دراسة و بحث حول العولمة والعلاقات الدولية الراهنة
المحتويات
الرقم الموضوع الصفحة
1- تمهيد 3
2- القسم الأول/مسار وركائز العولمة الرأسمالية الراهنة 5
3- القسم الثاني/آثار العولمة على البلدان النامية 13
4- القسم الثالث/حركة التجارة الدولية في ظل العولمة وانعكاسها على الدول النامية 20
5- القسم الرابع/العلاقات الأمريكية – الأوروبية والآسيوية 24
6- القسم الخامس/الوضع الدولي –رؤية مستقبلية 31
تمهيد
منذ عام 1990، تم إسدال الستار على المشهد الأخير من العلاقات الدولية المحكومة بالثنائية القطبية، حيث تم الإعلان عن نهاية الحرب الباردة، وولادة المشهد العالمي “الجديد” المحكوم بالرؤى والممارسات الأحادية للنظام الرأسمالي في طوره الأمريكي المعولم.
وبولادة هذا المشهد، تكرس انجاز ميزان القوى العالمي لصالح المشروع الامريكي في الهيمنة على هذا الكوكب واخضاعه –بصورة مباشرة او غير مباشرة- للسياسات والمصالح الامريكية، حيث تحولت معظم حكومات وأنظمة هذا العالم الى أدوات خاضعة او شريكة من الدرجة الثانية للنظام الامبريالي الأمريكي في هذه المرحلة التي قد تمتد إلى عقدين او اكثر من هذا القرن الحادي والعشرين، خاصة وانه لا يزال أمام الهيمنة الأمريكية ايام عمر مشرقة –كما يقول سمير امين- حيث ان “الكتل” الإقليمية القادرة على تهديدها ليست على جدول الأعمال، ذلك ان العولمة الليبرالية السائدة حالياً ليست “عولمة اقتصادية” بحتة مستقلة عن إشكالية الهيمنة او منطق التوحش الامبريالي التوسعي وادواته الذي تمارسه المؤسسات والأجهزة الأمريكية الحاكمة التي تعلم ان الخطاب السائد الذي يزعم أن الأسواق تضبط من تلقاء نفسها، وأن سيادتها المطلقة دون قيود تنتج تلقائياً الديمقراطية والسلام، إنما هو –كما يقول سمير امين بحق- خطاب أيدلوجي مبتذل لا أساس علمياً له، وبالتالي فان ما يجب ان يستنتج من هذا الاعتراف انما هو ان الولايات المتحدة سوف توظف قوتها العسكرية الاستثنائية من اجل إخضاع الجميع لمقتضيات ديمومة مشروعها للسيادة العالمية، بمعنى آخر لن تكون هناك “عولمة” دون إمبراطورية عسكرية أمريكية، تقوم على المبادئ الرئيسية التالية وفق د. سمير امين:
1- إحلال الناتو محل الأمم المتحدة من اجل إدارة السياسة العالمية.
2- تكريس التناقضات داخل أوروبا من اجل إخضاعها لمشروع واشنطن.
3- تكريس المنهج العسكري او عولمة السلاح كأداة رئيسية للسيطرة.
4- توظيف قضايا “الديمقراطية” و “حقوق الشعوب” لصالح الخطة الأمريكية عبر الخطاب الموجه للرأي العام من ناحية وبما يساهم في تخفيض بشاعة الممارسات الأمريكية من ناحية ثانية.
أخيراً، ان الدعوة الى مقاومة العولمة الأمريكية ومواقفها العدائية، مع حليفها الصهيوني في بلادنا، هي السبيل الوحيد لمجابهة هذه الهيمنة والتغلب على آثارها وأدواتها، عبر التأسيس النظري والعملي للخطوات الأولى على طريق الخروج من الأزمة الراهنة التي تتمثل في الحوار الجاد والمعمق لبلورة آليات إعادة بناء الحركة الماركسية العربية، في موازاة الحوار بين جميع أطراف اليسار العالمي لإعادة بناء الإطار الاممي الثوري الديمقراطي كعولمة نقيضة للنظام الرأسمالي الامبريالي كله.
وتأتي هذه الدراسة، كمحاولة لتشخيص الأوضاع الدولية الراهنة، عبر تناولها لخمسة محاور رئيسية هي:
1-القسم الأول/مسار وركائز العولمة الرأسمالية الراهنة.
2-القسم الثاني/آثار العولمة على البلدان النامية.
3-القسم الثالث/حركة التجارة الدولية في ظل العولمة وانعكاسها على الدول النامية.
4- القسم الرابع/العلاقات الأمريكية – الأوروبية والآسيوية.
5-القسم الخامس/الوضع الدولي –رؤية مستقبلية.
القسم الأول: مسار وركائز العولمة الرأسمالية الراهنة.
لم يكن انهيار الاتحاد السوفيتي – في العقد التاسع من القرن العشرين – حدثاً روسياً فقط ، بقدر ما كان بداية تحول نوعي في مسار التطور العام للبشرية ، عملت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها على إنضاج وتفعيل تراكماته الداخلية والخارجية ، تمهيداً لدورها – الذي تمارسه اليوم – كقطب أحادي يتولى إدارة ما يسمى بالنظام العالمي ” الجديد ” .
وفي سياق هذا التحول المادي الهائل الذي انتشر تأثيره في كافة أرجاء كوكبنا الأرضي بعد أن تحررت الرأسمالية العالمية من كل قيود التوسع اللامحدود ، كان لابد من تطوير بل وإنتاج النظم المعرفية ، السياسية والاقتصادية الى جانب الفلسفات التي تبرر وتعزز هذا النظام العالمي الأحادي ، خاصة وأن المناخ العام المهزوم أو المنكسر في بلدان العالم الثالث أو الأطراف قد أصبح جاهزاً للاستقبال والامتثال للمعطيات الفكرية والمادية الجديدة، عبر أوضاع مأزومة لأنظمة – في العالم الثالث – فقدت وعيها الوطني أو كادت ، وقامت بتمهيد تربة بلادها للبذور التي استنبتها النظام العالمي ” الجديد ” تحت عناوين تحرير التجارة العالمية وإعادة الهيكلة ، والتكيف والخصخصة، باعتبارها أحد الركائز الضرورية اللازمة لتوليد وتفعيل آليات النظام العالمي ” الجديد ” أو ما يسمى بالعولمة Globalization التي بدأت تنتشر وتتغلغل في أرجاء كوكبنا منذ بداية ثمانينات القرن الماضي حتى بداية هذا القرن الحادي والعشرين، لدرجة أن أحداً لم يعد يماري- كما يقول جاد الكريم الجباعي- في واقع أن الرأسمالية جددت نفسها، ولا تزال على الأرجح قادرة على تجديد نفسها، ولا سيما على صعيد النمو المتسارع في قوى الإنتاج، ولكن ما يغفل عنه كثيرون أن كل تطور نوعي في النظام الرأسمالي العالمي يؤدي الى تغير مقابل في نسق العلاقات الدولية، يتمظهر في صيغة أزمة دولية كالتي نعيشها اليوم، وما ذلك إلا لسبب تعمق الطابع العالمي للقيمة، وتعمق الطابع العالمي لتقسيم العمل وتوزيع الثروة وعوامل الانتاج وصيرورة السوق العالمية المبتورة، كما يصفها سمير أمين، كحقائق واقعية، ومع ذلك لا تكف التناقضات الملازمة للنظام الراسمالي عن العمل والتاثير في بنيته وأدائه، وفي مقدمتها التناقض بين راس المال والعمل، ولا سيما في ظل الكشوف العلمية وثورة الثقافة، وتحول المعرفة الى قوة إنتاج أساسية، وما نمو البطالة والفقر واتساع دائرة المهمشين على الصعيد العالمي سوى بعض مظاهر هذا التناقض .
يؤكد على ذلك تقرير البنك الدولي لعام 2002 الذي كشف عن تباطؤ معدلات نمو الاقتصاد العالمي، خاصة في البلدان النامية الذي من شأنه اعاقة عملية تخفيض أعداد الفقراء في تلك البلدان، ويضيف التقرير، أنه “على الرغم من استمرار ارتفاع اسعار النفط فقد هبط معدل النمو في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا 2.5% مقابل 3.2% عام 2001” وما رافق ذلك من تراجعات، ليس على المستوى الاقتصادي/الاجتماعي فحسب ، بل على الصعيد السياسي حيث تزايدت بصورة غير مسبوقة مظاهر تعمق تبعية الانظمة في هذه المنطقة وخضوعها الكامل للهيمنة الرأسمالية في نظام العولمة الأمريكي، يشهد على ذلك تفاقم الازمات المستعصية السياسية والاقتصادية والمجتمعية، وتكريس مظاهر التبعية والتخلف في بلدان العالم الثالث عموماً، وفي بلدان النفط خصوصاً، رغم ارتفاع الأسعار إلى ما يقرب من (80) دولاراً للبرميل الواحد في منتصف عام 2006.
السؤال الذي نطرحه هنا ونحاول الإجابة عليه ، هل العولمة نظام جديد ظهر فجأة عبر قطيعة مع السياق التاريخي للرأسمالية أم أنه جاء تعبيراً عن شكل التطور الأخير للإمبريالية منذ نهاية القرن الماضي ؟ وهل تملك العولمة كظاهرة إمكانية التفاعل والتطور والاستمرار لتصبح أمراً واقعاً في القرن الحادي والعشرين؟
أولاً : المعروف أن الرأسمالية منذ نشأتها الأولى في القرن السادس عشر ، ومن ثم في سياق تطورها اللاحق ، لم تكن في صيرورة فعلها حركة محدودة بإطار وطني أو قومي معين ضمن بعد جغرافي يحتوي ذلك الوطن أو يعبر عن تلك القومية ، فالإنتاج السلعي وفائض القيمة وتراكم رأس المال لدى البورجوازية الصاعدة منذ القرن الخامس عشر التي استطاعت تحطيم إمارات وممالك النظام الإقطاعي القديم في أوروبا، وتوحيدها في أطر قومية حديثة في فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة وغيرها ، لم تكن هذه الدول القومية الحديثة والمعاصرة سوى محطة لتمركز الإنتاج الصناعي ورأس المال على قاعدة المنافسة وحرية السوق، للانطلاق نحو التوسع العالمي اللا محدود، انسجاماً مع شعار الكوسموبوليتية Cosmopolitanism أو المواطنة العالمية الذي رفعته منذ نهاية القرن التاسع عشر ، وهي نظرية تدعو الى ” نبذ المشاعر الوطنية والثقافة القومية والتراث القومي باسم وحدة الجنس البشري ، ومن الواضح أن هذا الشعار الأيديولوجي صاغته الرأسمالية في مواجهة شعار الأممية البروليتارية ” Proletarian Internationalism” وجوهره ” يا عمال العالم اتحدوا ” ، لكن الأزمات التي تعرض لها الاقتصاد الأوروبي / الأمريكي في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين من جهة ، وبروز دور الاتحاد السوفيتي وما رافقه من انقسام العالم عبر ثنائية قطبية ، فرضت أسساً جديدة للصراع لم يشهده العالم من قبل من جهة أخرى ، وبتأثير هذه العوامل لم يكن أمام دول المعسكر الغربي سوى إعادة النظر – جزئياً – في آليات المنافسة الرأسمالية وحرية السوق والتوسع اللا محدود، كما عبر عنها آدم سميث الأب الأول لليبرالية ، حيث توصلت للخروج من أزمتها عام 1929 ، الى ضرورة إعطاء الدولة دوراً مركزياً لإعادة ترتيب المجتمع الرأسمالي، يتيح مشاركتها في إدارة الاقتصاد في موازاة الدور المركزي للسوق الحر وحركة رأس المال ، وقد تبلور هذا التوجه في قيام هذه الدول بتطبيق الأسس الاقتصادية التي وضعها المفكر الاقتصادي ” جون ماينارد كينز ” حول دور الدولة ، دون أي اهتمام جدي للتراجع الملموس حينذاك الذي أصاب شعار الكوسموبوليتية ، ومن أهم هذه الأسس :-
1- تمكين الدولة الرأسمالية من الرد على الكوارث الاقتصادية .
2-إعطاء الدولة دور المستثمر المالي المركزي في الاقتصاد الوطني أو رأسمالية الدولة (القطاع العام ) .
3- حق الدولة في التدخل لتصحيح الخلل في السوق أو في حركة المال .
4- دور الدولة في تفادي التضخم والديون وارتفاع الأسعار .
وقد استمرت دول النظام الرأسمالي وحلفاؤها في الأطراف في تطبيق هذه السياسات الاقتصادية الكينزية طوال الفترة الممتدة منذ ثلاثينات القرن العشرين حتى نهاية العقد الثامن منه، حيث بدأت ملامح انهيار منظومة البلدان الاشتراكية وبروز الأحادية القطبية الأمريكية وأيديولوجية الليبرالية الجديدة .
على أن هذه الأحادية القطبية التي تحكم العالم منذ بدايات العقد الأخير من القرن العشرين ، لم يكن مقدراً لها أن تكون بدون شكلين متناقضين من التراكم ، الأول التراكم السالب في بنية المنظومة الاشتراكية أدى في ذروته الى انهيار الاتحاد السوفيتي ، والثاني التراكم في بنية النظام الرأسمالي -بالرغم من أزمته الداخلية- الذي حقق تحولاً ملموساً في تطور المجتمعات الرأسمالية قياساً بتطور مجتمعات بلدان المعسكر الاشتراكي ، وكان من أهم نتائج هذا التطور النوعي الهائل ، خاصة على صعيد التكنولوجيا والاتصالات ، إعادة النظر في دور الدولة الرأسمالية أو الأسس الاقتصادية الكينزية ، وقد بدأ ذلك في عصر كل من تاتشر عام 1979 على يد مستشارها الاقتصادي ” فردريك فون هايك ، ورونالد ريجان عام 1980 ومستشاره الاقتصادي ” ميلتون فريدمان ” وكلاهما أكد على أهمية العودة الى قوانين السوق وحرية رأس المال
وفق أسس نظرية الليبرالية الجديدة liberalism new التي تقوم على :-
1- ” كلما زادت حرية القطاع الخاص كلما زاد النمو والرفاهية للجميع “! .
2- ” تحرير رأس المال وإلغاء رقابة الدولة في الحياة الاقتصادية “،وتحرير التجارة
العالمية.
أنها باختصار ، دعوة الى وقف تدخل الدولة المباشر ، وتحرير رأس المال من كل قيد ، انسجاماً مع روح الليبرالية الجديدة التي هي في جوهرها ظاهرة رأسمالية تنتمي – الى ” حرية الملكية والسوق والبيع والشراء ، ومنطقها الحتمي يؤدي الى التفاوت الصارخ في الملكية والثروة لا الى المساواة .
في ضوء هذه السياسات ، اندفعت آليات الصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة الدولية WTO ، وبحماس بالغ ، في الترويج لهذه الليبرالية ، بل والضغط على كافة دول العالم عموماً والعالم الثالث على وجه الخصوص ، للأخذ بالشروط الجديدة تحت شعار برامج التصحيح والتكيف التي تمثل كما يقول د. رمزي زكي ” أول مشروع أممي تقوم به الرأسمالية العالمية في تاريخها ، لإعادة دمج بلدان العالم الثالث في الاقتصاد الرأسمالي من موقع ضعيف ، بما يحقق مزيداً من إضعاف جهاز الدولة ، وحرمانها من الفائض الاقتصادي ، وهما الدعامتان الرئيسيتان اللتان تعتمد عليهما الليبرالية الجديدة ” .
ثانياً : بالطبع لم يكن ظهور مفهوم العولمة الاقتصادي معزولاً عن الانهيار الأيديولوجي الذي أصاب العالم بعد تفكك وانهيار الاتحاد السوفيتي ، بل هو مرتبط أشد الارتباط بالمفاهيم الفكرية التي صاغها فلاسفة ومفكرو الغرب الرأسمالي ، بدءاً من ” عصر نهاية الأيديولوجيا ” الى ” صراع الحضارات ” ، و ” نهاية التاريخ عند الحضارة الغربية ” ، وهي مجموعة أفكار بقدر ما تفتقر الى الانسجام العام والتواصل مع البعد الإنساني للفكر الغربي الحديث ، ونعني بذلك فكر النهضة والتنوير بكل مدارسه المثالية والمادية ، فإنها تتقاطع مع الأفكار النازية كما صاغها تريتشكه ونيتشه ، عندما تتحدث عن تفرد الحضارة الغربية – ضمن إطارها الثقافي والجغرافي – بالقوة والعظمة دون أي دور أو ترابط مع حضارات العالم الأخرى ، وعلى أساس أن حضارة الغرب – كما يقول صموئيل هنتنجتون – ” لها جوهر واحد ثابت لا يعرف التغيير ، وهوية مطلقة تبقى كما هي عبر القرون ” ! وكذلك الأمر عند ” فرنسيس فوكوياما ” الذي يرى أنه ” بسقوط الأنظمة الاشتراكية يكون الصراع التاريخي بين الليبرالية والماركسية قد انتهى بانتصار ساحق لليبرالية الجديدة ، وبهذا النصر تكون البشرية قد بلغت نقطة النهاية لتطورها الأيديولوجي ” ! ؟ .
“إن تصور ” فوكوياما ” للعالم بعد نقطة النهاية هذه – أو “نهاية التاريخ” أو “نهاية الصراع الأيديولوجي” – يستند على أنه لا وجود لتناقضات أساسية في الحياة البشرية لا يمكن حلها في إطار الليبرالية الحديثة ، ومع ذلك فليس من الضروري عند نهاية التاريخ ان تصبح كل المجتمعات مجتمعات ليبرالية ، بل بالعكس يرفض هذا التجانس ويؤكد أن البلدان التي تنتمي فقط الى الحضارة الغربية هي التي يجب أن تؤكد سيطرتها على العالم كله، على قاعدة السادة والعبيد ، لان بلدان العالم الثالث عموما-حسب فوكوياما- ستكون مصدراً يهدد الحضارة الغربية، سواء بشعارات التطرف القومي أو الديني أو بالأوبئة والأمراض والتخلف ، وبالتالي لابد من إخضاع العالم الثالث باعتبارهم ” أعداء الغد ” ! “، هذه الرؤية الأيدلوجية العنصرية تستهدف بصورة مباشرة توضيح الجوهر الحقيقي للامبريالية في ظل العولمة الرأسمالية السائدة اليوم، اذ ان “الامبريالية هي السيطرة والتحكم والتملك والاستغلال الذي تمارسه الطبقات السائدة في دولة – أمة على أمة أخرى وعلى مواردها وسوقها وسكانها” . وحالياً وعلى نطاق غير مسبوق تتحكم البنوك والشركات متعددة الجنسية والمؤسسات المالية لاوروبا والولايات المتحدة الامريكية في الغالبية العظمى لأهم المنظمات الاقتصادية . وتتمثل الوظيفة الاساسية للدولة الامبريالية في السيطرة بكيفية تسمح بازدهار شركاتها متعددة الجنسيات . وتقدم الدولة الامبريالية مساعدات لجيش صغير من الايديولوجيين (المفكرين) الرأسماليين في بلدان المركز ، إلى جانب العديد من الايدلوجيين والمثقفين الليبراليين الجدد في بلدان العالم الثالث الذين باتت مصالحهم الشخصية بديلا لولائهم الوطني او القومي .
ففي الماضي شارك رجال الدين والسلطات الاستعمارية في الشحن العقائدي للشعوب المغلوبة على امرها . اما حاليا فان وسائل الاتصال الجماهيري ونظام التعليم العالي والمنظمات غير الحكومية التي تمولها الامبراطورية ودعاية الفاتيكان كلها تؤسس النموذج الايديولوجي الذي يصف الخضوع بما هو “تحديث”، والاستعمار الجديد بما هو عولمة والمضاربة المالية بما هي عصر الاعلاميات في ظل النظام الإكراهي الإمبريالي للعولمة، عبر المركز الأمريكي الأوروبي، فالعولمة هنا هي شكل إنتشار السلع والمنتجات والثقافة والإعلام والمعلومات، أما مضمونها مركزي الى أبعد الحدود عبر سيطرة رأس المال الأمريكي الأوروبي على حركة ومسار السلع المادية والثقافة والإعلام….. الخ . ولذلك فإن فكرة أن العولمة تخلق عالماً مترابطاً هي خاطئة بالفعل لأنها خلقت عالماً محكوماً في مساحة 85% منه لرأس المال الأمريكي الأوروبي (كما يوضح الجدول ادناه) الامر الذي يفسر لماذا يواصل اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية نموه ، بينما اقتصاد أسيا وأمريكا اللاتينية وروسيا يشهد توقفات وإفلاسات وأزمات وانهيارات اقتصادية .
جدول يوضح الناتج المحلي الإجمالي لدول العالم
(مليار دولار)
البيان الناتج المحلي الاجمالي
الولايات المتحدة الامريكية 10.948.5
دول الاتحاد الاوروبي 10.305.3
اليابان 4.300.9
الصين 1.417.0
الهند 600.6
كوريا الجنوبية 605.3
ماليزيا 103.7
سنغافورة 91.3
تايلند 143
اندونيسيا 208.3
الدول العربية 723
المصدر: برنامج الامم المتحدة الانمائي، تقرير التنمية الانسانية العالمية، 2005.
(الجدول من اعداد الباحث)
“وفي هذا السياق يقول ” روبرت شتراوس هوب” أحد المدافعين عن الوجه العنصري البشع للعولمة ، في كتابه ” توازن الغد ” الصادر عام 1994م ، إن ” المهمة الأساسية لأمريكا توحيد الكرة الأرضية تحت قيادتها ، واستمرار هيمنة الثقافة الغربية ، وهذه المهمة لابد من إنجازها بسرعة في مواجهة نمور آسيا وأي قوى أخرى لا تنتمي للحضارة الغربية ” ، ويستطرد ” ان مهمة الشعب الأمريكي القضاء على الدول القومية ، فالمستقبل خلال الخمسين سنة القادمة سيكون للأمريكيين ، وعلى أمريكا وضع أسس الإمبراطورية الأمريكية بحيث تصبح مرادفة ” للإمبراطورية الإنسانية ” ! . أما ” ألفين توفلر ” الباحث السوسيولوجي الأمريكي – يتوصل في كتابه ” الموجة الثالثة ” الى تعريف مغاير لهذا التحول العالمي المعاصر ، ويرى فيه ” ثورة كونية جعلت العلم لأول مرة في تاريخ البشرية قوة أساسية من قوى الإنتاج تضاف الى الأرض ورأس المال والعمل ، وان المشاركة في هذه الموجة أو هذا التحول مشروطة بإنتاج المعلومات والمشاركة فيها عالمياً من أجل تنمية ” الذكاء الكوني ” ، نحن إذن أمام حالة من ” الوعي الكوني ” أو العولمة الفكرية في مواجهة الوعي الوطني والوعي القومي في الوطن العربي والعالم الثالث ، تقوم على مبدأ ” البقاء للاصلح ” أو الأقوى في وطن عالمي بلا حدود !؟” .
ثالثاً : هدفنا مما تقدم كشف طبيعة الموقف الأيديولوجي الشوفيني المدافع عن إمكانية تحقيق مفهوم العولمة، وانتقاله من حالة الفرضية النظرية المجردة إلى حالة الواقع والتطبيق ، خاصة بعد أن توفرت له كل هذه المعطيات المادية والفكرية ، في سياق ثورة العلم والتكنولوجيا وثورة المعلومات والاتصالات التي تعزز وتغطى الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية للعولمة، وتدفع بعمق نحو انتقال هذا المفهوم إلى حقائق مادية نشطة وفاعله على هذا الكوكب ، ضمن إطار وأدوات الحضارة الغربية والبلدان الصناعية الرأسمالية التي تنضوي تحت لوائها ، عبر هيمنة أحادية حتى اللحظة للولايات المتحدة الأمريكية .
القسم الثاني: آثار العولمة على البلدان النامية
في ضوء ما سبق ، فإن النظرة المتأنية الموضوعية لواقع عالمنا في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ، تؤكد أن معظم شعوب هذا الكوكب ودوله في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ، ما زالت تعيش اليوم تحت تأثير صدمة انهيار الثنائية القطبية التي أدت الى انهيار كل أشكال التوازنات الدولية التي سادت إبان المرحلة السابقة من ناحية، وما تلاه من انهيار البنية السياسية
– الاقتصادية في تلك الدول، بعد ان استولت الشرائح الكومبرادورية والبيروقراطية المدنية والعسكرية على مقدراتها الداخلية من ناحية ثانية، وهي تحولات عززت احادية الهيمنة الامريكية – الاوروبية على هذا الكوكب، بعيدا عن ميثاق الامم المتحدة، أو مرحلة الحرب الباردة التي فرضت على الجميع آنذاك الاحتكام الى نصوص وقواعد ميثاق الأمم المتحدة الذي أقرته شعوب العالم كله على أثر الحرب العالمية الثانية ، والذي نص في ديباجته “إن شعوب العالم قد قررت ضرورة إنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب ، والعمل على إيجاد نظام أمن جماعي يحفظ السلم العالمي، ويؤسس لتنظيم دولي أكثر إحكاما وأكثر عدالة في المستقبل ، وأن ذلك يتحقق عن طريق تحريم استخدام القوة المسلحة في غير المصلحة المشتركة” . لقد شكل مبدأ تحريم استخدام القوة أحد أهم إنجازات القانون الدولي في القرن العشرين ، حسب النص الصريح لميثاق الأمم المتحدة-الفقرة الرابعة من المادة الثانية التي أكدت على “تحريم استخدام القوة، أو التهديد بها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة” .
إن التحولات الجديدة في العلاقات الدولية التي جاءت على أثر الفراغ السياسي والعسكري والأيديولوجي الذي تركه انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة ، أدت الى استكمال مقومات هيمنة النظام الرأسمالي العالمي على مقدرات شعوب العالم، في إطار ظاهرة العولمة الراهنة التي جعلت من كوكبنا كله مجتمعا عالميا ، تسيطر عليه إرادة القوة العسكرية المسخرة لخدمة قوة الاقتصاد ورأس المال ، وهي تحولات تعبر عن عملية الاستقطاب الملازم للتوسع العالمي للرأسمالية الذي رافقها على مدى القرون الخمسة الماضية من تاريخها ، وسيلازمها –كما يقول سمير أمين- في أفق مستقبلها المنظور كله ما دام العالم سيظل مرتكزا على مبادئ الرأسمالية ، إذ أن هذا الاستقطاب يتفاقم من مرحلة الى أخرى ، وهو يشكل اليوم –في ظل العولمة- ذلك البعد المتفجر الأكثر ثقلا في تاريخ تطور الرأسمالية ، بحيث يبدو وكأنه حدها التاريخي الأكثر مأساوية ، خاصة وأن العولمة قد “تعمقت في السنوات الأخيرة عن طريق الاختراقات المتبادلة في اقتصاديات المراكز أساسا ، بصورة همشت المناطق الطرفية التي أصبحت عالما رابعا” .
فمنذ عام 1990 ، شهد العالم متغيرات نوعية متسارعة ، انتقلت البشرية فيها من مرحلة الاستقرار العام المحكوم بقوانين وتوازنات الحرب الباردة ، الى مرحلة جديدة اتسمت بتوسع وانفلات الهيمنة الأمريكية للسيطرة على مقدرات البشرية ، وإخضاع الشعوب الفقيرة منها ، لمزيد من التبعية والحرمان والفقر والتخلف والتهميش، كما جرى في العديد من بلدان اسيا وافريقيا وفي بلدان وطننا العربي عموما والعراق وفلسطين ولبنان خصوصا ، فقد تم إسقاط العديد من القواعد المستقرة في إدارة العلاقات الدولية ، بدءا من هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمؤسسات الدولية الأخرى ، وصولا الى تفريغ ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي من مضامينهما الموضوعية الحيادية، يشهد على ذلك عجز “الأمم المتحدة” عن وقف العدوان والتدمير الأمريكي الصهيوني في العراق وفلسطين ولبنان، في مقابل تواطؤ وخضوع الاتحاد الأوروبي وروسيا واليابان للهيمنة والتفرد الأمريكي في رسم وإدارة سياسات ومصالح العولمة الرأسمالية في معظم أرجاء هذا الكوكب، وفي بلداننا العربية والإقليم الشرق أوسطي خصوصاً، في محاولة يائسة لإعادة ترتيب المنطقة الشرق أوسطية وتفكيكها وإخضاعها بصورة غير مسبوقة للسيطرة الأمريكية، عبر دور متجدد تقوم به دولة العدو الإسرائيلي في محاولتها لضرب وتصفية قوى المقاومة في فلسطين ولبنان بصورة بربرية، لم تستطع معها إسقاط رايات المقاومة التي استطاعت إثبات وجودها وصمودها وتوجيه ضرباتها إلى قلب دولة العدو الإسرائيلي، وتهديد منشآته ومدنه لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، ما يشير إلى بداية عهد جديد في هذا الصراع عبر متغيرات نوعية في الأوضاع العربية لصالح قوى التغيير الديمقراطي والمقاومة من ناحية، ومتغيرات نوعية بالنسبة لمستقبل الصراع العربي الإسرائيلي الذي تؤكد المعطيات انه صراع وجودي لا تجدي معه مفاوضات أو حلول “سلمية” من ناحية ثانية.
لقد أدى إفراغ ميثاق الأمم المتحدة من مضامينه التي أجمعت عليها دول العالم بعد الحرب العالمية الثانية على أثر هزيمة النازية ، إلى أن أصبحت الأمم المتحدة –اليوم- غير قادرة على ممارسة دورها السابق الذي تراجع بصورة حادة لحساب التواطؤ مع المصالح الأمريكية ورؤيتها السياسية ، يشهد على ذلك مواقف لكوفي عنان الامين العام للامم المتحدة، من معظم القضايا المطروحة في المحافل الدولية، خاصة ما يتعلق بدول العالم الثالث عموما والقضية الفلسطينية والعراق ولبنان خصوصا، وليس لذلك في تقديرنا سوى تفسير واحد ، هو مدى تحكم الولايات المتحدة في إدارة المنظمة الدولية وأمينها العام من جهة ، ومدى خضوع الانظمة الحاكمة – عبر المصالح الطبقية – للسياسات الامريكية في المشهد العالمي الراهن الذي بات يجسد التعبير الأمثل عن تحول مسار العلاقات الدولية بعيدا عن قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة ، الى قواعد استخدام القوة العسكرية لتطبيق شروط وسياسات النظام الرأسمالي المعولم ، واستفراده في الظروف والمتغيرات الراهنة ، التي حولت –وستحول- أقاليم عديدة في العالم الى مسارح مضطربة مفتوحة على كل الاحتمالات ، أدخلت العلاقات الدولية في حالة من الفوضى المنظمة ، بحيث أصبحت هذه العلاقات محكومة لظاهرة الهيمنة الأمريكية المعولمة، أو لهذا الفراغ أو الانهيار في التوازن الدولي الذي أدى الى بروز معطيات جديدة في هذا الكوكب من أهمها :-
1-تم إسقاط العديد من القواعد المستقرة في إدارة العلاقات الدولية ، حيث دخلت هذه العلاقات تحت الإشراف المباشر وغير المباشر للولايات المتحدة الأمريكية وإدارتها الأحادية .
2-تحولت أقاليم عديدة في هذا الكوكب الى مسارح استراتيجية مضطربة ، بدأت ، أو أنها في انتظار دورها على البرنامج ، وهي مسارح أو أزمات مفتوحة على جميع الاحتمالات وفي جميع القارات كما جرى في يوغسلافيا أو البلقان وألبانيا والشيشان ، وما أصاب هذه البلدان من تفكك وخراب أعادها سنوات طويلة الى الوراء، وكذلك الأمر في إندونيسيا وأزمة بلدان آسيا الاقتصادية والسياسية ، وفي الباكستان والهند وبنغلادش وسيريلانكا .
وفي أفريقيا : الصومال وجيبوتي وموريتانيا والكونغو وغيرها ، وصولا الى بلدان أمريكا اللاتينية وتزايد الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فيها، بدءاً من المكسيك الى كوبا الى الأرجنتين وكولومبيا والبرازيل . كما تتفاقم هذه الأزمات في منطقتنا العربية ، حيث يتفجر الصراع الوجودي بيننا وبين العدو الصهيوني من جهة ، و تتفجر الأزمات الداخلية في الجزائر و السودان و مصر و اليمن ، إلى جانب الاحتلال الإمبريالي لفلسطين وللعراق الشقيق من جهة أخرى.
3-إضعاف وتهميش دول عدم الانحياز ، و منظمة الدول الأفريقية ، و الجامعة العربية ، و منظمة الدول الإسلامية ، و كافة المنظمات الإقليمية التي نشأت إبان مرحلة الحرب الباردة والتي تكاد اليوم ان تفقد بوصلتها ودورها .
4-يبدو أنه تم إسقاط المنطقة العربية و دورها ككتلة سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي ، و تجريدها من أي دور سوى الخضوع السياسي و استمرار تأمين المواد الخام ، و إقامة القواعد و الأحلاف العسكرية وفق ما حددته التوجهات و المخططات الأمريكية لمنطقتنا العربية ، و نكتفي هنا بالإشارة إلى المجالات الرئيسية لهذه التوجهات طالما بقي الوضع العربي على حاله الراهن :
أ-استمرار عملية التسوية و التطبيع مع إسرائيل و الدول العربية ، وفق الشروط الإسرائيلية –الأمريكية من ” واي بلانتيشن” الى “خارطة الطريق” وصولا الى “خطة شارون/أولمرت” الهادفة إلى إنهاء المشروع الوطني الفلسطيني بعد تحطيم ثوابته و أركانه الأساسية و مقوماته التاريخية و الشرعية الدولية .
ب-احتلال العراق الشقيق لضمان السيطرة على ثروته النفطية، وإخضاعه للسياسات الجديدة وتعريضه لمحاولات التفتت الداخلي، علاوة على إخضاع وتكريس تبعية معظم الدول العربية الأخرى للنظام الأمريكي وحليفه الصهيوني المسيطر في بلادنا.
ج-استمرار الهيمنة أو السيطرة المباشرة على الخليج و الجزيرة العربية (السعودية) كمنطقة نفوذ أمريكية بصورة شاملة و كلية .
د-الوقوف في وجه أي إمكانية لأي شكل من التحالفات أو التكتلات العربية الاقتصادية و السياسية إذا حملت في طياتها حداً أدنى من التعارض مع مشروع الهيمنة الأمريكي .
هـ-فرض السياسات الاقتصادية وفق مقتضيات الخصخصة و أيديولوجية الليبرالية الجديدة عبر مركزية دور القطاع الخاص في إطار تحالفه العضوي مع البيروقراطية العليا أو النظام الحاكم المعبر عن الطبقة السائدة في بلادنا، خاصة وأن القطاع الخاص في بلادنا العربية قد تحول- الى حد كبير- الى جهاز كومبرادوري كبير في خدمة النظام السائد ونظام العولمة الإمبريالي في آن واحد، بعد أن ألغى هذا القطاع ( الخاص ) –في معظمه- كل علاقة له بالمشروع التنموي الوطني أو القومي، واصبح همه الوحيد الحصول على الربح ولو على حساب مصالح وتطور مجتمعاتنا العربية واستقلاله الاقتصادي.
و- دعم دولة العدو الإسرائيلي كركيزة إمبريالية صغرى متقدمة في المنطقة تضمن استمرار حماية المصالح الأمريكية المعولمة في بلدان وطننا العربي.
لقد بات واضحاً أن تطبيق مبدأ “القوة الأمريكية” ساهم بصورة مباشرة في تقويض النظام الدولي في عالمنا المعاصر ، خاصة و أن حالة القبول أو التكيف السلبي ، بل و المشاركة أحياناً من البلدان الأوروبية و اليابان و روسيا الاتحادية شجعت على تطبيق ذلك المبدأ ، بعد أن فقدت دول العالم الثالث عموماً –عبر أنظمة الخضوع والتبعية- إرادتها الذاتية و سيادتها ووعيها الوطني ، و كان استسلام معظم هذه الدول أو رضوخها لقواعد و منطق القوة الأمريكية ، مسوغاً و مبرراً “لشرعية” هذه القواعد من جهة ، و الصمت المطبق على ممارساتها العدوانية في كثير من بقاع العالم، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة من جهة أخرى ، كما يجري اليوم في بلادنا عبر تحكُّم العدو الصهيوني في مستقبل قضيتنا الوطنية، ومحاولته المشاركة في السيطرة على مقدرات شعوبنا العربية كلها ، بعد أن أصبح النظام العربي في معظمه مهمشاً وفق شروط الهيمنة الأمريكية المتجددة التي جعلت دور الدولة في بلادنا –كما في بلدان العالم الثالث أيضاً- يقتصر على الجانب الأمني و القمعي لحماية المصالح الرأسمالية الخارجية و الداخلية المتشابكة ، بعد أن نجحت هذه الشروط في تصفية دور الدولة الإنتاجي و الخدماتي الذي كان مخصصاً في المرحلة السابقة لتغطية بعض احتياجات الجماهير الشعبية فيها . و بتراجع دور الدولة الوطني و الاجتماعي ترعرعت المصالح الشخصية البيروقراطية و الكومبرادورية و الطفيلية ، باسم الخصخصة و الانفتاح ، مما أدى إلى تفكك الروابط الوطنية و القومية و الإقليمية ، إلى جانب عوامل التفكك و شبه الانهيار المجتمعي الداخلي المعبر عنه بإعادة إنتاج و تجديد مظاهر التخلف بكل مظاهره الطائفية و الاثنية و العائلية و الدينية …الخ ، التي ترافقت مع تعمق الفجوات الاجتماعية ومظاهر الفقر المدقع بصورة غير مسبوقة فيها .
وفي ظل هذه الأوضاع المتدهورة الناتجة عن أزمة التطور الاجتماعي وأزمة القيادة في بلدان العالم الثالث عموماً التي أدت بها إلى مزيد من الإلحاق و التبعية في علاقتها بالشروط الرأسمالية الجديدة ، كان لا بد لاستراتيجية رأس المال المعولم ، انسجاماً مع نزوعه الدائم نحو التوسع والامتداد ، أن تسعى الى إخضاع الجميع لمقتضيات مشروع الهيمنة الأمريكي المعولم ، وهي استراتيجية تستهدف هدفين اثنين متكاملين هما “تعميق العولمة الاقتصادية ، أي سيادة السوق عالميا ، وتدمير قدرة الدول والقوميات والشعوب على المقاومة السياسية” ، هذا هو جوهر الإمبريالية في طورها المعولم في القرن الحادي والعشرين ، وبالتالي فإننا نرى أن الوضع الراهن ليس نظاما دوليا جديدا ، وإنما هو امتداد لجوهر العملية الرأسمالية القائم على التوسع والامتداد بدواعي القوة والاكراه ، وهو أيضا استمرار للصراع في ظروف دولية لم يعد لتوازن القوى فيها أي دور أو مكانة ، ولذلك كان من الطبيعي أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية ، باعتبارها القوة الوحيدة المهيمنة في هذه الحقبة ، بملء الفراغ الناجم عن انهيار التوازنات الدولية السابقة.
وبنشوء هذا الفراغ السياسي والاقتصادي والأيديولوجي ، أصبحت الطريق ممهدة أمام التوسع الرأسمالي صوب المزيد من السيطرة عبر طوره الإمبريالي المعولم، كشكل أخير من تطور النظام الرأسمالي ، مما دفع به الى الكشف عن مخططاته المبيتة أو الكامنة للوصول بالتوترات والتناقضات الدولية الى أقصاها ، عبر المواجهة المباشرة ، مستخدما كافة أساليب الضغط والإكراه ، بالقوة العسكرية أو بالإخضاع والمزيد من التبعية والإلحاق لضمان استمرار سيطرته على كافة الموارد المادية الأساسية ، من احتياطات النفط والماء الى الأسواق والمنتجات الصناعية والزراعية، ووضع الحدود والضوابط الإكراهية لحركتها ، بما يضمن مصالح الشرائح العليا البيروقراطية والطفيلية والكومبرادورية في أنظمة البلدان الفقيرة التابعة من جهة ، وبما يؤدي الى إعاقة نمو هذه البلدان وتدمير اقتصادها وانتشار المزيد من أشكال التخلف والفقر والجهل، وتعمق الأزمات السياسية والطائفية والدينية فيها من جهة أخرى ، ففي ضوء وضوح هذه المخططات خلال العقود الثلاثة الماضية تتكشف الطبيعة المتوحشة للرأسمالية المعولمة اليوم على حقيقتها عبر ممارساتها البشعة ضد شعوب العالم الفقيرة ، وضد القيم الإنسانية الكبرى في العدالة الاجتماعية والمساواة ، كما في الثقافة والفكر والحضارة ، وذلك بالاستناد الى المؤسسات الدولية التي تكرست لخدمة النظام الرأسمالي في طوره الإمبريالي الراهن ، وهي :-
1- صندوق النقد الدولي الذي يشرف على إدارة النظام النقدي العالمي ويقوم بوضع سياساته وقواعده الأساسية ، وذلك بالتنسيق الكامل مع البنك الدولي ، سواء في تطبيق برامج الخصخصة والتكيف الهيكلي أو في إدارة القروض والفوائد والإشراف على فتح أسواق البلدان النامية أمام حركة بضائع ورؤوس أموال بلدان المراكز الصناعية .
2- منظمة التجارة العالمية WTO التي تقوم الآن بالإشراف على إدارة النظام التجاري العالمي الهادف الى تحرير التجارة الدولية وإزالة العوائق الجمركية ، وتأمين حرية السوق وتنقل البضائع في مدى زمني لا يتجاوز نهاية عام 2006.
3- الشركات المتعددة الجنسية التي باتت تملك أصولاً رأسمالية تزيد عن ( 36 ) ترليون دولار وهو ما يقارب إجمالي الناتج المحلي لجميع دول العالم في كوكبنا، وفي هذا الجانب نشير الى أن السلطة الاقتصادية لهذه الشركات العالمية تتركز بصورة كبيرة في مؤسسات أمريكية وأوروبية كما تؤكد المعلومات المستقاه من جريدة فاينانشال تايمز في يناير 1999 إنه من ضمن 500 من أكبر الشركات 244 منها من أمريكا الشمالية و 173 أوروبية و46 يابانية. أي بعبارة أخرى 83% من أهم المنشآت التي تتحكم في التجارة والإنتاج العالمي هي أمريكية شمالية وأوروبية.ويغدو تركز السلطة مذهلاً إذا تأملنا الـ25 شركة الأكبر في العالم ( تلك التي يفوق رأسمالها 86 ألف مليون دولار ) : أكثر من 70 % منها أمريكية شمالية و26% أوروبية و4% يابانية . ما يعني انه اذا كانت الشركات المتعددة الجنسية تتحكم في الاقتصاد العالمي فإن الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة المسيطرة راهنا . ما يؤكد على أن مقولة او فكرة أن العولمة تخلق عالماً مترابطاً خاطئة إلى ابعد الحدود .
القسم الثالث: حركة التجارة الدولية في ظل العولمة وانعكاسها على الدول النامية
وفي ضوء هذه السياسات والشروط المحددة من قبل الصندوق والبنك الدّوليّين من جهة ، ومنظمة التجارة الدولية والشركات المتعددة الجنسية من جهة ثانية ، أصبحت السياسة التجارية للدول المستقلة ، ولأول مرة في التاريخ الاقتصادي للأمم شأنا دوليا أو معولماً ، وليس عملا من أعمال السيادة الوطنية أو القومية الخالصة … فعلى النقيض من كل ما كتبه مفكرو العولمة ، المدافعون عن إجراءات الخصخصة والليبرالية وتحرير التجارة العالمية ، وآثارها الإيجابية على الدول النامية ، فإن النتائج الناجمة عن اندماج البلدان النامية في هذه الإجراءات تشير الى عدد من الحقائق :-
1- بالرغم من ارتفاع حجم التجارة الدولية الى 9.2 تريليون دولار عام 2003 (وهي اليوم في منتصف عام 2006 تقدر بحوالي 10 تريليون دولار سنويا) ، فقد ظل نصيب مجموعة البلاد النامية من التجارة العالمية ثابتا خلال العقود الثلاثة الماضية حول 18% بما في ذلك نصيب الدول المصدرة للنفط ، رغم أن سكان هذه المجموعة من البلاد يشكلون 75% من إجمالي سكان العالم .
2- بالرغم من أن دعاة العولمة والتحرير المالي والتجاري كانوا يزعمون أن البلاد النامية سوف تستفيد من تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة ، إلا أن ذلك لم يحدث ، فقد تبين في العقدين الماضيين أن أكثر من 90% من حركة الاستثمارات الأجنبية المباشرة تذهب أساسا الى البلدان المتقدمة (الولايات المتحدة-أوروبا-اليابان والصين) . أما بقية البلاد النامية فقد حصلت على أقل من 10% من تلك الحركة ، وفي هذا السياق تشير البيانات الخاصة بالاستثمارات العالمية إلى أنها بلغت عام 2000 ( 1393 ) مليار دولار وقد تراجعت بنسبة 40% عام 2001 على أثر أحداث 11 سبتمبر، وهذه الاستثمارات تركزت بنسبة 90% منها في الدول الصناعية، حيث لم تتجاوز قيمة الاستثمارات الأجنبية التي تدفقت الى الدول النامية 162.1 مليار دولار عام 2002 لم تزد عن حدود هذا الرقم حتى عام 2005 .
3- “ارتفع إجمالي رصيد ديون البلدان النامية بشكل دراماتيكي في العقد الماضي من 603.3 مليار دولار عام 1980 ، الى 2172 مليار دولار عام 1997، ووصلت الى ما يقارب من 2.5 تريليون دولار عام 2004، ومع نمو حجم هذه الديون ارتفعت أسعار الفائدة ومعدل خدمة الدين الذي وصل في بعض هذه البلدان الى ما يزيد عن 100%” .
4-إن عولمة الأسواق المالية وما انطوت عليه من إجراءات للتحرير المالي، كانت ذات آثار هامة وخطيرة على البلاد النامية ، فقد أدت الى إلغاء الحظر على المعاملات التي يشملها حساب رأس المال والحسابات المالية لميزان المدفوعات … وكذلك فإن هذه الإجراءات عرضت الجهاز المصرفي للأزمات، ولتدفق الأموال القذرة (غسيل الأموال) ، وتعرض البلد لهجمات المضاربين، والى إضعاف السيادة الوطنية في مجال السياسة المالية والنقدية ، وشجعت على هروب واسع لرؤوس الأموال الوطنية للخارج .
5- تراجعت مساهمة الدول النامية ( 146 دولة ) في الناتج المحلي العالمي (البالغ كما في نهاية 2004 [36] تريليون دولار) الى 29 % في مقابل 71% للدول المتقدمة (الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي واليابان)، أما فيما يتعلق في مساهمة دول الشرق الأوسط قد شاركت بحوالي 2% من إجمالي الناتج المحلي العالمي . (انظر جدول الناتج المحلي العالمي) .
يتضح فيما تقدم، أن “البلاد النامية تعاني من وضع غير متكافئ لها في الاقتصاد العالمي، وأن هذا الوضع يتدهور فترة بعد أخرى تحت تأثير سرعة اندفاع قطار العولمة والتحرر المتسارع لاقتصاديات هذه البلاد وإدماجها في الاقتصاد العالمي وإن هذا الدمج والتحول المفاجئ والالتزام المبكر بقواعد العولمة والليبرالية والتحرير الاقتصادي كانت له نتائج سلبية ، وأحيانا مدمرة على اقتصاد البلدان النامية، حيث وضعت الكثير من العقبات في وجه تنميتها، وأفقدتها القدرة على حماية صناعاتها الوطنية ، وأدت الى ارتفاع تكلفة المعرفة والتكنولوجيا ، وتعرضها الى المنافسة غير المتكافئة مع الواردات الأجنبية، واحتمال استيلاء الشركات العملاقة المتعددة الجنسية على المشروعات الوطنية والمجالات الأساسية، مما سيدفع، وذلك هو الأخطر، الى تقليص قدرة البلاد النامية على صياغة وتصميم سياساتها التنموية والتجارية (وغيرها من السياسات) بعد أن انتقلت عملية صنع الكثير من القرارات من مستواها الوطني الى منظمة التجارة العالمية” .
إن هذه التطورات والتراكمات السالبة ، ستؤدي في تقديرنا ، الى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية ، وتزايد مساحات الفقر والبطالة والتناقضات الداخلية بكل أنواعها ، في كل بلدان العالم عموما ، وفي البلدان الإفريقية والآسيوية وأمريكا اللاتينية خصوصا ، وبوتائر عالية لم تشهدها هذه البلدان من قبل ، حيث ستتعاظم الثروات في مقابل تعاظم الفقر واتساعه ، وما ستنتجه هذه الفجوات العميقة من شعور عام لدى هذه الشعوب الفقيرة ، من خوف كبير على مستقبلها ، نتيجة فقدانها القدرة على التحكم والسيطرة على مقدراتها في الظروف الراهنة ، بعد أن فقدت كل مكتسباتها –ضمن الحد الأدنى- التي حصلت عليها تلك الشعوب عبر نضالها في مرحلة الاستقلال وحتى نهاية الستينيات من القرن الماضي ، مما سيدفع بها –دفاعا عن مصالحها الوطنية والمطللبية معا- الى الانتقال من الطابع العفوي لرفضها ، نحو الطابع المنظم ، لكي تمارس عملية التغيير والتجاوز لأنظمتها ، وكسر حلقات التبعية والتخلف في بلادها ، مقدمة لتغيير جوهري في البنية الداخلية لمجتمعاتها ، ستدفع بدورها الى تغيير جوهري أيضا في بنية العلاقات الإقليمية والدولية مؤذنة بعصر جديد من الثنائية أو التعددية في هذا الكوكب ، إذ أن توحش الرأسمالية المعولمة وآثارها على البلدان النامية عبر ممارساتها البشعة ضد مصالح شعوب هذه البلدان ، سيدفع بهذه الشعوب عبر طلائعها المنظمة من المثقفين والرواد والجماهير الشعبية ، الى الإعلان بكل صراحة ووضوح ، بأنه لو لم تكن هناك اشتراكية ، فسيحرص الجميع على السعي لإيجادها والإيمان بنظريتها وبلورة نظامها من أجل العدالة الاجتماعية والديمقراطية ، وتثبيته وحمايته كنتيجة منطقية لظروف الحرمان والذل والاضطهاد والفقر والمرض والمعاناة بكل ألوانها التي تتعرض لها شعوب العالم الفقيرة في ظل العولمة وأدواتها الإمبريالية .
وفي هذا السياق ، فإننا ندرك ، أيضا ، أن عملية التغيير لتجاوز وكسر السيطرة الأمريكية الأحادية لن تتوقف فحسب على بلدان العالم الثالث ، رغم اعتبارنا لهذه البلدان الحلقة المركزية في العملية التغييرية المطلوبة على الصعيد الإقليمي والعالمي ، بل ستمتد عبر أشكال متعددة ، الى البلدان الصناعية المتقدمة في أوروبا واليابان وروسيا ، وبلدان اسكندنافيا والصين وبلدان ما يسمى بالنمور الآسيوية ، وذلك عبر تحولات لن تأخذ طابعا راديكاليا شعبيا أو طبقيا ضد الرأسمالية من حيث المبدأ ، ولكنها بالضرورة ستتخذ موقفا معارضا لجوهر الليبرالية الجديدة وممارساتها الضارة بل والمتوحشة ، سواء على صعيد المكتسبات الداخلية للشرائح الشعبية الفقيرة في هذه البلدان من جهة ، أو على الصعيد الاقتصادي والسياسي الدولي العام، في مواجهة العنجهية والتفرد الأمريكي بمقدرات العالم الذي لا يأخذ بالاعتبار الدور الأوروبي والآسيوي، كشريك حقيقي في العلاقات الدولية الراهنة ، ولذلك لم يكن مستغربا ذلك التحول البسيط لدى الناخب الأوروبي الذي أطاح بالأحزاب اليمينية في ألمانيا ، وبريطانيا ، وفرنسا ، وإيطاليا ، وإسبانيا ، وغيرها من الدول الأوروبية ، ليحل محلها في الحكم ، الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية ، وهو تحول له مدلولاته بالرغم من عدم جذريته ، يؤكد على ذلك عودة بعض الاحزاب اليمينية إلى السلطة كما جرى في ألمانيا نهاية عام 2005،وفي ايطاليا قبل أربعة أعوام، ثم سقوط “برلسكوني” وصعود الاشتراكيين في نيسان 2006 ، فهو اذن ليس تحولا جوهريا ، ولكنه تعبير عن عدم الرضا عن سياسات الليبرالية الجديدة التي دعت الى إلغاء دور الدولة في الاقتصاد ، وإلغاء القطاع العام ، وتخفيض بعض أوجه الدعم المخصصة للشرائح الفقيرة .
إننا ندرك، انتهازية هذه الأحزاب بالنسبة للموقف الجوهري من الاشتراكية –الديمقراطية ، كما ندرك مواقفها اليمينية تجاه القضايا الأساسية التحررية الوطنية والقومية لشعوب العالم عموما ، ولشعبنا العربي الفلسطيني خصوصا ، في صراعنا مع العدو الصهيوني ، حيث لم يرتَقِ الموقف الأوروبي الى مستوى التعارض الجدي مع السياسة الأمريكية-الإسرائيلية في هذا الجانب ، بالرغم من عدم تطابق الموقفين والاختلاف النسبي بينهما ، وهي أشكال تعارضية تعبر عن حجم الخلاف غير الجوهري –في معظمه- بين السياستين الأوروبية والأمريكية ، ولكنها بالمقابل ليست تعارضات شكلية أو بعيدة عن الواقع الأوروبي الذي يتطلع الى دور ذاتي محدد ، يهدف الوصول بالاتحاد الأوروبي الى شكل أرقى تحت مظلة المجموعة الإقليمية الموحدة ، سعيا منه للحصول على دور أكبر في المصالح والسياسات الاقتصادية والتبادل التجاري من جهة ، ودور سياسي أكثر تأثيرا في العلاقات الدولية الراهنة ، وهو أمر نعتقد أن أغلبية الدول الأوروبية تتطلع دائما الى إبرازه للمشاركة في قيادة العالم بصورة ندية على حساب الأحادية الأمريكية ، ودون أي تناقض رئيسي ومباشر معها ، وهو تطلع مشروع وممكن ومطلوب –أوروبيا- في آن واحد ، خاصة وأن دول الاتحاد الأوروبي تدرك أهمية دورها ، خاصة بعد انتهاء مرحلة الحرب الباردة ، بغض النظر عن خضوعها أو معارضتها الشكلية أو توافقها بهذه الدرجة أو تلك مع السياسات الأمريكية راهنا ، وهو دور لن يتحقق بدون مشاركتها الفعلية في إدارة العالم وصنع العلاقات الدولية الجديدة ، تأمينا لمصالحها ودورها المستقبلي كشريك امبريالي الطابع، طالما بقيت أقطار العالم الثالث على ما هي عليه من تبعية وخضوع، دون أن تتجاوز السياسات “المعتدلة” للأحزاب “الاشتراكية الديمقراطية”، كما عبر عنها المفكر البريطاني “انتوني جيدنجز” في كتابه الطريق الثالث كحل وسط بين “التطرف الليبرالي وتوحش العولمة من جهة والتطرف الاشتراكي” من جهة أخرى.
القسم الرابع: العلاقات الأمريكية –الأوروبية والأسيوية:
إن سعي أوروبا الى تفعيل الوحدة السياسية عبر البرلمان الأوروبي ، والوحدة الاقتصادية عبر النقد الموحد (اليورو) ، وتنشيط السوق الأوروبية المشتركة التي تضم حاليا أكثر من 25 دولة ويتم توسيعها الآن ، ليس سوى تعبير وتجسيد لتطلعها عبر هذا التجمع الإقليمي الاقتصادي الكبير لتثبيت دورها وحماية مصالحها، من أية مخاطر محتملة تنتج عن الأحادية الأمريكية المهيمنة من ناحية، ولتكريس دورها كقطب رئيسي مواز للولايات المتحدة على قاعدة ثنائية التحكم بالعالم من ناحية ثانية.
إن هذه التطلعات الأوروبية تتعارض بالضرورة مع الإستراتيجية الأمريكية الراهنة تجاه ما يعرف بـ”الاوراسيا” ، وهي استراتيجية حددت لنفسها هدفا مركزيا أوليا هو كما يقول د.سمير أمين “منع الوحدة الأوروبية ، والأوروآسيوية ، ويعني ذلك بصورة ملموسة وقف التقارب الأوروبي الغربي ، والروسي الصيني ، ذلك هو الكابوس الأمريكي ، إذ لا يمكن الدفاع عن “الجزيرة” الأمريكية إلا إذا بقيت أورآسيا منقسمة الى أنظمة متنافسة. إن الولايات المتحدة ترغب في بناء عالم رأسمالي مندمج ، لكي تبسط هيمنتها بلا حدود على هذا العالم ، لا أن يقاسمها إياه أوروبيون ما زالوا يحتفظون ببعض وسائل هيمنتهم الخاصة هنا وهناك” ، وفي هذا الجانب فإن من المفيد التذكير بكتاب “زبجينيو بريجنسكي” الصادر عام 1998 بعنوان “رقعة الشطرنج” الضخمة “the grand chess board” بما يعني خريطة الصراع العالمي، وفي هذا الكتاب يقوم “بريجنسكي” بإعادة بلورة الفكر الاستراتيجي الأمريكي تجاه الأوراسيا بما يتفق مع المعطيات الجديدة التي نشأت عن تفكك الاتحاد السوفيتي، حيث يؤكد أن الساسة الأمريكيين عليهم أن يتوقعوا تماما -كما في لعبة الشطرنج- تحركات مضادة من جانب دول أوراسية.
وبالتالي فإن الولايات المتحدة إذا أرادت أن تعوق عملية بناء قوة روسيا كلاعب استراتيجي مؤثر في سياسات الأوراسيا, فإن عليها أن تعمل بكل قوة علي حرمان روسيا من ثلاث دول ركائز هي: أوكرانيا, أوزبكستان, أذربيجان، أما بالنسبة لما يجب أن تفعله الولايات المتحدة تجاه أوروبا –وفق هذه الاستراتيجية- يقول بريجنسكي بالنص إن توسيع أوروبا وحلف الناتو هو مما يخدم أهداف السياسة الأمريكية علي المديين القصير و الطويل. إذ إن أوروبا أكثر اتساعا هو أمر يزيد من طائلة النفوذ الأمريكي. فقبول أعضاء جدد من وسط أوروبا هو من جانب، سوف يزيد من عدد الدول المؤيدة لأمريكا داخل المجالس الأوروبية, ومن جانب آخر سوف يحول دون بناء أوروبي متماسك سياسيا بالقدر الذي يصبح فيه منافسا حقيقيا للولايات المتحدة في بعض المناطق التي لدي الاتحاد الأوروبي مصالح مهمة فيها كالشرق الأوسط .
على أي حال ، ومهما كانت درجة اتفاقنا أو اختلافنا مع تحليل “بريجنسكي” للعلاقة الأوروبية الامريكية، فإننا نؤكد على حقيقة تتجلى في أن التعارضات الاوروبية/الأمريكية مهما اتسعت مساحتها، فإنها لن تتحول الى شكل من اشكال التناقض التناحري الحاد بينهما في هذه المرحلة، وذلك لكونهما معا، أوروبا والولايات المتحدة، يشكلان رأس الهرم في النظام الرأسمالي العالمي رغم تفوق النظام الامريكي الواضح راهنا، بل وهيمنته واستفراده المتوحش بمقدرات شعوب العالم الثالث عموماً، وبلدان وطننا العربي خصوصاً، رغم إدراكنا إلى أن تطبيقات مفهوم المركز الرأسمالي في اطار الصراع العالمي المحتدم بين دول المركز التي تمثل 15% من مجموع دول الكوكب، وبين بقية دول العالم في الأطراف تحتم نوعا من التفاهم (الأوروبي –الأمريكي) الاختياري والمصلحي في معظم الأحيان، وتفاهما اكراهيا في بعض الأحيان الأخرى وفق موازين القوى بينهما ، كمركزين رئيسيين يتحكمان في مقدرات هذا الكوكب، وقد أثبتت الأحداث منذ 11 سبتمبر 2001 الى غزو افغانستان واحتلال العراق ومحاولات الولايات المتحدة تفعيل سيطرتها على هذا الكوكب، الى جانب التأييد المباشر والصريح للعدوان الصهيوني على شعبنا ومحاولاته فرض “خارطة الطريق” و”خطة شارون/أولمرت”، وأخيراً الهجوم البربري الصهيوني (تموز 2006) ضد لبنان العربي وطليعته المقاومة الوطنية بقيادة “حزب الله”، نلاحظ مدى التوافق الأوروبي العام مع تلك السياسات والمواقف الأمريكية في العالم عموما، وتجاه العراق وفلسطين ولبنان خصوصا، يؤكد على ذلك أن دول الاتحاد الأوروبي لم تجرؤ أن تبادر بالدعوة الى عقد المؤتمر الدولي وفق “خارطة الطريق” على أثر تطبيق ما يسمى بالانسحاب من قطاع غزة، والتزمت بالموقف الامريكي/الصهيوني الرافض لكل قرارات الشرعية الدولية والحقوق الفلسطينية. المسألة الأخرى فيما يتعلق بالصراع على النفوذ في الأوراسيا، ترتبط بهدف الولايات المتحدة الذي ينبغي –كما يقول بريجنسكي- ان يكون دائما هو الحفاظ على التعدديات الجيوسياسية في الأوراسيا بكل ما تعنيه من خصوصيات ثقافية وخطوط تماس عقائدي, فالحفاظ علي هذه التعدديات -كما يقول بريجنسكي- يمنع نشوء تحالف كيانات معادية للولايات المتحدة. من جانب آخر, فإن على الولايات المتحدة أن تبحث عن شركاء استراتيجيين يساعدونها في بناء نظام أمني أوراسي-أطلنطي. وعلي المدى الطويل أي ما يزيد عن عشرين عاما, فإن على الولايات المتحدة بأن تكون مستعدة لتقبل المشاركة في المسئولية والقرار فيما يتعلق بنظام أمني أوراسي-أطلنطي، وهو اعتراف ضمني من بريجنسكي بأن الأوراسيا سوف تشهد في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين نشوء الأقطاب الجدد للنظام العالمي. وهو ما يفسر هذا الانتشار الأمريكي الاستراتيجي الواسع النطاق من خلال عدد كبير من القواعد العسكرية في أوروبا وآسيا الوسطي رغم انهيار الاتحاد السوفيتي! وما من تفسير لهذا الانتشار الأمريكي الواسع في الأوراسيا -كما يقول د.خالد عبد العظيم- (مجلة السياسة الدولية) سوى الاستباق لما هو قادم، ومع موافقتنا على تحليل د.عبد العظيم، الا أننا نرى أن تحليلات بريجنسكي انبنت على قاعدة الاستقرار والنمو الدائم، اذا صح التعبير، لنظام العولمة الراهن، دونما ان يضع “بريجنسكي” في الاعتبار (وهذا من طبيعة المفكرين الرأسماليين) عوامل الصراع المتراكمة وتفجرها في لحظة معينة من التطور اللامتكافئ بين الشعوب المضطهدة من جهة وبين المراكز الرأسمالية من جهة ثانية، ذلك أن حقائق الحياة في وضعها الراهن، وكذلك في مسارها المستقبلي تؤكد على أن هذه الهيمنة الامبراطورية الأمريكية/الأوروبية لن يقدر لها الاستمرار والتواصل، ما يؤكد على ذلك، النهوض المتدرج والعميق في مجابهة العولمة الرأسمالية خاصة في أمريكا اللاتينية، وصعود الحركات اليسارية في العديد من دولها من ناحية وشدة تعمق مظاهر البطالة والافقار في البلدان الفقيرة في بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، مع تزايد شدة وبشاعة الانقسام والصراع الطبقي على قاعدة العداء لنظام العولمة الامبريالي وعملائه، ما يجعل من توفر الظروف الموضوعية لمجابهة العولمة أمرا رئيسا على جدول أعمال الحركات الوطنية والقومية اليسارية الثورية في هذا العالم.
أما بالنسبة لدور روسيا والعديد من بلدان أوروبا الشرقية الاشتراكية السابقة التي تسعى اليوم الى إثبات وجودها في هذا العالم المضطرب المحكوم بالأحادية الأمريكية ، خاصة بعد أن عاشت شعوب هذا البلدان أشكالا من المعاناة والحرمان والبؤس في ظل ديمقراطية الليبرالية الجديدة و السوق الحر، فإننا نعتقد أن شعوب هذه البلدان، خاصة الطبقات المتضررة، ستندفع مجدداً للمطالبة بالعودة إلى النظام الاشتراكي في صيغته الجديدة المتطورة، خاصة وأن روسيا لن تستطيع في الظروف الراهنة اللحاق بشروط التطور الاقتصادي والتكنولوجي عبر آليات الرأسمالية ، فذلك أمر لن تسمح به المراكز الرأسمالية المعولمة ، وبالتالي لا مناص أمامها من العودة الى آليات النظام الاشتراكي كمدخل وحيد لاستعادة دورها وتطورها وإثبات وجودها في هذا الكوكب .
المسألة الثانية في هذا الجانب ،فإننا نعتقد، أن الدولة الروسية لا يمكن أن تتخلى عن وعيها المستمر بدورها الكبير و المتميز تاريخياً في إدارة هذا العالم مستذكرة دائماً تراثها القديم ، سواء عبر روسيا “بطرس الأكبر” ، أو تراثها الحديث عبر روسيا “لينين” أو الاتحاد السوفيتي ، و ذلك وفق مفهوم مصالح الدولة الروسية و ليس وفق مفهوم الإمبراطورية الغابر ، و بالتالي يخطئ كثيراً من يتصور أن هذا العملاق النووي الذي يملك إمكانات اقتصادية هائلة ، سيظل صامتاً على كل ما يجري فيه أو من حوله ، و خاصة تلك المتغيرات المتسارعة و الخطيرة في صلب العلاقات الدولية ، و لكن ذلك كله مرهون بالتغيير الجذري للواقع الروسي الراهن الذي يتعرض اليوم لأوضاع اقتصادية-اجتماعية داخلية أكثر سوءا من تلك العوامل الداخلية –البيروقراطية و الطفيلية الضارة التي أوصلت الاتحاد السوفيتي عبر تراكماتها السالبة إلى حد القطع أو نقطة اللاعودة أو الانهيار ، و بالمقابل فإن ما نتابعه اليوم من تراجعات متسارعة في بنية الدولة الروسية ، الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية في إطار هيمنة البديل الرأسمالي المحكوم بسياسات المافيا و الاحتكارات الاقتصادية ، و تراجع الناتج القومي الإجمالي من أكثر من (2) تريليون دولار إلى 432.9 مليار دولار فقط عام 2004 حسب تقرير التنمية الصادر عن البنك الدولي عام 2005 ، سيؤدي كل ذلك إلى مزيد من إضعاف الدور الروسي ، ليس فقط على المستوى الدولي كما جرى بعد انهيار حلف وارسو ، و إنما على المستوى الإقليمي أيضاً بما سيؤخر إعادة إحياء ذلك الدور على الصعيد العالمي دون أن تستطيع كل هذه العوامل إلغاء ذلك الدور ، إن لم تكن حافزاً لتوليده .
بعد كل ما تقدم ، نأتي الى الحديث عن الدور الآسيوي الذي يبرز بقوة اليوم على الصعيد العالمي ، في كل المجالات الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية أو ثورة العلم والمعلومات ، وخاصة في كل من الصين واليابان كعملاقين يسعى كل منهما الى تحقيق دور مركزي في العلاقات الدولية الراهنة والمستقبلية .
فالصين الشعبية هي الدولة الأولى من حيث عدد السكان (22% من سكان العالم) ، وتشير كافة المصادر الى أنها تقترب وبشكل سريع من الوصول الى قمة قائمة أكبر الدول الصناعية في العالم ، فالاقتصاد الصيني –بشهادة العديد من الخبراء- هو الاقتصاد الأسرع نموا في العالم خلال الخمسة عشر عاما الأخيرة ، ويقدر البعض أنه بعد عودة هونج كونج إليها ، فإن الاقتصاد الصيني سيصبح الاقتصاد الثالث في العالم بعد الولايات المتحدة واليابان ، بل إنه من المتوقع مع حلول عام 2007 أن يرتفع الناتج القومي الصيني ليصل الى أكثر من 2 تريليون دولار حسب الخطة الصينية الهادفة الى مضاعفة الناتج القومي الإجمالي خلال هذه الفترة . وإذا استمر معدل النمو الحالي (حوالي 10% سنويا) فإن الاقتصاد الصيني سيصل إلى مستوى الاقتصاد الأمريكي بحلول عام 2020 ، وهو أمر تدركه الولايات المتحدة الأمريكية اليوم التي تعتبر الصين عدوا محتملا في المستقبل أكثر بما لا يقاس منه في الحاضر ، خاصة مع التطور في العلاقات السياسية الصينية الروسية ، وتوقيع معاهدة الصداقة المشتركة في تموز 2001 هي الأولى منذ أكثر من خمسين عاما ، والتي عبر عنها الرئيس الصيني السابق “جيانج زيمين” بقوله: “إن هذه المعاهدة تستهدف مواجهة الهيمنة الأمريكية على الساحة الدولية” ، وذلك انسجاما مع ما جاء في تقرير المؤتمر الخامس عشر للحزب الشيوعي الصيني (المنعقد عام 1999) الذي نص على أن “الحرب الباردة ما زالت موجودة ذهنيا ، والهيمنة وسياسات القوة تواصل أن تكون المصدر الرئيسي لتهديد السلام والاستقرار العالميين ، علينا أن نعارض الهيمنة ، ونحمي السلام العالمي ، وعلى حزبنا الشيوعي أن يساعد على فهم العالم ويعمل على تغييره ، ولذلك ينبغي على كل الحزب أن يولي الدراسة جلّ الاهتمام وأن يبدع فيها وأن يفتح نهوضا جديدا في دراسة الماركسية اللينينية وأفكار ماوتسي تونج ونظرية دنغ شياو بينج” ، وأضاف التقرير “إن نظام الدولة بالصين الذي يتميز بالدكتاتورية الديمقراطية الشعبية ونظام حكومتها المتميز بمجلس نواب الشعب هما ثمرة النضالات التي خاضها الشعب وخيار التاريخ ، ولا بد لنا من أن نتمسك بالنظام السياسي الأساسي ، ونحسنه بدلا من استنساخ أي نماذج غربية ، إن هذا يتصف بأهمية حاسمة في التمسك بقيادة الحزب والنظام الاشتراكي وتحقيق الديمقراطية الشعبية” .
إن التقدم الملموس ، على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي المدني والعسكري الذي أحرزته الصين الشعبية تحت قيادة الحزب الشيوعي ، أدخل الصين بقوة كشريك أساسي وقطب عالمي فعال كمحور رئيسي في النظام العالمي الراهن في القرن الحادي والعشرين ، سيكون له دورٌ رائدٌ ومميزٌ في تحديد شكل وطبيعة التعددية القطبية القادمة لا محالة ، خاصة وأن هذا الدور سيشكل مدخلا هاما لشعوب العالم الثالث التي ترى في الصين الشعبية الاشتراكية المحور الوحيد في التعددية القطبية القادمة القادر على أن يشكل تحديا حقيقيا للوجه البشع للعولمة الرأسمالية والهيمنة الأمريكية ، من أجل التحرر والعدالة الاجتماعية والاشتراكية والديمقراطية، لكن السؤال الذي لم تتبلور إجابته بوضوح حتى اللحظة: هل ستبقى الصين دولة اشتراكية حقاً في ظل اقتصاد السوق المتبع حالياً، أم أنها ستتحول تدريجياً إلى نظام رأسمالية الدولة تمهيداً لتحولها إلى دولة رأسمالية بمزايا صينية؟ إن هذه المخاوف أو الاحتمالات تستند إلى العديد من المؤشرات والمعطيات التي تؤكد عليها، علاوة على أن حديث القيادة الصينية (في الحزب والحكومة) عن تطبيق قوانين اقتصاد السوق منذ أواخر القرن الماضي، لا يمكن أن يستقيم مع قوانين الاقتصاد الاشتراكي ومناهجه التي بدأت في التراجع والانحسار لحساب القطاع الخاص الذي بات يسيطر على حوالي 60% من الاقتصاد الصيني في إطار الشركات المساهمة التي تجمع بين الرأسماليين وعمال المصانع، وفي كل الأحوال يظل المستقبل مرهوناً بمدى اتساع التناقضات بين القطاع الخاص الصيني من ناحية وبين الحزب الشيوعي وبرامجه من ناحية ثانية.
بالنسبة لليابان التي تحتل اليوم الموقع الثاني في العالم من حيث حجم الناتج القومي الإجمالي ، البالغ (4300) مليار دولار عام 2004 حسب تقرير التنمية الإنسانية (العالمي) لعام 2005 المشار إليه ، واليابان التي بلغ عدد سكانها كما في عام 2004 ، (128) مليون نسمة هي الدولة الثامنة من حيث مقدار دخل الفرد السنوي الذي يبلغ (33731) دولار ، بينما يبلغ دخل الفرد في الولايات المتحدة (37650) دولار وتأتي في المرتبة الخامسة حسب الجدول المبين ادناه:
جدول يوضح ترتيب دخل الفرد السنوي
لأعلى 25 دولة في العالم كما في عام 2004
الرقم الدولة دخل الفرد السنوي الرقم الدولة دخل الفرد السنوي
1 لوكسمبرج 59143 13 ايطاليا 25471
2 النرويج 48412 14 هونج كونج 22987
3 سويسرا 43553 15 سنغافورة 21492
4 ايرلندا 38487 16 أسبانيا 20404
5 الولايات المتحدة 37648 17 نيوزلندا 19847
6 أيسلندا 36377 18 إسرائيل 16500
7 الدنمارك 39332 19 اليونان 15608
8 اليابان 33731 20 قبرص 14786
9 النمسا 31289 21 البرتغال 14160
10 بريطانيا 30253 22 سلوفينيا 14000
11 فرنسا 29410 23 كوريا 12634
12 ألمانيا 29115 24 مالطا 12157
الجدول من إعداد الباحث بالاعتماد على جداول تقرير التنمية العالمي لعام 2005
رغم أن اليابان تأتي في المرتبة الثامنة من ناحية دخل الفرد السنوي، إلا أنها الدولة الأولى من حيث السيولة المالية ، وحجم الاستثمارات الخارجية ، وهي الأولى من حيث “الأصول الوطنية الثابتة التي تبلغ 43.7 تريليون دولار مقابل 36.2 تريليون دولار في الولايات المتحدة ، وهي الدولة الأولى في العالم بالنسبة لتصنيع منتجات الحديد والصلب (رغم أنها تفتقر للمواد الخام) ، وهي الأولى للمكننة الصناعية في العديد من المجالات” .
إن التراكم الاقتصادي وحجم التقدم النوعي والكمي التكنولوجي ، يؤهل اليابان لأن تصبح واحدة من الدول العظمى التي ستسهم في تحديد المعالم المستقبلية للنظام العالمي المعاصر، من حيث تحديد مراكزه وأقطابه أو تعدديته التي لم تتبلور بعد ، دون أن يعني ذلك الإسهام أن الدور الياباني سيشكل تناقضا مع سياسة الولايات المتحدة وتوجهاتها العالمية ، بل سينطلق من رؤيته للمصالح اليابانية والآسيوية الخاصة التي ستظل ترى في الولايات المتحدة حليفا استراتيجيا على صعيد رسم السياسات والعلاقات الدولية في إطار النظام الرأسمالي العالمي ، من موقع المشاركة والندية ، بالمعنى النسبي الذي يأخذ بعين الاعتبار خصوصية الوضع الياباني ودوره الآسيوي ، وهي علاقة تقترب من الرؤية الأوروبية وتتقاطع معها .
فاليابان اليوم ، تشكل نموذجا اقتصاديا لدول شرق وجنوب شرق آسيا بالذات ، وهي دول باتت تملك اليوم اقتصادا قويا رغم ما تعرضت له من أزمات –ساهمت فيها الولايات المتحدة بصورة مباشرة وغير مباشرة- ، حيث أثبتت أنها ليست فقاقيع مالية يمكن أن تنفجر وتتلاشى تجربتها بسهولة ويسر ، وهي بالتالي تجد في اليابان مثالا وملاذا في آن واحد ، ولذلك كان من الطبيعي أن يلتقوا جميعا في تكتل “الآسيان” المشار إليه سابقا ، إثباتا للقوة الاقتصادية من جهة ، وتمهيدا لدور سياسي آسيوي مركزي في العلاقات الدولية تكون الصين احد اهم اقطابه من جهة أخرى .
القسم الخامس: الوضع الدولي – رؤية مستقبلية
في كل الأحوال ، سيظل الوضع الدولي لفترة طويلة نسبيا ، قد تمتد حتى نهاية العقد الثاني من القرن الحالي ، مفتوحة على كل الاحتمالات ، ولكن من المؤكد في مواجهة كل ذلك ، أن هيمنة النظام الرأسمالي وأحاديته القطبية الراهنة ، ليست ولن تكون نهاية التاريخ كتجسيد لانتصار الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، ففي مقابل حقائق القوة ومقوماتها التي تعطي الانطباع على أن الولايات المتحدة تملك من عناصر القوة الاقتصادية والعسكرية والمعلوماتية وغيرها ، بما لا يجاريها أي اقتصاد آخر في هذا العالم ، إلا أن هناك وجه آخر للحقائق أو الوقائع الأمريكية التي تنمو وتتراكم بصورة سلبية، ستجعل وجه الولايات المتحدة الأمريكية في نظر شعوب العالم في بلدان الأطراف خصوصاً، أكثر بشاعة من وجه النازية في أحط درجاتها وممارستها، وذلك عبر سياسة “عولمة السلاح” وإرادة القوة الباغية التي تمارسها الولايات المتحدة ضد شعوب عالم الأطراف عموماً وفي بلداننا العربية خصوصاً عبر وكيلها الامبريالي الصغير دولة العدو الصهيوني التي تقوم في هذه المرحلة بممارسة أبشع أدوارها الوظيفية في خدمة المصالح والسياسات الامبريالية الأمريكية في بلادنا، يشهد على ذلك ما جرى ويجري في فلسطين ولبنان من قتل عنصري للطفولة والمرأة والشيوخ وتدمير منهجي للمدن والقرى والمخيمات، ليس بذريعة ضرب المقاومة الفلسطينية واللبنانية فحسب، بل لتنفيذ السياسات الأمريكية فيما يسمى بالشرق الأوسط الجديد. أما الصورة الأخرى لهذا الوجه الأمريكي البشع فهي تتجلى في حالة المد الثوري اليساري المتصاعد في أمريكا اللاتينية… فنزويلا شافيز وبوليفيا والبرازيل والبيرو، والعديد من دول هذه القارة السائرة في الحراك والتغيير الثوري النقيض لهيمنة الامبريالية الأمريكية ونظام العولمة الرأسمالي برمته، كما تتجلى أيضاً في داخل المجتمع الأمريكي عبر أزماته الاقتصادية والمجتمعية والأخلاقية المتراكمة، وهي أزمات تحمل من الدلالات والمعاني بما يتناقض مع صورته “الوردية” المرسومة –بشكل مبرمج- في أذهان الكثير من الليبراليين العرب أو الحالمين في هذا العالم ، المأخوذين بشكل الظاهرة فقط بعيدا عن مضامينها . فبالرغم من انتصارها في الحرب الباردة، “تبدو الولايات المتحدة اليوم وكأنها تخسر حاليا حرب البطالة والمخدرات والإنتاجية والتعليم، علاوة على تزايد أزمة الاقتصاد الأمريكي منذ عام 2000-2005 عبر جملة من المؤشرات :
1-حسب ميدل ايست اون لاين http://www.middle-east-online.com فقد أكد تقرير بنك الاحتياط الفدرالي عام 2001 على استمرار ضعف النمو في قطاعي الصناعة والتجارة مع اتجاه لمزيد من الخفض في اسعار الفائدة، كما “شكل افلاس كل من شركتي world com للاتصالات في يوليو 2000 التي بلغت ديونها 41 مليار دولار، وشركة انرون enron وهي أكبر شركة في قطاع الطاقة التي تجاوزت ايراداتها 100 مليار دولار في ديسمبر 2001، أكبر حالتي افلاس في تاريخ الولايات المتحدة، مما كشف طبيعة الأزمة الموجودة في مفهوم السلطة السياسية corporate governance، كما طال مسلسل الفضائح شركة “زيروكس zerox” العالمية التي تعد أكبر شركة لتقنيات التصوير في العالم، كما تعرضت مؤسسة “جي-بي مورجان تشيس” ثاني أكبر شركة مصرفية قابضة في الولايات المتحدة، وشركة “ميريل لينش” المالية، ومؤسسة “كلوبال كروسينج” و”أديلفيا للاتصالات” و”تشارتر للاتصالات” ثاني أكبر شركة كابل” ، اما “بالنسبة لأثر هذه الأزمة على الاقتصاد الأمريكي، فإن أغلب التقديرات تشير الى أن الخسائر قد طالت ما يزيد عن 80مليون من المستثمرين الأمريكيين قدر حجم خسارتهم نحو 8.6 تريليون دولار” .
2- من واقع قراءة الأرقام والبيانات الاقتصادية الهامة التي يوردها د.عبد الخالق عبد الله في دراسته المشار إليها ، فإن الولايات المتحدة تستهلك أكثر مما تنتج ، وتستورد أكثر مما تصدر ، وخلال السنوات الماضية سجلت الولايات المتحدة –كما اشرنا من قبل- أعلى حالات الإفلاس في كل تاريخها المعاصر ، (أكثر من (700) ألف حالة إفلاس) ، كذلك أخذت الولايات المتحدة تعاني من أكبر عجز مالي في العالم تجاوز 400 مليار دولار ، أما إجمالي ديونها فإنه قد تجاوز كل الأرقام القياسية بعد أن أصبح يزيد عن ثلاثة آلاف مليار دولار ، أي أكثر من 1.5 ضعف إجمالي الديون المترتبة على كل الدول الأخرى في العالم ، الى جانب أكثر من (10) مليون شخص عاطل عن العمل (8% من القوة العاملة) ، كما تراجعت الولايات المتحدة الى الدولة رقم (13) من حيث الإنفاق على الصحة ، والدولة رقم (17) من حيث الإنفاق على التعليم ، ورقم (29) من حيث عدد العلماء والفنيين بالنسبة الى إجمالي السكان، حيث أن لديها (55) عالما وفنيا فقط لكل ألف نسمة مقابل (317) عالما وفنيا لكل ألف نسمة في اليابان ، وبالنسبة لاستهلاك المخدرات والكحول فإن الولايات المتحدة هي الأولى في العالم في هذا المجال ، حيث أنها تستهلك 80% من إجمالي المخدرات في العالم ، وهي من أعلى الدول في العالم بالنسبة لحالات التفكك الأسري والعنف والاغتصاب والقتل، حيث أصبح 50% من الشعب الأمريكي يتعرض لشكل من أشكال الإجرام ، ونسبة 21% من كل النساء يتعرضن للاغتصاب .
3- لقد بات من الواضح أن الاقتصاد الأميركي في السنوات الأخيرة يعاني عدة صعوبات من بينها الركود، فقد وصل عجز الموازنة الأميركية في العقد الأخير من القرن الماضي إلى ما يناهز 350 ملياراً وبلغ حجم الديون الخارجية 3.5 تريليون دولار، وزادت ديون الأفراد بنسبة 12 في المئة، في حين لم يرتفع دخل الفرد إلا بنسبة 7 في المئة، كما ارتفعت معدلات البطالة إلى 8 بالمئة. وخلال فترة التسعينيات هبطت معدلات البيع في أسواق السيارات والعقارات هبوطاً حاداً, وأصبحت سرعة الإنتاجية تقل ثلاث مرات عن مثيلاتها في اليابان ومرتين عنها في أوروبا الغربية، هذا بالإضافة إلى التردي الذي تعرفه الخدمات الصحية والتعليمية، وتزايدت نسبة الإقصاء والتهميش في أوساط الفئات الفقيرة, وتراجعت نسبة العلميين والفنيين حسب تقرير التنمية البشرية في العالم، فهناك 55 فنياً وباحثاً لكل ألف من السكان الأميركيين مقابل 129 في كل من السويد وهولندا، و257 في كندا و317 في اليابان، وتشهد المدارس والجامعات الأميركية حالات من التدهور ، يبرزها تراجع طلابها أمام الطلاب الأجانب وخاصة في مجال الرياضيات والكيمياء وعلوم الحاسب الآلي. وحسب “ايمانويل تود” صاحب كتاب: (ما بعد الإمبراطورية، دراسة في تفكك النظام الامريكي) الذي يتنبأ بانهيار الولايات المتحدة الأميركية، وهو كان سبق وتنبأ بتفكك الاتحاد السوفيتي قبل عشر سنوات من انهياره، فإن أميركا بحاجة إلى 1.5 مليار دولار يومياً لتغطية العجز في ميزانها التجاري الذي قارب عام 2000 الـ 450 مليار دولار. وهو يعتبر أن أميركا عشية القرن الحادي والعشرين أصبحت غير قادرة على أن تعيش على إنتاجها وحده إذا شاءت الاحتفاظ بنفس مستوى المعيشة، ويتنبأ المؤلف الذي أثار كتابه ضجة, بأنه مع ازدياد قوة “أوراسيا” ستنخفض وتتوقف التدفقات المادية والمالية التي تغذي أميركا اليوم، مما سيجعل منها دولة مثل غيرها من الأمم.
4- الولايات المتحدة تعاني من عجز كبير في الموازنة يُقدَّر أن يصل إلى أكثر من ستمائة وخمسين مليار دولار في العام (2005) وربما يصل حتى سبعمائة مليار دولار ، وحسب ما يقول رجل الاقتصاد الأمريكي “وارن بافيت” (وهو ثاني أغنى رجل في أمريكا) فإن العجز المتوقع في الموازنة الأمريكية أو مجموع الديون الأمريكية سيصل عام 2015 إلى (11) تريليون دولار، وهذا يعني أن خزينة الولايات المتحدة ستتكبد فقط فوائد سنوية على هذه القروض تشكل حوالي خمسمائة وتسعين مليار دولار، ستكون عبء الفائدة التي ستتكبدها الخزينة الأمريكية، وقد حذر مدير مكتب الكونغرس في تصريحات نشرتها وكالة الأنباء الفرنسية في 6مارس 2004 إن العجز التجاري الأمريكي المتراكم قد يلامس 2600مليار دولار من الآن وحتى العام 2015 .
وفي هذا السياق يكشف “صموئيل هنتنغتون” ، صاحب نظرية صدام الحضارات ، الهاجس الديموغرافي الذي يخيف أميركا ويستشهد بإحصائية تقول أنه عام 2050 سيكون من بين السكان الأميركيين 23 بالمئة من أصول لاتينية و16 بالمئة سوداً و10 بالمئة آسيويين. ويعلق على هذه الإحصائية بالقول ، انه إذا نجحت الولايات المتحدة في السابق في استيعاب المهاجرين فلأنهم في الغالب كانوا أوروبيين، فهل ستنجح مستقبلاً عندما سيصبح 50 بالمئة من السكان لاتينيين أو غير بيض؟.
نعم الولايات المتحدة الأميركية هي الأولى في الإنفاق العسكري والرؤوس النووية والطائرات المقاتلة، إلاّ أنها الثامنة في متوسط عمر الفرد والثامنة عشرة في معدل وفيات الأطفال وأظهرت دراسات أكاديمية حديثة فيما يتعلق بالكسب والعمالة والتعليم والجريمة أن الولايات المتحدة تبدو وكأنها تتكون من أمتين بينهما تفاوت هائل ، وهي كذلك بالفعل ، بل ربما أسوأ بكثير .
لا يعني عرض ما تقدم التهوين من قدرات الولايات المتحدة الأميركية وقوتها، إلا أنه يعني بوضوح أن المشروع الإمبراطوري على المدى البعيد يقف على أرض اقتصادية واجتماعية رخوة, وهي تتجه يوماً بعد يوم لتصبح أكثر هشاشة .
وبالرغم من إدراكنا لطبيعة هذه المظاهر ، كسمة أساسية من سمات الرأسمالية التي يصفها ماركس بقوله “إن الرأسمالية تنزف دما من كل مساماتها” ، إلا أن أهميتها تكمن في أنها تعكس الواقع الداخلي للمجتمع الأمريكي، وتكشف بوضوح الوجه القبيح للرأسمالية التي لا يمكن ان تنمو وتتراكم بعيدا عن الانقسامات الطبقية الحادة ، والفجوات الهائلة بين من يمتلكون الثروة من جهة ، والمحرومين من جهة ثانية في إطار من الصراعات المباشرة وغير المباشرة ، المكشوفة أو الكامنة ، التي لن تتوقف عن الحركة والاستمرار بين من يملك ومن لا يملك ، بين المُستغلِّين والمستَغلين ، تلك هي حقائق الحياة المعبرة عن مسار التاريخ وحركته التي لا مستقر لها ، وهي حقائق تتناقض بصورة كلية ومطلقة مع كل أولئك الذين يتحدثون عن نهاية التاريخ أو سقوط الأيديولوجيا ، تعبيرا عن أكذوبة الانتصار النهائي للنظام الرأسمالي الامريكي وأيديولوجيته، بالرغم من هذا الانتشار الواسع له على معظم مساحة كوكبنا ، إذ أن هذا الانتشار عمَّق الى درجة كبيرة ، عملية الاستقطاب الآخذة في التصاعد ، وهو “استقطاب يتمثل في التضاد بين ثروة المراكز المتزايدة ، وفقر الأطراف المتفاقم ، خاصة وأن هذا الاستقطاب ليس ناتج ظروف خاصة بمختلف مناطق العالم –كما تدعي أيديولوجية الليبرالية الجديدة- بل هو ناتج عمل التوسع الرأسمالي في حد ذاته ، إذ ان هذا التوسع يقوم على عولمة سوق المنتجات ورؤوس الأموال دون أن يصاحبها اندماج أسواق العمل التي تظل متفتتة ومحبوسة في أطر السياسة القائمة ، ولذلك فإن التحدي الحقيقي بالنسبة لقوى اليسار العربي وقوى اليسار العالمي، ، يتلخص في مقولة واحدة مفادها ، ضرورة تجاوز حدود الرأسمالية من أجل ضمان بقاء الإنسانية ، فالخيار التاريخي الحقيقي قد أصبح كالآتي: إما ان تتيح النضالات الاجتماعية تجاوز منطق آليات وقوانين الرأسمالية ، وإما في غياب ذلك ، أن يؤدي فعل هذه الآليات الى انتحار جماعي للإنسانية وتدمير للكرة الأرضية” .
فبعد مرور ما يقرب من أربعة عقود على ولادة نظام العولمة، يتكشف اليوم، طبيعة التناقضات الملازمة للنظام الرأسمالي عموما، وتفجر هذه التناقضات في المشهد الراهن لعولمة السوق عبر عدد من المظاهر:
1-طغيان آليات السوق الحر المفتوح والمنفلت في جميع بلدان العالم، وما أدت اليه هذه الظاهرة من تراجع وتدمير للصناعة المحلية والمنتجات السلعية في بلدان العالم الثالث، حيث تتكشف لشعوب هذه البلدان حجم الويلات التي أفرزها تطبيق آليات السوق الحر التي أثبتت مجددا أنها اعادت انتاج التشوهات في النشاط الاقتصادي، من خلال تزايد حجم البطالة الثابتة (البنيوية) والبطالة المؤقتة، والتضخم وارتفاع الأسعار وثبات الأجور، وما يرافق ذلك من تزايد انتشار الفقر والفقر المدقع في اوساط الجماهير الكادحة، بحيث أصبحت هذه الاحوال المتردية السمة الرئيسة للعولمة الراهنة في تطبيقاتها على بلادنا وبلدان العالم الثالث، علاوة على تزايد انتشار السرقة والجريمة والمخدرات والدعارة والانهيار النفسي، جنبا إلى جنب مع اقتصاد الكومبرادور والمضاربة والمقامرة والطفيليين بكل أشكالهم.
2-التدهور الشديد والمتفاقم في المساوة الاجتماعية، بفعل الفجوة الهائلة في توزيع الثروات والدخل من ناحية والزيادة الكبيرة في نسبة الفقراء التي تزيد في بلادنا وبلدان العالم الثالث عن 70% من ناحية ثانية.
3-تطور الفقر وتفاوت الدخول عالميا واقليميا وقطريا بفعل العولمة الراهنة حيث اتسع الفقر افقيا ليشمل أوسع الفئات الوسطى، وينحدر بها إلى ما يقرب من خط الفقر .
4-التراجع المهني على الصعيد العالمي، عن نظام الخدمات الاجتماعية، بينما تتقدم التكنولوجيا وتنتشر بصورة هائلة غير مسبوقة، لتحقق انتاجية فائقة وارباحا اسطورية، والمفارقة هنا –كما يقول د.عصام الزعيم- “في العولمة، بينما تزيد الانتاجية وتتضاعف، تتقلص الخدمات الاجتماعية للفقراء العاطلين عن العمل وذوي الدخل المحدود”.
فالعولمة –كما يقول “اريك هوبسبوم ERIC HOBSBAWM – قد بلغت طوراً مستجداً على ثلاثة مستويات: هي الترابط والتكنولوجيا والسياسة ، فبادىء ذي بدء بتنا اليوم نعيش في عالم مترابط الى درجة أن العمليات الجارية يتعلق بعضها ببعض، وأن أي انقطاع قد يولد انعكاسات عالمية فورية”.
ثم أن “هناك هذه السلطة الفائقة لتكنولوجيا في حالة ثورة مستمرة، تفرض نفسها في المجال الاقتصادي كما في المجال العسكري بنوع خاص” .
وأخيراً ، -كما يستطرد هوبسبوم- فإن “السياسة في أيامنا هذه باتت تتسم بطابع على درجة من التعقيد. فعصرنا هذا لا يزال عصر الدول القومية، وهو العنصر الوحيد الذي يعوق سير نظام العولمة. لكن المقصود دولة ذات نمط خاص حيث الشعب العادي يلعب دوراً مهماً”.
ومع استمرار تراكمات التناقضات الداخلية للعولمة الامريكية الراهنة، يصبح سؤال اريك هوبسبوم مطروحا بقوة:
فهل أن امام هذه السياسة فرصة للنجاح؟ ويجيب بقوله : يبدو أن العالم هو على درجة من التعقيد بما لا يسمح بسيطرة دولة واحدة، ولا ننسينّ أن الولايات المتحدة وباستثناء التفوق العسكري، مرتهنة لموارد تنقص أو في طريقها الى النقصان. ومع أن اقتصادها عظيم الا ان الحيز الذي يحتله في الاقتصاد العالمي يتضاءل ، ولا بد من الاستنتاج أن الأميركيين خلال عامي 2002/2003 (الهجمة ضد أفغانستان والعراق)، قد ضحّوا بمعظم اوراق قوتهم السياسية، حتى وإن ظلوا يمسكون بالبعض منها ، ثم يضيف : “غير أن الميزة الرئيسة التي يملكونها في مشروعهم الامبراطوري تكمن في الناحية العسكرية. إن الهدف الأساسي –من الهجوم على أفغانستان والعراق- من العملية قام على استعراض القوة عالمياً، مما يعني أن السياسة التي تحدث عنها المتطرفون في واشنطن، ومنها إعادة صياغة شاملة لمجمل الشرق الأوسط، لم تكن ذات معنى. ونحن ندرك أنهم إذا كانوا يخططون جدياً لتغيير المعطيات في المنطقة فليس أمامهم الا أمر واحد يقومون به وهو ممارسة الضغط على اسرائيل”.
ومن المستحيل التنبؤ كم من الوقت سيدوم التفوق الأميركي، لكن الأمر الوحيد الذي نحن متأكدون منه كلياً هو أن في الأمر ظاهرة موقتة في التاريخ كما كانت جميع الامبراطوريات.
وفي هذا السياق يقول هوبسبوم “والامبراطورية الأميركية قد تسقط لأسباب داخلية، والأكثر الحاحاً منها هو كون الامبريالية بمعنى السيطرة على العالم وإدارته، لا تثير اهتمام معظم الاميركيين الملتفتين بالأحرى الى ما يحدث داخل الولايات المتحدة، فالاقتصاد هو على درجة من الوهن ما سيحمل الحكومة والناخبين الأميركيين يوماً على اتخاذ قرار بأن من الأهم الانكباب على هذا الأمر بدلاً من خوض المغامرات في الخارج . أضف الى ذلك أنه وكما يحدث حالياً، سوف يكون على الأميركيين انفسهم أن يمولوا جزءاً كبيراً من هذه التدخلات الخارجية، وهذا ما لم يحدث لا في حرب الخليج ولا الى حد كبير إبان الحرب الباردة”.
على أي حال ، ومع تقديرنا لاهمية العوامل الداخلية الامريكية كما يقول “هوبسباوم”، إلا أن عملية الاستقطاب الخارجي ستظل عاملا رئيسا اوليا ، وفي هذا السياق يقول د.سمير امين “إن التوسع الرأسمالى على صعيد عالمى قد أنتج استقطاباً لم يسبق له مثيل منذ آلاف السنين، ففى أوائل القرن التاسع عشر لم يتجاوز مدى التفاوت الأقصى فى توزيع الثروة بين 80% من سكان الكوكب نسبة الواحد إلى اثنين. وبعد قرنين من التوسع الرأسمالى صارت هذه المعادلة نسبة الواحد إلى ستين، بينما انكمشت نسبة سكان المراكز إلى 20% فقط من سكان الكوكب” .
ومن هنا يستطرد د.سمير امين: يمكن أن نميز المرحلة الأولى للاستقطاب وتشكيل التفاوت الاجتماعى على الصعيد العالمى والأصعدة القطرية فى الفترة من عام 1800 إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. أما عن آليات الاستقطاب المتحكمة فى هذه المرحلة، ومن ثم أنواع “الفقر” الناجمة عنها فنلحظ أولاً قيام منطق التوسع الرأسمالى على الصعيد العالمى على أساس “سوق مبتورة”، أى الميل إلى تكوين سوق عالمية للمنتجات ورؤوس الأموال، دون أن يصاحبه ميل موازِ إلى اندماج أسواق العمل عالمياً، وتجلى هذا المنطق فى “إقامة تقسيم العمل الدولى على أسس غير متكافئة، أهمها انفراد قوى الثالوث فى المركز (الولايات المتحدة، أوربا، واليابان) بالإنتاج الصناعى، وتخصيص دول الأطراف لإنتاج الخامات (الزراعية والمعدنية) للتصدير. وقد صار هذا “التبادل غير المتكافىء” الآلية الرئيسية الفاعلة فى إنتاج الاستقطاب المعنى، أى امتصاص الفائض المنتج فى الأطراف لصالح المراكز. وكان الشرط السياسى لضمان فعالية هذا التوسع هو التحالف بين رأسمالية المراكز من جانب، ومن الجانب الآخر الطبقات الحاكمة محلياً فى الأطراف -وهى طبقات ذات جذور “اقطاعية” سابقة – وتحويلها إلى “برجوازيات كمبرادورية” أى تابعة .
أما المرحلة الثانية –كما يقول د.سمير أمين- للاستقطاب فهى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت مقدماتها فى المرحلة السابقة حيث أنتج الاستقطاب المترتب على التوسع الرأسمالى فى تلك المرحلة انتفاضات ضد النظام السائد، تجلت فى ثورات اشتراكية فى روسيا والصين (وهى مناطق طرفية، ولم يكن هذا مجرد صدفة) وفى ثورات التحرر الوطنى فى آسيا وأفريقيا. وقد كان الانتصار المزدوج للقوى الشعبية والديمقراطية ضد الفاشية والكولونيالية القديمة بمثابة فاتحة لمرحلة جديدة من التراكم الحثيث، فساد رواج (ارتفاع معدلات النمو) فى الأقسام الثلاثة للمنظومة: الغرب والشرق والجنوب. وتجلى هذا الرواج فى تبلور أشكال اجتماعية خاصة بكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة؛ فكانت دولة الرفاهيةWelfare state فى الغرب، وبناء الاشتراكية فى الشرق، وتجارب إنجاز مشروع تنمية وطنية مستقلة فى الجنوب. وبالرغم من تباين خصوصيات هذه الأشكال الثلاثة، فقد كان بينها قاسم مشترك ألا وهو قيامها على توازنات اجتماعية عملت لصالح الطبقات الشعبية – ولو نسبياً على الأقل-، أى أقيمت على أساس ظروف اجتماعية ملائمة لتعجيل النمو. إذن، كان الرواج نتاج تكيف التراكم لمقتضيات العلاقات الاجتماعية التى فرضتها القوى الديمقراطية والشعبية، وهو وضع معاكس تماماً “للتكيف” الذى يدعو إليه أصحاب النظام حالياً .
واتخذ تكيف التراكم لهذه المقتضيات الاجتماعية -فى المرحلة السابقة- -كما يؤكد سمير أمين- أشكالاً من “تقنين الأسواق” Regulation خاصة بكل منطقة من المناطق الثلاث المذكورة. فالرواج يأتى دائماً نتيجة لتقنين الأسواق، وليس نتيجة إطلاق الحرية لها كما تدعى الأيديولوجية الليبرالية السائدة حالياً. فالأسواق لا تحقق “توازناً” من تلقاء نفسها، إذ إن الطابع الانفجارى الذى تتسم به لا بد وأن ينتج تصاعد التفاوت، ومن ثم أزمة تراكم، وهو ما نراه حالياً. لقد نتج عن تقنين التراكم وتعجيل النمو المترتب عليه تحسن ملحوظ فى أشكال توزيع الدخل قطرياً وعالمياً، ومن ثم تخفيف ظواهر الفقر. واتسمت هذه المرحلة بمعدلات مرتفعة فى العمالة، كما ارتفعت مستويات الأجور بموازاة معدلات نمو الإنتاجية فى المراكز، فتقلصت البطالة وأقيمت نظم ضمان اجتماعى فعالة فى المراكز. أما فى الجنوب فقد قام الرواج على أساس تحقيق إصلاحات على الأصعدة الوطنية، من أهمها الإصلاح الزراعى والتأميمات وإصدار بعض القوانين لصالح العمل. وبفضل هذه الإصلاحات دخلت بلدان الجنوب فى مرحلة التصنيع والتحديث .
ونأتى إلى المرحلة الحالية، وهى –كما يصفها سمير أمين- مرحلة تفكك عالم ما بعد الحرب العالمية، والعودة إلى تصاعد ظواهر الاستقطاب والتفاوت الاجتماعى والفقر. فالتوازنات الاجتماعية التى قام عليها التراكم الحثيث أخذت فى التآكل التدريجى، الأمر الذى أدى بدوره إلى سقوط النماذج الثلاثة المذكورة: دولة الرفاهية فى الغرب، وبناء الاشتراكية فى الشرق، ومشروع الدولة الوطنية الشعبوية فى الجنوب. وهو ما أدخل النظام فى أزمة هيكلية عنيفة منذ أوائل السبعينيات. واتخذت هذه الأزمة مظاهر عدة من أهمها انخفاض معدلات النمو والتراكم والعودة إلى مستويات مرتفعة من البطالة فى الغرب، واتجاهات نحو الخلف (أى التكور) فى مناطق عديدة من الشرق الاشتراكى سابقاً ومن الجنوب. وتجلت هذه الأزمة فى أن الأرباح المستخرجة من الاستغلال الرأسمالى أصبحت لا تجد منافذ كافية للاستثمارات المربحة القادرة على إعادة توسيع القدرات الإنتاجية. وقد حدثت خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية تغيرات ملحوظة فى هرم ترتيب الأمم فى المنظومة العالمية، من بينها انقسام العالم الثالث السابق إلى مجموعتين من التشكيلات الرأسمالية الطرفية: إحداهما حققت بالفعل -من خلال التصنيع- قدرة على مواجهة المنافسة فى الأسواق العالمية فى مجال تصدير المنتجات الصناعية، أما المجموعة الأخرى فلم تتحقق لها هذه القدرة بعد، فالمجموعة الأولى قادرة على المساهمة فى تشكيل المنظومة العالمية بصفتها فاعلة، وعلى أن تطور استراتيجياتها الخاصة التى تدخل فى تناقض وتفاعل مع خطط الثالوث المهيمن، ومن ثم تستحق تسميتها “بالعالم الثالث”. أما المجموعة الثانية فهى فى موقع المفعول به والعاجز عن تطوير استراتيجيات خاصة به، فالقوى المهيمنة عالمياً هى التى تفرض على بلدان هذه المجموعة “تكيفاً” أحادى الجوانب والخضوع لاحتياجات التوسع الاستعمارى، وهى بهذا المعنى منطقة مهمشة تماماً، ومن ثم يمكن أن نطلق عليها “العالم الرابع” .
وتتجلى فى المرحلة الراهنة (مرحلة أزمة التراكم) ظواهر متجددة من التفاوت الاجتماعى والفقر يمكن أن نسميها أشكالاً من “تحديث الفقر”. فلا تزال مجتمعات الأطراف تعانى من حجم كبير “لجيش احتياطى” من قوى العمل يستحيل امتصاصها فى إطار سيادة منطق التراكم الرأسمالى، وخاصة فى إطار انفتاح التراكم المحلى على العولمة الليبرالية وإطلاق حرية الأسواق دون تقنين يذكر. فالمنافسة فى هذه الأسواق المفتوحة تفترض تركيز الاستثمارات فى مشروعات تمتص أموالاً هائلة نظراً لاحتياجات التكنولوجيات الحديثة، وبالتالى يتقلص الاهتمام برفع مستويات الإنتاجية فى القطاعات التى تعمل فيها أغلبية قوى العمل. وإذا كانت ظواهر “تحديث الفقر” قد أخذت فى البروز خلال المرحلة الأخيرة للنظم الاشتراكية والنظم الوطنية الشعبوية (أى مرحلة التآكل والتفكك)، إلا أنها قد تفاقمت بحدة خلال العقدين الأخيرين مع دخول آليات التراكم أزمتها الراهنة .
وبالتالى فإن مشروعات “التخلص من الفقر” (حسب لغة البنك الدولى) لن تكون فعالة، بل ستظل حبراً على الورق، ما لم يتم التخلى عن اعتناق مبدأ سيادة السوق الحرة، والعودة إلى مبدأ تقنين الأسواق، الأمر الذى يفترض بدوره –كما يقول سمير امين- الشروط الآتية:-
1- على المستوى القطرى، إقامة نظم حكم ديمقراطية جذرية ذات مضمون اجتماعى حقيقى. 2- على المستوى العالمى، بناء عولمة بديلة متعددة الأقطاب تتيح هامشاً لتحرك الطبقات الشعبية فى مختلف المجتمعات المكونة للمنظومة العالمية بما يمكن من حلول هذه العولمة البديلة محل نمط العولمة الليبرالية السائدة .
أخيراً يتحدث د.سمير أمين ، عن تحديات المستقبل ممثلة فى الاستقطاب الجديد الآخذ فى التكوين، ألا وهو مشروع العولمة الليبرالية تحت هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية. وفى البدء لابد من تسجيل أن التطورات التى طرأت على المنظومة العالمية مؤخراً قد أدت إلى تبلور تدريجى لوسائل جديدة لضمان السيطرة على صعيد عالمى لصالح الثالوث المركزى المهمين وهى ما أطلق عليها “الاحتكارات الخمسة الجديدة”.
(أ)احتكار التكنولوجيات الحديثة، وهو ما يؤدى إلى تحول صناعات الأطراف إلى نوع من إنتاج الباطن، حيث تتحكم احتكارات المركز فى مصير هذه الصناعات وتصادر النصيب الأعظم من أرباحها المحققة.
(ب)احتكار المؤسسات المالية ذات النشاط العالمى، وهو يكمل عمل الاحتكار السابق فى تدعيم هيمنة المركز على التصنيع من الباطن فى الأطراف.
(ج) احتكار القرار فى استخراج واستخدام الموارد الطبيعية على صعيد عالمى، والتحكم فى خطط تنميتها من خلال التلاعب بأسعارها، بل وقد يصل الأمر إلى الاحتلال العسكرى المباشر للمناطق الغنية بهذه الموارد.
(د) احتكار وسائل الإعلام الحديثة على صعيد عالمى، كوسيلة فعالة لصياغة والتأثير فى “الرأى العام” بما يدعم الهيمنة وخططها عالمياً وقطرياً.
(هـ) احتكار أسلحة التدمير الشامل والوسائل العسكرية المتطورة التى تتيح التدخل “من بعيد” أو “من فوق” دون خوض عمليات حربية طويلة ومكلفة بشرياً .
إنها احتكارات خمس متضامنة ومتكاملة وتعمل معاً لإعطاء قانون القيمة المعولمة الجديد مضمونه. وليس هذا القانون تعبيراً -بحال من الأحوال- عن ترشيدية اقتصادية “محضة” يمكن فصلها عن السياقات الاجتماعية والسياسية التى يعمل فيها هذا القانون. بل إن قانون القيمة هو تعبير “مكثف” عن هذه التكيفات الاجتماعية والسياسية. إذ إن التكيفات المذكورة تعمل على إلغاء مغزى تصنيع الأطراف من خلال تخفيض القيمة المضافة المنوطة بهذه الصناعات، بينما ترفع فى المقابل نصيب القيمة المضافة فى الأنشطة المرتبطة بالاحتكارات الخمسة إياها. إذن فهى تكيفات تنتج تراتبية جديدة غير متكافئة تمثل جوهر الشكل الجديد والمستقبلى للاستقطاب على صعيد عالمى. ذلكم هو منطق آليات الرأسمالية المعاصرة.
أخيرا ، وفيما يتعلق بنظام العولمة الامريكي ، فإن البحث المدقق والمتعمق فى صميم هيكل المجتمع الأمريكى وعلاقاته بالمنظومة العالمية يوضح أن طاقاته أقل من طموحاته. فالولايات المتحدة – كما أشرنا من قبل- تعانى من عجز مزمن فى ميزانها التجارى، أى أنها لا توفر لباقى العالم الأموال اللازمة لدفع التوسع الرأسمالى قدماً، وبما يضمن شروط إعادة إنتاج هيمنتها. وهو وضع يختلف عن وضع بريطانيا فى القرن التاسع عشر، حيث كانت الأخيرة تصدر أموالاً للعالم كله فى ظل وجود فائض هيكلى للميزان التجارى البريطانى، ومن ثم توفرت لها الشروط الملائمة لإعادة إنتاج موقعها المهيمن . أما الولايات المتحدة فهى أكبر مستورد للأموال، ومن ثم أصبحت مجتمعاً طفيلياً يمتص النصيب الأعظم من الفائض المنتج خارجه. ولا شك أن استمرار هذا الوضع الهش ، رهين برضوخ بقية بلدان العالم لتفاقم إفقارهم بلا نهاية. ونظراً لإدراك الولايات المتحدة التام لذلك ، فإنها تسعى بدأب إلى تعويض ضعفها الاقتصادى باستغلال تفوقها العسكرى والنووى، وذلك من خلال إقناع شركائها فى “الثالوث المركزى” بضرورة تسليم زمام إدارة العالم لحلف شمال الأطلنطى، حتى تتحقق عبارة كيسنجر الذائعة: “العولمة ليست إلا مرادفاً للهيمنة الأمريكية”، دونما أي اعتبار لمؤسسات الأمم المتحدة ووثائقها وقراراتها، يؤكد على ذلك استفراد الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين عموماً، ودولة العدو الإسرائيلي خصوصاً في استمرار الهجمات العدوانية على العراق ولبنان وفلسطين في محاولة يائسة لإخضاعها للشروط والسياسات الأمريكية في إطار ما يسمى ب “الشرق الأوسط الجديد”.
من كل ما سبق تتجلى أمامنا حقيقة ساطعة لا ضير من تكرارها، ألا وهى أن ردم الفجوة بين الأغنياء والفقراء -عالمياً وقطرياً- يتطلب عملية تحرر مزدوج من العولمة الليبرالية ومن الهيمنة الأمريكية، فهما وجهان لعملة واحدة يستحيل الفصل بينهما .
وفي ضوء ذلك ، تبرز الأسئلة الحقيقية ، هل ستؤدي حركة النضال التحرري والاجتماعي الديمقراطي لشعوب العالم –وفي بلدان وطننا العربي بالذات- الى بلورة مشروعات سياسية مجتمعية على قدر التحدي المطلوب، بما يؤدي الى كسر هذه الأحادية القطبية وخلق مقومات الثنائية القطبية في إطار من التوازن والصراع ؟
والجواب على ذلك يكمن في استجابة القوى اليسارية الطليعية في كافة الأقطار العربية، للضرورات الموضوعية التي تؤكد نضوج المناخ والظروف المهيأة لعملية التغيير ، بالرغم من كل التراجعات والانهيارات السياسية الدولية عموما ، وفي الحركة التقدمية العالمية خصوصا التي أربكت أعدادا غفيرة من اليساريين ، في الوطن العربي والعالم الثالث وبلدان الجنوب بالذات ، عبر تساؤلاتهم سواء من موقع الحرص والالتزام ، أو من موقع الدفاع عن الليبرالية الجديدة والاستسلام لمغرياتها: هل يمكن أن نظل ماركسيين بعد كل هذه الانهيارات ؟ نقول لكل هؤلاء –بكل هدوء ووضوح وإدراك- أن السؤال الواجب طرحه اليوم هو: هل يمكن ألا نكون ماركسيين في ضوء هذا التوحش الإجرامي للعولمة والنظام الرأسمالي ضد مصالح أكثر من 85% من شعوب العالم ؟ صحيح أن الأزمة تحيط باليسار الماركسي وتحاصر مشروعه الوطني/القومي ، والإقليمي ، والأممي ، ولكن الإشكالية التي تعيق عملية مواجهة هذه الأزمة ، لا تكمن في الفكر الماركسي والاشتراكي ، بقدر ما هي أزمة العامل الذاتي أو قوى اليسار أنفسهم ، إذ أنه ليس ثمة بديل للماركسية كنظرية ومشروع تغييري ، طالما بقيت تناقضات النمط الرأسمالي المعاصر وميله الدائم نحو المزيد من الفجوات ، والمزيد من الإفقار والتخلف الذي يصيب اليوم أكثر من 4.5 مليار نسمة في هذا الكوكب ، تتزايد تراكمات معاناتهم واستغلالهم بصورة تلقائية ناتجة عن ارتباط هذه المعاناة بعملية التوسع الرأسمالي واستمرارها من جهة ، وفي ظل غياب المشروع الشعبي التقدمي على الصعيد القومي والإقليمي والأممي ، النقيض من جهة أخرى.
إن التحدي الذي تفرضه إمبريالية العولمة اليوم على شعوب العالم ، هو في حقيقته انعكاس لظرف موضوعي، يعبر عن التناقض التاريخي الذي وصل اليوم الى ذروته عبر الصراع أو التناقض بين التراكم الرأسمالي في المراكز من جهة، وضرورات كسر التبعية والتخلف في بلدان الأطراف وسعيها نحو النهوض والتقدم من جهة أخرى ، إذ أن هذا الصراع التناحري بين المراكز والأطراف هو أيضا ، تعبير عن التناقض الصارخ بين الطابع الاجتماعي أو الجماعي للإنتاج الرأسمالي ، بوصفه محددا رئيسيا للعلاقات الاجتماعية المحلية والإقليمية والدولية من جهة، وبين ما يسميه ماركس الطابع الخاص أو الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج بوصفه المحدد الرئيسي للإنتاج الرأسمالي الهادف الى ضمان استمرارية الحصول على فائض القيمة ، أو زيادة معدل الربح والتراكم الرأسمالي الهائل الذي دفع الى تطور القوة الاقتصادية المعولمة الراهنة ، أو الشركات المتعددة الجنسية من جهة أخرى ، خاصة بعد أن أصبحت الأسواق المحلية أو القومية غير قادرة على استيعاب هذا التوسع غير المسبوق في الإنتاج وفي تراكم رأس المال وحركته المتسارعة والمعولمة ، ولذلك فإن الوجود المتزايد الاتساع و التراكم ، و الدور المتنامي للشركات المتعددة الجنسية هو في الحقيقة شكل من أشكال تطور الرأسمالية المعولمة المتوحشة في طورها الإمبريالي الراهن ، كنتاج مباشر لعملية التراكم الرأسمالي الذي بات بحاجة إلى أطر عالمية قادرة على احتواء حركته و توسعه المستمرين ، و هنا بالضبط تتبدى مدلولات و مضامين العولمة الأحادية، ليس فقط تعبيراً عن البعد السياسي للهيمنة الأمريكية ، و إنما أيضاً كأحد تعبيرات هذا التراكم الرأسمالي و قوته الاقتصادية التي وجدت في العولمة ملاذها و مستقرها الأخير .
فهذه القوة الاقتصادية المتجسدة في الشركات المتعددة الجنسية ، هي المحرك الأساسي للسياسة و العلاقات الدولية المعاصرة ، عبر سيطرتها –المباشرة و غير المباشرة- على صناع القرار في الدول الصناعية الكبرى ، فهي تقوم بتوجيه و صياغة هذه العلاقات بين الأمم ، وفق معايير استراتيجية خاصة ، تتمحور كلها عند تعظيم معيار الربح كغاية أولية ، و من أجل تأمين هذه الغاية فإن هذه الشركات تمتلك اليوم دوراً مركزياً خفياً في صياغة و توجيه السياسات العالمية ، لا يقابلها أي قوة سياسية في مثل ضخامتها ، سوى الولايات المتحدة الأمريكية التي تتماهى وتتطابق سياساتها مع مقتضيات الشركات المتعددة الجنسية باعتبارهما وجهين لعملة واحدة .
وفي ضوء ذلك ، لم يكن غريبا ما يجري اليوم ، من تزايد حدة التناقضات بين ظاهرة العولمة والرأسمالية من جهة، وبين مفهوم الاستقلال الكامل والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية بآفاقها الاشتراكية في دول العالم الثالث من جهة أخرى ، وهي تناقضات كامنة حتى اللحظة ، ومقتصرة على المستوى الجماهيري الشعبي الذي يفتقر للقوى التغييرية اليسارية الديمقراطية المنظمة ، القادرة على الخروج بهذه التناقضات الى شكل المواجهة العلني الديمقراطي والثوري المطلوب ، خاصة وأن أنظمة دول العالم الثالث عموما تتعرض اليوم –بحكم تبعيتها ومصالحها الخاصة- لحالة من الرخاوة والخضوع والتراجع ، لأسباب ملموسة وواضحة ومعروفة ، في ظل تنامي مظاهر ثورة المعلومات والإنترنت والقنوات الفضائية المبرمجة والمسيطر عليها من المراكز ، وهي مظاهر ترافق نموها بصورة مباشرة وعضوية مع تنامي حركة صعود رأس المال المالي في إطار العولمة ، عبر شبكة عالمية أدخلت البشرية عموما ، والجماهير الشعبية الفقيرة خصوصا في مرحلة من القلق والفوضى والإحباط والميل نحو الاستسلام واليأس ، وهي حالة تعبر عن الاختلال الكبير في التوازن بين دول المركز الرأسمالي من جهة ، والشعوب الفقيرة من جهة ثانية ، الناجم عن اتساع التناقضات وتزايد مظاهر الاستغلال والاضطهاد ، الى جانب الفجوة الهائلة في ثورة التكنولوجيا والعلوم والحداثة .
إننا نرى في هذا الاختلال والتناقض شكلا غير متبلور من الثنائية أو التعددية القطبية في مراحلها الأولى ، والتي ستتنامى في حركتها تدريجيا –وبصورة موضوعية- عبر تطور العامل الذاتي ، لكسر أحادية القطب الواحد وإزاحته ، خاصة وأننا نثق أن هذه الأحادية لا يمكن أن تستمر في القدرة على امتلاك مقومات استقراره رغم كل مظاهر القوة وغطرستها ، فالعولمة بما تتضمنه من تناقضات داخلية ، وتوازنات غير مستقرة ، لا يمكن استمرارها ضمن هذه الصورة الأحادية ، إلا على حساب المزيد من السيطرة والانقسامات الحادة بين الثراء الفاحش والفقر المدقع ، أو بين الشمال والجنوب ، وهي انقسامات قد تطيل أمد هذه الأحادية، ولكنها لا تلغي الضرورة الحتمية لولادة النظام التعددي في العلاقات الدولية ، وهذا بدوره مرهون بتشكيل الحركة أو الأطر اليسارية المنظمة ، خاصة في بلدان الجنوب ، أو العالم الثالث التي يتحمل طلائعها المثقفة الملتزمة مسؤولية المبادرة في هذا الفعل أو التشكيل ، وانتقاله من طور الفكرة الى طور الحركة ، وامتلاكها لمفهوم وبعد أيديولوجي مغاير ونقيض لمفاهيم وأيديولوجية العولمة أو الليبرالية الجديدة .
وفي هذا السياق ، فإن المثقفين اليساريين عموما ، وبخاصة في إطار القوى والأحزاب التقدمية –في البلدان المهمشة بالذات- يتحملون دورا مركزيا في هذا التوجه بكل ما يترتب عليه من قمع ومعاناة وتضحيات ، للخروج من هذا المأزق ، عبر صياغة وامتلاك البرنامج السياسي الاقتصادي الاجتماعي المستند الى أيديولوجية الماركسية كمنهج لتحليل الواقع وتفسيره من جهة، ودليل عمل في النضال من أجل التغيير من جهة ثانية ، بشرط إعادة النظر –بصورة موضوعية وبعقل جمعي- في كثير من الاستنتاجات والتحليلات الماركسية التي تلقاها معظم المثقفين العرب بصورة ميكانيكية في المرحلة السابقة ، دون أي نقاش جدي أو وعي جدلي حقيقي بها ، بحث أصبح الواقع الاجتماعي الاقتصادي وتفاصيله الحياتية في واد ، والنظرية عبر تلك العلاقة في واد آخر ، وهو ما يفسر بقاء المثقف في بلدان العالم الثالث والوطن العربي ، متلقيا للمعرفة عاجزا –بشكل عام- عن إنتاجها ، ولا شك أن لهذه الظاهرة أسبابا متعددة ، ولكن يبدو أن أهمها –كما يقول- المفكر العربي التقدمي محمود أمين العالم “إننا لا نمتلك معرفة حقيقية بالماركسية ، وعلينا أن نعترف بأن هذه المعرفة معرفة محدودة، مسطحة، واليوم ونحن نتساءل عن مصير الماركسية وأزمتها ، فإن تساؤلاتنا وإجاباتنا ستكون بالضرورة محدودة بحدود معرفتنا بالفكر الماركسي . على أنه برغم ما حدث خلال السنوات الماضية ، وبرغم البلبلة الفكرية التي تغذيها ترسانة النظام الرأسمالي ضد الفكر الاشتراكي عامة ، والماركسي خاصة ، فلم تبرز الحاجة الى الاشتراكية والى الفكر الماركسي كما تبرز إليه هذه الأيام، فالحكم على الاشتراكية لا يكون بما أصاب التجربة السوفيتية من انهيار، وإنما الحكم الصحيح على الاشتراكية والماركسية يكون بما تعانيه الرأسمالية العالمية اليوم من عجز عن تقديم حلول للمشكلات الأساسية للواقع الإنساني، بل وبشراستها العدوانية والاستغلالية إزاء شعوب العالم الثالث بوجه عام” .
إن العلاقات الدولية في هذه المرحلة التي دخلت فيها الرأسمالية طورها الإمبريالي المعولم ، لا يعني أنها قد تغلبت على تناقضاتها ، ولا يعني أن الكامن ، ونقصد بذلك حركة فقراء العالم وكادحيه قد مات ، فبالرغم من أن الرأسمالية قد أفلحت في تأجيل الانفجار عبر توسيع مجال التناقضات باسم العولمة ، إلا أنه تأجيل سيؤدي بالضرورة الى تزايد معاناة وإفقار شعوب العالم وأممه المسحوقة من جهة والى تزايد حركات المقاومة الشعبية ببعدها الطبقي الثوري اليساري- رغم ظاهرة انتشار المد اليميني الرجعي في اللحظة الراهنة- من جهة اخرى ، ولذلك فمن الطبيعي والضروري بصورة حتمية ، أن تسعى هذه الأغلبية المتضررة من هذا النظام الشرير ، الى تقويض أركانه من أجل بناء نظام لا تحكمه هذه التناقضات ، بشرط امتلاك البرنامج الواضح المستند الى مفهوم وتطبيقات الاشتراكية بصورة أولية، بمثل استناده الى مقومات العلم والحداثة والمعرفة المعاصرة ، والتكنولوجيا التي أصبحت –قوة أساسية من قوى الإنتاج في هذه المرحلة ، تمهيدا لصياغة المشروع الإنساني التقدمي البديل ، وتفعيل حركته ، خاصة في بلدان العالم الثالث ، من أجل إخضاع مقتضيات العولمة لاحتياجات شعوب هذه البلدان وتقدمها الاجتماعي ، ومن أجل المساهمة في بناء النظام السياسي العالمي الجديد الرافض لسلطة رأس المال الاحتكاري ، لقد حانت اللحظة الضرورية للعمل الجاد والمنظم في سبيل تأسيس عولمة نقيضة من نوع آخر ، عبر أممية جديدة ، ثورية وعصرية وإنسانية.
—————————————————-
تمت إعادة النشر بواسطة محاماة نت.
اترك تعليقاً