بحث قانوني هام عن الرشوة و استغلال النفوذ
مقـدمـة:
لم يعد القطاع العمومي وحده الذي يعرف انتشار جرائم الرشوة واستغلال النفوذ، بل أضحى القطاع الخاص –قطاع الأعمال والمقاولات- الأرضية الخصبة والمجال الواسع لهذه الجرائم فلم يعد الموظف العمومي وحده الذي يرتكبها، بل هناك أشخاصا طبيعيين أو معنويين يرتكبونها، وتشكل بالتالي جزءا لا يتجزأ من نشاطهم الوظيفي، إن على مستوى التحكيم، الشركات، المصحات… بل وفي مجال يوجد فيه هؤلاء في علاقة تبعية أيا كانت أهمية المهام التي يقومون بها وشكل التعويض الذي يتلقونه.
وتعتبر جرائم الياقات البيضاء جرائم تجب في محتواها كلا من جرائم الرشوة واستغلال النفوذ المرتكبة تحت مظلة الأعمال، لذلك باتت من أبشع أنواع الجرائم وأكثرها فسادا وزعزعة بالاقتصاد الوطني.
المشرع المغربي لم يعرف الجريمتين بل اكتفى بتنظيم كل منهما بنصوص خاصة فقد نظم الرشوة في الفصول من 248 إلى 256 ق.ج، وأفرد لجريمة استغلال النفوذ الفصل 250 ق.ج. لهذا يجب الركون لتعريف الجريمتين إلى بعض التعاريف التي وضع الفقه، وإن كان جلها يتفق في العناصر المكونة للجريمة، فقد عرفها البعض بأنها “اتجار الموظف بأعمال وظيفته وإخلاله بواجباته الوظيفية وجعلها مصدرا للكسب غير المشروع”[[1]]url:#_ftn1 ، أما جريمة استغلال النفوذ فيمكن تعريفها بأنها “استغلال نفوذ حقيقي أو مزعوم للجاني على المختص في العمل أو الامتناع عن العمل”، وهو ما أكدته الحياة العملية بحيث لم يعد اقتضاء المقابل يقتصر عن أعمال الوظيفة الشخصية، وإنما قد يتجر بعض الأشخاص بنفوذهم فيأخذون مقابلا لسعيهم إلى من يباشرون عليه هذا النفوذ ويحملونه على تلبية رغبة من أخذوا منه المقابل.
ولعل ما يزيد هذه الجرائم انتشارا في قطاع الأعمال، هو ذلك القصور التشريعي الذي تعرفه السياسة الجنائية المعتمدة على ثنائية جريمة الراشي والمرتشي[[2]]url:#_ftn2 ، دون الأخذ بعين الاعتبار كلا من المكافأة اللاحقة والوساطة على اعتبارهما أفعالا يمكن إلحاقها بالرشوة لتحقيق الردع الكافي والكفيل بحماية النظام الاقتصادي بشكل عام.
فإلى أي حد استطاعت النصوص الجنائية التقليدية الحد من الجريمتين خاصة في قطاع الأعمال؟ وهل تستوعب هذه النصوص مختلف الأفعال التي يمكن اعتبارها جرائم ملحقة بالرشوة؟
من خلال الإجابة عن هذه الإشكالية يتبين أن هذا الموضوع ذو أهمية بمكان حيث تتجلى في أهمية نظرية وأخرى عملية، فالأولى تتمثل في الحديث عنه في مجال الأعمال، أما الأهمية العملية فيمكن ربطها بالتطورات التي يعرفها ميدان الأعمال، التي استتبعها تطور نسبة الجريمة المرتبطة به.
وفي محاولة منا للإحاطة بجميع جوانبه سوف نعمل على الحديث عنه عن طريق تقسيمه إلى محورين، نتناول:
– أحكام جريمتي الرشوة واستغلال النفوذ (محور أول).
– إغفال التشريع الجنائي المغربي تجريم الأفعال المعتبرة في حكم الرشوة (محور ثاني).
المحور الأول: أحكام جريمتي الرشوة واستغلال النفوذ في قطاع الأعمال
تحكم جريمتي الرشوة واستغلال النفوذ في قطاع الأعمال مجموعة من الأحكام لا تخرج عما هي عليه في القطاع العام، وتتمثل في أركان الجريمتين ركن مادي وركن معنوي إضافة إلى الصفة التي تنفرد بها جريمة الرشوة، هذا وتشترك الجريمتان معا في صعوبة الإثبات، أما بخصوص العقوبة فتختلف بين الجناية والجنحة حسب ما إذا تحققت ظروف التشديد، وللتفصيل أكثر في هذه القواعد سنفصل في مطلب أول لأركان الجريمتين على أن نفصل في مطلب ثاني لصعوبة إثبات الجريمتين وعقوبتهما.
المطلب الأول: أركان جريمتي الرشوة واستغلال النفوذ
تعرف جريمة الرشوة على أنها جريمة الصفة ولا يمكن تصورها بدون صفة الجاني على عكس جريمة استغلال النفوذ التي لا يتطلب لقيامها الصفة بل يكفي التذرع بنفوذ حقيقي أو مزعوم، إلا أن الجريمتين معا من الجرائم العمدية ويشتركان في الركنين المادي والمعنوي.
الفقرة الأولى: الصفة كشرط أساسي لقيام جريمة الرشوة
لم يترك المشرع أي مجال للقاضي وحدد له الصفات التي تنطبق عليها جريمة الرشوة في الفصلين 248 و249 ويمكن تقسيمها إلى قسمين، القسم الأول تشتغل بالقطاع العمومي وتضم الموظفون العموميون والقضاة والمحلفون وأعضاء هيأة المحكمة والمتولون المراكز نيابة، وقسم ثاني يشتغل في القطاع الخاص ويضم المحكمون والخبراء والأطباء والجراحون وأطباء الأسنان والمولدات العاملين بالقطاع الخاص، والعمال والمستخدمون والموكلون بأجر أو بمقابل، وهذه الفئة الأخيرة هي التي تهمنا في هذا العرض لارتباطها الوثيق بقطاع الأعمال.
فالاقتصاد ينبني على المقاولات والشركات، والمؤسسات ذات النفع الاقتصادي العام والخاص، وهذه المؤسسات الاقتصادية تبنى على أكتاف العمال والمستخدمون والموكلون بأجر أو بمقابل، وكذا المحكمون والخبراء، والأطباء والجراحون في القطاع الخاص، ونجاح الاقتصاد رهين بتخليق هذه المؤسسات من كل الشوائب التي تحيط بها من بينها الرشوة واستغلال النفوذ كإحدى أخطر الجرائم الماسة بأمن الشركات والدولة.
فهذا المبتغى هو الذي شكل الدفع الأساسي لتجريم الرشوة في قطاع الأعمال من قبل المشرع.
1- الأطباء والجراحون وأطباء الأسنان والمولدات:
فلا شك أن المشرع يقصد بهؤلاء تلك الفئة العاملة في المهمات الخاصة، لأنه لو كان يقصد بهم أولائك العاملين بالقطاع العمومي لاكتفى بالنص على الموظفين العموميين لأن هؤلاء في القطاع العام ينطبق عليهم مفهوم الموظف العمومي.
ولم يكن إدخال هؤلاء ضمن الصفات التي تنطبق عليها جريمة الرشوة بمحض الصدفة وإنما بسبب الدور الهام الذي أصبحت تلعبه المصحات الخاصة في تنمية الاقتصاد الوطني. وإن كان يغلب على خدمتها الطابع الاجتماعي إلا أن هدفها الأساسي هو تحقيق الربح، ولذلك أدخلها المشرع من ضمن الأنشطة التي تكسب صفة تاجر في الفقرة الرابعة عشرة من المادة السادسة من مدونة التجارة بنصه على أنه من بين الأنشطة التي تكسب ممارستها الاعتيادية أو الاحترافية صفة تاجر التزويد بالمواد والخدمات.
2- المحكمون والخبراء:
لقد بات من المؤكد أن العلاقة أصبحت وطيدة بين التحكيم وحركة الاستثمار، بفضل الخدمات السريعة في جل النزاعات التجارية بين المستثمرين وغيرهم التي يوفرها التحكيم، لذلك لابد على المشرع أن يعطي الأهمية للتحكيم بشقيه الداخلي والدولي، فبدأ في الأول بتجريم الرشوة المرتكبة من قبل المحكمين ثم بإصدار قانون 05.08 المنظم للتحكيم الداخلي والدولي.
هذا وأن اتفاقية واشنطن، اعتبرت الرشوة التي يتلقاها المحكم من أحد المحتكمين سببا لطلب بطلان الحكم التحكيمي.
3- المستخدمون والعمال والموكلون بأجر أو بمقابل:
بعد الجمود الذي عرفه التشريع الجنائي المغربي في تجريم الرشوة في قطاع الأعمال خرج أخيرا من سكوته، ولم يعد يقتصر تجريم الرشوة على صفة الموظف العمومي بل تعداه ليشمل فئة من القطاع الخاص، بطبيعة محضة وتضم العمال والمستخدمون والموكلون بأجر أو بمقابل فهؤلاء هم روح وعصب قطاع الأعمال.
كثيرا ما يحدث أن يقوم عامل أو مستخدم بشركة يتلقى مقابل مادي للكشف عن أسرار ومعلومات الشركة، مما يؤدي إلى الإضرار بمصالحها التنافسية داخل السوق ويحل بمبدأ المنافسة المشروعة، من هنا كان لابد من معاقبته مثل هؤلاء حتى لا يترك المجال مفتوحا لذوي النية السيئة للإخلال بمبدأ الثقة المصبوغة لهم.
وفي هذا المضمار قضى في فرنسا بمعاقبة مستخدم أدلى لحساب مؤسسة منافسة مقابل مكافأة شهرية بأسماء وعناوين عملاء مخدومه وصورة الرسائل المتبادلة وكمية البضائع المسلمة إليهم، مما ألحق ضررا بمصلحة الشركة في المنافسة[[3]]url:#_ftn3 .
ولم تعد جريمة الرشوة ترتكب من قبل الأشخاص الطبيعيين فقط بل تعدته إلى الشخص المعنوي –المقاولة والشركة- مما أصبحت معه ضرورة تجريم هذا النوع من الجرائم.
وبالرجوع إلى القانون الجنائي نجد أن المشرع المغربي سكت عن تجريم جريمة الرشوة المرتكبة من طرف الشخص المعنوي عن طريق ممثليه، على عكس المشرع المصري الذي اعتبر أن رئيس المقاولة الذي يتلقى مقابلا للقيام ببعض الأعمال أو تسهيل بعض الصفقات باسم الشركة ولمصلحتها يعتبر مرتكبا لجريمة الرشوة نيابة عن الشركة وتعاقب الشركة على هذا الفعل.
فجرائم الرشوة المرتكبة من قبل الشخص المعنوي هي الأخطر وهي التي تهدد المصلحة العليا للاقتصاد وتعرقل التنمية الاقتصادية من خلال تقليص فرص التجارة وتراجع الاستثمارات بسبب فقدان ثقة المستثمرين في قانون بلد الاستثمار، لأنه لا يوفر الحماية اللازمة لأموالهم المستثمرة.
لذلك كان من الأولى على المشرع المغربي أن يجرم الرشوة المرتكبة من قبل الشخص المعنوي.
وعلى عكس جريمة الرشوة، فإن جريمة استغلال النفوذ لا يتطلب في مرتكبها صفة معينة، وبذلك يمكن إدانة أي شخص بجريمة استغلال النفوذ يتمتع بنفوذ حقيقي أو مزعوم على هيأة أو سلطة أو شخص يتمتع بالاختصاص الحقيقي[[4]]url:#_ftn4 والنفوذ الحقيقي يستمده الجاني من وظيفته أو مركزه أو سلطته، أو علاقة قرابة أو صداقة مع المستخدم المختص بالعمل أو الامتناع[[5]]url:#_ftn5 . مما يمكنه من التأثير عليه ودفعه إلى تحقيق حاجيات لمقدم المكافأة، أما النفوذ المزعوم، فلا يكون فيه للجاني نفوذ حقيقي على المختص، ولكنه يوهم صاحب الحاجة أنه يتمتع بنفوذ حقيقي على المختص بالعمل أو الامتناع.
ويشترط الأستاذ الخمليشي أن يكون التذرع بالنفوذ لدى سلطة عامة أي لدى أجهزة الدولة المختلفة وهيآتها كالمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية التي تنشئها الدولة أو تساهم في رأس مالها وهذا يعني أن جريمة استغلال النفوذ لا يمكن تصورها خارج القطاع العمومي أو شبه العمومي، ونحن لا نشاطره الرأي، لأن جريمة استغلال النفوذ لم يعد لها حدود، ويمكن تصورها في القطاع الخاص بشكل خارق للعادة وخصوصا فيما يتعلق بالتوظيف وتسهيل الصفقات.
من كل هذا يتضح أن جريمة استغلال النفوذ تختلف عن جريمة الرشوة في اختصاص صاحب الصفة في جريمة الرشوة. فمتى كان المتلقي للمقابل يتمتع بالصفة ويدخل العمل أو الامتناع ضمن اختصاصه يعتبر مرتكبا لجريمة الرشوة، ومتى كان العمل أو الامتناع لا يدخل ضمن اختصاصه بصفة مطلقة يعتبر مرتكبا لجريمة استغلال النفوذ. ومفهوم الاختصاص هنا أوسع ينعقد متى كان صاحب الصفة مختصا فعلا أو كان عمله يسهل له القيام بالعمل أو الامتناع أو من الممكن أن يسهله له. وهذا ما أكده المجلس الأعلى في أحد قراراته بأنه ليس من الضروري في جريمة الرشوة أن يكون الموظف وحده هو المختص بالقيام بجميع العمل الذي طلب أو قبل الوعد أو العطية لأدائه أو الامتناع عنه، إخلال بواجبات الوظيفة واتجارا بأعمالها، أو أن يكون العمل داخلا ضمن حدود الوظيفة مباشرة بل يكفي أن يكون له نصيب من الاختصاص أو أن تكون له علاقة به، بما يسمح له بتنفيذ الغرض من الرشوة.
الفقرة الثانية: الأركان المشتركة بين جريمتي الرشوة واستغلال النفوذ في قطاع الأعمال
تعتبر كل من جريمتي الرشوة واستغلال النفوذ من الجرائم العمدية، ويطلب فيها الركن المعنوي من علم وإرادة، وقبله الركن المادي الذي يتخذ إحدى الصور الثلاث، طلب، قبول، تسليم.
أولا: الركن المادي للجريمتين
باستقراء الفصلين 248 و250 من القانون الجنائي نجد أن الركن المادي لجريمتي الرشوة واستغلال النفوذ ويتخذ إحدى الصور الثلاث التالية:
1- الطلب:
وهو تعبير عن إرادة منفردة من جانب الراشي، وتستغل النفوذ متجهة إلى الحصول على مقابل نظير أداء العمل أو الامتناع عنه. وفي هذه الحالة يكون الجاني هو صاحب المبادرة في المشروع الإجرامي، لذلك تقوم الجريمة لمجرد الطلب، ولو لم يتسبب له صاحب الحاجة، بل حتى ولو رفض هذا الأخير الطلب وسارع إلى إخبار السلطات المختصة، بشرط أن يكون الطلب جديا وليس هزليا أو مزاحا من الجاني، إزاء صاحب الحاجة، ومسألة تحديد جدية الطلب أو هزله تبقى خاضعة للسلطة التقديرية للقاضي تظهر من خلال الظروف والملابسات والقرائن.
2- القبول:
وهو تعبير عن إرادة متجهة إلى تلقي المقابل في المستقبل نظير القيام بالعمل أو الامتناع عنه ويصدر القبول من الجاني في الجريمتين معا ويفترض معه وجود إيجابا أو عرضا من صاحب الحاجة وبالقبول الذي صادف العرض ينعقد الاتفاق الذي تتمثل فيه ماديات الجريمة في هذه الصورة، والقبول في جوهره إرادة ينبغي أن تكون جادة وصحيحة[[6]]url:#_ftn6 . أما إذا كانت إرادة الجاني غير جادة أو كان يهدف من ورائها الإيقاع بصاحب الحاجة وضبطه متلبسا، فلا يتوفر بذلك القبول ولا تقوم الجريمة.
3- التسليم:
والمقصود به اقتضاء المستغل للنفوذ أو المرتشي ثمرة اتجاره أي حصوله بالفعل على الفائدة أو المنفعة التي توخاها مقابل أدائه للعمل أو الامتناع، وليس بالضرورة أن يصدر التسليم من الجاني نفسه بل يمكن أن يتم عن طريق وسيط أو عن طريق البريد.
4- الإكراه:
ينص الفصل 251 على أنه “من استعمل عنفا أو تهديدا أو قدم وعدا أو عرضا أو هبة أو هدية أو أية فائدة أخرى لكي يحصل على القيام بعمل أو الاقتناع عن عمل أو على أية مزية أو فائدة مما أشير إليه في الفصل 248 إلى 250 “يعاقب بنفس العقوبات المقرر في تلك الفصول سواء كان للإكراه أو للرشوة نتيجة أم لا”.
فهذا الفصل يعطي صورة أخرى من صور الركن المادي لجريمتي الرشوة واستغلال النفوذ، ومتمثلة في إقدام صاحب الحاجة على الإكراه للحصول على الحاجة التي يتوخاها.
هذا ويضيف هذا الفصل مسألة في غاية الأهمية وتتمثل في الأخذ بثنائية جريمتي الرشوة واستغلال النفوذ واعتبر مجرد تقديم الوعد أو العرض أو الهبة أو الهدية أو أية فائدة أخرى من صاحب الحاجة للحصول على العمل أو الامتناع يعتبر مرتكبا لجريمة الرشوة أو استغلال النفوذ بحسب ظروف القضية.
استنادا إلى كل ما سبق يتضح أن المحاولة في الجريمتين غير واضحة، وبالفعل فقد ثار نقاش حول وجود محاولة في جريمتي الرشوة واستغلال النفوذ، واستبعدوا بإجماع إمكانية تصور المحاولة في حالتي القبول والتسليم باعتبارهما يحتويان على بدء التنفيذ ونهايته[[7]]url:#_ftn7 . بالمقابل أجمعوا على إمكانية تصور المحاولة في حالة الطلب حيث لا يتحقق بمدلوله القانوني إلا بعد وصوله إلى علم الموجه إليه، فإذا صدر عن صاحب الصفة في الرشوة طلب رشوة وحالت أسباب لا دخل لإرادته فيها دون وصوله إلى علم صاحب الحاجة فإن جريمة الرشوة تقف عند مرحلة الشروع، ورغم ذلك يعاقب على أساس المحاولة.
ثانيا: الركن المعنوي للجريمتين
لا يختلف اثنان في كون جريمتي الرشوة واستغلال النفوذ من الجرائم العمدية قوامها القصد الجنائي بعنصريه العلم والإرادة.
لذلك يتطلب أن يكون الراشي والمرتشي عالمين بأن الفعل الذي يقدمان عليه يشكل جريمة ويعاقب عليه القانون الجنائي، والعلم هنا مفترض لأنه لا يعذر أحد بجهله للقانون، وتذهب إرادتهما إلى تحقيق الفعل المادي وتحقيق النتيجة المتوخاة عن هذا الفعل، ولو لم تتحقق بالفعل، بانتفاء أحد هذين العنصرين تنتفي معه الجريمة.
المطلب الثاني: إثبات الجريمتين وعقوبتهما
ليس من السهولة بمكان إثبات أية جريمة لأنها غالبا ما تتم في سرية تامة. ويحرص مرتكبوها على التستر والكتمان، إخفاء لكل ما قد يساعد على وقوعهم في قبضة العدالة، ومادامت العقوبة لا تتقرر إلا بعد ثبوت الجريمة، فقد ارتأينا أن نتعرض لمسألة إثبات الجريمتين (أولا)، ثم نحدد بعد ذلك العقوبة المقررة لكل منهما (ثانيا).
الفقرة الأولى: مسألة إثبات الجريمتين
الأصل في الإنسان البراءة ولا يمكن إدانة متهم بجريمة ما إلا إذا ثبت في حقه الجرم المنسوب له ثبوتا مؤكدا، ويبدو أن المشرع المغربي لم يحدد وسيلة خاصة لإثبات جريمة الرشوة وبذلك فهي تخضع للأحكام العامة المنظمة في قانون المسطرة الجنائية (المواد 286 إلى 296) ولمبدأ حرية الإثبات في المادة الجنائية.
ونفس الأمر ينطبق على جريمة استغلال النفوذ، على أساس أن إثبات الجريمة بمختلف أركانها وحده الكفيل بالسماح بإنزال العقوبة على مقترفها، وإلا لزم الحكم ببراءة المتهم حيث يفسر الشك لصالحه، وقد تثبت جريمة الرشوة بالاعتراف –قضائيا أو غير قضائيا[[8]]url:#_ftn8 -، كما قد تثبت بالأوراق الصادرة عن المتهم أو عن الغير، أو بناء على محضر الضابطة القضائية في حالة التلبس بالجريمة، كما يمكن أن تثبت بالشهادة، بما في ذلك شهادة المتهمين بعضهم على بعض[[9]]url:#_ftn9 ، إضافة إلى استنتاج القرائن التي يستخلصها القاضي من وقائع القضية المعروضة لبناء اقتناعه الصميم، وفي هذا الصدد صدر قرار للمجلس الأعلى[[10]]url:#_ftn10 مفاده أنه “يكون الحكم قد أبرز بما فيه الكفاية عناصر جريمة الرشوة لما بين أن قبول الهبة كان قبل القيام بالعمل وأن المتهم قبل المبلغ كرشوة وأخفاه في ملابسه الداخلية وعلل الإدانة باعتراف المتهم لدى الضابطة القضائية وأمام النيابة العامة وبمعاينة رجال الشرطة”.
وتعليل الأحكام شرط أساسي يفرض على القاضي احترامه وتبنيه تحت طائلة بطلان الحكم[[11]]url:#_ftn11 . لهذا فإن الاقتناع الصميم للقاضي الجنائي يقوم على التعليل السليم وقد صدر قرار للمجلس الأعلى بتاريخ 5 فبراير 1976 مفاده: “لا يكفي لصحة الحكم أن تصرح المحكمة باقتناعها بما جاء في محضر الشرطة من اعترافات، بل لابد من تعليل وجه ذلك الاقتناع…” [[12]]url:#_ftn12 .
ومادامت جريمتي الرشوة واستغلال النفوذ تشتركان مع الجرائم الأخرى في الأركان الأساسية لأي جريمة والمتمثلة في الركن المادي والركن الشرعي والركن المعنوي، فإن مسألة إثباتهما تختلف من حالة إلى أخرى حسب الوقائع المحيطة والقرائن المستنتجة والإمكانيات المتاحة لتحريك الدعاوى العمومية في هذا الإطار، إما بناء على شكايات أو وشايات. ويبقى للظروف والملابسات المحيطة بالفعل المادي للجريمتين دور كبير في استجلاء عناصرهما لاسيما القصد الجنائي لدى الجاني وعموما يبدو أن هناك صعوبة إثبات هاتان الجريمتين بحيث تتمان في سرية بالغة داخل بنايات خفية للمجتمع تجعل أمر كشفها تكتنفه تحديات واقعية، رغم المجهودات المبذولة على مستوى التشريع الجنائي بإقرار حماية جنائية للشهود والخبراء المبلغين عن جرائم الرشوة واستغلال النفوذ[[13]]url:#_ftn13 في محاولة للتشجيع على التبليغ عن جرائم الرشوة واستغلال النفوذ.
وجدير بالذكر أن مسألة الإثبات تزداد صعوبة عندما يتعلق الأمر بجرائم الياقات البيضاء، حيث يتميز مجرمو هذا الصنف بالدهاء والحرص على عدم كشف جرائمهم مما يتطلب الأمر سد كل الثغرات التي قد يتحايل رجال الأعمال على القانون من خلالها في قضاء مآربهم بتقديم رشوة أو استغلال نفوذ.
الفقرة الثانية: العقوبة في جريمتي الرشوة واستغلال النفوذ
ففيما يخص جريمة الرشوة قرر المشرع المغربي عقوبات لها متفاوتة تتناسب وخطورة الفعل الصادر عن الجاني، والملاحظ أن هذه العقوبات ليست من طبيعة واحدة، فهناك العقوبات الأصلية للرشوة وتتفاوت بين العقوبة الجنحية والعقوبة الجنائية وهناك أيضا عقوبات إضافية.
أولا: العقوبات الأصلية
الملاحظ أن هذه العقوبات إما أن تكون جنحية وإما جنائية.
أ- العقوبات الجنحية:
تقررت هذه العقوبات في الفصول 248 و249 و251 من مجموعة القانون الجنائي وهكذا وعملا بالمادة 248 ق.ج.م. فقد عاقب المشرع الموظف العام أو من في حكمه المرتشي بعقوبة الحبس من سنتين إلى خمس سنوات، وهي نفس العقوبة التي فرضها المشرع على الراشي في المادة 251 ق.ج.م.
أما إذا ارتكبت جريمة الرشوة في نطاق المشاريع الخاصة فإن العقوبة التي تطبق على الراشي والمرتشي فهي عقوبة بالحبس من سنة إلى 3 سنوات (الفصلان 249 و251 من ق.ج). وإلى جانب العقوبة السالبة للحرية سنجد المشرع قد فرض إلى جانبها وبكيفية وجوبية غرامة مالية من ألفي إلى خمسين ألف درهم (جريمة الفصل 248 ق.ج) أو من خمسة آلاف إلى خمسين ألف درهم (جريمتا الفصلين 249).
ب- العقوبات الجنائية:
تتخذ الرشوة صورة جناية في الحالات الآتية:
1- إذا كان الغرض من الرشوة القيام بعمل يكون جناية في القانون، وهذا سبب لتشديد العقوبة تتفق عليه قوانين المقارنة وعلى الخصوص القانون الفرنسي والقانون المصري. ومنصوص عليه في القانون الجنائي المغربي في الفصل 252 من ق.ج. بنصه “إذا كان الغرض من الرشوة أو استغلال النفوذ هو القيام بعمل يكون جناية في القانون فإن العقوبة لتلك الجناية تطبق على مرتكب الرشوة أو استغلال النفوذ”.
ومن خلال هذا النص كفاية حصول الرشوة لتوقيع عقوبة الجناية التي وقع الاتفاق بصددها مثال فلو اتفق عدل وآخر على تزوير محرر رسمي في مقابل أن يأخذ هذا العدل مبلغا كرشوة فإن المتفقان يعاقبان بعقوبة “جناية” وهي السجن المؤبد سواء ارتكبت جريمة التزوير أو محاولتها أن لم يقع شيء من ذلك.
2- ارتشاء أحد رجال القضاء لإصدار حكم بعقوبة جناية ضد متهم، وقد نص على هذه الحالة الفصل 253 ق.ج. الذي قرر بأنه “إذا كانت رشوة أحد رجال القضاء أو الأعضاء المحلفين أو قضاة المحكمة قد أدت إلى صدور حكم بعقوبة جناية ضد المتهم، فإن هذه العقوبة تطبق على مرتكب جريمة الرشوة”.
ويشترط لتشديد العقوبة استنادا إلى هذا النص صدور حكم بعقوبة جناية بالفعل ضد المتهم وسواء نفذ هذا الحكم أم لم ينفذ بعد، كان قابلا للطعن أم لا، وسواء كان المرتشي قاضيا للحكم أو للتحقيق أو قاضي النيابة العامة، منتميا لمحكمة عادية أو متخصصة.
3- إذا كانت قيمة المقابل في الرشوة تفوق مائة ألف درهم:
بصريح الفقرة الأخيرة من الفصل 248 المضافة بالتعديل بالقانون 79.03 التي جاء فيها: “إذا كان مبلغ الرشوة يفوق 100.000 تكون العقوبة السجن من خمس سنوات إلى عشر سنوات والغرامة من خمسة آلاف درهم إلى مائة ألف درهم”، حيث يتبين بجلاء بأن المشرع في الفقرة المذكورة غير نوع الجريمة كلما فاق مبلغ الرشوة عتبة المائة ألف درهم، بجعلها جناية تخضع في محاكمتها لغرفة الجنايات من محكمة الاستئناف وليس المحكمة الابتدائية.
ثانيا: العقوبات الإضافية
تعرض المشرع لهذه العقوبات في الفصلين 255 و256 من المجموعة الجنائية وهي:
– المصادرة:
جاء في الفصل 255 ق.ج. بأنه: “لا يجوز مطلقا أن ترد للراشي الأشياء التي قدمها ولا قيمتها، بل يجب أن يحكم بمصادرتها وتمليكها بخزينة الدولة باستثناء الحالة المنصوص عليها في الفصل 1-256.
تمتد المصادرة إلى كل ما هو متحصل من ارتكاب الجرائم المنصوص عليها في الفصول 248 و249 و250 من هذا القانون، من يد أي شخص كان وأيا كان المستفيد منه”.
ومن خلال هذا النص يلاحظ على أن موضوع المصادرة هنا لا يقتصر على النقود وإنما يمتد إلى كل ما قدمه الراشي كمقابل للعمل الوظيفي (جواهر، أسهم، عقارات…).
وعموما فإن المصادرة لا تنصب إلا على الأموال المضبوطة والتي تسلمها الموظف المرتشي فعلا دون الأموال والأشياء التي يكون الراشي قد وعد المرتشي (الموظف) بتقديمها له كأن يعده مثلا بتمليكه عقارا لم يقم بإجراءات نقل ملكيته له، بعد، كما يتعين ضبط هذا المقابل لدى المرتشي حتى يكون قابلا للمصادرة فعلا.
– الحرمان من بعض الحقوق المشار إليها في الفصل 40 من ق.ج:
ورد في الفصل 256 ق.ج. أنه “في الحالات التي تكون فيها العقوبة المقررة طبقا لأحد فصول هذا الفرع عقوبة جنحية فقط، يجوز أيضا أن يحكم على مرتكب الجريمة بالحرمان من واحد أو أكثر من الحقوق المشار إليها في الفصل 40 من خمس سنوات إلى عشر، كما يجوز أن يحكم عليه بالحرمان من مزاولة الوظائف أو الخدمات العامة مدة لا تزيد عن عشر سنوات”.
ومن خلال استقراء مقتضيات هذا النص يذهب جانب من الفقه[[14]]url:#_ftn14 إلى القول بأنه كان الأليق بالمشرع المغربي ينص على وجوبية الحرمان من الحقوق المشار إليها في الفصل 40 وليس أمرا اختياريا كما الشأن في صيغة النص اعتبارا لخطورة الرشوة وآثارها السلبية.
– الإعفاء من العقاب بالنسبة للراشي:
استحدث المشرع بالقانون 79.03 الذي تمم وعدل بموجبه بعض المقتضيات من القانون الجنائي إمكانية إعفاء الراشي من العقاب في حالات نص عليها الفصل 1-256 من ق.ج بنصه “يتمتع بعذر معف من العقاب الراشي بالمعنى الوارد في الفصل 251 من هذا القانون الذي يبلغ السلطات القضائية عن جريمة الرشوة، إذا قام بذلك قبل تنفيذ الطلب المقدم إليه، أو إذا أثبت في حالة تقديمها أن الموظف هو الذي طلبها وأنه كان مضطرا لدفعها”.
باستقرائنا لمقتضيات هذا النص يتضح أن الإعفاء لا يستفيد منه غير الراشي من جهة، ومن جهة أخرى مقيد بشرط التبليغ إلى السلطات القضائية (النيابة العامة) عن جريمة الرشوة قبل تنفيذ الطلب المقدم إليه من قبل المرتشي أو إذا أثبت –في حالة تقديمها- أن الموظف هو الذي طلبها وأنه مضطر لدفعها.
هذا بخصوص العقوبة في جريمة الرشوة فماذا عن العقوبة في جريمة استغلال النفوذ؟
تخل جريمة استغلال النفوذ بمبدأ المساواة بين المواطنين أمام المرافق العامة للدولة، وتكون أقرب ما يكون إلى النصب والاحتيال إذا كان هذا النفوذ مزعوما أو موهوما، لهذا تصدى المشرع المغربي في القانون الجنائي بعقوبات سالبة للحرية وغرامات مالية مهمة لكل من سولت له نفسه زعزعة الثقة في المرافق العمومية وإفشاء الفساد الإداري، ولاشك اليوم أن جريمة استغلال النفوذ قد عرفت انتشارا إلى جانب جريمة الرشوة خصوصا أن جريمة استغلال النفوذ المقابل فيها لا يقتصر على الأعمال الوظيفية.
وبالرجوع إلى 250 من القانون الجنائي المغربي نجد أن العقوبة المقررة للجريمة (استغلال النفوذ) في صورتها البسيطة هي عقوبة جنحية تتمثل في الحبس من سنتين إلى خمس سنوات وغرامة من 5000 إلى 100 ألف درهم.
وإذا كان الجاني قاضيا أو موظفا عموميا أو متوليا مركزا نيابيا، فالعقوبة ترفع إلى الضعف (الفقرة 2 من الفصل 250 ق.ج).
وحتى على مستوى القوانين المقارنة نجد اتفاق على أن جريمة استغلال النفوذ لا يشترط أن يرتكبها موظف عمومي حتى تدخل نطاق التجريم[[15]]url:#_ftn15 ، ولابأس أن نشير إلى أن العقوبة المقررة لجريمة استغلال النفوذ عقوبة زجرية توخى من خلالها المشرع الردع العام والخاص لما تشكله من خطورة على سلامة واستقرار الخدمات العمومية والمرافق الحيوية للبلاد، واحتراما لمبدأ سيادة القانون، ومقولة “القانون يعلو ولا يعلا عليه”.
وفي عرضنا للعقوبة المقررة لجريمتي الرشوة واستغلال النفوذ على الشخص الطبيعي في علاقة بقطاع الأعمال والمقتضيات الجنائية المرتبطة به في هذه الجريمتين، يمكننا القول أن هذه العقوبات تمتاز بقصر مدتها وهزالة غرامتها، لأن انتشار هذه الجريمتين بشكل واسع دليل على فشل السياسة الجنائية المعتمدة، مادام الكل يجمع أن تفشي مثل هذه الجرائم في المقاولات وقطاع الأعمال بشكل عام ينذر بهشاشة الاقتصاد وانهيار تنافسيته.
وإذا كانت العقوبات المقررة على الشخص الطبيعي لا تثير إشكالا كبيرة فإن الحديث ذو شجون فيما يخص قيام المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي من عدمها.
ثالثا: عقوبة الشخص المعنوي
أثار موضوع المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي نقاشات فقهية عدة بين من يطالب بمعاقبة الشخص المعنوي والمتمثل أساسا في الشركات بعقوبات تتلاءم وطابعه الافتراضي المجازي وبين من ينفي هذه المسؤولية استنادا لمسؤوليته الافتراضية وتجنبا لإهدار مبدأ شخصية العقوبة.
ونعتقد أن الطرح الذي يرى إمكانية قيام المسؤولية الجنائية للشخص الطبيعي أقرب إلى الصواب ونورد رأي« Vonlizt » الذي يرى أنه طالما أن الجماعات تملك القدرة على التعاقد فإنه من الممكن أن يكتنف إبرامها لهذه العقود سوء القصد أو عدم الوفاء بما التزمت به، ويردف قائلا إنه يمكن معاقبتها عقابا يصيب امتيازاتها أو أموالها ويستند في تبرير رأيه إلى القول أنه: “من الخطورة بمكان عدم مساءلة الشركات التي تتمتع بأدوات ووسائل للعمل تفوق بكثير ما يملكه الفرد مما يشكل خطورة اجتماعية بالغة، وكذلك لأن عدم مساءلتها هو أمر مخالف للعدالة بل ولمبادئ السياسة الجنائية السليمة لما تؤدي إليه من بقاء المذنب الحقيقي بمنجاة من العقاب وإلقاء المسؤولية على كاهل عضو تعتبر إرادته لا شأن لها في اقتران الفعل الجانب للقانون لأنه لم يكن له، دور سوى تنفيذ إرادة الجماعة التي يعمل باسمها ولصالحها.
وببحثنا في موقف المشرع المغربي من المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي، نجد أنه أقر إمكانية مؤاخذة الشخص المعنوي على الجرائم المنسوبة إليه والحكم عليه بعقوبات تتلاءم وطابعه الافتراضي، وهذا ما يبرزه بشكل جلي الفصل 127[[16]]url:#_ftn16 من القانون الجنائي المغربي الذي ينص على أنه لا يمكن الحكم على الأشخاص المعنوية إلا بالعقوبات المالية والعقوبات الإضافية الواردة في الأرقام 5 و6 و7 من الفصل 36.
وباطلاعنا على الإطار الذي وردت فيه المادة 127 من ق.ج نجده معنون بـ”الجزء الثاني” –في المجرم- مما يوحي إلى أن الشخص المعنوي قد يرتكب جريمة تستوجب إنزال عقوبة عليه. وهذا يتماشى وحرص التشريعات الجنائية على محاولة تحقيق العدالة على مستوى العقاب، من منطلق كون الطابع الافتراضي للشخص المعنوي ونقصد الشركات لا يعفيها من العقاب، وإن كان الأمر لا يسمح بفرض عقوبة سالبة للحرية فإن العقوبات المالية والتدابير الوقائية من شأنها الحد من جرائم الأعمال التي تعتبر الرشوة واستغلال النفوذ إحدى صورها. ويمكننا القول في هذا الإطار أن نهج سياسة جنائية على مستوى العقاب تقوم على ضرب المجرم في ذمته المالية في علاقة بالشركات لن يحد بشكل فعال من استفحال هذه الجرائم في قطاع الأعمال، ويعتبر الواقع حير شاهد على ما نقول.
المحور الثاني: إغفال التشريع الجنائي المغربي تجريم الأفعال المعتبرة في حكم الرشوة
لقد اصطلح على مرتكبي هذه الجرائم بذوي الياقات البيضاء كدليل على قوتهم الاقتصادية ونفوذهم السياسي وذكائهم اللافت، فهذه الجرائم تؤدي بلا أدنى شك إلى القضاء على المنافسة الشريفة وتؤدي إلى الإضرار بالمقاولات وأيضا بالدائنين والشركاء[[17]]url:#_ftn17 ، وبالتالي الإضرار بالاقتصاد الوطني برمته، فالحياة الاقتصادية تقتضي التخليق من قبيل النزاهة والشرف والشفافية في إبرام المعاملات التجارية وهذا يقتضي من المشرع ضرورة إعادة النظر في خطورتها، على اعتبار أن الأحكام المنظمة للرشوة في القانون الجنائي التقليدي قاصرة على مواجهة بعض الأفعال المعتبرة في حكم الرشوة، على خلاف التشريع المصري الذي عاقب عليها واعتبرها جرائم ملحقة بالرشوة، تتحقق بوجود عنصر سلبي يتمثل في انعدام أي اتفاق سابق بين الراشي والمرتشي[[18]]url:#_ftn18 .
هذا يقتضي منا دراستها في مطلب أول على أن نخصص المطلب الثاني لوضع مقترحات واستنتاجات يمكن الاستعانة بها لتقوية السياسة الجنائية المتبعة.
المطلب الأول: الأفعال المعتبرة في حكم الرشوة
إذا كان المشرع المصري قد عاقب عن هذه الأفعال واعتبرها جرائم ملحقة بالرشوة، فإن التشريع المغربي جاء ساكتا عن عقابها، الأمر الذي جعل رجال الأعمال في منزلة من يتقاضى من الناس “إكراميات” نظير مجهودهم الذين استفادوا منه وتجعلهم يتطلعون إلى الرشوة حينما يتبين لهم أن عملهم يمكن أن يكون سبيلا للإثراء، وتتعلق هذه الأفعال بكل من المكافأة اللاحقة والوساطة.
الفقرة الأولى: المكافأة اللاحقة
المكافأة اللاحقة هي “المقابل الذي يتلقاه المكلف بخدمة ما من صاحب المكافأة بعد أدائه له عملا من أعمال وظيفته أو امتناعه عنه أو الإخلال بواجباته” إذن هي جريمة تتحقق بركن مادي قوامه القبول المنصرف إلى الهدية بدون وجود اتفاق سابق بين المكلف بالخدمة وصاحب الحاجة إلى المكافأة.
فرجال الأعمال غالبا ما يقومون بهذه التصرفات ويتركون تلقي المقابل إلى الفترة ما بعد إنجاز العمل أو الامتناع عنه لإيهام الآخرين بأن قبولهم انصرف إلى تلقي الهدية وهم في حقيقة الأمر يتلقون رشوة ويتهربون من عقوبتها بهذه الطريقة الفنية.
فالفرق الأساسي بين الرشوة والمكافأة اللاحقة هو أن هذه الأخيرة تنتفي فيها فكرة الاتجار في حين أنها جوهر فكرة الرشوة ذلك أن هذا الاتجار يفترض بالضرورة تعليق القيام بالعمل أو الامتناع عنه على المقابل، وهذا التعليق أو الربط هو الذي يجعل من المقابل ثمنا للعمل الوظيفي ويسمح تبعا لذلك بالقول بأن الموظف قد اتجر في هذا العمل. أما إذا قام “المكلف بالخدمة” بالعمل على الوجه المشروع وتحققت مصلحة صاحب الحاجة الذي رأى اعترافا بفضل الموظف أن يقدم إليه مكافأة أو وعدا فقبله فإن هذا الفعل حسب المقتضيات المنظمة للرشوة لا يعتبر جريمة لتخلف معنى الاتجار على خلاف المشرع المصري الذي جرمها من خلال المادة 105 من قانون العقوبات. لهذا فإن أغلبية الفقه المغربي في هذه المسألة ينادي بضرورة سن نصوص قانونية تجرمها، ونحن نؤيد هذا الرأي بعلة أن هذه الأفعال ساهمت بدورها في انتشار الرشوة في صورتها العادية، بشكل جعل من الصعب القضاء عليها إن لم نقل الحد منها، فهذا القصور التشريعي هو الذي يسمح لرجال الأعمال بارتكاب هذه الأفعال للحيلولة دون تطبيق مقتضيات جريمة الرشوة. فتقديم المكافأة وقبولها ولو لم يكن هناك اتفاق سابق يجب أن تخضع للنصوص الجنائية مادامت نية الأطراف انصرفت إلى تقديم المقابل، فأخذ المقابل هو الذي يمثل الخطورة الإجرامية وإذا ما قدمت المكافأة بعد إنجاز العمل تحققت هذه الخطورة.
إن القول بإباحة تقديم المكافأة بعد إنجاز العمل يترتب عنه إفلات الكثير من المرتشين من العقاب عن طريق إضفائهم عليها صفة الهدية أو العطية.
الفقرة الثانية: الوساطة في الرشوة
الوسيط هو الشخص الذي يقتصر دوره على تهيئ اللقاء بين الراشي والمرتشي على أن يتوليا بمفردهما الاتفاق على نوع أو مبلغ الرشوة وكيفية تنفيذها، وقد يقوم بتسلم الرشوة من الراشي وتسليمها للمرتشي.
ورغم كونه العنصر الخطير في جريمة الرشوة فإن المشرع المغربي لم يتناوله بنصوص خاصة، بل تطرق إليه بصفة عرضية في الفصل 251 ق.ج، مما يجعله خاضعا للقواعد العامة للمشاركة المنصوص عليها في الفصل 129 ق.ج، مع أن الواجب كان يقتضي التشدد معه بكيفية أو بأخرى من أجل الإقلال من الجريمة. فإخضاع الوسيط لقواعد المشاركة يؤدي إلى إفلات الكثير من هؤلاء خاصة وأن المشارك يستعير عقوبة الفاعل الأصلي “الراشي أو المرتشي”.
إذا ثبت هذا قلنا أن المكافأة اللاحقة والوساطة هي رشوة مغلفة يختبئ عن طريقها رجال الأعمال في ثغرات القانون وتضارب العمل القضائي، فالهشاشة القانونية هي التي تسمح لهؤلاء بارتكابها للإفلات من العقوبة الجنائية الخاصة بجريمة الرشوة.
وحسب التشريع المصري الذي يعاقب عليها تتحقق بركن مادي يتمثل في الاستجابة للوساطة وأداء العمل أو الامتناع عنه، ويتعين أن يتوافر في الجريمة ركنها المعنوي، فصفة الشخص المختص تتحدد وفقا لذات القواعد المقررة في الرشوة[[19]]url:#_ftn19 . فالرشوة الاحتمالية هي المفترض الأساسي لاعتبارها جريمة في التشريع المصري.
المطلب الثاني: محاولة في تقييم السياسة الجنائية المعتمدة في تجريم الرشوة واستغلال النفوذ
أصبح الاقتناع راسخا اليوم أن تطهير قطاع الوظيفة العمومية بشكل عام وقطاع الأعمال بشكل خاص، من الجرائم المخلة بنزاهة المعاملات والخدمات في هذا الإطار سيسهم في ترسيخ قواعد وأسس اقتصاد وطني مؤهل للمنافسة ومبني على المصداقية والوضوح بدل أن يبقى عليلا. ومن تم سيجنب البلاد متاهة البحث عن ضياع الملايين في محاربة هذه الظواهر الإجرامية الماسة بأخلاقيات المعاملات الاقتصادية.
وإذا كان إجرام الياقات البيضاء في تطور مستمر فإن التشريعات الجنائية المقارنة تواكب وتحرص على عدم الإفلات من العقاب.
نفس الأمر من المفروض أن يسير على خطاه التشريع الجنائي المغربي الذي إذا ما حاولنا تفحص السياسة الجنائية المعتمدة في مجال تجريم الرشوة نجدها تنبني على اعتماد منطق الثنائية في تجريم الرشوة بحيث جريمة الراشي مستقلة عن جريمة المرتشي بدل اعتماد منطق وحدة الجريمة كما في مصر. وإذا كانت نية المشرع الجنائي قد سارت لاعتماد هذا المنطق لسد جميع الثغرات التي قد تسمح بالإفلات من العقاب، فإن الواقع والإحصائيات الوطنية والدولية تشير إلى انتشار هذه الجرائم في القطاع العام بشكل كبير وحتى في القطاع الخاص بشكل أقل حدة.
الأمر الذي يستوجب مراجعة خيارات السياسة الجنائية المعتمدة في تجريم الرشوة خصوصا أن المشرع الجنائي أغفل تجريم جرائم معتبرة في حكم الرشوة كالمكافأة اللاحقة والوساطة التي شأنها أن تترك طرقا للتحايل على القانون وبالتالي الإفلات من العقاب، وهذا الأمر غالبا ما يتقنه مجرمي الياقات البيضاء من منطلق الخبرة والعلم بالقانون.
خـاتمــة:
انسجاما مع التوجهات الحديثة التي أصبحت تنادي بضرورة سن قانون جنائي للأعمال، كان على المشرع المغربي أن يصدر نصوصا قانونية خاصة لسد مختلف الثغرات التي تعرفها السياسة الجنائية المتبعة التي عبرت عن الفشل بسبب انتشار هذه الجرائم في مختلف القطاعات، ولرسم سياج الحماية وتحقيق النزاهة في المشروعات الخاصة التي تعتبر القلب النابض والمحرك الأساسي لعجلة الاقتصاد.
فإذا ما نجح المشرع الجنائي المغربي في الحد من الرشوة واستغلال النفوذ، فإنه سيكون قد وجد الدواء لهذا الداء العضال الذي نخر مجتمعات الدول النامية والذي من كثرة شيوعه أصبح مألوفا، وهذا هو مكمن الخطر بحيث كما يقال لا خير في إدارة دبت فيها الرشوة.
ليبقى الإشكال مطروحا وعالقا رغم المجهودات المبذولة في هذا الإطار من طرف الدولة.
اترك تعليقاً