بحث قانوني حول جهاز الشرطة القضائية في المغرب
المبحث الأول: الهيكلة القانونية لجهاز الشرطة القضائية
ينتمي رجال الشرطة القضائية إلى مصالح وجهات مختلفة، فمنهم من ينتمي إلى سلك القضاء، حصرهم المشرع في الوكيل العام للملك، ووكيل الملك، ونوابهما، بالإضافة إلى قاضي التحقيق، ومنهم من ينتمي إلى إدارة الدرك الملكي، والإدارة العامة للأمن الوطني، ووزارة الداخلية من جهة أخرى، ومراعاة لفعالية أعمال الشرطة القضائية منح المشرع المغربي بموجب نصوص خاصة بعض مهام الشرطة القضائية لموظفين وأعوان المصالح الإدارية بحكم تخصصهم وقربهم من الميدان.
وبالرجوع إلى قانون المسطرة الجنائية نلاحظ أنه منح الصفة الضبطية لفئات تنتمي للجهاز القضائي، يتعلق الأمر بضباط الشرطة القضائية السامين (المطلب الأول) بالإضافة إلى أشخاص تابعين للإدارة العامة لأمن الوطني والدرك الملكي يتعلق الأمر بضباط الشرطة القضائية العاديين (المطلب الثاني)، كما منح بمقتضى نصوص خاصة الاختصاص الضبطي لبعض الموظفين التابعين للإدارات العمومية (المطلب الثالث).
المطلب الأول: الضباط السامون للشرطة القضائية
أسند المشرع المغربي صراحة بمقتضى المادة 19 من ق.م.ج صفة ضباط الشرطة السامون للوكيل العام للملك، ووكيل الملك ونوابهما وكذا قاضي التحقيق، وكما هو ملاحظ من خلال المادة السالفة الذكر فإن تحديد ضباط الشرطة القضائية السامون قد أتى على سبيل الحصر، بحيث لا يمكن تخويل هذه الصفة لأي كان إلا بناء على قانون يصدر من الجهة المخولة لها لذلك.
وتجدر الإشارة إلى أن مضمون المادة 19 السالفة الذكر أن المشرع منح صفة ضابط سام فقط للأشخاص المنتمين إلى سلك القضاء، لكنما يجب تبيانه أن نفس المادة لم تشر إلى الصفة الضبطية السامية للوكيل العام لدى محكمة النقض والمحامون العامون، خصوصا في حالة إحالة القضية على محكمة النقض في إطار الامتياز القضائي، أي عندما يتدخل كمحكمة واقع وليس كمحكمة قانون.
غير أنه إذا كان منح الاختصاص الضبطي لجهاز النيابة العامة أمرا قانونيا وواقعيا على اعتبار أنه يقوم بالإشراف المباشر على أعمال الشرطة القضائية حسب ما هو منصوص عليه في المادتين 45 و49 من ق.م.ج فإن الأمر يبقى محل نظر بالنسبة لمنح صفة ضابط سام للشرطة القضائية بالنسبة لقاضي التحقيق، وذلك لتعارضه مع مبدأ استقلال سلطة الاتهام والمتابعة مع سلطة التحقيق، كما أنه من الصعب تصور قاضي التحقيق ضابطا ساميا لأنه وفق هذا التوجه يبقى مرؤوسا للوكيل العام للملك، لأن المادة 17 من ق.م.ج تنص صراحة على أن هذا الأخير هو الرئيس المباشر للشرطة القضائية داخل نفوذ المحكمة التي يزاول بها مهامه، وكما هو معلوم فهذه المادة تتعارض بشكل واضح مع مقتضيات المادة 75 من ذات القانون التي تنص على أنه إذا حضر قاضي التحقيق بمكان ارتكاب الجريمة المتلبس بها فإن الوكيل العام للملك أو وكيل الملك حسب طبيعة الجرم المرتكب وضباط الشرطة القضائية يتخلون له عن القضية بقوة القانون، حيث يقوم قاضي التحقيق في هذه الحالة بجميع أعمال الشرطة القضائية والمتمثلة في البحث والتحري عن الجريمة وعن مرتكبها لا كجهة تحقيق قضائي وإنما كجهة بحث تمهيدي.
يرى بعض الباحثين أنه من الصعب جدا فهم طبيعة فلسفة المشرع، فلا يمكن اعتبار الوكيل العام هو الرئيس المباشر للشرطة القضائية دون تمييز بين الضباط السامين والعاديين وفي نفس الوقت يزاح من طرف مرؤوسه أي من قاضي التحقيق عندما يتصرف باعتباره ضابطا للشرطة القضائية.
لذلك يتعين إعادة النظر في الصفة الضبطية لقاضي التحقيق، انسجاما مع مبدأ الاستقلال المطلوب بين سلطة الاتهام وسلطة التحقيق، الذي ورد في ديباجة قانون المسطرة الجنائية، ومن ناحية أخرى فإن الظروف الاستثنائية التي بررت منح الصفة والمتمثلة في شساعة تراب المملكة وقلة الأطر أصبحت غير موجودة.
عموما من الناحية العملية نادرا ما يباشر قاضي التحقيق أعمال البحث التمهيدي نظرا لحجم الملفات المعروضة عليه، لذلك يتولى ضباط الشرطة القضائية العادية مهام البحث التمهيدي.
المطلب الثاني: الضباط العاديون للشرطة القضائية
نظرا لأهمية وخطورة الأبحاث المنجزة من طرف ضباط للشرطة القضائية تولى المشرع المغربي تحديد الأشخاص الذين يتوفرون على الصفة الضبطية ويتعلق الأمر بـ:
المدير العام للأمن الوطني وولاة الأمن والمراقبون العامون للشرطة وعمداء الشرطة وضباطها.
ضباط الدرك الملكي وذو الرتب فيه وكذا الدركيون الذين يتولون قيادة فرقة أو مركز للدرك الملكي طيلة مدة هذه القيادة.
الباشوات والقواد.
المدير العام لإدارة مراقبة التراب الوطني وولاة الأمن والمراقبون العامون للشرطة وعمداء الشرطة وضباطها بهذه الإدارة فيما يخص الجرائم المنصوص عليها في المادة 108 من ق.م.ج.
كما يمكن تخويل صفة ضابط للشرطة القضائية:
لمفتشيالشرطة التابعين للأمن الوطني ممن قضوا على الأقل ثلاث سنوات بهذه الصفة بقرار مشترك من وزير العدل ووزير الداخلية.
للدركيين الذين قضوا على الأقل ثلاث سنوات من الخدمة بالدرك وعينوا فيها بقرار مشترك من وزير العدل ووزير الداخلية.
ومن جهة أخرى ينتمي ضباط الشرطة القضائية حسب المادة 19 من ق.م.جإلى أجهزة إدارية متعددة وهو ما سيتم تفصيله وفق التقسيم التالي:
أ. ضباط للشرطة القضائية المنتمون إلى إدارة الأمن الوطني
يعتبر الظهير رقم 1.09.213 الصادر بتاريخ 8 ربيع الأول 1431هـ / 23 فبراير 2010 الإطار القانوني المنظم لإدارة الأمن الوطني، وهي تابعة إداريا لوزارة الداخلية حسب الفصل الأول المحدث لها، إذ توضع تحت إشراف المدير العام للأمن الوطني تطبيقا للفصل الثاني من ذات الظهير، وتتكون من عدة مديريات منها مديرية الموارد البشرية، مديرية الميزانية، ومديرية الشرطة القضائية وهي محور بحثنا هذا، حيث تنقسم إلى عدة أقسام نذكر منها، قسن القضايا الجنائية، القسم المالي والاقتصادي وقسم القضايا الحضرية، وتشرف هذه المديرية على مصالح الشرطة القضائية على المستوى الإقليمي والولائي.
أما بخصوص الإطار القانوني لضباط الشرطة القضائية التابعين لإدارة الأمن الوطني فينظمها المرسوم الملكي رقم 2.75.879 الصادر بتاريخ 23 دجنبر 1975، حيث يتوزع الموظفون حسب الرتب وفق الشكل التالي:
سلك عمداء الشرطة وينقسمون إلى ثلاث درجات وهي: عميد شرطة، عميد شرطة ممتاز، عميد إقليمي.
درجة المراقبين العامين، حيث يلج هذه الدرجة العمداء الإقليميون الذين قضوا سنتين على الأقل في الخدمة الفعلية.
ويمارس ضباط الشرطة القضائية التابعين للأمن الوطني عملهم ضمن مصلحتين وهما:
مصلحة الأمن العمومي: تعمل في إطاره الدوائر الأمنية المكلفة بضبط الجرائم البسيطة.
المصلحة الولائية أو الإقليمية: حيث يباشر ضباط الشرطة القضائية العاملون بها، في أغلب الأحيان الأبحاث التمهيدية والتلبسية ويختصون بالجرائم المعقدة والخطيرة، التي تحتاج إلى بحث معمق يتطلب تنقلات ومواجهات وتقنيات متطورة لمكافحة العصابات الإجرامية، السرقات، تزييف الأموال، وغيرها من الأفعال الإجرامية المتسمة بالخطورة.
ب.ضباط الشرطة القضائية التابعين للدرك الملكي
تأسس الدرك الملكي مباشرة بعد استقلال المغرب وذلك سنة 1957 بمقتضى ظهير شريف، ويعتبر هذا الجهاز قوةعمومية مكلفة بالسهر على الأمن الوطني والقيام بحفظ النظام وتنفيذ القوانين، يشمل عمله جميع أنحاء البلاد ويسهر بصفة خاصة على الأمن بالبوادي وطرق المواصلات.
ويمارس مهام الشرطة القضائية على مستوى القيادة العليا للدرك الملكي مصلحة الشرطة القضائية وهي أعلى سلطة مختصة بمهام الشرطة القضائية، حيث تعمل على مراقبة باقي المصالح الخارجية وتركز على الأبحاث ودراسة الوثائق الخاصة بالمجرمين التي ينبغي على المصالح الخارجية إرسالها إليها، أما على المستوى الخارجي لجهاز الدرك الملكي، فإن الشرطة القضائية مقسمة وفق الشكل التالي:
القيادة الإقليمية: موزعة وفق تصميم خاص بإدارة الدرك الملكي، لا علاقة له بالتقسيم الإداري للأقاليم والعمالات، حيث يمكن أن تشتمل قيادة إقليمية واحدة أو عدة أقاليم إدارية، يرأسها رائد أو عقيد، يساعده في ذلك مجموعة من المصالح من بينها فصيلة قضائية تختص بمهام الشرطة القضائية، وتنقسم القيادة الإقليمية إلى عدة سريات.
السريات: تتوزع السرية إلى عدة مراكز محلية ومركز قضائي، يشرف عليها ملازم أول أو نقيب ويكلف بالبحث في القضايا الجنائية ذات الطبيعة المعقدة، التي تحتاج إلى جهد ووقت يتعذر انجازه على المراكز المحلية.
المراكز المحلية: تقوم هذه المراكز بعدة مهام تتعلق بالشرطة القضائية، يتولى الإشراف عليها رقيب أول أو مساعد أول.
ج. القوات والباشوات
منح قانون المسطرة الجنائية طبقا للمادة 20 منه صفة ضابط الشرطة القضائية للباشوات والقواد، ويتميز الصنف بثنائية المهام وازدواجية أعمال الشرطة، فأما الأولى فتتمثل في كونهم يمثلون الجهاز التنفيذي على المستوى الإقليمي أو المحلي ومراقبة تسيير الجماعات المحلية الواقعة في دائرة نفوذ اختصاصهم الترابي بصفتهم تابعين لوزارة الداخلية وفي نفس الوقت يمارسون مهام الشرطة القضائية، حيث ينجزون الأبحاث في الجرائم وتحرير المحاضر بشأنها.
ومن الناحية العملية تتميز الأبحاث التي يتم انجازها من طرف القائد أو الباشا، بكونها تركز في غالب الأحيان على الجرائم العادية والبسيطة كانتزاع لعقار أو السب والقذف أو الضرب والجرح…
ونظرا لخطورة الآثار المترتبة على ممارسة مهام الشرطة القضائية (كوضع المشتبه فيه رهن الحراسة النظرية، التفتيش…) تفرض من الناحية العملية إلغاء الصفة الضبطية للقواد والباشوات، نظرا لطبيعة التكوين الذي يتلقاه القائد أو الباشا حيث ينصب على تكوين إداري ودروس في التدريب العسكري، دون أن يكون هناك تكوين تقني لمزاولة عمل الضابطة القضائية وذلك طبقا للفصل 12 من الرسوم الملكي المحدث بموجبه لمدرسة تكوين الأطر، ومنحهم مقابل ذلك سلطة التدخل بشكل مؤقت في انتظار حضور ضباط الشرطة القضائية التابعة لمصالح الأمن الوطني أو الدرك الملكي.
د. أعوان الشرطة القضائية
إلى جانب ضباط الشرطة القضائية العاديين، نص المشرع المغربي على فئة أعوان الشرطة القضائية حيث أوردها في إطار المادة 25 من ق.م.ج الذين يقتصر دورهم على مساعدة ضباط الشرطة القضائية في مباشرة مهامهم وإخبار رؤسائهم المباشرين بجميع الجرائم التي تبلغ إلى علمهم، بالإضافة إلى جمع كل المعلومات المؤدية إلى العثور عل مرتكبها، تطبيقا للمادة 26 من ذات القانون، غير أن استجواب المشتبه فيه وتحرير المحاضر لا يقوم بها إلا ضباط الشرطة القضائية، وإلا كان الإجراء باطلا.
غير أنه من الناحية العملية يمارس أعوان الشرطة القضائية العمل الضبطي كإجراء المعاينات والاستماع إلى المشتبه فيه، والتي قد تتم في غيبة الضابط الذي يكتفي بتبني هذه المحاضر والإجراءات حيث يذيلها بتوقيعه، ومرجع ذلك قلة ضباط الشرطة القضائية وصعوبة قيامهم بجميع الأعمال المكلفين بها نظرا لكثرة القضايا المعروضة عليهم.
هـ.المنتمون لإدارة مراقبة التراب الوطني
المدير العام لإدارة مراقبة التراب الوطني وولاة الأمن والمراقبون العامون للشرطة وعمداء الشرطة وضباطها بهذه الإدارة، فيما يخص الجرائم المنصوص عليها في المادة 108 من هذا القانون، والمتعلق بالخصوص بالجرائم التي تمس أمن الدولة أو جريمة إرهابية أو تتعلق بالعصابات الإجرامية، أو بالقتل أو التسميم، أو بالاختطاف وأخذ الرهائن، أو بتزييف أو تزوير النقود أو سندات القرض العام، أو بالمخدرات والمؤثرات العقلية، أو بالأسلحة والدخيرة والمتفجرات، أو بحماية الصحة.
المطلب الثالث: بعض الموظفين المكلفين بمهام الشرطة القضائية
بناء على المادة 27 منق.م.جالذي نص على ما يلي: ”يمارس موظفو وأعوان الإدارات والمرافق العمومية الذين تسند إليهم بعض مهام الشرطة القضائية بموجب نصوص خاصة، هذه المهام حسب الشروط وضمن الحدود المبينة في هذه النصوص”.
هذا والنصوص الخاصة التي تكسب بعض الموظفين وأعوان الإدارات العمومية صفة ضباط الشرطة القضائية منها ما ورد في قانون المسطرة الجنائية (الفقرة الأولى) ومنها ما أتت به نصوص خاصة خارجها (الفقرة الثانية).
النصوص الواردة في ق.م.ج
تنص المادة 28 منق.م.ج على أنه: ”يجوز للوالي أو العامل في حالة الاستعجال، عند ارتكاب جرائم تمس أمن الدولة الداخلي أو الخارجي، أن يقوم شخصيا بالإجراءات الضرورية للتثبت من ارتكاب الجرائم المبينة أعلاه، أو أن يأمر كتابة ضباط الشرطة القضائية المختصين بالقيام بذلك، ما لم يخبر بإحالة القضية إلى السلطة القضائية.
ويجب على الوالي أو العامل في حالة استعماله لهذا الحق، أن يخبر بذلك فورا ممثل النيابة العامة لدى المحكمة المختصة، أوأن يتخلى له عن القضية خلال الأربع والعشرين ساعة الموالية للشروع في العمليات ويوجه إليه جميع الوثائق ويقدم له جميع الأشخاص الذين ألقي عليهم القبض.
يجب على كل ضابط من ضباطالشرطة القضائية تلقى أمرا بالتسخير من الوالي أو العامل عملا بالمقتضيات أعلاه وعلى كل موظف بلغ اليه أمر القيام بحجز عملا بنفس المقتضيات أعلاه، أن يمتثل لتلك الأوامر وأن يخبر بذلك فورا ممثل النيابة العامة المشار إليه في الفقرة السابقة…”.
فانطلاقا من المقتضيات الواردة في المادة السالفة الذكر فإن الوالي أو العامل تمنح له الصفة الضبطية في حالة استثنائية، وهي الحالة المحددة أساسا في الجنايات والجنح الماسة بسلامة الدولة المغربية المنصوص عليها في الفصول 163 وما بعده إلى الفصل 218 من مجموعة القانون الجنائي المغربي، ويعتبر تدخل الوالي أو العامل في مسيرة البحث التمهيدي باعتباره ضابطا للشرطة القضائية له طابع استثنائي محض، مقيد في حالة الاستعجال في القضية وبعدم علمه بأن السلطات القضائية قد وضعت يدها عليها باعتبارها صاحبة الاختصاص الأصيل.
اترك تعليقاً