بحث قانوني و دراسة حول العقود الإدارية
إعداد : لواء دكتور فؤاد جمال عبد القادر
مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار برئاسة مجلس الوزراء ( المصري )
موجز الدراسة
تبرم الدولة – فى سبيل تنفيذ أنشطتها وتقديم خدماتها – العديد من العقود ، وإنه ولئن كانت هذه العقود فى الماضي لم تخرج عن المفهوم العام للعقود التي يبرمها أفراد القانون الخاص ، أى أن هذه العقود كانت تخضع فيما سلف لأحكام القانون المدني ، إلا أنه وبعد نِشأت مجلس الدولة كقضاء موازى للقضاء العادي ، أصبحت هناك حاجه ملحة لوضع معيار يفرق بين العقود الإدارية التى تبرمها الدولة أو أجهزتها المختلفة والتي يختص بها القضاء الإداري ، وبين العقود الخاضعة لأحكام القانون الخاص التى يختص بها القضاء المدني أو القضاء العادي ، ذلك لأنه قد ثبت ، أن الدولة هى الأخرى قد تبرم مثل الأفراد العاديين عقود تخضع لأحكام الخاص ، لا تستخدم فيها أساليب وامتيازات السلطة العامة ، وبالتالي لا تخضع لأحكام القانون الإداري ، ولا يختص القضاء الإداري بنظر المنازعات بشأنها ، وعليه فإنه يمكن نجزم القول – على نحو ما استقر عليه الفقه والقضاء – بأن المعيار الشكلي لا يصلح أساساً للتفرقة بين نوعى العقود الإدارية والخاصة ( المدنية ) .
كما أنه من المعلوم أن القانون الإداري – بمعناه الفني القانوني الدقيق – قد نشأت مبادئه في كنف القضاء الإداري ، لذلك نعته الفقهاء بأنه قانون حديث النشأة ، وبالنظر إلى أن هذا القانون هو الحاكم للعقود الإدارية التى تبرمها الدولة أو أحد أجهزتها ، لذا أبرزت الأحكام القضائية بوضوح تام أول المبادئ الحاكمة لهذه العقود والمبينة لأوجه الفرق بينها وبين العقود الخاصة ، إذ ذهبت المحكمة الإدارية العليا منذ بواكير أحكامها وعلى وجه الخصوص في حكمها الصادر فى صبيحة 2 / 6 / 1956 إلى :
” أن روابط القانون الخاص تختلف فى طبيعتها عن روابط القانون العام ، وأن قواعد القانون المدني قد وضعت لتحكم روابط القانون الخاص ، ولا تطبق وجوبا على روابط القانون العام إلا إذا وجد نص يقضى بذلك .
فإن لم يوجد فلا يلتزم القضاء الإداري بتطبيق القواعد المدنية حتما وكما هى ، وإنما تكون له حريته واستقلاله فى ابتداع الحلول المناسبة للروابط القانونية التي تنشأ فى مجال القانون العام بين الإدارة فى قيامها على المرافق العامة وبين الأفراد ، فله أن يطبق من القواعد المدنية ما يتلاءم معها ، وله أن يطرحها إن كانت غير متلائمة معها ، وله أن يطورها بما يحقق هذا التلاؤم ” .
ومما تقدم يتضح لنا أن القانون الإداري يفترق عن القانون المدني في معالجة العقد الإداري ، وفى ذات الوقت يتضح لنا أيضاً أن القضاء الإداري يتميز عن القضاء المدني في أنه ليس مجرد قضاء تطبيقي مهمته تطبيق نصوص مقننة مقدماً ، بل هو على الأغلب قضاء إنشائي لا مندوحة له من خلق الحل المناسب ، وبهذا أرسى القواعد لنظام قائم بذاته ينبثق من طبيعة روابط القانون العام واحتياجات المرافق ومقتضيات سيرها ، وإيجاد مركز التوازن والموائمة بين ذلك وبين المصالح الفردية ، لذلك نجد هذا القضاء قد ابتدع النظريات القانونية التى استقل بها فى هذا الشأن وسبق بها القانون الخاص ، مثل نظرية فعل الأمير ونظرية الظروف الطارئة والظروف الاستثنائية التي لا نجد لهل مثيل في قواعد القانون المدني .
نشأة فكرة العقود الإدارية
بادئ ذى بدء تجدر الإشارة إلى أن فكرة العقود الإدارية أو بمعنى أدق نظرية العقود الإدارية ، لم تنشأ فى فرنسا إلا فى تاريخ متأخر ، لا يكاد يتجاوز مطلع القرن الماضي ، وذلك رغم قدم نشأة مجلس الدولة الفرنسي ، ولقد كان المعيار المتبع لتوزيع الاختصاصات بين جهتي القضاء يقوم على فكرة السيادة أو السلطة ، فالمنازعات التى تتعلق بأعمال السيادة أو السلطة هى وحدها من اختصاص القضاء الإداري ، وما عداها من تصرفات عادية تبرمها الدولة أو أحد أجهزتها تكون من اختصاص القضاء العادي ، وذلك حتى بدايات مطلع القرن الماضي ، إذ بدأ مجلس الدولة الفرنسي فى ولوج سبيل توسيع اختصاصاتها بعقود تبرمها الدولة أو أحد أجهزتها، كان ينظر إليها حينذاك أنها من العقود ذات التصرفات العادية .
وأما عن الوضع فى مصر ، فإنه فى ظل اختصاص القضاء العادي بنظر منازعات العقود التي تبرمها الدولة , قبل نشأة مجلس الدولة المصري , يمكن القول أن المحاكم الأهلية والمختلطة لم تعرف القواعد القانونية الإدارية التي شادها ونظمها مجلس الدولة الفرنسي , وتلك التي أرساها مجلس الدولة المصري بعد إنشائه , إذ في ظل هذه الحقبة الزمنية كانت المحاكم الأهلية والمختلطة تطبق القانون المدني والتشريعات الخاصة علي العقود الإدارية , ولعل حكم محكمة النقض المصرية الصادر في 14 / 1 / 1932 في شان قضية الشعير المشهورة , يبرز لنا ويؤكد هذا النظر إذا ذهبت في حكمها إلي أن:
” ومن حيث انه وان كانت نظرية الظروف الطارئة تقوم علي أساس من العدل والعفو والإحسان , إلا انه لا يصح لهذه المحكمة أن تستبق الشارع إلي ابتداعها , فيكون عليها هي وضعها وتبيان الظروف الواجب تطبيقها فيها…..” .
وتعليقاً على هذا الحكم المتقدم يقول أستاذنا الدكتور/ سليمان الطماوي :
” وحكم النقض السابق يبرز الفارق الجوهري بين القضاء العادي التطبيقي والقضاء الإداري ذي الطبعة البريتورية ”
وانه ولئن كان ما تقدم هو السائد حينذاك , إلا انه بعد نشأة مجلس الدولة في مصر أخذت فكرة أو نظرية العقد الإداري تتبلور لتظهر في صورتها الحقيقية , كما انه ولئن كان القانون الأول الصادر عام 1946 بإنشاء المجلس قد خلا تماماً من أية إشارة إلي اختصاص هذا المجلس بمنازعات العقود الإدارية , إلا أن الحال لم يستمر طويلاً , إذ صدر القانون رقم 9 لسنة 1949 ليحل محل القانون 112 لسنة 1946 , وقد تضمن في مادته الخامسة علي اختصاص المجلس بالفصل في المنازعات الخاصة بعقود محددة عل سبيل الحصر ألا وهي :
عقود الالتزام والأشغال العامة وعقود التوريد الإدارية , ولقد بررت لجنة الشئون التشريعية بمجلس النواب – حينذاك , هذا الاختصاص الجديد لمجلس الدولة بأنه:
” …. يتيح الفصل فيما ينشأ من المنازعات حول هذه العقود , ودون التقيد بالنصوص المدنية البحتة ويفسح المجال للأخذ في شأنها بنظريات قد لا تتسع لها نصوص القانون المدني, كنظرية الظروف الطارئة التي وضع القضاء الإداري أساسها ولم تأخذ بها المحاكم العادية بعد تأثرها بنظرية القوة القاهرة كما يعرفها القانون المدني” .
ورغم أن هذا الاختصاص لمجلس الدولة الذي أتي به القانون 9 لسنة 1949 بشان العقود الإدارية كان محدوداً واقصراً على عقودٍ محددة ، إلا أن محكمة القضاء الإداري قد وسعت اختصاصها في مجال العقود الإدارية كما فعل مجلس الدولة الفرنسي من قبل , فمدت اختصاصها لعقود لم ترد في القانون9 لسنة 1949 استناداً علي اتصالها بأي عقد من العقود الثلاثة السابقة .
كما أن القضاء الإداري لم ينتظر كثيراً حتى وأن قام بإرساء فكرة أو نظرية العقود الإدارية محدداً ماهيتها ومقرراً القواعد العادلة لتنفيذ العقود الإدارية , في ضوء التوازن الذي ارسي مبادئه من ذي قبل بين المصلحة العامة للدولة أو للإدارة وبين مصلحة الفرد المتعاقد معها , ولا ريب في إن هذه العملية تعد غاية في الصعوبة عند الترجيح في المنازعة الواحدة , وان الأصعب منها وضع معيار واحد يقيم هذا التوازن بين طرفين متفاوتين في القوة , وبين مصلحتين تعلو أحداهما علي الأخر هما المصلحة العامة والمصلحة الخاصة , ويكفي أن نشير في هذا المقام إلي أحد أحكام محكمة القضاء الإداري في ظل أحكام القانون9 لسنة 1949 , لنبين منه كيف أقام القضاء المصري التوازن العادل بين مصلحة الجهة الإدارية ” الطرف القوى ” وبين مصلحة الفرد ” الطرف الضعيف ” في أحد المنازعات العقدية , ففي هذه المنازعة قامت جهة الإدارة بإنهاء العقد قبل انتهاء مدته بناء علي نص في العقد يجيز لها ذلك الإنهاء المبتسر , فتضرر من ذلك المتعاقد معها , ولجأ للقضاء الإداري بالطعن رقم 670 لسنة 5 ق , فأرست هذه محكمة القضاء الإداري – حيث كانت حينذاك تعتلي قمة قضاء مجلس الدولة المصري– مبدأ من أهم المبادئ القضائية , إذ قضت في حكمها الصادر بجلسة 23 / 6 / 1953 بالآتي:
” إنه إذا تقرر في العقد حق للجهة الإدارية في إلغائه أو إنهائه قبل انتهاء مدته وفي أي وقت تشاء , فإن ذلك منوط بوجود مصلحة عامة تقتضيه كما ينبغي أن يكون للأسباب التي يستند إليها أساس في الأوراق .”
ومن هذا الحكم المتقدم يتضح أن القضاء الإداري في مصر لم يشأ أن يجعل سلطة الإدارة طليقة من أي قيد وهي بصدد تنفيذها للعقد الإداري , وحتى مع وجود النص العقدي الذي يجيز لها إنهاء العقد في أي وقت تشاء , يجب عليها أن تبرر وجه المصلحة العامة التي دفعها إلي استخدام هذا الخيار , وذلك حتى لا تكون مصلحة الفرد المتعاقد معها في مهب الريح , تخضع لأهواء القائمين علي جهة الإدارة ، فاستلزمت على الإدارة أن تبرز السبب الذي دفعها إلى هذا السلوك بإنهاء العقد قبل انتهاء مدته ، ولم تقف عند هذا الحد بل أوجبت أن يكون النهو المبكر للعقد يرجع إلى تحقيق مصلحة عامة ، وإلا كان مسلكها هذا معيباً يجب تقوميه بما يتفق وقواعد العدالة .
وبسبب هذا المسلك المتقدم للقضاء الإداري ، لمس المشرع دور هذا القضاء في إرساء فكرة أو نظرية العقد الإداري ، لذا حينما صدر قانون مجلس الدولة 165 لسنة 1955 نصت مادته العاشرة على أن :
” يفصل مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري دون غيره فى المنازعات الخاصة بعقود الالتزام والأشغال العامة والتوريد أو أى عقد إداري آخر ”
وبناءً على هذا النص ـ الذى انتقل كما هو إلى القانون الحالي رقم 47 لسنة 1972 ـ توحدت جهة الاختصاص فى موضوع العقود الإدارية ، وبالتالي توحدت القواعد الموضوعية التى تحكم المنازعات المتعلقة بها ، ولقد كان لهذا التغير أثره المباشر ليس فحسب على أحكام القسم القضائي بمجلس الدولة بل وعلى الفتاوى التى يصدرها قسم الفتوى أو إدارات الفتوى وكذا على لجان هذه الإدارات وعلى الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع .
كما أنه قد صاحب ما تقدم ، أن ظهرت الحاجة إلى وجود معيار يفرق بين العقود الإدارية التى يختص بنظرها مجلس الدولة قضاءً وإفتاءً ، وبين العقود الخاصة التى يختص بها القضاء العادي ، لاسيما وأن هناك بعض العقود تكون الدولة أو أحد أجهزتها طرفاً فيها ، وتتعامل من خلالها كما يتعامل الأفراد فيما بينهما ، وبالتالى لا تعد من قبل العقود الإدارية .
وهذا ما نبينه فى موضعه .
تعريف العقد الإداري
أسلفنا القول بأنه ليس كل عقد تبرمه الإدارة يعد عقداً إدارياً يخضع لأحكام القانون العام ويكون الاختصاص بالفصل فى المنازعات المتعلقة به للقضاء الإداري ، وأن الأمر فى حقيقته يقتصر على فئة خاصة ألا وهى عقود الإدارة أو العقود الإدارية بمعناها الفني القانوني الدقيق ، من أجل ذلك ظهرت عدة معايير التمييز بين نوعى العقود الإدارية والعقود الخاصة ، بذل فيها الفقه والقضاء على حد السواء جهداً كبيراً حتى وصل فى الوقت الحاضر درجة كبيرة من الوضوح فى هذا الشأن .
ومن خلال ما استقر عليه مجلس الدولة قضاءً وإفتاءً يمكن تعريف العقد الإدارى بأنه :
” العقد الذى يبرمه شخص معنوي من أشخاص القانون العام بقصد إدارة مرفق أو بمناسبة تسييره وأن تظهر نيته فى الأخذ بأسلوب القانون العام وذلك بتضمين العقد شرطاً أو شروطاً غير مألوفة فى عقود القانون الخاص .”
” راجع فى ذلك حكم المحكمة الإدارية العليا ” فى القضية رقم 576 لسنة 11 ق.ع جلسة 30 / 12 / 1967 ـ وفى ذات المعنى حكم محكمة القضاء الإدارى فى الدعوى رقم 779 لسنة 10 ق جلسة 24 / 2 / 1957 ـ وفتوى الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع رقم 647 فى 23 / 10 / 1956 ”
ولم يخرج الفقه عن محددات هذا التعريف أيضاً ، إذ عرف الدكتور/ سليمان الطماوي ، في كتابه ” الأسس العامة للعقود الإدارية – دراسة مقارنة ” العقد الإدارى بأنه :
” ذلك العقد الذى يبرمه شخص معنوي عام بقصد تسيير مرفق عام أو تنظيمه ، وتظهر فيه نية الإدارة فى الأخذ بأحكام القانون العام ، آية ذلك أن يتضمن العقد شروطا استثنائية ، وغير مألوفة فى القانون الخاص أو أن يخول المتعاقد مع الإدارة الاشتراك مباشرة في تسيير المرفق العام ”
أما المحكمة الدستورية العليا – باعتبارها محكمة الفصل في التنازع الإيجابي والسلبي بين جهتي القضاء – فقد تعرضت لمعيار العقد الإداري في كثير من أحكامها , ولم تخرج هي الأخرى عن محددات تعريف العقد الإداري , التي تضمنتها أحكام وفتاوى مجلس الدولة , إذ ذهبت في حكمها الصادر في القضية رقم 7 لسنة 1ق بجلسة 19 / 1 / 1980 إلي الآتي:
” يتعين لاعتبار العقد عقداً إدارياً أن يكون احد طرفيه شخصاً معنوياًَ عاماً , يتعاقد بوصفه سلطة عامة , وان يتصل العقد بنشاط مرفق عام , بقصد تسييره أو تنظيمه , وان يتسم بالطابع المميز للعقود الإدارية وهو انتهاج أسلوب القانون العام فيما تتضمنه هذه العقود من شروطاً استثنائية بالنسبة إلي روابط القانون الخاص”
معيار تمييز العقد الإداري وأركانه
أ-معيار تمييزه :
سبق وان أوضحنا أن المشرع استبعد فكرة ” العقود الإدارية المحددة ” من نطاق اختصاص القضاء الإداري , مقرراً اختصاص هذا القضاء بكافة العقود الإدارية , لذا ظهرت الحاجة إلي معيار يميز العقد الإداري عن غيره , ولقد كان للقضاء الإداري السبق في هذا المجال , إذ أنه من خلال التعريف السابق للعقد الإداري , يمكن القول أن هذا المعيار يقوم علي أسسس ثلاثة , وهي:
1- أن تكون الإدارة طرفاً في العقد .
2- صلة العقد بالمرفق العام أو اتصال العقد بأحد أنشطة المرفق العام .
3- وسائل القانون العام ( الشروط الاستثنائية وغير المألوفة في القانون الخاص )
والعنصر ( أو الأساس ) الأول , يعد عنصراً مفترضاً لأن العقد الإداري , لا يكون كذلك إلا حينما يكون احد أشخاص القانون العام ( الدولة أو احد أجهزتها ) طرفاً فيه , ولاشك فى أن الأشخاص العامة الإقليمية ( الدولة ، المحافظة ، المركز ، المدينة ، الحي ، القرية ) والأشخاص المصلحية والهيئات العامة ، تعد جميعها من أشخاص القانون العام قولاَ واحداً ، وأما عن ما أثير حول قيام شخصيات معنوية عامة أخرى فى ظل الأفكار الاشتراكية حينما كانت سائدة ، بدأت تندثر حالياّ مع سياسة الخصخصة والاتجاه نحو منظومة السوق الحرة .
وعن العنصر الثانى وهو وجوب أن يكون العقد ذى صلة بالمرفق العام ، فإن مبرره الحقيقي أن مبادئ القانون الإداري فى وقتنا الحاضر – سواء فى مصر أو فى فرنسا – تقوم على أساس فكرة المرفق العام ، ذلك لأن مقتضيات سير المرافق العامة بانتظام واطراد ، هى وحدها التى تعطينا المبرر الواضح لما يحتويه أو يتضمنه القانون الإدارى من خروج على المألوف فى القانون الخاص ، وعلى منطق القواعد التى تسود وتحكم علاقات الأفراد فيما بينهم .
وإنه ولئن كانت فكرة المرفق العام قد لاقت ولازالت تلاقى هجوما شديداّ من بعض الفقهاء ، إلا أن القضاء الإداري فى مصر وفرنسا لازال يرجع إليها عند تطبيق معظم قواعد القانون الإداري ، بل وأن الثابت أن القواعد التى شيدت على أساسها ابتداءً فكرة المرفق العام ، قد تطورت وتغيرت إلى حد كبير ، نظراّ لازدياد تدخل الدولة فى المجال الاقتصادي ، وأيضاً بسبب معاونة الأفراد للدولة فى كثير من الميادين وتخويلهم استعمال وسائل القانون العام .
ولقد حرص قضاء مجلس الدولة فى مصر على أبراز هذه الأمور فى السنوات الأولى من إنشائه ، إذ ذهبت محكمة القضاء الإداري فى حكمها الصادر فى 2 / 6 / 1957 إلى الآتي:
” إن المرفق العام هو كل مشروع تنشئه الدولة أو تشرف على إدارته ويعمل بانتظام واستمرار ، ويستعين بسلطات الإدارة بتزويد الجمهور للحاجات العامة التى يتطلبها لا بقصد الربح ، بل بقصد المساهمة فى صيانة النظام ، وخدمة المصالح العامة فى الدولة .
والصفات المميزة للمرفق العام هى أن يكون المشروع من المشروعات ذات النفع العام ، أى أن يكون غرضه سد حاجات عامة مشتركة أو تقديم خدمات عامة….” ثم استطردت قائلة: ” …. كما وان التطور الحديث في الفقه والقضاء يعترف بصفة المرفق العام للمرفق الصناعي والتجاري مع انه يعمل لتحقيق الربح ، ولكن الواقع من الأمر أن الهدف الرئيسي لمثل هذه المرافق ليست تحقيق الربح , بل تحقيق المصلحة العامة أسوة بكل المرافق الأخرى , وما الربح الذي تحققه إلا اثر من الآثار المترتبة علي صفة المرفق باعتباره يقوم بأعمال صناعية أو تجارية….”
وأما عن العنصر الثالث وهو استخدام وسائل القانون العام أو الشروط الاستثنائية غير المألوفة في القانون الخاص , فإنه يعد من أهم عناصر التمييز , ذلك لان الدولة ( أو احد الأشخاص المعنوية العامة ) , إذا ما نزلت إلي منزلة الأفراد وتعاقدت كيفما يتعاقد الأفراد , فإن العقد المبرم في هذا الشأن لا يكون من قبيل العقود الإدارية , وعلي العكس فإذا ما ارتدت الدولة رداء السلطة العامة وتعاملت بشروط غير مألوفة في القانون الخاص بغية تحقيق المصلحة العامة, فإننا نكون بصدد عقد إداري .
وبناء عليه يمكن القول بان الشروط الاستثنائية وغير المألوفة في القانون الخاص هي حجر الزاوية في التعرف علي طبيعة العقود الإدارية في الوقت الحاضر .
والشروط الاستثنائية وان كانت أحكام القضاء الإداري – سواء في مصر أو في فرنسا – لم تحددها و تحدد ما هو الخارج عن المألوف في القانون الخاص , إلا انه يمكن تعريفها وفق ما جاء بحكم مجلس الدولة الفرنسي الصادر في 20 / 10 / 1950 في قضية ( stien ) بأنها :
” تلك الشروط التي تمنح احد الطرفين المتعاقدين حقوقاً أو تحمله التزامات غريبة في طبيعتها عن تلك التي يمكن أن يوافق عليها من يتعاقد في نطاق القانون المدني أو التجاري ”
وفي هذا المقام يمكن أن نشير إلي بعض الشروط الاستثنائية في الآتي :
1- إلزام المتعاقد معه بتقديم المشروبات والمأكولات بأسعار محددة في عقود تأجير المقاصف .
2- حق جهة الإدارة في استبعاد أحد تابعي المتعاقد معه المستعان بهم في تنفيذ العقد .
3- حق جهة الإدارة في التفتيش علي أعمال المتعاقد معه أثناء تنفيذ العقد .
4- حق جهة الإدارة في فسخ العقد وإخلاء المكان ودون حاجة إلي إنذار أو تنبيه .
5- حق جهة الإدارة في توقيع غرامة يومية عند الإخلال بأي شرط من شروط التعاقد .
6- استقلال جهة الإدارة بوضع شروط العقد .
7- حق جهة الإدارة في التنفيذ علي حساب المتعاقد معه المقصر وتوقيع جزاءات عليه دون الرجوع للقضاء .
8- حق جهة الإدارة في في تعديل التعريفة .
9- حق جهة الإدارة ( وزارة التربية والتعليم ) في تنقيح المؤلف وتعديله كيفما تشاء دون أن يكون للمؤلف حق الاعتراض علي ذلك.
وهناك شروط استثنائية غير مألوفة أخري كثيرة , إلا انه بقي لنا أن نطرح مسألتين هامتين في هذا الصدد ، هما :
( الأولي ) إذا تعاقد شخص معنوي عام بصفة غير صفته , وكانت هذه الصفة مما يندرج في أشخاص القانون الخاص , مثال ذلك أن تقوم وزارة الأوقاف بصفتها ناظرة وقف بإبرام عقد معين , فإن العقد في هذه الحالة يعد من العقود الخاصة , استناداً علي ما قضت به المحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 2184 لسنة 29 ق بجلسة 21 / 2 / 1987 , من انه :
” من المقرر قانوناً للأوقاف بموجب المادة 52 من القانون المدني – شخصية اعتبارية , لا تختلط بشخص الناظر عليها أو المستحقين منها , وعلي ذلك فإن حقيقة التعاقد وواقعة الحال انه قد تم بين الوقف – كشخص اعتباري من أشخاص القانون الخاص – وبين الطاعن , وبالتالي يتخلف في شأنه – حتى يعتبر عقداً إداريا – شرط أن يكون احد طرفي التعاقد من أشخاص القانون العام , وينحسر الاختصاص بشأنه عن القضاء الإداري , وينعقد لجهة القضاء المدني المختصة . ”
( الثانية ) تعاقد أحد أشخاص القانون الخاص لحساب ولمصلحة جهة حكومية أو شخصية اعتبارية عامة :
ففي هذه الحالة اعتبرت المحكمة الإدارية العليا هذا التعاقد من العقود الإدارية باعتبار أنه ابرم لحساب ومصلحة الحكومة وبقصد تسيير مرفق عام وبوسائل القانون العام .
” حكم المحكمة الإدارية العليا الطعن رقم 1558 لسنة 7 ق.ع جلسة 7 / 3 / 1964 “
ب- أركان العقد الإداري :
العقد الإداري يقوم على أركان ثلاثة – شأنه فى ذلك شأن العقد الخاص وهذا الأركان هى: الرضاء ، المحل ، والسبب .
– فالرضا : يعنى تلاقى الإيجاب والقبول من الإدارة والمتعاقد معها ، فهذا هو جوهر الرابطة التعاقدية ، ومن المفترض في هذا الشأن تحقق الأهلية فى رجال الإدارة ، إلا أن القضاء الإدارى طبق فى هذا الشأن القواعد المعمول بها فى القانون المدني الخاصة بعيوب الإرادة وهى الغلط ، والتدليس ، والإكراه ، والغبن .
– وأما المحل : فان القضاء يطبق بشأنه أيضاً قواعد القانون المدني أيضاً وذلك فيما عدا ما تستلزمته طبيعة العقود الإدارية ، والملاحظ بخصوص المحل الآتي :
1- أنه ثمة أمور يحرم المشرع التعاقد بشأنها صراحة مثال ذلك ما حرمه المشرع على العاملين بالدولة فى التقدم بعطاءات أو عروض في المناقصات والممارسات التي تطرحها الجهات الإدارية التابعين لها .
2- أن هناك بعض المسائل لا يجوز أن تكون محل تعاقد بين الإدارة والفرد ، مثال ذلك اتفاق الإدارة مع موظفيها لإنقاص المزايا التى تضمنها لهم المراكز النظامية العامة أو الوظيفة العامة .
– وعن السبب : فإن أحكام القضاء الإداري تكاد تكون قليلة في هذا الشأن وسبب ذلك أنه من النادر أن تتعاقد الإدارة دون سبب أو بسبب باطل ، ولكن فى الجملة يمكن القول أن السبب ركن جوهري وأساسي فى العقد الإداري ، وأنه محكوم فى المقام الأول بالقواعد المدنية هو الأخر ، مع مراعاة ما يتعلق بطبيعة العلاقات الإدارية .
المبدأ الأول : أن منازعات العقود الإدارية تنتمي إلى القضاء الكامل
ان المقرر قانوناً – وفق ما سلف بيانه – أن مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري يختص وحده دون غيره بالمنازعات المتعلقة بجميع العقود الإدارية .
وأبرزنا فيما سلف معيار تمييز العقد الإداري عن غيره من العقود الخاصة التى تخضع للقانون والقضاء المدني .
ولقد حددت أحكام القضاء مدى هذا الاختصاص ونطاقه ، لاسيما وأنه قد تجاور المنازعة العقدية منازعات أخرى ترتبط بها ارتباطاً وثيقاً ، منها ما هو يدخل فى اختصاص القضاء الإداري كالطعن على القرارات الإدارية المنبثقة عن تنفيذ العقد الإداري ، ومنها يندرج تحت دعوى الاستعجال أو الدعوى المستعجلة .
لقد استقرت أحكام القضاء الإداري وتواترت على أن قضاء العقود الإدارية ينتمي أساساً إلى القضاء الكامل ، وبالتالى تستطيع المحكمة أن تراقب إجراءات العقد وشروطه وما صدر بشأنه من إجراءات وقرارات ، وذلك باعتبار ذلك مما يندرج ضمن العناصر المتنازع عليها أصلاً ، وذلك فى حدود اختصاص القضاء الإداري الكامل بهذه المنازعات ، وذلك كله مشروط بأن لا يكون الحق المتنازع عليه لم يسقط بمضي المدة .
اختصاص القضاء الإداري بالفصل فى المنازعات المستعجلة المنبثقة من منازعات العقود الإدارية
استناداً على قاعدة أن قاضى الأصل هو قاضى الفرع ، وإنه لما كانت الدعوى المستعجلة هى فرع للدعوى الموضوعية ، وكان من المقرر أن القضاء الإداري مختصاً أصلاً بنظر المنازعات المتعلقة بالعقود الإدارية ، وكانت أيضاً هذه المنازعات مما يندرج أساساً في منظومة القضاء الكامل ، لذلك فإن الفصل فى الأمور المستعجلة التى تثيرها المنازعات المتعلقة بالعقود الإدارية ، تدخل فى نطاق اختصاص القضاء الإداري وليس فى اختصاص قاضى الأمور المستعجلة .
وفى هذا الشأن ذهبت المحكمة الإدارية العليا فى حكمها الصادر فى الطعن رقم 897 لسنة 9 ق.ع بجلسة 20 / 7 / 1963 إلى:
” أن القضاء الإداري يختص دون غيره بالفصل موضوعاً فى منازعات العقود الإدارية ، فيلزم أن يختص تبعاً بالفصل فيما ينبثق منها من أمور مستعجلة ما دام القانون لم يسلبه ولاية الفصل فى الأمور المستعجلة التى تثيرها تلك المنازعات ويعهد بها إلى جهة أخرى .”
اختصاص القضاء الإداري بالفصل فى منازعات العقود الإدارية ، يمتد إلى بحث مستحقات جهة الإدارة المطعون ضدها
من المعلوم أن المنازعة العقدية تقام من المتعاقد مع الجهة الإدارية ، يطرح فيها طلباته على القضاء والتى يرى أنه له حق فيها ، وقد منعته عنه جهة الإدارة ، كما أنه من المفترض أن يكون لجهة الإدارة حقوق قبل هذا المتعاقد ، يحق لها أن تطرحها كطلبات مقابلة فى الدعوى ، ولكن قد يحدث أن جهة الإدارة قد لا تطرح هذه الطلبات ، فهل يجوز للمحكمة وهى بصدد الفصل فى هذه المنازعة العقدية أن تفصل فى مستحقات الجهة الإدارية ؟
قد تكون الإجابة للوهلة الأولى أنه لا يجوز ذلك لأنه لا يجوز للمحكمة أن تفصل فى طلبات لم تطرح عليها من صاحب الشأن أو من صاحب الصفة ، بيد أن القضاء الإداري كانت له فى هذا الصدد كلمة أخرى أوضحها فى حكم المحكمة الإدارية العليا الصادر فى الطعن رقم 3683 لسنة 36 ق.ع بجلسة 29 / 11 / 1994 ، إذ قضت بأنه :
” أن المحكمة مٌصدرة الحكم المطعون فيه مقيدة بالطلبات المقدمة إليها وإلا كان قضاؤها مخالفاً للقانون , ولكن التصدي لمستحقات الهيئة المطعون ضدها في النزاع الماثل ليس بهدف القضاء بهذه المستحقات , ما دام الثابت أن الهيئة المذكورة لم تتبع أحكام قانون المرافعات المدنية والتجارية للمطالبة بتلك المستحقات , وإنما بهدف تحديد ما يستحق للطاعن من المبالغ المطالب بها بعد استنزال مستحقات الجهة الإدارية المطعون ضدها……” ثم استطردت قائلة:” فإنه من المسلم به في فقه القانون الإداري أن سلطة قاضي الإلغاء تقف عند الحكم بإلغاء قرار معيب , وأما القضاء الكامل فيخول القاضي تصفية النزاع كلياً , فيلغي القرار المخالف للقانون إن وجدت , ثم يرتب علي ذلك نتائجه كاملة من الناحية الايجابية أو السلبية , ومن المسلم به أيضا أن قضاء العقود الإدارية ينتمي أساسا إلي القضاء الكامل , إذ يكون للمحكمة التصدي للمنازعة الناشئة عن العقد الإداري بجميع ما يتفرع عنها , وبهذه المثابة لا يقتصر اختصاص المحكمة مٌصدرة الحكم المطعون فيه علي التصدي لبحث حقوق الطاعنين المطالب بها , بل يمتد إلي بحث مستحقات الجهة الإدارية المطعون ضدها للوصول إلي استجلاء وجه الحق في دعوي الطاعن ”
– وبالتالى فإنه يتضح من هذا القضاء أن سلطة المحكمة فى منازعة العقد الإداري لا تقف عند بحث طلبات المدعى المتعاقد مع الإدارة فحسب ، بل يمتد لبحث مستحقات جهة الإدارة المتعاقدة ، من أجل الوصول إلي ما هو مستحق صدقاً وعدلاً للمتعاقد معه باعتبار أن هذه المنازعة من منازعات القضاء الكامل .
اختصاص القضاء الإداري بالفصل فى المنازعة العقدية ، يمتد إلى القرارات الإدارية الصادرة من جهة الإدارة بمناسبة تنفيذ العقد
يحدث فى كثير من الأحيان أن تصدر جهة الإدارة قرارات بمناسبة تنفيذ العقد ، كأن تصدر قراراً بتوقيع غرامة على المتعاقد معه ، أو قراراً بإنهاء التعاقد المبكر أو فسخه ، أو بسحب العقد وتنفيذه على حسابه وغير ذلك .
– ومن المقرر قانوناً أن دعوى الإلغاء التى تقام ضد القرار الإداري ، قد أحاطها القانون بإجراءات التظلم السابق على رفع الدعوى أو بميعاد قصير لإقامتها ( ستون يوما )
والسؤال الذى يطرح نفسه فى هذا الشأن هل تخضع القرارات المتقدمة لإجراءات ومواعيد دعوى الإلغاء ؟
استقر القضاء على أن المنازعات المتعلقة بما تصدره الجهات الإدارية بصفتها متعاقدة من تصرفات أو إجراءات قبل المتعاقد معها ، إنما تندرج تحت ولاية القضاء الكامل لمحاكم القسم القضائي لمجلس الدولة حتى لو انصب النزاع على طلب المتعاقد إلغاء قرار إداري اتخذته الإدارة قبله، ذلك لأن ما تصدره الإدارة من قرارات تنفيذاً للعقد ، كالقرارات الخاصة بتوقيع جزاء من الجزاءات التعاقدية أو بفسخ العقد أو إنهائه أو إلغائه إنما يدخل فى منطقة العقد وينشأ عنه وبالتالى فإن المنازعات التى تتولد عن تلك القرارات والإجراءات هى منازعة حقوقية وتكون محلاً للطعن عليها على أساس استصدار ولاية القضاء الكامل دون قضا الإلغاء ، ومن ثم فلا يتقيد الطعن عليها بالإجراءات والمواعيد المتعلقة بدعوى الإلغاء ، وذلك كله ما لم يسقط أصل الحق بمضي المدة ( فى هذا المعنى حكم المحكمة الإدارية العليا فى الطعن رقم 2348 لسنة 36 ق.ع ـ جلسة 7 / 3 / 1995 )
اترك تعليقاً