دراسة عن حقيقة الإعانة ومفهومها
ما حقيقة الإعانة ومفهومها ؟ الظاهر أنّ مفهوم الإعانة كسائر المفاهيم التي لا يمكن تحديدها إلاّ بنحو التقريب . فمفهوم الماء مثلا مع كونه من أوضح المفاهيم ربما يشك في صدقه على بعض المصاديق على ما اعترف به المصنّف في أول كتاب الطهارة(1).
وقد وقع الخلاف في بيان حقيقة الإعانة على وجوه :
الأول : ما استظهره المصنّف من الأكثر ، وهو أنه يكفي في تحقّقها مجرد إيجاد مقدّمة من مقدّمات فعل الغير وإن لم يكن عن قصد .
الثاني : ما أشار إليه في مطلع كلامه من أنّ الإعانة هي فعل بعض مقدّمات فعل الغير بقصد حصوله منه لا مطلقاً ، ثم نسبه إلى المحقّق الثاني(2) وصاحب الكفاية(3).
الثالث : ما نسبه إلى بعض معاصريه(4) من أنه يعتبر في تحقق مفهومها وراء القصد المذكور وقوع الفعل المعان عليه في الخارج.
ـــــــــــــــــــــــــ ـــ
(1) كتاب الطهارة : 2 .
(2) حياة المحقّق الكركي وآثاره 9 (حاشية شرح الإرشاد) : 318 .
(3) كفاية الأحكام : 85 .
(4) لعلّه أراد المحقّق النراقي ، راجع عوائد الأيّام : 78 .
ــ[277]ــ
الرابع : ما نسبه إلى المحقّق الأردبيلي(1) من تعليقه صدق الإعانة على القصد أو الصدق العرفي ، بداهة أنّ الإعانة قد تصدق عرفاً في موارد عدم وجود القصد مثل أن يطلب الظالم العصا من شخص لضرب مظلوم فيعطيه إيّاها ، أو يطلب القلم لكتابة ظلم فيعطيه إيّاه ، ونحو ذلك ممّا يعد معونة عرفاً .
الخامس : الفرق بين الإعانة في المقدّمات القريبة فتحرم ، وبين المقدّمات البعيدة فلا تحرم .
السادس : عدم اعتبار شيء في صدق الإعانة إلاّ وقوع المعان عليه في الخارج .
وأوجهها هو الوجه الأخير ، وتحقيق ذلك ببيان أمرين : الأول : في بيان عدم اعتبار العلم والقصد في مفهوم الإعانة ، والثاني : في بيان اعتبار وقوع المعان عليه في صدقها .
أمّا الأمر الأول : فإنّ صحة استعمال كلمة الإعانة وما اقتطع منها في فعل غير القاصد بل وغير الشاعر بلا عناية وعلاقة تقتضي عدم اعتبار القصد والإرادة في صدقها لغة ، كقوله (عليه السلام) في دعاء أبي حمزة الثمالي : « وأعانني عليها شقوتي » وقوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ)(2). وفي بعض الروايات أنّ المراد بالصبر هو الصوم(3). وفي أحاديث الفريقين : « من أكل الطين فمات فقد أعان على
ـــــــــــــــــــــــــ ـــ
(1) زبدة البيان في أحكام القرآن : 297 .
(2) البقرة 2 : 45 .
(3) في الوسائل 10 : 407 / أبواب الصوم المندوب ب2 ح1 عن سليمان ] عمّن ذكره [ عن أبي عبدالله (عليه السلام) « في قول الله : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) قال : الصبر الصيام » . وفي رواية اُخرى يعني الصيام .
ــ[278]ــ
نفسه »(1) ومن البديهي أنّ آكل الطين لم يقصد موته بذلك ، بل يرى أنّ حياته فيه . وفي رواية أبي بصير : « فأعينونا على ذلك بورع واجتهاد »(2) ومن المعلوم أنّ المعين على ذلك بالورع والاجتهاد لا يقصد الإعانة عليه في جميع الأحيان . وكذلك ما في بعض الأحاديث من قوله (عليه السلام) : « من أعان على قتل مؤمن ولو بشطر كلمة »(3) وكذلك قوله (صلّى الله عليه وآله) : « من تبسّم على وجه مبدع فقد أعان
ـــــــــــــــــــــــــ ـــ
(1) في الكافي 6 : 266 / 8 ، 5 . والتهذيب 9 : 89 / 376 ، 381 . والوافي 19 : 133 / 6 ، 7 ، 4 وغيرها ، والوسائل 24 : 222 / أبواب الأطعمة المحرّمة ب58 ح7 ، 6 ، عن السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال « قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه » وهي ضعيفة بالنوفلي . وفي رواية اُخرى « فإن أكلته ومت كنت قد أعنت على نفسك » وهي ضعيفة بسهل .
وفي سنن البيهقي 10 : 11 عن ابن عباس « أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : من انهمك في أكل الطين فقد أعان على نفسه » وفي حديث آخر : « من أكل الطين فكأنّما أعان على قتل نفسه » .
(2) في الوسائل 1 : 88 / أبواب مقدّمة العبادات ب20 ح11 ، 8 عن أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّ أباه قال لجماعة من الشيعة : « والله إنّي لاُحب ريحكم وأرواحكم فأعينوا على ذلك بورع واجتهاد » . وفي رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبدالله (عليه السلام) « فأعينوا على ما أنتم عليه بالورع والاجتهاد » .
وفي الوافي 5 : 650 / 5 في رواية ميسر عن أبي جعفر (عليه السلام) « فأعينوا بورع واجتهاد » .
(3) في الوسائل 12 : 304 / أبواب أحكام العشرة ب163 ح2 ، 29 : 18 / أبواب القصاص في النفس ب2 ح4 ، وسنن البيهقي 8 : 22 « من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقى الله وبين عينيه مكتوب : آيس من رحمة الله » ] نقل بالمضمون [ .
ــ[279]ــ
على هدم الإسلام »(1). وفي رواية أبي هاشم الجعفري : « ورزقك العافية فأعانتك على الطاعة »(2). وفي الصحيفة السجّادية في دعائه (عليه السلام) في طلب الحوائج « واجعل ذلك عوناً لي »(3) وأيضاً يقال : الصوم عون للفقير ، والثوب عون للإنسان وسرت في الماء وأعانني الماء والريح على السير ، وأعانتني العصا على المشي وكتبت باستعانة القلم ، إلى غير ذلك من الاستعمالات الكثيرة الصحيحة . ودعوى كونها مجازات جزافيةٌ ، لعدم القرينة عليها .
ونتيجة جميع ذلك : أنه لا يعتبر في تحقّق مفهوم الإعانة علم المعين بها ، ولا اعتبار الداعي إلى تحقّقها ، لبديهة صدق الإعانة على الإثم على إعطاء العصا لمن يريد ضرب اليتيم وإن لم يعلم بذلك ، أو علم ولم يكن إعطاؤه بداعي وقوع الحرام كما لا يخفى .
ويدل على ما ذكرناه ما تقدّمت(4) الإشارة إليه من أنّ القصد سواء كان بمعنى الإرادة والاختيار أم بمعنى الالتفات لا يعتبر في مفهوم الإعانة .
وعلى الجملة : لا نعرف وجهاً صحيحاً لاعتبار القصد بأي معنى كان في صدق الإعانة ، ومن هنا لا نظنّ أنّ أحداً ينكر تحقّق الإعانة باعطاء السيف أو العصا لمن يريد الظلم أو القتل ، ولو كان المعطي غير ملتفت إلى ضمير مريد الظلم أو القتل أو كان غافلا عنه ، نعم لو نسب ذلك إلى الفاعل المختار انصرف إلى صورة العلم والالتفات .
ـــــــــــــــــــــــــ ـــ
(1) راجع المستدرك 12 : 322 / أبواب الأمر والنهي ب37 ح12 .
(2) راجع الوافي 5 : 707 / 3 .
(3) الصحيفة السجّادية 79 / 13 .
(4) في ص269 .
ــ[280]ــ
وأمّا الأمر الثاني : فالذي يوافقه الاعتبار ويساعد عليه الاستعمال هو تقييد مفهوم الإعانة بحسب الوضع بوقوع المعان عليه في الخارج ، ومنع صدقها بدونه . ومن هنا لو أراد شخص قتل غيره بزعم أنه مصون الدم ، وهيّأ له ثالث جميع مقدّمات القتل ، ثم أعرض عنه مريد القتل ، أو قتله ثم بان أنه مهدور الدم ، فإنه لا يقال إنّ الثالث أعان على الإثم بتهيئة مقدّمات القتل . كما لا تصدق الإعانة على التقوى إذا لم يتحقّق المعان عليه في الخارج ، كما إذا رأى شبحاً يغرق فتوهّم أنه شخص مؤمن فأنقذه إعانة منه له على التقوى فبان أنه خشبة .
وقد يمنع من اعتبار وقوع المعان عليه في الخارج في مفهوم الإعانة وصدقها بدعوى أنه لو أراد رجلان التهجّم على بيضة الإسلام أو على قتل النفوس المحترمة فهيّأ لهما آخران جميع مقدّمات القتال ، فمضى أحدهما وندم الآخر ، فإنه لا شبهة في استحقاق كل من المهيئين الذم واللوم من جهة الإعانة على الإثم وإن تحقّق الفعل المعان عليه في أحدهما ولم يتحقق في الآخر ، فلو كان ذلك شرطاً في صدق الإعانة لم يتوجّه الذم إلاّ على الأول .
وفيه : أنّ الصادر من النادم ليس إلاّ التجرّي ، وهو على تقدير الالتزام بقبحه واستحقاق العقاب عليه لا يصدق عليه الإثم لتكون الإعانة عليه إعانة على الإثم وأمّا إذا قلنا بعدم استحقاق العقاب عليه فإنّ الأمر أوضح .
مع أنه لا مضايقة في صحة ذم معينه ، بل في صحة عقابه أيضاً بناء على حرمة الإعانة على الإثم وصحة العقاب على التجرّي ، فإنّ المعين حينئذ يرى نفسه عاصياً لتخيّله أنه معين على الإثم ، فهو متجر في فعله ، والمفروض أنّ التجرّي يوجب استحقاق العقاب .
وقد تجلّى من جميع ما ذكرناه ما في بقية الوجوه والأقوال المتقدّمة من الوهن والخلل ، كما اتّضح ضعف ما أورده المصنّف على بعض معاصريه من : أنّ حقيقة
ــ[281]ــ
الإعانة على الشيء هو الفعل بقصد حصول الشيء ، سواء حصل ـ في الخارج ـ أم لا ومن اشتغل ببعض مقدّمات الحرام الصادر عن الغير بقصد التوصّل إليه فهو داخل في الإعانة على الإثم(1).
ثم لا يخفى أنّ عنوان الإعانة كما يتوقّف على تحقّق الفعل المعان عليه في الخارج فكذلك يتوقّف على تحقّق المعين والمعان ، بأن يكونا مفروضي الوجود مع قطع النظر عن تحقّق الإعانة في الخارج ، ليقع فعل المعين في سلسلة مقدّمات فعل المعان ، فيكون عنوان الإعانة بهذا الاعتبار من الاُمور الإضافية . وعليه فإيجاد موضوع الإعانة ـ كتوليد المعين مثلا ـ خارج عن حدودها ، وإلاّ لحرم التناكح والتناسل ، للعلم العادي بأنّ في نسل الإنسان في نظام الوجود من يرتكب المعاصي وتصدر منه القبائح .
وأمّا مسير الحاج ومتاجرة التاجر مع العلم بأخذ المكوس والگمارك وهكذا عدم التحفّظ على المال مع العلم بحصول السرقة فكلّها داخل في عنوان الإعانة ، فإنه لا وجه لجعل أمثالها من قبيل الموضوع للإعانة وخروجها عن عنوانها كما زعمه شيخنا الاُستاذ(2) والمحقّق الإيرواني(3). كما لا وجه لما ذهب إليه المصنّف (رحمه الله)(4) من إخراجها عن عنوان الإعانة من حيث إنّ التاجر والحاج غير قاصدين لتحقّق المعان عليه ، لما عرفت من عدم اعتبار القصد في صدقها .
وقد ظهر من مطاوي جميع ما ذكرناه : أنّ المدار في عنوان الإعانة هو الصدق
ـــــــــــــــــــــــــ ـــ
(1) المكاسب 1 : 133 .
(2) منية الطالب 1 : 37 وما بعدها .
(3) حاشية المكاسب (الإيرواني) 1 : 97 ـ 98 .
(4) المكاسب 1 : 136 .
ــ[282]ــ
العرفي ، وعليه فلا يفرق في ذلك بين المقدّمات القريبة والمقدّمات البعيدة ، ولذلك صح إطلاق المعين على من تسبّب في قضاء حوائج الغير ولو بوسائط بعيدة .
حكم الإعانة على الإثم
ما حكم الإعانة على الإثم ؟ الظاهر جواز ذلك ، لأنه مقتضى الأصل الأوّلي ولا دليل يثبت حرمة الإعانة على الإثم وإن ذهب المشهور وبعض العامة(1) إلى الحرمة ، وعليه فالحكم هو جواز الإعانة عليه إلاّ ما خرج بالدليل ، كإعانة الظالمين وإعانة أعوانهم وتهيئة مقدّمات ظلمهم ، لاستفاضة الروايات على حرمة إعانتهم وتقويتهم وتعظيم شوكتهم ولو بمدة قلم أو بكتابة رقعة أو بجباية خراج ونحوها وستأتي هذه الروايات في البحث عن معونة الظالمين(2)، بل الحرمة في هذا النحو من الإعانة ممّا استقل به العقل ، وقامت عليه ضرورة العقلاء ، بل قال في العروة في مسألة 29 من صلاة المسافر إنّه لو كانت تبعية التابع إعانة للجائر في جوره وجب عليه التمام وإن كان سفر الجائر طاعة ، فإنّ التابع حينئذ يتم مع أنّ المتبوع يقصّر(3).
ـــــــــــــــــــــــــ ـــ
(1) في المبسوط للسرخسي 24 : 26 عن أبي يوسف ومحمد : إنّ بيع العصير والعنب ممّن يتّخذه خمراً إعانة على المعصية وتمكين منها ، وذلك حرام ، وإذا امتنع البائع من البيع يتعذّر على المشتري اتّخاذ الخمر ، فكان في البيع منه تهيج الفتنة ، وفي الامتناع تسكينها . وفي الفقه على المذاهب الأربعة 2 : 50 عن الحنابلة : كل ما أفضى إلى محرّم فهو حرام . وفي الهداية 4 : 94 : ويكره بيع السلاح في أيّام الفتنة ، لأنه تسبيب إلى المعصية .
(2) في ص650 .
(3) العروة الوثقى 1 : 688 ] 2260 [ .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً