دراسة قانونية وبحث شامل عن التكنولوجيا الرقمية والملكية الفكرية
دكتور حسام الدين عبد الغني الصغير
أستاذ القانون التجاري، مدير المعهد الاقليمى للملكية الفكرية
ووكيل كلية الحقوق جامعة حلوان
و المحامى بالنقض
موضوع هذا البحث هو: التكنولوجيا الرقمية و الملكية الفكرية. و سوف نعالج فيه موضوعا جديدا يتعلق بحماية المصنفات المنشورة على شبكة الإنترنت. و قد آثارنا اختيار هذا الموضوع نظرا لأهميته من الناحية العملية, حيث أظهر استخدام الإنترنت مشكلات قانونية متعددة تتعلق بكيفية حماية المصنفات المنشورة إلكترونيا , كما سنوضح كيف عالج المشرع هذا الموضوع في قانون حماية حقوق الملكية الفكرية الجديد رقم 82 لسنة 2002.
نحن نعلم انه منذ بداية الربع الأخير من القرن الماضي حدث تقدم غير مسبوق في مجال الاتصالات ، واستمر التطور التكنولوجي فى طريقه مما أدي إلى حدوث طفرة تكنولوجية هائلة في مجال الاتصالات والمعلومات . وقد أفرزت هذه الطفرة التكنولوجية الإنترنت . وذاع استخدام الشبكة مما أدي إلي تدفق المعلومات عبر الحدود وسهل الحصول عليها دون أن تقف الحدود الجغرافية للدول عائقا أمام تبادل المعلومات و المصنفات وإتاحتها عبر الشبكة من وفي أي مكان في العالم . وأصبح من السهل نشر المصنفات عبر الشبكة لتصل إلى مستعمل الشبكة في أي بقعة من العالم ، ومن ثم أصبحت الشبكة تستخدم على نطاق واسع في تسويق المصنفات الرقمية : مثل الكتب والموسيقي والأفلام والأغاني ، والأبحاث والاستشارات الفنية ، والدراسات المختلفة … الخ . و سوف نعالج هذا الموضوع في فروع أربعة كالآتي:
الفرع الأول: موقف الاتفاقيات الدولية من النشر الإلكتروني للمصنفات.
الفرع الثاني: مزايا و عيوب النشر الإلكتروني للمصنفات
الفرع الثالث: التحايل على التدابير التكنولوجيا
الفرع الرابع: موقف قانون حماية حقوق الملكية الفكرية الجديد رقم 82 لسنة 2002.
الفرع الأول
موقف الاتفاقيات الدولية من النشر الإلكتروني للمصنفات
(اتفاقية برن 1883, و معاهدة الويبو بشأن حق المؤلف 1996 )
أظهر استخدام الإنترنت مشكلات قانونية متعددة من بينها ما يتعلق بكيفية حماية المصنفات الأدبية والفنية المتاحة عبر الشبكة . ونظرا لقصور اتفاقية برن (تعديل 1971) في تقديم حلول لتلك المشكلات حيث أنها لم تعالج النشر الإلكتروني للمصنفات الفنية والأدبية ، فقد دعت الحاجة إلى البحث عن حلول لمواجهة ما أظهره التقدم العلمي والتكنولوجي في مجال الاتصالات من مشكلات . واتجهت الجهود الدولية التي بذلت تحت مظلة الويبو في أول الأمر إلى العمل على ادخال تعديلات على اتفاقية برن لعلاج ما أظهره النشر الإلكتروني للمصنفات عبر شبكة الإنترنت من مشكلات , ولكنه ظهر في مرحلة متقدمة من المفاوضات التي جرت بين الدول تحت مظلة الويبو أن من الأفضل إصدار اتفاقية جديدة لاتاحة قدر أكبر من المرونة في تلبية رغبات الدول الأعضاء في الويبو ، وهو ما تسمح به المادة 20 من اتفاقية برن التي تجيز للدول الأعضاء في اتحاد برن أن تبرم فيما بينها اتفاقيات خاصة طالما أن تلك الاتفاقيات تمنح للمؤلفين حقوقا تفوق الحقوق المنصوص عليها في اتفاقية برن .
وقد اسفرت الجهود الدولية في نهاية الأمر عن إبرام اتفاقية خاصة تطبيقا لحكم المادة 20 من اتفاقية برن وهي معاهدة الويبو بشأن حق المؤلف 1996 WIPO Copyright Treaty (WCT) 1996 , كما أبرمت اتفاقية أخرى تتوافق معها هي معاهدة الويبو بشأن فناني الأداء ومنتجي التسجيلات الصوتية (WPPT) 1996
ويطلق على هاتين الاتفاقيتين اتفاقيتا الانترنت لأنهما توفران الحماية لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة عبر شبكة الانترنت .
وجدير بالذكر أن معاهدة الويبو بشأن حق المؤلف 1996 قد حرصت في المادة 4 منها على تأكيد أن برامج الحاسب الآلي تعتبر من قبيل المصنفات الأدبية في مفهوم المادة 2 من اتفاقية برن فنصت على أنه :
” تتمتع برامج الحاسب بالحماية باعتبارها مصنفات أدبية في مفهوم المادة 2 من اتفاقية برن . وتطبق تلك الحماية على برامج الحاسب أيا كانت طريقة التعبير عنها أو شكلها “.
كما أكدت الاتفاقية في المادة 8 منها حماية المصنفات الرقمية التي تنشر عبر شبكة الانترنت ، حيث نصت على أنه :
” يتمتع مؤلفو المصنفات الأدبية والفنية بالحق الاستئثارى في التصريح بنقل مصنفاتهم إلى الجمهور بأي طريقة سلكية أو لاسلكية ، بما في ذلك إتاحة مصنفاتهم للجمهور بحيث يكون في استطاعة أي شخص من الجمهور الإطلاع على تلك المصنفات من مكان وفي وقت يختارهما أي فرد من الجمهور بنفسه …. “
الفرع الثاني
مزايا وعيوب النشر الإلكتروني للمصنفات
أتاحت شبكة الانترنت قدرا هائلا من المعلومات والمصنفات الفنية والأدبية، وأصبح من السهل تسويق المصنفات الرقمية عبر الشبكة. وقد ترتب على ذلك عدة نتائج هامة سواء فيما يتعلق بالمؤلفين ، أو بمستعملي الشبكة :
(أ) فيما يتعلق بالمؤلفين :
ترتب على إتاحة النشر الالكتروني للمصنفات الأدبية والفنية نتائج تؤثر على المؤلفين بعضها إيجابي وبعضها الآخر سلبي .
أما فيما يتعلق بالنتائج الإيجابية فهي تتلخص في الآتي :
(1) سهولة نشر المصنفات وانخفاض التكلفة .
(2) أصبح من اليسير على المؤلف أن يقوم بنشر مصنفه الفني أو الأدبي بنفسه بدلا من اللجوء إلى دار نشر .
(3) أتاحت الشبكة إمكانية توصيل العمل إلى الجمهور وتوزيعه بسرعة فائقة وبدقة . وقد ترتب على ذلك إمكانية تسويق المصنفات عبر الشبكة بسعر رخيص ، يقل بكثير عن السعر الذي تباع به المصنفات التقليدية للجمهور .
على أن هذا لا يعنى عدم وجود نتائج سلبية ، إذ يترتب على نشر المصنف على الشبكة بدون إذن صاحبه أن يواجه المؤلف صعوبات بالغة لحماية حقه. فمن الغني عن البيان أن المؤلف يصعب عليه ، إذا ما نشر مصنفه بدون إذنه علي الشبكة ، إيقاف الاعتداء على المصنف ، كما يتعذر عليه أن يمنع استمرار إتاحته للجمهور عبر الشبكة بالإضافة إلي صعوبة وعقبات اللجوء إلي التقاضي نظرا لتعدد القوانين الوطنية واختلافها وتنازع الاختصاص فيما بينها.
ولعل خير مثال يوضح ذلك ما حدث في أعقاب وفاة الرئيس الفرنسي ميتران سنة 1996 . فبعد أيام من وفاته نشر طبيبه الخاص مذكرات تتكون من 190 صفحة أسماها ” السر الكبير ” le grand secret وقد تناولت المذكرات أسرارا فاضحة عن حياة الرئيس الشخصية وعلاقاته الجنسية. وعندما علمت عائلة الرئيس ميتران بإقدام طبيبه على نشر المذكرات استصدرت أمرا من القضاء الفرنسي بمنع نشر المذكرات استنادا إلي أن ما تحتويه يعد انتهاكا للحق في الخصوصية . وتنفيذا لهذا الأمر تم سحب المذكرات قبل أن تطرح في السوق . ولكن ما حدث بعد ذلك يوضح أن المصنفات التي تنشر عبر الانترنت بدون إذن صاحبها يصعب السيطرة عليها ومنع تداولها . لقد حصل أحد أصحاب مقاهي الانترنت في فرنسا على نسخة من مذكرات الطبيب الخاص للرئيس ميتران ، وقام بتحويلها إلى مصنف رقمي أخذ شكل ملف الكتروني, ووضعه على موقع للإنترنت من جهاز خادم server في فرنسا . ولكن بعد مدة قصيرة أزال هذا الشخص الملف الذي يحتوى المذكرات من الموقع خشية تعرضه للبطش والتنكيل من عائلة ميتران، فلم تعد المذكرات متاحة بالموقع . ولكن سرعان ما ظهرت المذكرات في مواقع أخرى على الشبكة إذ نسخها بعض مستعملي الشبكة الكترونيا أثناء الفترة القصيرة التي أتيحت فيها على الشبكة ، حيث أعيد بثها من مواقع أخرى خارج فرنسا كائنة في كندا والولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا .
ولعل هذا المثال يوضح جانبا من المشكلات القانونية التى ترتبط بكيفية حماية حق المؤلف عبر الانترنت ، إذ يثير عددا من التساؤلات :
– كيف يمكن لعائلة ميتران أن تمنع نشر المذكرات تنفيذا للأمر القضائي من الناحية العملية بعد أن بثتها مواقع خارج فرنسا كائنة في كندا والولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا ؟ وهل يمكن تنفيذ الأمر الصادر من القضاء الفرنسي في دولة أخرى أجنبية ؟
– هل ستقاضى عائلة ميتران أصحاب هذه المواقع المتفرقة والمنتشرة عبر كل بلدان العالم ؟ وهل ستقاضي معهم مقدمي خدمات الانترنت ؟.
– ما هي المحاكم المختصة بنظر كل هذه المنازعات ؟
– وما هو القانون الواجب التطبيق ؟
إن المشكلة الحقيقية تكمن في أنه في عصر التكنولوجيا الرقمية تعجز القوانين الوطنية ، وهي قوانين ذات صبغة إقليمية لا يتجاوز سلطانها من حيث المكان الحدود الجغرافية للدولة المعنية ، عن تنظيم أو تجريم ما يحدث من أفعال الاعتداء على المصنفات عبر شبكة الإنترنت ، لأن هذه الأفعال لا تعرف حدودا إقليمية , إذ تتجاوز آثارها الحدود الجغرافية للدول .
لقد أظهر استخدام الانترنت تحديا لقوانين الملكية الفكرية التي بدت كسيحة ، ووقفت عاجزة عن توفير الحماية اللازمة للمصنفات التي تنشر عبر شبكة الانترنت.
ومن أجل ذلك فقد أبرمت معاهدة الويبو بشأن حق المؤلف 1996 (WCT) ، ومعاهدة الويبو بشأن فناني الأداء ومنتجي التسجيلات الصوتية 1996 (WPPT) . ويطلق على هاتين المعاهدتين ، كما سبقت الإشارة ، اتفاقيتا الانترنت .
الحماية الذاتية للمصنفات عن طريق التدابير التكنولوجية :
نظرا لعجز القوانين الوطنية عن توفير الحماية الكافية للمصنفات التى تنشر على شبكة الانترنت, فقد بدأت الحماية تعتمد على آليات أخرى ابتدعها أصحاب الحقوق لحماية مصنفاتهم . ويطلق على هذا النوع من الحماية الحماية الخاصة private ordering . والمقصود بذلك هو توفير الحماية للمصنفات بمعرفة أصحاب الحقوق أنفسهم باستخدام وسائل تكنولوجية ( مثل التشفير ). وبفضل هذه الوسائل التكنولوجية أمكن لأصحاب الحقوق السيطرة على مصنفاتهم ومنع الاعتداء عليها ، وبالتالي أصبح من الممكن استغلال هذه المصنفات عن طريق الترخيص للغير باستعمالها والحصول على عائد مالي مقابل ذلك .
وتنقسم هذه الوسائل التكنولوجية إلي نوعين :
النوع الأول : التدابير التكنولوجية technological measures
وهي تهدف إلى إعاقة الحصول على المصنف والاستفادة منه إلا لمن يحمل ترخيصا من صاحب الحق . ومن أمثلة تلك التدابير التكنولوجية التشفير .
النوع الثاني : المعلومات الضرورية لإدارة الحقوق
rights management information
وخير مثال على ذلك العلامات المائية الرقمية digital watermarking ، وهي معلومات مشفرة يتم إلحاقها بالمصنف في صورة رقمية ، أو تعديلات أو تحويرات غير مرئية تقترن بالمصنف تمكن صاحب الحق من التعرف على المصنف وتتبع النسخ غير المرخص بها ، والمطالبة بإزالتها من جهاز الكمبيوترالـخادم server . وهذه الوسيلة لا تمنع الاعتداء ، ولكنها تتيح إمكانية تتبع النسخ غير المشروعة .
(ب) فيما يتعلق بمستعملي الشبكة (المستفيدين )
ترتب على إتاحة النشر الإلكتروني للمصنفات عبر شبكة الإنترنت عدة آثار إيجابية للمستفيدين ، بالإضافة إلى ظهور عدة آثار سلبية .
أما عن الآثار الإيجابية فهي تتلخص في الآتي :
1- أتاحت شبكة الإنترنت لمستعملي الشبكة فرص لا حدود لها للحصول على المعلومات والمصنفات دون قيود تتعلق بالغرض .
2- أصبح من السهل الحصول على المصادر والمعلومات المطلوبة في وقت يسير عن طريق استخدام ماكينات البحث search engines
3- أصبح من الممكن نسخ المصنفات المنشورة على الشبكة الكترونيا بسهولة ودقة وبدون تكلفة تذكر .
أما الآثار السلبية التي نتجت عن استخدام شبكة الانترنت فمن أهمها أن استخدام وسائل تكنولوجية بمعرفة أصحاب الحقوق لحماية مصنفاتهم يؤدي إلى ترجيح مصالح أصحاب المؤلفين على حساب المصلحة العامة للمجتمع ، بسبب ما يلي :
1- أن المصنفات التي انتهت مدة حمايتها وسقطت في الملك العام أصبح من الممكن إعادة حمايتها عن طريق التدابير التكنولوجية ولمدة غير محدودة، مما يؤدى إلى حرمان مستعملي الشبكة من الحصول عليها إلا نظير مقابل مادي رغم أنها غير محمية . وهذا يعني أن المدة الفعلية لحماية المصنفات المنشورة عبر الشبكة عن طريق التدابير التكنولوجية تصبح غير مؤقتة بفترة زمنية ، و يمكن أن تتجاوز بكثير المدة التى حددها القانون لحماية حق المؤلف . مما يؤدى الى حرمان المجتمع من الاستفادة من المصنفات التي سقطت في الملك العام بسبب التدابير التكنولوجية التي تعوق الحصول عليها .
2- أن الاستثناءات التي تقررها التشريعات الوطنية على حق المؤلف لتحقيق قدر من التوازن بين مصلحة المؤلفين ومصالح المجتمع تطبيقا لنظرية الاستعمال العادل fair use ، مثل الاستثناءات المقررة في أغلب التشريعات لأغراض التعليم والبحث العلمي ، لم يعد في الإمكان تفعيلها, مما يؤدى إلى حرمان المجتمع من الاستفادة منها, رغم أن القانون يسمح بقيام الغير بنسخ المصنفات المحمية بدون إذن المؤلف في حالات محدودة لاعتبارات تتعلق بتحقيق المصلحة العامة.
3- أن المصنفات الرقمية المنشورة على الشبكة غير متاحة للاطلاع عليها إلا بمقابل مادي بسبب استخدام التدابير التكنولوجية التي تعوق الحصول عليها, على خلاف المصنفات التقليدية التي يمكن الإطلاع عليها بدون دفع مقابل مادي . فلو قام شخص مثلا بشراء كتاب ، يمكنه أن يطلع على الكتاب ويكرر ذلك في أي وقت يشاء، كما يمكنه أن يعيره إلى الغير دون دفع أي مبلغ للمؤلف, على خلاف الوضع بالنسبة للمصنفات المنشورة عبر الشبكة التى قد تتطلب دفع مقابل مادى نظير الاطلاع في كل مرة.
الفرع الثالث
التحايل على التدابير التكنولوجيـة
المقصود بالتحايل على التدابير التكنولوجية :
سرعان ما ظهرت أساليب تكنولوجية مضادة تهدف إلى إبطال مفعول التدابير التكنولوجية التي ابتدعها أصحاب الحقوق أو التحايل عليها أو تغيير المعلومات الضرورية لادارة الحقوق، من أجل الحصول على المصنفات الرقمية والاستفادة منها بدون دفع أي مقابل لأصحاب الحقوق .
ومن الأمثلة على ذلك الأجهزة التي تعتمد على تكنولوجيا للتعرف على الشفرة وفكها ، فهذه الأجهزة تبطل التدابير التكنولوجية (الشفرة) التي يستخدمها أصحاب الحقوق لحماية مصنفاتهم . ومن ذلك الجهاز الذي يستخدم لفك شفرة الإرسال التليفزيوني ويمكن مستخدمه من رؤية البرامج التليفزيونية المشفرة ، بدون دفع أي مقابل لأصحاب الحقوق .
الحماية القانونية للتدابير التكنولوجية ومستوياتها :
ولما كان إبطال مفعول التدابير التكنولوجية أو التحايل عليها أو تغيير المعلومات الضرورية لإدارة الحقوق من شأنه المساس بحقوق المؤلفين وتعريض مصالحهم للخطر لأنه يتيح للغير الحصول على المصنفات بدون دفع أي مقابل لأصحابها ، فقد كان من الضروري تدخل المشرع لحماية التدابير التكنولوجية وحظر التحايل عليها . وقد لجأت التشريعات المقارنة إلى حماية التدابير التكنولوجية بقصد منع الاعتداء على المصنفات الرقمية بوسائل شتى . ويمكن تقسيم مستويات الحماية في التشريعات المقارنة إلى ثلاثة مستويات :
المستوى الأول : حظر الأفعال التي تبطل مفعول التدابير التكنولوجية أو التحايل عليها متى اقترنت تلك الأفعال بنية الحصول على مصنف محمي قانونا :
وهذا الاتجاه يقصر الحماية على الأفعال التي تقترن بنية الحصول على مصنف محمي قانونا بموجب حق المؤلف أو الحقوق المجاورة لحق المؤلف. وهذا يعني أنه إذا لم يكن المصنف متمتعا بالحماية المقررة قانونا لحق المؤلف – كما لو انتهت مدة حماية المصنف وأصبح في الملك العام أو لم يكن العمل مؤهلا للحماية المقررة لحق المؤلف– فإن الأفعال التي تبطل مفعول التدابير التكنولوجية أو تتحايل عليها تكون أفعالا مشروعة ، لا يعاقب القانون علي ارتكابها .
ولا شك أن هذا الاتجاه التشريعي يقيم توازنا بين مصلحة المؤلفين من جانب ومصالح المجتمع من جانب آخر ، لأنه يسمح بإبطال مفعول التدابير التكنولوجية أو التحايل عليها إذا كانت هذه التدابير تعوق الحصول على مصنف غير محمي قانونا أو تمنع نسخه ، ووفقا لهذا الاتجاه يكون إبطال مفعول التدابير التكنولوجية أو التحايل عليها مشروعا إذا كان الغرض من ذلك هو استعمال المصنف استعمالا عادلا fair use في الحالات الاستثنائية التي يسمح القانون باستعمال المصنف فيها بدون حاجة إلى الحصول على ترخيص من صاحبه ، كالاستعمال لأغراض التعليم أو الهندسة العكسية.
المستوى الثاني : حظر الأفعال التي من شأنها إبطال مفعول التدابير التكنولوجية أو التحايل عليها سواء كان المصنف محميا أو كان غير محمي:
وهذا المستوى أكثر ارتفاعا من المستوى الأول من حيث درجة الحماية التي يوفرها ، حيث يتضمن الحظر المطلق لكل فعل من شأنه إبطال مفعول التدابير التكنولوجية أو التحايل عليها سواء كان المصنف محميا عن طريق حق المؤلف أو غير محمي ، وسواء كان الغرض من إلغاء التدابير التكنولوجية أو التحايل عليها هو الاستغلال العادل للمصنف المحمي أو لم يكن كذلك .
المستوى الثالث : حظر الأفعال التي من شأنها إبطال مفعول التدابير التكنولوجية أو التحايل عليها ، بالإضافة إلى حظر تصنيع أو بيع أو تداول الأجهزة التي تستعمل لإبطال مفعول التدابير التكنولوجية أو التحايل عليها.
وهذا المستوى هو أكثر مستويات الحماية ارتفاعا ، لأن الحظر هنا لا يقتصر على الأفعال التي من شأنها إبطال مفعول التدابير التكنولوجية أو التحايل عليها ، وإنما يمتد الحظر إلى تصنيع أو بيع أو تداول الأجهزة التي تستعمل في ذلك .
ثالثا : موقف بعض القوانين المقارنة ومعاهدة الوايبو بشأن حق المؤلف :
أ- موقف القانون الأمريكي : وقد أخذ القانون الأمريكي الصادر سنة 1998 بتعديل قانون حق المؤلف Digital Millennium Copyright Act 1998 بأكثر مستويات الحماية ارتفاعا وهو المستوى الثالث حيث أضاف القسم 103 من هذا القانون فصلا جديدا يحمل رقم 12 إلى الجزء 17 من تقنين الولايات المتحدة الأمريكية . وقسم القانون التدابير التكنولوجية إلى نوعين :
النوع الأول : تدابير تكنولوجية تمنع الحصول على المصنف المحمي عن طريق حق المؤلف prevent unauthorized access .
والنوع الثاني : تدابير تمنع نسخ المصنف المحمي بدون ترخيص من صاحب حق المؤلف .
وقد حظر القانون تصنيع أو بيع الأجهزة أو الخدمات التي تستعمل في التحايل على التدابير التكنولوجية المتقدمة بنوعيها .
أما فيما يتعلق بالأفعال التي ترتكب بغرض إبطال التدابير التكنولوجية أو التحايل عليها فقد حظر القانون الأفعال المتعلقة بإبطال التدابير التي تمنع الحصول على العمل المحمي عن طريق حق المؤلف ( النوع الأول من التدابير التكنولوجية المتقدمة ) ، ولكنه لم يحظر الأفعال المتعلقة بإبطال التدابير التكنولوجية التي تمنع نسخ المصنف المحمي بدون ترخيص من صاحب الحق ، أخذا في الاعتبار أن النسخ يكون مشروعا بدون موافقة صاحب حق المؤلف في بعض الحالات التى يقررها القانون تطبيقا لنظرية الاستعمال العادل fair use ، وهذا يعنى أن القانون قد فتح الباب في هذه الحالة لإبطال التدابير التكنولوجية التي تمنع نسخ المصنف المحمي أو التحايل عليها لأن النسخ قد يكون مشروعا, تطبيقا لنظرية الاستعمال العادل .
ب- موقف معاهدة الويبو بشأن حق المؤلف 1996 :
تناولت معاهدة الويبو بشأن حق المؤلف 1996 الالتزامات المتعلقة بالتدابير التكنولوجية في المادة 11 من الاتفاقية ([1]) حيث نصت على أنه :
” على الأطراف المتعاقدة أن تنص في قوانينها على حماية مناسبة وعلى جزاءات فعالة ضد التحايل على التدابير التكنولوجية الفعالة التي يستعملها المؤلفون لدى ممارسة حقوقهم بناء على هذه المعاهدة أو اتفاقية برن والتي تمنع من مباشرة أعمال لم يصرح بها المؤلفون المعنيون أو لم يسمح بها القانون ، فيما يتعلق بمصنفاتهم ”
ويتضح من ذلك أن معاهدة الويبو قد أخذت بالمستوى الأول من مستويات الحماية ، حيث فرضت التزاما على الدول الأطراف بأن تنص قوانينها على جزاءات فعالة ضد التحايل على التدابير التكنولوجية التى تستعمل لحماية المصنفات إذا كانت تلك التدابير تمنع من مباشرة أعمال لم يصرح بها المؤلفون أو لا يسمح بها القانون . وهذا يعنى أنه إذا كان الحصول على المصنف أو نسخه مشروعا بسبب موافقة صاحب حق المؤلف، أو لأن المصنف ذاته غير محمي قانونا عن طريق حق المؤلف، أو لأن القانون يسمح للغير بنسخه أو نسخ أجزاء منه رغم أنه يتمتع بالحماية المقررة لحق المؤلف وذلك تطبيقا لنظرية الاستعمال العادل ، ففي كل هذه الحالات يكون التحايل على التدابير التكنولوجية التي تقترن بالمصنف مشروعا .
وهذا الالتزام الذي فرضته الاتفاقية على الدول الأطراف يشكل الحد الأدني من مستويات الحماية ، بمعني أنه يجوز للدول الأطراف أن ترفع مستوى الحماية بما يزيد على الحد الأدني المنصوص عليه في الاتفاقية .
ويلاحظ أن الاتفاقية لم تذكر شيئا عن الأجهزة التي تستعمل في إبطال مفعول التدابير التكنولوجية أو التحايل عليها . وتركت هذا الأمر للدول لتنظيمه بالكيفية التي تتفق مع مصالحها .
الفرع الرابع
موقف قانون حماية حقوق الملكية الفكرية المصرى الجديد رقم 82 لسنة 2002
أخذ قانون حماية حقوق الملكية الفكرية المصري رقم 82 لسنة 2002 بأكثر المستويات ارتفاعا لحماية التدابير التكنولوجية ، حيث أن مستوى الحماية المنصوص عليه في القانون يتجاوز ما نصت عليه معاهدة الويبو بشأن حق المؤلف لسنة 1996 من معايير للحماية .
وقد نصت المادة 181 من قانون حماية حقوق الملكية الفكرية على أنه :
” مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد في قانون آخر ، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن شهر وبغرامة لا تقل عن 5000 جنيه ولا تجاوز 10000 جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من ارتكب أحد الأفعال التالية :
أولا : ………. ثانيا : ……….. ثالثا : …….. رابعا : …………..
خامسا : التصنيع أو التجميع أو الاستيراد بغرض البيع أو التأجير لأي جهاز أو وسيلة أو أداة مصممة أو معدة للتحايل على حماية تقنية يستخدمها المؤلف أو صاحب الحق المجاور كالتشفير أو غيره .
سادسا : الإزالة أو التعطيل أو التعييب بسوء نية لأية حماية تقنية يستخدمها المؤلف أو صاحب الحق المجاور كالتشفير أو غيره “.
ويتضح من ذلك أن المشرع المصري لا يقصر التجريم على الأفعال التي من شأنها إبطال أو التحايل على التدابير التكنولوجية بسوء نية ، وهي تلك الأفعال التي ذكرتها المادة 181 /سادسا ، بل يدخل أيضا في دائرة التجريم تصنيع أو تجميع أو استيراد بغرض البيع أو التأجير أي جهاز أو أداة مصممة أو معدة للتحايل على التدابير التكنولوجية التي يستخدمها المؤلف لحماية مصنفه .
ومن الغني عن البيان أن المشرع المصري يأخذ بأكثر مستويات الحماية ارتفاعا, إذ يجرم كل فعل من شأنه إزالة أو تعطيل أو تعييب التدابير التكنولوجية, دون تفرقة بين المصنفات التى تتمتع بالحماية القانونية لحق المؤلف و المصنفات غير المحمية, كما ان المشرع لم يميز بين الحالات التى يكون نسخ المصنف فيها مجرما, و تلك الحالات التى يكون نسخ المصنف فيها مشروعا تطبيقا لنظرية الاستعمال العادل.
(1) كما تناولت الاتفاقية في المادة 12 منها الالتزامات المتعلقة بالمعلومات الضرورية لإدارة الحقوق فنصت على أنه :
الالتزامات المتعلقة بالمعلومات الضرورية لإدارة الحقوق
” (1) على الأطراف المتعاقدة أن تنص في قوانينها على جزاءات مناسبة وفعالة توقع على أي شخص يباشر عن علم أيا من الأعمال التالية ، أو لديه أسباب كافية ليعلم – بالنسبة إلى الجزاءات المدنية – أن تلك الأعمال تحمل على ارتكاب تعد على أي حق من الحقوق التي تشملها هذه المعاهدة أو اتفاقية برن أو تمكن من ذلك أو تسهل ذلك أو تخفيه:
1- أن يحذف أو يغير ، دون إذن ، أي معلومات واردة في شكل الكتروني تكون ضرورية لإدارة الحقوق .
2- وأن يوزع أو يستورد لأغراض التوزيع أو يذيع أو ينقل إلى الجمهور ، دون إذن، مصنفات أو نسخا عن مصنفات مع علمه بأنه قد حذفت منها أو غيرت فيها ، دون إذن ، معلومات واردة في شكل الكتروني تكون ضرورية لإدارة الحقوق .
(2) يقصد بعبارة ” المعلومات الضرورية لإدارة الحقوق ” ، كما وردت في هذه المادة ، المعلومات التي تسمح بتعريف المصنف ومؤلف المصنف ومالك أي حق في المصنف ، أو المعلومات المتعلقة بشروط الانتفاع بالمصنف ، وأي أرقام أو شفرات ترمز إلى تلك المعلومات ، متى كان أي عنصر من تلك المعلومات مقترنا بنسخة عن المصنف أو ظاهرا لدى نقل المصنف إلى الجمهور “.
اترك تعليقاً