دور الخبرة في إثبات الزواج وتحصين الأنساب
إن السؤال الذي يطرح بداهة هو كيف يمكن للخبرة الطبية أن تساهم في إثبات الزوجية؟ فقد جاء في الدليل العملي لمدونة الأسرة “ومن القرائن التي يمكن اعتمادها لوجود العلاقة الزوجية الخبرة المثبتة لعلاقة البنوة إلى المدعى عليه …. “[1] وهذا ما دفع بعض الباحثين إلى القول “إذا أثبتت الخبرة الطبية انحدار الأولاد من المدعى عليه ثبت بذلك الزواج، وثبت بالتالي نسب الأولاد إلى أبيهم”.
وقد ذهب الأستاذ أحمد الخمليشي إلى أن الخبرة الطبية المتمثلة في البصمة الوراثية يجب أن يكون دورها حاسما في إثبات الزوجية، ومن التبريرات التي استند إليها :
– إذا أنكر المدعى عليه الاتصال بالمدعية، وأفادت الخبرة الطبية كونه الأب البيولوجي للطفل، فإن هذه النتيجة تكون مكذبة لادعائه، ومعروف من مبادئ القضاء أن ثبوت كذب المدعى عليه في جوابه يستلزم تصديق المدعي في دعواه.
– في حالة اعتراف المدعى عليه بالاتصال مع ادعائه أنه مجرد فساد، فإن القواعد العامة تفرض كذلك تصديق الأم لأن ادعاءها العلاقة الزوجية هو الأصل والغالب بالنسبة للمجتمع المغربي وبالعكس من ذلك إدعاء الأب الزنا، ومعروف في مبادئ التقاضي كذلك أن من يدعي غير الأصل والغالب هو الذي يكلف بالإثبات، فإذا عجز الأب عن إثبات الزنا الذي يدعيه طبقا للأحكام الشرعية تعين تصديق الأم والحكم بثبوت العلاقة الزوجية …”.
إن هذا الموقف إن كان قد وجد آذانا صاغية من قبل المشرع في (م. أ)، فإنه يعتريه بعض الخلل وهذا ما حدى بالبعض إلى انتقاده، ذلك أن الخبرة الطبية إذا كانت تقوم دليلا على ثبوت النسب فهي تضعف كدليل في إثبات الزوجية، وذلك لأن الأستاذ رجح موقفه بكون مبادئ التقاضي تفرض تصديق المدعي في دعواه، والتصديق ينصرف إلى وجود “الاتصال الجنسي” الذي أنكره الزوج ولا يضفي صفة الزوجية على هذا الاتصال، ومن جهة ثانية فإن ذهاب الأستاذ إلى أن ادعاء المرأة العلاقة الزوجية هو الأصل متعارض مع قوله في موضع آخر أن “العلاقة غير الشرعية تكاد تكون مباحة وأن العزوف عن الزواج ظاهرة متنامية بشكل خطير وعشرات الأطفال يلقى بهم في الشوارع ومستشفيات الولادة” وفي مثل هذه الأحوال فادعاء المرأة العلاقة الزوجية “غالبا” ما يكون وسيلة لستر الفضيحة والعار.
وإذا كنا متفقين مع هذا الرأي على أن الخبرة الطبية المتمثلة في البصمة الوراثية لا يمكن أن تستقل لوحدها كأهم وسيلة لإثبات الزواج، فإنها يمكن ان تكون قرينة مهمة تساعد على إثبات الزوجية وفي نفس الوقت تحافظ على الأنساب، وذلك في الحالة التي ترفع فيها دعوى الزوجية من الزوجة وينكر الزوج هذه العلاقة وتقدم الزوجة بالإضافة الى الوسائل المثبتة للعلاقة الزوجية دفوعا إضافية بإثبات نسب الحمل أو الأبناء المزدادين داخل الأجل القانوني.
أما القول بأنه حماية للأطفال من الوقوع في خانة الأبناء غير الشرعيين، فإن القضاء ملزم بأن يأمر بإجراء الخبرة الطبية في دعوى إثبات العلاقة الزوجية كلما وجدا أطفال من هذه العلاقة ، لا يمكن الأخذ به على إطلاقه ذلك أن من بين الإشكالات التي ستبقى مطروحة، أنه ليس كل اتصال أو معاشرة ثبت حصولها بالتحليل الطبي يرتبط بالشكل الرسمي لتكون الأسرة وهو الزواج بل قد يأتي عن طريق السفاح، وهذا ما يفرض على القضاء التدخل بشكل حازم للحسم في الأمر، فقد جاء في حكم صادر عن استئنافية فاس: «وحيث أنه أمام ثبوت رابطة الزوجية بين الطرفين منذ سنتين عن تاريخ 27/6/95 وهو تاريخ تحرير هذه الرسوم واستمرت هذه الرابطة منذ 1993 إلى ما بعد ازدياد البنت الواقع بتاريخ 4/11/1995 في غياب ما يفيد إنهاءها إضافة إلى شهادة من حضر جلسة البحث من الشهود تكون البنت المطلوب نسبها إلى المستأنف قد ازدادت أثناء قيام العلاقة الزوجية ….. وما إحجام ورفض المستأنف عليه إجراء خبرة طبية للتأكد من تطابق الجينات المتعلقة به وجينات البنت وفاء إلا قرينة قوية وتأكيدا لفصول المقال وحجة المدعية بأن عدم توثيق الزواج في إبانه يرجع لظروف خارجة عن إرادة المستأنفة يتحمل مسؤوليتها عليه بسبب تماطله … الذي يشكل استثناء خاصة وأن المشرع ترك الباب مفتوحا أمام المتنازعين في إثبات الزوجية… ».
وانطلاقا من هذا القرار فإن الخبرة الطبية لا يمكن أن تكون إلا كقرينة مساعدة على إثبات الزوجية في حالة الإنكار، وتزيد قوتها في الإثبات كلما امتنع المطلوب من الاستجابة لطلب إجرائها.
وعموما إذا كان قليلا ما يتم اللجوء للخبرة الطبية لإثبات الزوجية فإن إثارة دعوى إثبات النسب جنبا إلى جنب مع دعوى الزوجية وإعمال البصمة الوراثية عند الإنكار، تكون قرينة قوية على ثبوت النسب للشبهة كلما كانت نتائجها إيجابية[2].
وفي الختام إذا كان الكل مجمع على أن المقصود بالخبرة في صلب الفصل (16) هو “البصمة الوراثية” لا غير فإن الاجتهاد القضائي جعل مدلولها عاما، إذ يمكن الاستناد إلى رأي أهل الاختصاص كلما كان ذلك ضروريا وفي أي موضع سواء لإثبات الزوجية أو نفيها، فقد ذهبت ابتدائية مراكش إلى الاعتداد بالخبرة الطبية لتحديد تاريخ الحمل وبناء عليه قضت ببطلان عقد النكاح، ومما جاء في أحد أحكامها: « وحيث يهدف المدعي من دعواه إلى فسخ عقد النكاح الرابط بينه وبين المدعى عليها، وعدم إلحاق الجنين الذي بالمدعى عليها به، لاكتشاف حمل المدعى عليها مباشرة بعد إبرام عقد الزواج بينهما ولكون حملها كان من 17 أسبوعا في اليوم الموالي للعقد.
وحيث بعدما تأكدت المحكمة بواسطة خبرة طبية بأن حمل المدعى عليها كان قبل إبرام عقد الزواج، تشبثت هذه الأخيرة بمقتضيات المادة 156 من (م. أ) معتبرة أن حملها من المدعي كان أثناء فترة الخطوبة.
وحيث تأكدت المحكمة من خلال البحث المشار إليه أعلاه أن حمل المدعى عليها كان قبل الخطبة بتصريحها هي نفسها، بالإضافة إلى تأكيد ذلك من طرف الشاهدين المستمع إليهما بجلسة البحث، بل إن المدعى عليها أكدت أنها كانت تعاشر المدعي معاشرة الأزواج حتى قبل الخطبة.
وحيث إن التكيف القانوني لطلب المدعي هو المطالبة ببطلان عقد الزواج الرابط بينه وبين المدعى عليها وفقا لمقتضيات المادة 57 من مدونة الأسرة التي تعتبر الزواج باطلا:
2- إذا وجد بين الزوجين أحد موانع الزواج المنصوص عليها في المواد 35 إلى 39.
ومادامت المدعى عليها من المحرمات على المدعي حرمة مؤقتة لأنها كانت حاملا قبل العقد عليها وبالتالي كانت في استبراء وفقا للفقرة الأخيرة من المادة 39 من مدونة الأسرة.
وحيث يتعين تبعا لذلك الاستجابة للطلب وبالتالي التصريح ببطلان عقد الزواج الرابط بين المدعي والمدعى عليها وحيث تعين بالتبعية التصريح بعدم لحوق الابن المزداد للمدعى عليها بتاريخ 25/10/ 2005 بنسب المدعي تطبيقا لمقتضيات المادتين 154 و 149 من مدونة الأسرة [3]».
وإذا كنا نريد في نهاية الأمر أن تلعب الخبرة دورا فعالا في مجال إثبات الزوجية والمحافظة على الأنساب، فإن ذلك مرهون حسب رأي بعض الفقه بأن تتولى لجنة الإشراف على الخبرة الطبية حتى لا يتم التلاعب بما تفضي إليه، ولا يتم اللجوء إليها في حالات الأنساب الثابتة مع العمل على دعم تكاليفها التي لا يقدر عليها إلا القلة القليلة من المواطنين
[1] – دليل عملي لمدونة الأسرة، م س، ص 27.
– تجب الإشارة إلى أن اعتماد الخبرة المثبتة لعلاقة البنوة مقرون بنشوء العلاقة الزوجية إذ جاء في نفس الصفقة ” ومن القرائن التي يمكن اعتمادها لوجود العلاقة الزوجية الخبرة الطبية المثبتة لعلاقة البنوة إلى المدعى عليه وفشو العلاقة الزوجية ولو عن طريق السماع” ما يوحي ضمنيا بأن المشرع ربط إمكانية اللجوء إلى الخبرة الطبية بشرط وجود دلائل قوية ترجح قيام علاقة الزواج.
[2] – يذهب الأستاذ سعد الدين مسعد هلالي إلى إلحاق ابن الزنا بالزاني ويرد على القائلين بعدم الاعتراف برابطة البنوة بينهما إلى أن “قرار الحرمان من الأبوة قرار تأديبي عقابي وليس نصا ملزما، فلو وجدنا عقابا آخر مناسبا كان هذا من حقنا، ثم كيف ننزل عليه العقاب بما يضر البريء ولا يؤاخذ بجريرة المتسبب في وجوده، فتحميل البنوة هو تحميل المتسبب مسؤولية التربية والإنفاق، إذ كما غنم اللذة غرم التربية والنفقة.
لذلك فإن تنسيب ابن الزنا من الزاني ليس تكريما له ولا ينفي بشاعة فعلته، فهو لا يزال في نظر الشارع مجرما يستحق حدا الله فيه، ولكن التنسيب قائم على المجاراة لتنسيب الأم، خاصة مع قضاء العلم على كل الشكوك المتعلقة بتحديد صاحب الماء الذي منه الولد وذلك عن طريق البصمة الوراثية.
ثم إذا صح تنسيب ولد الزنا الكافر من أبيه الكافر في حكمنا دون برهان إلا بادعائهم فلماذا لا يحصل المسلم على تلك الميزة مع اشتراط البرهان لأن ديننا هو دين الحق”.
– سعد الدين مسعد هلالي: البصمة الوراثية وعلائقها الشرعية، دراسة فقهية مقارنة، مجلة العلوم الاجتماعية، الكويت، 2001، ص 375 وما يليها.
– إذا ثبت هذا الرأي بشأن ابن الزنا فإنه من الأولى إلحاق الابن الثابت نسبه بشكل يقيني بواسطة الخبرة الطبية بمن تدعي الأم أنها تجمعها معه رابطة الزواج وينكر ذلك.
[3] – حكم عدد 1132، صادر عن قسم قضاء الأسرة بمراكش بتاريخ 14 يونيو 2004 ملف شرعي 1928 / 8/ 03، منشور بمجلة المناهج ،عدد مزدوج 8 و 9 ، 2005، ص 229 وما بعدها.
اترك تعليقاً