هل جريمة النشر جريمة سياسية؟
الاجابة على هذا السؤال تقتضى تحديد الجريمة السياسية (22) . وهذا التحديد يتنازعه اتجاهان : اتجاه مادى او موضوعى لا ينظر الا الى موضوع الجريمة وطبيعة المصالح التى تمسها او الحظر الذى تبتعثه (23) ، واتجاه شخصى ينظر الى الباعث على ارتكاب الجريمة لا الى موضوعها و الى المصلحة التى تهددها . والاتجاه المادة اظهر حجة واكثر اتباعا (24) ولذلك وجب اعتبار الاصل فى اسناد الصفة السياسية للجريمة ان ينظر الى موضوعها وطبيعة الصالح المعتدى عليها او المعروضة للاعتداء ، ولا يؤخذ ببواعث المتهم الا على سبيل الاستثناء (25). وكون الجريمة من جرائم النشر لا يستتبع بذاته ان تكون جريمة سياسية ، لان هذا الوصف يتوقف على موضوع الجريمة وطبيعة المصلحة المعتدى عليها . فتعتبر جريمة النشر جريمة سياسية اذا كانت موجهة مباشرة الى النظام السياسى للدولة او تنظيم السلطات العامة فيها او الى رئيس الدولة او حكومتها او اعضائها الحكومة بصفتهم هذه او علاقاتها بالدول الاجنبية . ولا تعتبر جريمة سياسية اذا كان هدفها المباشر قلب النظام الاقتصادى او الاجتماعى او القضاء عليه (26) . لان النظر الى النتائج السياسية المترتبة على هذا القلب او الهدم يكون عندئذ من باب النظر الى البواعث والدوافع .
(22) الجريمة السياسية قديمة قدم الدولة نفسها وكانت الى اوائل القرن التاسع عشر موضع نقمة الدول تختصها بانواع الشدة والقمع . فلما انتهت حروب نابليون وفرقت الاراء الحرة وحدة اوروبا الفكرية واشتدت الفوارق بين دولها فيما يتعلق بنظم الحكم والحرية السياسية والمدنية ، اخذ العطف فى البلاد ذات النظم الحرة . يهب على كفاح المكافحين فى سبيل حرية الشعوب الخاضعة للنظم الاستبدادية وجعل هذا العطف من الجريمة السياسية فكرة قانونية تقررت لاول مرة فى فرنسا بدستور سنه 1830 الذى قضى بعرض الجرائم السياسية على المحلفين وقانون سنه 1832 الذى وضع عقوبات خاصة للجرائم السياسية اخف فى جملتها من العقوبات المقررة للجرائم الاخرى ، وكان للتشريع الفرنسى فى هذا الشان اثرة فى قوانين بلجيكا ودول جنوب اوروبا ودول امريكا الجنوبية وفى سيادة المذهب الحر الذى ساد دوائر الفكر القانونى الى ان اشتعلت الحرب العالمية الاولى والذى تتلخص خطوطة الرئيسية فى تمييز الجرائم السياسية بمزايا اهملها : (1) عرضها على المحلفين . (2) اختصاصها بعقوبات خاصة غير شائنه . (3) استبعاد عقوبة الاعدام فيها . (4) عدم جواز تسليم المجرمين السياسيين . ولكن الحرب العالمية الاولى اعقبت فترة من الفزع السياسى هزت دعائم المذهب الحر اذ ادت شدة الكفاح فى بعض البلاد من اجل سيادة طبقة او حزب الى ايجاد جماعات مغلوبة قوية تتربص الدوائر بخصومها للثار واستعادة سلطانها ، وادت التغييرات الاقليمية والسياسية التى حصلت فى اوروبا تنفيذا لمعاهدات الصلح الى خلق تيارات وحركات انفصالية مما حدا بكثير من الدول الى اصطناع الشده والتوسع فى التشريع الجنائى لحماية نفسها من النشاط الهدام الذى اعتقدت انه يهددها ، والى الغاء المزايا التى كان يتمتع بها المجرمون السياسيون كما حصل فى ايطاليا والمانيا وروسيا .
والواقع ان وضع تعريف دقيق للجريمة السياسية يكاد يكون من المستحيل لاننا اذا قلنا ان الجرائم السياسية هى الافعال التى تثير مخاطر سياسيه او التى تمس مصلحة اساسية ذات طابع سياسى مساسا مباشرا بحكم ما يكون لها من صدى فى الميدان السياسى ، كان ذلك من قبيل تعريف الشئ بنفسه اذ يلزمنا تحديد ما هى المصالح السياسية وما هو الميدان السياسى ، ولعل الصعوبة هو كلمة ” سياسى ” فانها كلمة لا هى دقيقة ولا هى علمية والظواهر التى يسميها الناس سياسية هى طائفة من الظواهر الاجتماعية لا يمكن عزلها عن بقية الظواهر الاجتماعية الاخرى عزلا يمنعها من التاثر بها والتاثير فيها ، وقد استبدل قانون العقوبات الايطالى بعبارة الجرائم السياسية ، عبارة الجرائم الموجهة الى شخصية الدولة ، والعبارة الجديدة تعطى المشكلة صورة جديدة دون ان تيسر لها حلا لان تحديد شخصية الدولة ليس من الهيئات فضلا عن ان المشرع الايطالى فى تعريف شخصية الدولة لم يستغن عن التعبير القديم فانه عرفها بانها هى ذلك المجموع المختلط من المصالح السياسة الاساسية التى تريد الدولة ان تؤكد بالنسبة لها شخصيتها ووجودها كدولة . ذلك الى ان تمييز الجريمة السياسية عن غيرها ليس مقصودا لذاته وانما لاغراض ومقاصد واقعية عملية .
والامم تختلف على هذه الاغراض والمقاصد . فبعضها يريد من هذا التمييز ايلاء مزايا المجرمين السياسيين وبعضها على الضد يقصد ان ياخذهم بشدة خاصة تستاصل شافتهم . ثم ان النتائج السياسية لفعل بعينه تختلف باختلاف البلاد والازمنه وفى اختلافها تتراءى الفروق التى تفرق ما بين عقليات الشعوب والتى تمثل ما بينها من اختلاف فى التطور التاريخى والتقاليد والظم والتفكير القانونى والاخلاقى ، وتقدير الوصف السياسى للجريمة يتوقف الى حد بعيد على تقدير النتائج السياسية التى يمكن ان تترتب عليها وعلى اساس هذا التقدير الاخير يضع المشرع النظام الذى تخضع له الجرائم السياسية فيما يتعلق بالمسئولية والعقاب والمحاكمة والتنفيذ ، واختلاف الشرائع فى تقدير تلك النتائج هو منشا اختلافها فى تحديد الجرائم السياسية فحيث يشتد الخوف من تلك النتائج يكون الغلو والتوسع فى فكرة الجريمة السياسية بقصد البلاغ فى القمع والاستئصال ، وحيث تهون تلك النتائج فى نظر المشرع يكون الرفق والعطف من جانبة على المجرمين السياسيين ، والتشدد فى تحديد طائفتهم حتى لا يزحمهم فى مزاياهم من لا يستحقها من المجرمين الاخرين ( راجع تقرير همريش Hamrich عضو محكمة التحكيم الدولية بلاهاى المقدم لمؤتمر توحيد قانون العقوبات المنعقد فى كوبنهاجن سنه 1935 ص 61 وما بعدها من اعمال المؤتمر المذكور ، وملاحظات الوازى Aloisi المستشار بمحكمة النقض الايطالية على هذا التقرير ص 83 وما بعدها من المرجع السابق وكذا ملاحظات رو Roux المستشار بمحكمة النقض الفرنسية ص 103 من ذلك المرجع ). (23) وبه يأخذ القضاء الفرنسى فقد قضى بان الجريمة السياسية هى الجريمة التى يكون غرضها الوحيد هدم او تغير النظام السياسى فى ركن من اركانه او تغيير نظمة بطريق غير مشروع او المساس بتنظيم السلطات العامة او تعريض استقلال الامة او سلامة اراضيها او علاقات الدولة الفرنسية بغيرها من الدول للخطر . اما ما عدا ذلك من الجرائم التى تمس النظام الاجتماعى فهى جرائم عادية ( محكمة استئناف نيم 24 يوليو سنه 1929 داللوز الاسبوعى 1929 ص 563 ).
وقضى بان جوهر الجريمة السياسية ان تكون اعتداء على الشكل الدستورى للبلاد او على النظم السياسية فيها متجهة مظاهرة الى الحكومة ، فكل عمل يرمى الى تحطيم النظام الاجتماعىاو الاعتداء على النظم الاجتماعية بعيدا عن الشكل الدستورى ـ، سواء كان ذلك بتحريض الطبقات بعضها على بعض او بتحويل الجند عن واجباتهم يعتبر جريمة سياسية بل هو من جرائم القانون العام ولو كان يستهدف غايات سياسية بعيدة او غير مباشرة لانه ينبغى فى تحديد نوع الجريمة النظر الى طبيعتها لا الى الغرض غير المباشر الذى يتخذه المجرم لارتكاب ( محكمة استئناف نانسى 21 ديسمبر سنه 1927 سيرى 1928 –2-84 ) . وبهذا المعنى رو طبعة ثانية ج 1 ص 393 ومابعدها . وجارو ج 1 ص 87 وما بعدها . وفيدال وما نيول طبعة 7 ص 98 وما بعدها ، وجارسون على المادة الاولى ن 146 ومابعدها . وقد قضى فى بلجيكا بان الجريمة تعتبر سياسية اذا كانت وجهتها التى لا وجهة لها سواها سياسية وغايتها المباشرة القريبة direete et imm`ediate المساس بشكل الدولة او بنظامها السياسى وكانت بطبيعتها صالحة لتحقيق هذا الغرض اى لاحداث ذلك الضرر السياسى ( محكمة بروكسل 18 اكتوبر سنه 1933 سبيرى 1934 – 34 ) . وبهذا المعنى براس Braes ص 76 وما بعدها . (24) انظر فى نقد المذهب الشخصى ملاحظات رو Roux التى سبقت الاشارة اليها .
(25) وقد راعى ذلك مؤتمر قانون العقوبات المنعقد فى 1935 فى التعريف الذى وضعه للجرائم السياسية فيما يتعلق بتسليم المجرمين فقال 1- تكون جرائم سياسية الجرائم الموجهة الى تنظيم الدولة او قيامها بوظيفتها وكذا الجرائم الموجهة الى حقوق الافراد المستمدة من هذا التنظيم . – وتعتبر جرائم سياسية جرائم القانون العام التى تكون تنفيذا للجرائم المشار اليها فى فقرة 1 ، وكذا الجرائم التى ترتكب لتسهيل تنفيذ جريمة سياسية او لاعانه فاعلها على الفرار من العقوبة . 3- ولا تعتبر جرائم سياسية الجرائم التى يرتكبها فاعلها غير مدفوع اليها الا بباعث انانى وضيع 4- – ولا تعتبر جرائم سياسية الجرائم التى تخلق خطرا عاما او حالة ارهاب terrenr ويظهر من المناقشة التى دارت فى جلسات المؤتمر انه قد قصد ان يستبعد من عداد الجرائم السياسية الجرائم الموجهة الى سلامة الدولة الخارجية ( ص 333 و 334 من اعمال المؤتمر ) . وقد عرف قانون 23 ديسمبر سنه 1929 الصادر فى المانيا بشان تسليم المجرمين الجرائم السياسية بانها هى الجرائم الموجهة مباشرة الى وجود الدولة او الى سلامتها او الى رئيس الدولة او عضو فى الحكومة او الى هيئة عامة او الى الحقوق المدنية الخاصة بالتصويت او الانتخاب او الى العلاقات الطيبه بين الدولة والدول الاجنبية الاخرى ( انظر ملاحظات الوازى المشار اليها فيما تقدم). (26) راجع الوازى المرجع السابق ص 83 وما بعدها من محاضر اعمال مؤتمر توحيد قانون العقوبات والاحكام التى اشرنا اليها فى حاشية (1) منه وقد اعتمد معهد القانون الدولى فى سنه 1892 قرارا يقضى بانه لا تعتبر جرائم سياسية ( فيما يتعلق بتسليم المجرمين ) الجرائم الموجهة الى اسس كل نظام اجتماعى الا الى دولة يعينها او شكل حكومة بعينه وقد نبة كوللو كالون الى طوفان الشيوعية الذى يزداد خطرة يوما بعد يوم والذى يقتضى التضييق الشديد فى فكرة الجريمة السياسية ودائرتها ” فيما يتعلق بالتسليم ” ومن القائلين بغير ذلك ترافير ج 6 ن 2042 وما بعدها يراجع فى ذلك كله موسوعة القانون الدولى للايرادل ج 8 ص 210 ، 211 ن 243 وما بعدها .
دكتور محمد عبدالله
فى جرائم النشر حرية الفكر – الأصول العامة فى جرائم النشر جرائم التحريض
اترك تعليقاً