار وبذلك وضع حد لهذه الازدواجية في الأحكام والقواعد المنظمة له.
فبالنسبة للعقار المحفظ كان هناك نصان قانونيان يطبقان عليه ظهير 9 رمضان 1331 الموافق ل 12 غشت 1913[1]، والذي يبين المسطرة الواجبة الاتباع لتحفيظ العقار، والنص الثاني هو ظهير 19 رجب 1915 والذي تضمن القواعد التي تطبق على العقار بعد تحفيظه.
أما بالنسبة للعقار غير المحفظ فلم يكن هناك تشريع خاص به، بل كان القضاء مضطرا للرجوع إلى القواعد الفقهية وفق الراجح والمشهور وما جرى به العمل في الفقه المالكي، وقد أدى ذلك إلى تضارب الأحكام القضائية أنذاك، تبعا لتعدد الآراء الفقهية في هذا الخصوص.
وقد نظم المشرع المغربي الرهن الحيازي العقاري في الباب الأول من القسم الثاني المعنون بالحقوق العينية التبعية من القانون39.08 في الفصول من 145 إلى 164 منه، مع الرجوع إلى ق ل ع باعتباره الشريعة العامة كلما كان هناك فراغ تشريعي، وكذا إلى أحكام الفقه الإسلامي المالكي وهذا ما أكدته المادة الأولى من مدونة الحقوق العينية [2] .
إذن أين تتجلى القيمة الائتمانية لمؤسسة الرهن الحيازي العقاري؟
يعد الرهن الحيازي العقاري إحدى الضمانات العينية المعتمد عليها في خدمة الائتمان خاصة في المدار القروي أمام وجود العديد من العقارات غير المحفظة غير قابلة للرهن الرسمي، خاصة إذا علمنا أن العقار محل الرهن له قيمة اقتصادية كبيرة، بالإضافة إلى أنه لا ينتقل من مكانه مقارنة بالمنقول، وكما لا يخفى على أحد في كون أن مؤسسة الرهن الحيازي العقاري عرفت تراجعا في فعاليتها الائتمانية في الفترة الأخيرة نظرا لكون أن الآليات الخاصة بها أصبحت لا تخدم مصالح أطرافها، وذلك راجع إلى ظهور مؤسسات وضمانات أخرى، خاصة منها الرهن الرسمي الذي عرف انتشارا واسعا وكثر التعامل به من طرف المؤسسات البنكية ( المطلب الأول )، لكن هذا التراجع في القيمة الائتمانية لمؤسسة الرهن الحيازي العقاري لم يصل إلى درجة تدعو إلى القول بالاستغناء عنها لكون أن الاحتفاظ بها له ما يبرره وهذا ما سوف نتطرق له في (المطلب الثاني).
المطلب الأول : الآليات الخاصة بالرهن الحيازي العقاري لا تخدم مصالح أطرافه
تتجلى أهم الآليات التي يقوم عليها الرهن الحيازي الوارد على العقار في خروج الحيازة المادية للعقار المرهون من يد المدين الراهن وانتقالها إلى يد الدائن المرتهن، فخروج هذه الحيازة من يد الراهن فيه إضرار بمصالحه ( الفقرة الأولى )، وبالمقابل فإن انتقالها إلى الدائن المرتهن تثقله بعدة التزامات ( الفقرة الثانية ).
الفقرة الأولى : خروج الحيازة المادية من يد الراهن فيه إضرار بمصالحة
يقوم الرهن الحيازي العقاري على ميزة أساسية وهي تلك المتعلقة بتسليم العقار المرهون إلى الدائن المرتهن، وعليه فإنه يؤدي إلى خروج الحيازة المادية للعقار المرهون من يد المدين الراهن (الحائز القانوني)، وانتقالها إلى يد الدائن المرتهن (الحائز المادي)، وهذا الإنتقال للحيازة من الراهن إلى المرتهن يشكل إضرارا كبيرا بمصالحه.
ذلك أن هذا الخروج فيه تقييد كبير للسلطات التي يمنحها حق ملكية العقار، وهكذا فانتقال الحيازة المادية للعقار المرهون إلى الدائن المرتهن يؤدي إلى حرمان الراهن من استعمال واستغلال العقار المرهون بنفسه[3]، وإن كان حق ملكية العقار المرهون يظل معترفا به للمدين الراهن إذ يمكنه التصرف فيه، فإن هذا الحق مقيد بقيدين أساسين والمتمثلين في كون أن الراهن لا يستطيع أن ينتفع أو يستغل العقار المرهون بنفسه، لأن المرتهن هو الذي ينوب عنه في إدارة العقار المرهون واستغلاله لحساب هذا الأخير، أما فيما يخص القيد الثاني فيكمن في أن سلطة الراهن في التصرف في العقار المرهون مقيدة بالحصول على إذن الدائن المرتهن أو أداء الدين المترتب في ذمته وهذا ما أكدته المادة 1177 من ق ل ع[4].
وعلى ذلك فإنه لا يحق للمدين الراهن التصرف في العقار المرهون بمختلف أنواع التصرفات سواء كانت ناقلة للمكية كالبيع أو غير ناقلة للملكية كالكراء، باعتبار أن منع المدين الراهن من التصرف في العقار المرهون لا يقتصر فقط على التصرفات الناقلة للملكية وإنما يمتد ليشمل كذلك كافة التصرفات التي من شأنها النقص من قيمة العقار المرهون ومن ضمنها إكراؤه للغير ما دام أن قيمته قد تتأثر سلبا عند عرضه للبيع في إطار مسطرة تحقيق الرهن المخول للدائن المرتهن قانونا مباشرتها وذلك بفعل شغله من طرف مكتريه وهذا يكرس تقييد حق المدين الراهن من جهة ويعزز حماية مصالح الدائن المرتهن من جهة أخرى.
فضلا عن ذلك فإنه يحق للدائن المرتهن ممارسة حقه في المطالبة بإبطال التصرفات التي أجراها المدين الراهن بدون إذنه والتي شكلت مساسا بالعقار المرهون، وفي هذا السياق جاء في قرار صادر عن محكمة الاستئناف بالقنيطرة[5] مايلي:” منع المدين الراهن بمقتضى عقد الرهن من التصرف في العقار المرهون لا يقتصر فقط على التصرفات الناقلة للملكية وإنما يمتد ليشمل كافة التصرفات التي من شأنها النقص من قيمة العقار ومن ضمنها الكراء للغير.
حسن نية المكتري لعقار مرهون لا يحول دون حق الدائن المرتهن من ممارسة المساطر الكفيلة بحماية مصالحه والتي من شأنها منع إجراء كل التصرفات المحضورة قانونا أو اتفاقا”.
ويلاحظ من خلال هذا القرار أن المدين الراهن بالرغم من أنه يملك العقار المرهون فإنه بمجرد رهنه يفقد الحق في التصرف فيه بإرادته المنفردة إذ لا بد من الحصول على إذن الدائن المرتهن لإبرام أي تصرف فيه أو أن يقوم بأداء مبلغ الدين لتعود له السلطة المطلقة للتصرف في العقار المرهون.
وبذلك فحيازة الدائن المرتهن للعقار المرهون يجعله واضعا يده عليه، و مسيطرا عليه سيطرة مادية أو معنوية، وتبعا لذلك يحق له الحصول على منافع وثمار العقار المرهون وإن كانت مملوكة للراهن شريطة خصم قيمتها من رأس مال الدين، وهذا الأمر يحد من سلطة المدين الراهن بالتصرف في ملكه و استعماله واستثماره .
كما أن خروج الحيازة المادية للعقار المرهون من يد المدين الراهن، تنطوي على سلبة أخر، تتمثل في أن هذا الخروج لا يمكن الراهن من الحصول على قروض جديدة، لأن انتقال الحيازة المادية إلى المرتهن لا يساعد على تجزيء الائتمان بين دائنين متعددين، وهذا ما يجعل أن أغلب الرهون في الوقت الحالي هي الرهون رسمية، وفي الواقع العملي نجد في الغالب ما تعمد مؤسسة القرض الفلاحي باعتبارها المؤسسة التي تقبل هذا النوع من الرهون إلى تسلم سندات الملكية للعقار المرهون وتظل في حيازتها إلى حين الوفاء بالدين من طرف المدين الراهن، الأمر الذي يفقد هذا الأخير الحق في الحصول على قروض جديدة أخرى.
أضف إلى ذلك أن نقل حيازة العقار المرهون إلى دائن مرتهن مهمل لا يحسن حفظه واستثماره فيه إضرار بمصالح المدين الراهن، الذي لا يكون له الحق في الزام هذا الدائن ببذل عناية أكبر من تلك التي يبذلها في حفظ واستثمار أمواله، كما لا يجوز له أن يمنعه من استثمار العقار المرهون رهنا حيازيا، لأن الاستثمار وإن كان التزاما يقع على عاتق الدائن المرتهن إلا أنه يعتبر في الوقت نفسه حقا له.
الفقرة الثانية : انتقال الحيازة المادية للدائن المرتهن يثقل كاهل هذا الأخير بعدة التزامات
يلزم الدائن المرتهن بمجرد نقل ملكية العقار المرهون إليه بالحفاظ على العقار المرهون وصيانته واستثماره لفائدة الراهن، وأن يبذل العناية اللازمة للحفاظ عليه، ولكن المتمعن في درجة العناية المتطلبة من المرتهن في القيام بهذا الحفظ والاستثمار هي عناية الشخص المعتاد في استثمار وحفظ أمواله، سيجد بأن تحديد هذه العناية بهذا الشكل فيها خطر على الراهن، إذ أن الأخذ بالمعيار الشخصي في هذا الإطار يجعل العناية المتطلبة تختلف من شخص لآخر .
كما يتحمل الدائن المرتهن باعتباره حارسا للعقار المرهون مسؤولية تعويض المتضرر من هذا الأخير في حالة ما إذا كان الضرر قد وقع بسبب القدم أو عدم الصيانة أو بسبب عيب في البناء، لأنه هو من له السلطة الفعلية في رقابته وتوجيهه والتصرف في أمره، وبذلك فالدائن المرتهن يعد بمثابة المسؤول عن الأضرار الناجمة عن الأبنية المنوطة به رعايتها والمعهود إليه حراستها.
وعلى ذلك فانتقال الحيازة المادية للدائن المرتهن يشكل عبئا ثقيلا على هذا الأخير، إذ أنه يلزمه بحفظ العقار واستثماره ويحمله مسؤولية كبيرة عن الإخلال بالإلتزامين المتمثلين في الحفظ والإستثمار[6] كما سبق ان ذكرنا .
وعلى ذلك فلو ترك الدائن المرتهن العقار المرهون دون استثمار، كان مسؤلا عن تعويض الراهن عما فاته من ريع بسبب ذلك، وليس ترك العقار المرهون بدون استثمار هو مناط تحريك المسئولية المدنية نحو الدائن المرتهن فحسب، بل إن حتى عدم استثماره استثمارا كاملا، كالتفريط في جعله لا ينتج الثمار التي كان ينتجها عادة، يجعله كذلك مسؤولا عن هذا التقصير.
ويعتبر في عداد هذه المسؤولية أيضا التزام المرتهن بإخطار الراهن عن كل ما يستجد على محل الرهن مما يقتضي تدخل الراهن لإزالة مايؤثر على وجود محل الرهن وإدامته والمحافظة عليه.
ولا شك أن مسؤولية الدائن المرتهن عن استثمار العقار المرهون تستدعي منه عدم تغيير طريقة استغلاله قبل انتقال حيازته إليه إلا برضاء الراهن، فالارض المعدة للزراعة لا يجوز له استغلالها بزراعة غير ما أعدت لزراعته، والدار السكنية لا يسوغ استغلالها فندقا، والمحل التجاري لا يجوز استغلاله مخزنا أو مصنعا، وذلك لأن تغيير طريقة استغلال محل الرهن تعتبر من قبيل التصرف المادي، والمرتهن لا يملك إلا الحق في الاستغلال[7].
و بذلك يحمل الدائن المرتهن الالتزام باستثمار العقار المرهون طول المدة التي يبقى فيها المرهون تحت يده، حتى لا يضار الراهن أو يتعرض للخسارة جراء حرمانه من فوائد ملكه أثناء قيام الرهن، التي كان سيجنيها لو بقي محل الرهن في يده، ولم تنتقل حيازته إلى الدائن المرتهن، فوجود محل الرهن تحت يد الدائن المرتهن يجعل استثمار الراهن له متعذرا، فيلزم تحمل الدائن المرتهن بهذا العبئ، كي لا يبقى العقار دون استثمار فيتعطل، ومن ناحية أخرى فإن الدائن المرتهن لا يستثمر محل الرهن دون مقابل، فلا يستثمره لحسابه هو وإنما يستثمره لحساب الراهن، وإن كان لا يسلم صافي الغلة إلى الراهن، بل يخصمها من المبلغ المضمون بالرهن، وقد يؤدي ذلك إلى تمكنه من استيفاء حقه من الثمار التي يذرها العقار المرهون ، ولذا كان الاستثمار حق للدائن المرتهن وفي الوقت نفسه واجبا عليه.
وما يسأل عنه الدائن المرتهن هو الثمار التي يغلها محل الرهن إذا استغله الاستغلال المألوف الذي يباشره الرجل العادي، فإن قلت الغلة عن المألوف، انعقدت مسؤولية المرتهن، وجرت محاسبته عما أصاب الراهن من ضرر نتيجة هذا التقصير،وإن تجاوزت الغلة القدر المألوف امتنع على المرتهن الاستئثار بالزيادة، لأنه لا يجوز الإنتفاع بالعقار المرهون دون مقابل، فهو لا يباشر أعمال الاستثمار لنفسه وإنما يباشرها لحساب الراهن صاحب الحق في منفعة الرهن.
ومن ثم فلو أجر المرتهن محل الرهن للغير، كان مسؤولا عن كامل غلته، ولو لم يقم بتحصيلها، ما لم يكن عدم تحصيلها راجعا إلى سبب أجنبي عنه لا يد له فيه استعمله بنفسه، تعين سؤاله عن أجر مثله، ويستعان بأهل الخبرة في هذه الحالة إن اقتضى الحال.
وعليه فإن كل تقصير من الدائن المرتهن في استغلال محل الرهن، أو تغييره طريقة استغلاله، أو عدم مبادرته بإخطار الراهن عن كل ما يقتضي تدخله، يضعه تحت طائلة المسؤولية، وما ترتبه عليه من جبر الضرر الذي حاق بالراهن، وذلك عن طريق التعويض، إلا أن الدائن المرتهن يعفى من استثمار النقود، لأن طبيعتها تقتضي عدم استثمارها، حيث تختلط بأمواله، ويلتزم برد مثلها[8].
ولعل السبب أو الدافع الأساسي الذي يدفع المستثمرين إلى عدم قبول هذا النوع من الرهون كضمانة للديون، يعود إلى تلك الالتزامات المرهقة التي يرتبها عقد الرهن على عاتق الدائن المرتهن مقابل الحصول على حقه المضمون بهذا الرهن، إذ في الغالب ما يفضلون ذوي رؤوس الأموال الاحتفاظ بهذه الأخيرة بدل إقراضها مقابل الحصول على رهن حيازي عقاري، ما دام هذا الإقراض لم يدر عليهم نفعا هذا من جهة .
ومن جهة أخرى فإن المدينين بدورهم أصبحوا يقبلون على الرهن الرسمي بكثرة بدل الرهن الحيازي العقاري لما يوفر لهم من ضمانات الاحتفاظ بالعقار المرهون واستعماله واستغلاله والتصرف فيه شريطة عدم المساس بحقوق الدائن المرتهن، غير أنه لما كان الرهن الرسمي يرد فقط على العقارات المحفظة والعقارات في طور التحفيظ[9] ، فإنه في حالة وجود عقار غير محفظ يبقى السبيل الوحيد لحصول مالكه على قرض هو رهنه رهنا حيازيا، وهنا تظهر القيمة الائتمانية لمؤسسة الرهن الحيازي العقاري، ولربما هذا هو السبب الرئيسي الذي جعل المشرع المغربي يحتفظ بها وينظم أحكامها بمقتضى مدونة الحقوق العينية الصادرة سنة 2011، وهذا ما سنتطرق له بتفصيل في المطلب الثاني .
المطلب الثاني : مبررات الإحتفاظ بمؤسسة الرهن الحيازي العقاري
إن تواجد العقارات غير المحفظة بنسبة كبيرة مقارنة مع العقارات المحفظة، يبرر الاحتفاظ بمؤسسة الرهن الحيازي العقاري من جهة (الفقرة الأولى )، وكذا التعامل بهذا النوع من الرهون بالمناطق القروية من جهة أخرى (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى : النسبة الكبيرة للعقارات غير المحفظة بالمقارنة مع العقارات المحفظة تبرر الإحتفاظ بمؤسسة الرهن الحيازي العقاري
إن ما يبرر الاحتفاظ بمؤسسة الرهن الحيازي العقاري هو النسبة الكبيرة للعقارات غير المحفظة مقارنة مع العقارات المحفظة، إذ نجد أن هذه الأخيرة لا زالت تأخذ حصة الأسد في الرصيد العقاري المغربي.
ذلك أنه بالنظر للمزايا الكثيرة التي يحققها نظام التحفيظ العقاري والتي جعلت المشرع المغربي يتخذ عدة مبادرات تستهدف تشجيع الناس على تحفيظ عقاراتهم قصد تعميم هذا النظام، إلا أن هذا التعميم واجهته عدة صعوبات جعلته بعيد المنال، من بينها أن أغلب العقارات المتواجدة في البوادي المغربية يتعذر تحفيظها، نظرا لصعوبة ضبطها دون الاعتماد على حدود متعارف عليها بين القبائل المغربية، هذه القبائل الوفية للأعراف الاجتماعية التي ساهمت ولا زالت تساهم في ضبط حدود الأراضي وفض النزاعات بين الأفراد وبين الجماعات بأشكال تنظيمية أملتها الحاجة الملحة إلى الإستقرار، وقد تخصص في هذا المجال أشخاص من ذوي الحكمة والدراية لانجاز مهام ترسيم الحدود بشكل تطوعي أو بمقابل رمزي، يشترط فيه التوفر على ثقة المحيط الإجتماعي كشرط أساسي إضافة إلى الحكمة والدراية والتجربة، وعلى ذلك فهذه الأعراف المتبعة في تدبير وضبط الملكية العقارية بالبوادي تغلغلت في الوعي الجماعي وترسخت كسلوك يصعب معه فرض بديل عملي تشريعي، وتبقى خاضعة لمقتضيات الفقه الإسلامي، ولا سيما المذهب المالكي والقواعد العامة، جعل منها عمليا سلوكا منفتحا لمسطرة ظهير 2 غشت 1913، ما دام تحفيظ هذه العقارات والحقوق اختيارا شخصيا وليس الزاميا إلا في حالات محددة ورد ذكرها بقانون التحفيظ[10] .
أضف إلى ذلك الاجراءات الادارية التي تتسم بالبطء والتعقيد، وذلك راجع إلى قلة الموارد البشرية والمعدات الكفيلة بتلبية حاجيات المواطنين الوافدين على الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية والتي أصبحت لا تقبل الانتظار قياسا بالتحولات العميقة التي يشهدها النسيج الاجتماعي والاقتصادي بالمغرب.
ونظرا لعدم توفر إحصائيات رسمية بخصوص نسبة العقارات المحفظة بالمغرب، إلا أن رئيس الحكومة ـ سعد الدين العثماني ـ قد كشف خلال الجلسة الشهرية للأسئلة المتعلقة بالسياسة العامة بمجلس النواب يوم الثلاثاء 25يوليوز 2017 أن هذه النسبة لا تتعدى 20 في المائة من مجموع الوعاء العقاري الوطني، مشيرا إلى أن النظام العقاري لا يزال يعاني من بعض الإكراهات التي تحد من تعميمه، كما أوضح أيضا أن أهم الإكراهات التي تعيق تعميم نظام التحفيظ العقاري هي جهل الملاك لمزايا التحفيظ وارتفاع كلفة التحفيظ بالنظر للقدرة الشرائية للمواطنين، وكثرة التعرضات وبطء مسطرة البث فيها من طرف القضاء.
وأكد أيضا على أن عدم تحيين الرسوم العقارية التي تؤدي إلى عدم مطابقة الرسوم العقارية للواقع المادي للعقار من حيث أصحاب الحقوق العينية الواردة عليه وتواريخ نشوئه، وكذا التغيرات اللاحقة على وضعيته المادية ومشتملاته، وتعدد وتنوع الهياكل العقارية، تحول دون تحفيظ العقار[11].
الفقرة الثانية : التعامل بالرهن الحيازي العقاري في المناطق القروية المغربية يبرر الاحتفاظ به
باعتبار أن الرهن الحيازي العقاري يعد أقدم صورة عرفها الرهن، إذ يمثل الصورة التقليدية للرهون، فإننا نجد أن الناس ألفوا هذا النوع من الرهون خصوصا في المناطق القروية، وذلك بخلاف الرهن الرسمي الذي ظهر في الفترة الأخيرة كوسيلة من وسائل دعم الائتمان والذي يجهله أغلب الناس.
لهذا فإن التعامل بالرهن الحيازي للعقارات غير المحفظة في المناطق القروية المغربية من طرف مؤسسة القرض الفلاحي يبرر الإحتفاظ بهذه المؤسسة.
والجدير بالذكر أنه تمت الدعوى في مصر، من بعض أعضاء مجلس الشيوخ إلى إلغاء مؤسسة الرهن الحيازي العقاري من القانون المدني، إلا أنه لم يستجيب لهذه الدعوى لعدة مبررات من بينها أن الإحتفاظ بهذا الرهن في القانون المدني المصري تستدعيه كثرة التعامل به في المناطق القروية.
وذلك راجع إلى أهمية هذه المؤسسة بالنسبة للعقار غير المحفظ إذ تعطي لاصحاب هذه العقارات الحق في اللجوء الى رهن عقاراتهم للحصول على قروض من جهة، وادماجها في حلبة التنمية الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى، الأمر الذي يمكن القول معه أن مؤسسة الرهن الحيازي العقاري لا زالت تحتل مكانة هامة خاصة في المناطق القروية والمدن العتيقة نظرا لارتباطها بعادات وتقاليد المجتمع المغربي.
ولعل هذا ما جعل المشرع المغربي يحتفظ بمؤسسة الرهن الحيازي العقاري، بمقتضى مدونة الحقوق العينية التي عملت على تنظيم القواعد والأحكام المنظمة للرهن الحيازي العقاري سواء تعلق الأمر بعقار محفظ أو غير محفظ من جهة، ووضعت حد للإزدواجية في الأحكام والقواعد المنظمة للعقار من جهة أخرى.
إلا أنه احتفظ بالإزدواجية فيما استعصى التوحيد، ومن ذلك مثلا، إثبات ملكية العقار المحفظ بالرسوم العقارية، وإثبات ملكية العقار غير المحفظ بواسطة الرسوم المثبتة لأصل التملك.
ومنه حسنا ما فعل المشرع المغربي عندما احتفظ بالرهن الحيازي العقاري بمقتضى مدونة الحقوق العينية ووضع حد للازدواجية في الأحكام التي كان يعرفها إلا فيما استعصى التوحيد، وما دام أن الرهن الرسمي لا يرد إلا على العقارات المحفظة بخلاف الرهن الحيازي الذي يرد على العقار سواء كان محفظ أو غير محفظ، فإن الاقتصار على الرهن الرسمي فقط يجعل العقارات غير المحفظة خارج حلبة التنمية .
الهوامش
[1] ـ ظهير شريف صادر في 9 رمضان 1331(12 غشت1913) بشأن التحفيظ العقاري كما تم تعديله وتتميمه بالقانون رقم 14.07 .
[2] ـ ظهير شريف رقم 1.11.178 صادرفي 25 من ذي الحجة 1432(22 موفمبر2011) بتنفيذ القانون رقم 08.39 بمدونة الحقوق العينية.
ـ تنص المادة الأولى من م ح ع على أنه : ” تسري مقتضيات هذا القانون على الملكية العقارية والحقوق العينية ما لم تتعارض مع تشريعات خاصة بالعقار.
تطبق مقتضيات الظهير الشريف الصادر في 9 رمضان 1331(12 أغسطس 1913) بمثابة قانون الالتزامات والعقود في ما لم يرد به نص في هذا القانون، فإن لم يوجد نص يرجع إلى الراجح والمشهور وما جرى به العمل من الفقه المالكي”.
[3] ـ نوال أحلو،”الرهن الحيازي العقاري”، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص، جامعة محمد الأول، كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية ـ وجدة ، 2010ـ 2011، ص63ـ 64.
[4] ـ عبد الرحيم عاقل،”الرهن الحيازي الوارد على العقار في الفقه المالكي ومدونة الحقوق العينية”، رسالة لنيل دبلوم الماستر في أحكام العقار في الفقه المالكي والقانون المغربي،جامعة القرويين،كلية الشريعة فاس،2012ـ2013، ص74.
[5] ـ قرار عدد31 الصادر بتاريخ 16 يناير 2014، ملف تجاري عدد90/3/1/2012، منشور بموقع محكمتيhttp://www.makamaty.com يعنى بنشر الاجتهادات القضائية، تاريخ الإطلاع 16/11/2018.
[6] ـ عيساوي محمد أمعنان ، تراجع الفعالية الائتمانية لمؤسسة الرهن الحيازي العقاري لا تقتضي الاستغناء عن هذه المؤسسة “، مقال منشور بموقع الكتروني maroc droit، تاريخ الاطلاع 3/8/2018 .
[7] ـ محمد علي عثمان الفقهي”استثمار الدائن المرتهن وإدارته لمحل الرهن الحيازي، دراسة مقارنة بين القانون المدني والفقه الإسلامي”، دار النهضة العربية للطبع والنشر والتوزيع، مصر1417هـ ـ1997 ، ص91ـ92.
[8] ـ محمد علي عثمان الفقهي، م س، ص99.
[9] ـ تنص المادة 165 من م ح ع على أن :”الرهن الرسمي حق عيني تبعي يتقرر على ملك محفظ أو في طور التحفيظ ويخصص لضمان أداء دين “.
[10] ـ معيقات التحفيظ العقاري بالمغرب ، مقال منشور بموقع الكتروني أخبارنا ،تاريخ الإطلاع 4/8/2018 .
[11] ـ نسبة العقارات المحفظة بالمغرب لا تتعدى 20 في المائة ، مقال منشور بالموقع الالكتروني لحزب العدالة والتنمية ، تاريخ الإطلاع 6/8/2018.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً