السرقة الأدبية فى القوانين الوضعية والشريعة الاسلامية
ليس للسرقة الأدبية والفكرية حكم صريح عند الفقهاء والمشرعين المسلمين، لا قديماً ولا حديثاً، وكذا الحال في فقه وكتب أهل الأديان الأخرى، وإن وضعت لها مؤسسات الثقافة العالمية أحكاماً تصل إلى الغرامة ومصادرة المال المسروق ومنع ممارسة مقترفها الكتابة والنشر، فسارقو النصوص العربية ما زالوا محميين،
لا يطولهم شرع ولا قانون وضعي. وربما ترددت بعض الصحف والمجلات العربية عن كشف هذا الضرب الخطير من السرقة، تحت ذريعة توارد بين الخواطر والخلل في الاقتباس، مع أن السرقة غير ذلك تماماً، فهنا لا نتكلم عن توارد خاطر أو إهمال في ذكر مصدر الاقتباس والتضمين، وإنما نتكلم عن سرقة نصوص كاملة تصل إلى فصول وكتب، مارسها أشخاص لو تعرضوا للمساءلة ظهر جلياً عوزهم وفقرهم لما يتصدون له من أدب وعلم، وهم محتالون لا يقل فعلهم ضحالة من مزيفي النقود.
ظلت السرقة الأدبية بعيدة عن الاهتمام البحثي والفقهي رغم كثرة السارقين والمنتحلين، بينهم وجوه معروفة، احتمت وراء شيوعها.
لم نجد في المكتبة العربية ما يعالج تلك الظاهرة الأخلاقية غير كتاب «السرقات الأدبية» لبدوي طبانة (القاهرة 1956)، وهو الآخر لم يتجاوز الكتب التي تناولت سرقات الشعراء المبررة في أغلبها.
ومع اهتمام المؤلف في الماضي وعدم إشارته إلى سرقات الحاضر إلا أنه اعتبر السرقة الأدبية جريمة أخلاقية لا تقل عن جريمة سرقة الأموال العينية، فالعمل على «انتزاع الفكرة من منشئها ومبدعها جناية لا تقل عن جناية سلب الأموال والمتاع من صاحبها ومالكها»، لم يكن تأليف الكتاب بريئاً من معاناة الحاضر، لكن طلب السلامة جعلت المؤلف يملأ كتابه بأمثلة من الشعر الجاهلي والعباسي، ويترك الإشارة إلى سرقة الكتب والمقالات، والسكوت عن فضح المدعين والمزيفين، مع أن سرقاتهم كانت حافزه في التأليف، لذا جاء كتابه بأسلوب «إياكَ أعني واسمعي يا جارة».
حمل المؤلف الناقد الأدبي، قبل القضاة والفقهاء، مسؤولية صيانة ورعاية رد الأموال الفكرية إلى أصحابها، فهو الذي يقوم بمهمة الباحث الجنائي، ولا يستغني عن دوره في ظل عدم وجود قوانين لحماية هذا النوع من الملكية في فضح السارق محذراً من التعامل معه من قبل دور النشر والمكتبات والقراء، ودفعه إلى الاعتراف علناً بحق الآخرين.
لقد باتت السرقة الأدبية صناعة في ظل تسهيلات الأجهزة الإلكترونية في النسخ والطباعة ونقل المعلومات وسهولة تحويرها، يستفيد منها مدعو الكتابة والبحث.
بعد البحث وثبوت خلو كتب فقه المذاهب الإسلامية، وما كتب حول السرقة وأحكامها في كتب قانونية وفقهية مختصة، من أي إشارة أو تلميح إلى السرقة الأدبية والفكرية استفسرنا الفقهاء المتقدمين في مذاهبهم عبر الرسالة التالية «ما حكم السرقة الأدبية والعلمية في الفقه، وأعني سرقة نص مكتوب من كتاب أو مجلة أو أي دورية أخرى، مطبوعة ومنشورة ونسبته إلى كاتب آخر، نصاً أو بعد تحوير وتحرير، وما حكم سرقة الأفكار والآراء الأدبية والعلمية بعد كشفها بالدليل القاطع، وهل يشبه حكمها حكم سرقة المال والحلال، مع أنها أكثر خطورة من غيرها».
أجاب على هذا الاستفتاء آية الله علي خامنئي مرشد الجمهورية الإيرانية الإسلامية، ورئيس لجنة الفتوى في الأزهر الشريف، والشيخ محمد حسين فضل الله، والشيخ الدكتور زكي بدوي عميد الكلية الإسلامية ببريطانيا، وآية الله الميرزا جواد التبريزي، والسيد الدكتور فاضل الميلاني أستاذ الجامعة الإسلامية وعضو مجلس أمناء مؤسسة الإمام الخوئي بلندن، وآخرون لم تصلنا ردودهم.
كتب آية الله خامنئي عبارة مقتضبة في حكم سارق الفكر والنصوص: «بسمه تعالى، لا يجوز على الأحوط»، ومعروف في لغة الفقه أن القول بالاحتياط يأتي بعد وجود إشكال ما، ومعنى عبارته: لا يجوز على الأقوى، ولا يظن القارئ أن في عبارة خامنئي تردد أو تهاون مع هذا النوع من السرقة، وإنما هي اصطلاحات الفقه الحذرة، وخاصة في مسألة لم تطرح من قبل، ولم يعانِ منها الفقيه، ولم يهتم فيها المجتمع المحيط به، فالكتاب والمثقفون كما هو واقع الحال أقل صلة والتصاقاً بالفقهاء.
فإذا كان المشرعون اختلفوا حول اعتبار اختلاس الكهرباء سرقة، بحجة أنها شيء غير قابل للحيازة، ويحتاج إلى هضم لفلسفة العلاقة بين المادة والطاقة، فكيف سيكون التعامل مع سرقة أفكار وخواطر؟
كانت فتوى لجنة الأزهر في اختلاس الأفكار والنصوص واضحة، باعتباره سرقة قد يطول مقترفها حكم سرقة الأموال بتقدير وقياس الفعل، مع التمييز بين الاقتباس والسرقة، جاء في الفتوى: «تفيد اللجنة بأن الاقتباس بكل أنواعه من كتاب أو مجلة أو مرجع جائز شرعاً، ولا شيء فيه، بشرط أن ينسب إلى مصدره وصاحبه عند الكتابة والتسجيل، ورده إلى مصدره الأصلي. أما النقل من كتاب أو مصدر أو مجلة عند التأليف ونسبة ما كتبه الكاتب، وما نقله عن غيره إلى نفسه فهذا أمر حرمه الشرع والقانون، وهو نوع من السرقة.
أما النقل للأفكار وكتابتها وتطويرها وتزويرها بأفكار أخرى وتحديثها فليس في ذلك شيء، وذلك ينطبق على سرقة الأفكار والآراء العلمية والدينية بشرط أنه عند هذا السؤال تنسب الفكرة إلى مخترعها ومبدعها، وذلك لا يشبه في حكمه شرعاً حكم سرقة الأموال والمتاع من قطع اليد وإقامة الحد، وإن كان يجوز في ذلك التقدير إذا كان الحال كما جاء بالسؤال، والله تعالى أعلم» (توقيع رئيس اللجنة 30 يناير 2003)». والحال المقصود في السؤال هو «هل يشبه حكمها حكم سرقة المال والحلال، مع أنها أكثر خطورة من غيرها»، وحسب التقدير والمشابهة يطول سارق الأفكار والنصوص ما يطول سارق المال العيني من قطع أو حبس.
عدَّ الشيخ فضل الله انتحال النصوص تزويراً للحقيقة، مع حكم سرقة الأفكار مثل حكم سرقة الأموال، جاء ذلك في جوابه:
«أولاً: لا يجوز نسبة النص الثابت لكاتب معين إلى كاتب آخر لأنه كذب وتزوير للحقيقة. أما اعتباره سرقة بالمعنى الشرعي للكلمة فيتبع اعتبار الملكية الفكرية للنص من قبل القانون العام، أو العرف بحيث يؤاخذ الشخص على ذلك تماماً كما لو نسب الكتاب إليه أو طبع المؤلف على حسابه لاستثماره من دون إذن صاحبه.
ثانياً: الحكم هو الحكم إذا علم بأن الفكرة مأخوذة من الفكر الآخر لا على أساس توارد الخاطر، أو الإعلان بتبنيه من قبل الشخص الذي يتبناه» (توقيع محمد حسين فضل الله 3يناير 3003).
توصل الشيخ زكي بدوي كباحث ودارس في الفقه إلى حقيقة أن الفقهاء لم يتعرضوا لهذه النوع من السرقة من قبل، ولم يخرجوا بتفسير آية السارق والسارقة أبعد من السرقات العينية، وأشار إلى نقطة مهمة وهي أن المال الفكري لا يحفظ بصندوق أو بنك، وسارقه سارق علانية لا سارق سر، ويرى وضع عقوبة تعزيرية على مرتكبها، ورد في جواب الشيخ بدوي: «أن الفقهاء لم يتعرضوا لهذه المشكلة، إذ كان اهتمامهم منصباً على السرقات العينية، والتي جاء حكمها في آية «والسارق والسارقة.. الآية».
أما السرقات الأدبية فلا ينطبق عليها تعريف السرقة الفقهي، التي تشترط أن يستولي السارق خلسة على ملك الغير بقصد تملكه.
والمواد الفكرية والعلمية لا توضع في حرز ولا تؤخذ خلسة بل تقع السرقة علناً. هذا من جانب ومن الجانب الآخر فقد كانت السرقات الأدبية بمعنى سرقة فكرة معينة في قصيدة (كلمة غير واضحة)، كما أن العلماء كانوا يقتبسون من كتابات غيرهم دون ذكر المصدر، إذ كانوا يرون العلم أمراً مشاعاً حتى كانوا يفتون بعدم دفع أجر لمعلم القرآن مثلاً. كل هذا لآن الظروف الاجتماعية في الماضي كانت لا تمنح الأديب ولا المفكر ثمناً في مقابل إنتاجه.
أما اليوم فالمقالات الأدبية والفكرية لها ثمنها، فهي إذن مادة ينبغي حمايتها من جانب الشريعة، فأنا أرى أن مرتكبها قد تلبس بجريمة ينبغي أن يعاقب عليها عقوبة تعزيرية، أي غير محددة، يقررها الحاكم ردعاً لعامة الناس من ارتكابها، والله أعلم» (توقيع زكي بدوي 16 يوليو 2003).
صحيح أن الفقهاء لم يطرقوا موضوع السرقة الأدبية لكنها كمشكلة كانت معروفة، عانى منها الكُتاب والأدباء، فحبروا ضدها المجلدات، واحتقروا مرتكبيها، وإن كان شاعراً علماً، وربما يبرر عدم اهتمام الفقهاء في حكمها بالتقليد الذي ساروا عليه في العصور كافة، فأئمة الفقه الخمسة أو السبعة لم تشغلهم هذه القضية، ولم يشغلهم ما هو خارج الهم الديني وما يتصل في العبادات والمعاملات، فكيف يهتم الإمام الشافعي بسرقة الشعر أو كتب الأدب، وهو الذي كبح فطرته الشعرية من أجل اهتمامه الفقهي بالقول:
ولولا الشعر بالعلماء يُزري لكنت اليوم أشعر من لبيد اكتفى آية الله الميرزا جواد التبريزي في حكم السرقة الأدبية بعبارة أخلاقية عامة: «لم ينبغِ للمؤمن أن يعمل عملاً يذهب بتعب الغير هدار، والله الموفق إلى السداد»، وهو رأي تحذيري يقال في كل شواذ المجتمع، ليس فيه مقارنات الفقيه وحججه واستقرائه.
غير أن أقوى رأي من بين المستفتين جاء على لسان السيد فاضل الميلاني، عندما قرن سرقة الفكر بسرقة الولد الصلبي، فكم هي خطيرة إذاً؟ دون أن يعطي حكماً صريحاً فيها لكن تشبيه الأفكار والجهد الذهني عموماً بالأولاد يعني أن هذا النوع من السرقة أخطر من سرقة الأموال العينية، جاء في جواب الميلاني: «بسمه تعالى.. رغم أن مصطلح السرقة بالوصف القانوني قد لا ينطبق على القضية المذكورة أعلاه، فإن أخذ نتاج الآخرين».
ونسبته إلى مَنْ أخذه خيانة واضحة، ومخالفة صريحة لآداب المعاشرة والاعتراف بسلطة الكاتب والمؤلف، والشاعر ونحوهم على نتاجهم الفكري والأدبي. بل ربّما كانت هذه العملية أشد على صاحبها من اختطاف ولده الصلبي، ونسبته إلى غير أبيه.
ومن الواضح أن الخيانة محرمة في الشريعة الإسلامية. وإذا استفاد (السارق) من هذه العملية فلا يبعد أن يكون مسؤولاً عن التعويض، والله العالم (سلخ جمادي الأولى 1423).
يقود تردد الفقهاء في استخلاص حكم صريح أو تأكيد عقوبة السرقة المعروفة على منتحلي الأفكار والمال المكتوب إلى إهمال الأولين لهذا النوع من السرقة، لكن عذر أولئك أنهم عاشوا عهوداً أخرى، حصروا الأمانة فيها على النص الديني، ونظروا إلى الأدب والفن كنشاط ثانوي على هامش الحياة، فالرواية الأدبية بمفهوم بعض الفقهاء كذب واختلاق والبحث في النظريات الفلسفية والعلمية زندقة،
لذا أظهروا أحكاماُ رادعة لمن يحاول أن يشوه النصوص الدينية بزيادة أو نقصان ولم يهتموا بأصالة سواها من النشاط الذهني، ومن أصول النقل والرواية ما ورد في كتاب الخطيب البغدادي (ت463هـ) «الكفاية في علم الرواية»، الذي حث على حفظ جهد الرواة وسلامة السند، والعبرة أن الخلل في نسبة النص يؤدي بالتالي إلى إمكانية تزويره، وهذا ما ترمي له جهود فضح السرقة الأدبية، لكي لا يشاع أدب مشوه وتشتهر بين الناس أسماء أدعياء.
ومع التساهل القديم في أمر السرقة الأدبية إلا أن الأولين احتفظوا بأصول التأليف، وإن كانوا لم يفقهوا استخدام أرقام الصفحات في تصانيفهم إلا أنهم كانوا يذكرون اسم المؤلف المتفضل عليهم، فأكثرَ الجاحظ من ذكر أرسطو وكتابه «الحيوان» وأكثر المؤرخون من ذكر الطبري ومحمد بن حبيب، وأكثر أصحاب السير من ذكر محمد بن إسحاق وابن هشام، بينما أمتنع آخرون من الاعتراف بفضل غيرهم، لأن الأمر يتعلق بنهب الكتاب كاملاً، وهذا ما فعله سعد الأشعري (القرن الثالث والرابع الهجريين)، إذ أدخل كتاب «فرق الشيعة» للنوبختي (القرن الثالث الهجري) كاملاً في كتابه «المقالات والفرق» بعد أن غيب اسم مصنفه، ومع ذلك وجد المعاصرون حيلة لستر هذه السرقة فأخذوا يذكرون كلمات وحروف ميزت ما بين المصنفين، وهي بالغالب حروف جر وعطف وعبارات استدراك.
كان خلو أحكام الفقه من حكم يحمي المال الفكري مقلقاً لكُتاب ومؤرخين، فهذا أبو الحسن المسعودي (ت346هـ) أضطر إلى استهلال وختم كتابه «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، بالتحذير الآتي: «من حرف شيئاً من معناه، أو أزال ركناً من مبناه، أو طمس واضحةً من معالمهِ، أو لّبس شاهدةً من تراجمه، أو غيّره أو بدله، أو أنتخبه أو أختصره، أو نسبه إلى غيرنا، أو أضافه إلى سوانا، فوافاه من غضب الله، وسرعة نقمته وفوادح بلاياه، ما يعجز عن صبره، ويحار له فكره، وجعله مثلةً للعالمين،
وعبرة للمعتبرين، وآية للمتوسّمين، وسلبه الله ما أعطاه، وحال بينه وبين ما أنعم به عليه من قوّة ونعمة مبدع السموات والأرض، من أي الملل كان والآراء، إنه على كل شيء قدير، وقد جعلت هذا التخويف في أول كتابي هذا وآخره» (مروج الذهب: 1ص19و5ص301).
وإن اكتفى المسعودي تضمين مروجه التخويف الآنف، فآخرون دفعهم قلقهم إلى دفن أو إحراق كتبهم أو رميها بالماء، وقد أعتبر ابن الجوزي (ت597هـ) هذا العمل من تلبيس إبليس (الكتاب).
وقال أبو حيان التوحيدي، وهو يهم بإحراق كتبه: «فلي في إحراق كتبي أسوة بأئمة يُقتدى بهم، ويؤخذ بهديهم، ويُعشى إلى نارهم، منهم: أبو عمرو بن العلاء، وكان من كبار العلماء مع زهد في ظاهر، وورع معروف، دفن كتبه في بطن الأرض»(الكيلاني، رسائل التوحيدي). ولكن ليس كل مَنْ أتلف كتبه كان خشية من تحريفها أو سرقتها، فمنهم من اكتفى بعلمه منها، أو خاف من الملامة وسوء الفهم، أو لم يجد من يعتبر بها.
ظل الفقه متساهلاً مع السرقة الأدبية، حتى ظن بعض مقترفيها أنها ليست جنحة أو جناية، مع أن أدب السرقات ظهر مبكراً، بداية من القرن الثالث الهجري، وإن كانت بوادر هذا النوع من الأدب معروفة منذ العصر الجاهلي، مثلما أتضح في قول طرفة بن العبد:
ولا أغير على الأشعار أسرقها عنها غنيت وشر الناس مَنْ سرقا وما قاله القاضي الجرجاني (ت366هـ): «السرق أيدك الله داء قديم، وعيب عتيق، وما زال الشاعر يستعين بخاطر الآخر، ويستمد منه قريحته، ويعتمد على معناه ولفظه، وكان أكثر ظاهراً كالتوارد» (الوساطة بين المتنبي وخصومه)، وعدَّ أبو الفرج النديم (ت375هـ) من كتب أدب السرقات: «سرقات البحتري من أبي تمام» و«سرقات الشعراء» لابن طيفور(ت280هـ)، و«السرقات» لابن المعتز (ت 296هـ) وغيرها. وشغلت سرقات المتنبي (354هـ) كُتاب القرن الرابع الهجري.
فصنف محمد بن الحسن الكاتب (ت388هـ) «الرسالة الموضحة في ذكر سرقات أبي الطيب المتنبي»، والحسن بن علي بن وكيع (ت393هـ) «المنصف في نقد الشعر وبيان سرقات المتنبي».
ولم يتوقف التأليف في سرقات المتنبي عند ذلك القرن، فألف أبو سعد العميدي (ت433هـ) «الإبانة عن سرقات المتنبي»، وأعتبر أشعاره منسوخة كافة، وعاب على أنصاره فتنتهم بمعانٍ مسلوخة، على حد زعمه، أما ابن بسام النحوي (ت542هـ) صاحب «سرقات المتنبي ومشكل معانيه»، فعده سارقاً من خمسين شاعراً.
هذا في الشعر، الذي تنتشر عيونه سريعاً في الآفاق، ويجوز له ما لا يجوز لغيره من فنون الأدب، فليس هناك من بلوى تبريرية مثل بلوى «الضرورة الشعرية». أما النثر فانتشاره كان محدوداً، ونصوصه مقيدة، ويمكن للسارق أن يختفي وراء الألفاظ بسهولة، لذا قلت التهم الموجهة للناثرين. مع أن سرقات النثر تفوق سرقات الشعر بكثير، ومَنْ أعترف بفضل الآخرين ولو بإشارة عابرة لم يعد آنذاك سارقاً، وأحياناً قد يعذر المستفيد من عدم الاعتراف بصاحب الفضل عليه. فعبد الرحمن بن خلدون (ت808هـ) شيد فصول من مقدمته على هيكل رسائل إخوان الصفا، وكان ذنبه كبيراً لعدم إشارته إليهم بفضل أو سابقة، مثلما أعترف بفضل آخرين، أخذ عنهم الفكرة أو الرواية.
وفي عصر الفضائح الأدبية أيضاً يُنقل عن المرزباني (ت384هـ) أنه أتهم المؤرخ محمد بن حبيب (ت245هـ) بقوله: كان «يغير على كتب الناس، فيدعيها ويسقط أسمائهم» (معجم الأدباء).
بعد هذا، هل هناك ما يفعله الفقهاء والمشرعون لحماية المال الفكري، فيقفوا أمام ظاهرة السرقة العلمية والأدبية، فماعدا ما أوردنا من آراء لا أحكام عدد من الفقهاء لا نجد رأياً للفقه والمشرع في سارق الحروف، ولا قياس لهذه القضية ذات الآثار السلبية على العقول بمقاس سرقة الدرهم والدينار ومواد الكتابة، مثل الحبر والقلم، فإذا كانت هذه المواد محروسة بقطع اليد أو الحبس فلماذا لا يرقى الفقه، سانداً قوانين العقوبات، إلى حماية نواحي الإبداع الفكري والفني المختلفة؟
اترك تعليقاً