دراسة وبحث قانوني يوضح دور القضاء المصري في التصدي للقضايا البيئية
المستشار الدكتور / أسامة عبد العزيز
تمهيـــد
حمل القضاء أمانة تحقيق العدل منذ فجر التاريخ ، واستشعرت الجماعة البشرية – منذ وعت – الحاجة الماسة إليه ، سبيلاً إلي تحقيق الأمن والطمأنينة ، ونصفة المظلوم ، وقمع الظالم ، وأداء الحق إلي مستحقيه(1) .
فالقاضي هو ظل الله في الأرض ، وهو الأمل بين جنبات المظلومين والغاية المنتهي لكل فار من ظلم مبين . لذا كان العدل ولم يزل حقاً من حقوق الإنسان ، إعمالاً لقول الحق سبحانه وتعالي ” إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل “.
ويقتضي العدل ألا يكون القاضي أداةً صماء لإدارة العدالة ، بل عليه أن يطبق النص القانوني بعد تفسيره وفهم علته ، وأن يؤدي ذلك الدور وهو غير منبت الصلة عن السياق الاجتماعي الذي يعيش فيه ، وفوق ذلك فهو يرقب التحولات والتغيرات التي تطرأ علي المجتمع من حوله ، وعليه أن يوازن بين التفسيرات المختلفة التي تتلاءم مع التغييرات التي تحدث من حوله(2) .
وأياً كان الخلاف الأكاديمي حول بعض الأفكار أو المفاهيم القانونية من حيث المضمون أو الطبيعة أو الآثار ، فإنه من الواضح أن صورتها النهائية تتحدد في ضوء التطبيق العملي لها كما يمارسه القضاء ، وعلي هذا الأخير يقع العبء الأكبر في اختيار صلابة الحلول النظرية التي يفرضها ومدي فاعليتها في الاندماج في الإطار العملي ، وذلك أياً كانت دعائمها المنطقية أو القدرة الإقناعية للمنادين بها ، وتثبت التجربة غير مرة أن كثيراً من الحلول النظرية تمتد إليها يد القضاء بالتعديل تارة وبالمواءمة تارة أخري(3) .
ويعتبر حق الإنسان في بيئة ملائمة ونظيفة من أهم حقوق الإنسان في الجيل الثالث من قائمة حقوق الإنسان التي تقوم علي التضامن الاجتماعي بين الأفراد وعلي واجب الدولة في حماية هذه الحقوق . ولقد أدي التقدم العلمي في المجال التكنولوجي إلي تعديات علي البيئة ومن ثم اعتداء علي حقوق الإنسان(4) .
وقد كانت مصر من أولي الدول التي نادت في المحافل الدولية بضرورة حماية البيئة ، وقد انضمــت إلي برنامج الأمم المتحدة للبيئة منذ إنشائه ، كما تشارك بفاعلية في أنشطة ووكالات وأجهزة الأمم المتحدة الأخرى التي تعمل في مجال البيئة .
ومصر عضو بارز في مجالس وزراء البيئة العرب والأفارقة ودول حوض البحر المتوسط ، كما انضمت إلي العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المرتبطة بحماية الإنسان والبيئة(5) .
والقضاء المصري صرح العدالة الشامخ وحصن أمن المجتمع وأمانه ، ومنارة عدله واستقراره ، وقضاة مصر سدنة العدالة وحماتها . وقد أثبت القضاء المصري الشامخ من خلال ما أصدره من أحكام عظيمة أنه علي مستو عال من الفهم والإدراك والمعرفة لمفهوم البيئة وحقوق المواطنين المتصلة بها ، وأرسي في أحكامه من المبادئ ما يؤكد هذه الحقوق ويرسخها ، ويؤكد الدور المحوري للقضاء في دعم الحريات والحقوق وتحقيق الأمن والأمان والاستقرار في المجتمع(6) .
ولا شك أن فاعلية دور القضاء فى حماية البيئة تمثل مقياساً لمدى تقدير القضاء وكفالته لحقوق الإنسان وبوجه خاص الحق فى البيئة والحق فى التنمية . ومن ثم أصبح من واجب القضاء العمل على حمايتهما بحسبانه الحارس الطبيعي للحريات(7) .
ولئن كان القانون الوطني في كل دولة هو الوسيلة التي من خلالها تنفذ الدولة التزاماتها الدولية بحماية البيئة فإن ذلك لا يتأتى إلا من خلال قضاء وطني فعال لحل المنازعات البيئية وحماية البيئة ، وهو ما ورد فى المبدأ العاشر من إعلان ريو دى جانيرو 1992 ، والذي يصلح أساساً لتطوير حماية الحقوق البيئية على المستوى الإقليمي ، ويطبق القاضي الوطني في سبيل حماية البيئة كلاً من التشريعات الوطنية والاتفاقيات الدولية التي صدقت عليها الدول فى مجال حماية البيئة ، والتي تأخذ قوة القانون(8) .
ولقد تطور قانون البيئة وظهر كأداة حاسمة فى إدارة البيئة ، وباتت درجة وضوح ذلك مؤكدة عندما أصبح القضاء آلية رئيسية لتأكيد التأثير القانوني لتلك القواعد ، ولعب دوراً بارزاً فى دول العالم أجمع لإعمال التوازن بين الاعتبارات البيئية والاجتماعية ، وقد تأكــد ذلـــك من خلال نتائـــج ندوة القضاة العالمية المنعقدة فى جوهانسبرج 18 ـ 20 أغسطس 2002 ، التي جاءت تقرر علي أن ضعف حالة البيئة العالمية يستوجب على القضاة ، بوصفهم حماة حكم القانون الإقدام بجرأة على تطبيق وإنفاذ القوانين الدولية والوطنية السارية التى من شأنها أن تساعد فى ميدان البيئة والتنمية المستدامة فى تخفيف وطأة الفقر وفى استمرار الحضارة وبقائها وفى تأمين قيام الجيل الحاضر بالاستمتاع بنوعية الحياة وتحسين نوعيتها والعمل على ضمان عدم المساس بالحقوق والمصالح الثابتة للأجيال القادمة (9).
وسوف نستعرض في هذا البحث الدور الذي يضطلع به القضاء في الحفاظ علي البيئة من خلال فروع ثلاثة ، الأول يتناول دور القضاء الإداري في صيانة البيئة والحفاظ عليها ، والثاني يتضمن دور جهات التحقيق في اتخاذ التدابير الكفيلة بالسيطرة على الكوارث البيئية ، أما الفرع الثالث فينطوي على الدور المأمول للقضاء الجنائي في تفسير وتطوير القوانين البيئية ، وذلك علي النحو التالي :
الفرع الأول
دور القضاء الإداري في صيانة البيئة والحفاظ عليها
يمكن رصد دور القضاء الإداري في الحفاظ علي البيئة بحسبانها من أهم القيم المجتمعية التي برزت علي الساحة الدولية والوطنية في الآونة الأخيرة ، وذلك من خلال أحكامه الصادرة انتصاراً للبيئة من كل افتئات عليها ، ولو كان من جهة الإدارة ، وسوف نورد علي ذلك أمثلة من واقع القضايا التي عرضت أمام القضاء الإداري .
1- حكم المحكمة الإدارية العليا في الطعن رقم 8450 لسنة 44 ق :
وتتعلق هذه الدعوى بطلب إلغاء قرار جهاز شئون البيئة ، برفض التصريح بدخول إحدى الشحنات إلى البلاد لاحتوائها على مواد ونفايات ضارة ، بزعم أن بعض شركات قطاع الأعمال قد سمح لها باستيراد مواد مماثلة ، وقد كان للمحكمة الإدارية العليا في هذه الدعوى موقفا واضحا في التأكيد على حق الإنسان في بيئة نظيفة باعتبارها من الحقوق الأساسية ، فقضت برفض الطعن وقالت في أسباب قضائها ” ومن حيث إن حق الإنسان في بيئة نظيفة أضحى من الحقوق الأساسية التي تتسامى في شأنها وعلو قدرها ومكانتها مع الحقوق الطبيعية الأساسية ، ومنها الحق في الحرية والحق في المساواة ، فكان أن حرصت الوثائق الدستورية على أن تتضمن نصوصها أحكاما تؤكد هذه النظرة الأساسية ، فضلا عن أن وثيقة إعلان ستوكهولم الصادر عام 1972 قد أكد أن هذا الحق ضمان أساسي لتوفير الحياة الكريمة للإنسان في وطنه ، ويقابل هذا الحق تقرير واجب على عاتقه بالالتزام بالمحافظة على هذه البيئة ..” ، وأضافت أن ” القانون رقم 4 لسنة 1994 الذي أنشئ بمقتضاه جهاز لحماية وتنمية البيئة وتضمنت أحكامه الوسائل الكفيلة بالحفاظ علي البيئة وحمايتها من الملوثات والنفايات الخطرة ، فحظر استيراد النفايات الخطرة والسماح بدخولها …” وأن ” جهاز شئون البيئة قد رفض هذه الشحنة لما تحويه من تراب الرصاص التي يعد من النفايات الخطرة وفقا لقانون البيئة ” ، وأنه ” ..التزاما باتفاقية بازل التي وافقت مصر عليها بقرار رئيس الجمهورية رقم 385 لسنة 1992 ، وهي الاتفاقية الداخلة في نسيج القانون الوطني ولها قوة أحكامه بعد إبرامها والتصديق عليها ونشرها عملا بحكم المادة 151 من الدستور ، وعلى ذلك فإن القرار الصادر في هذا الخصوص جاء موافقا لأحكام القانون بما لا مطعن عليه ” (10).
2- الدعوى الشهيرة بقضية مقر منظمة الصحة العالمية :
أقيمت الدعوى بمناسبة موافقة محافظ الإسكندرية علي تنفيذ توسعات بمبني مقر المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية علي أرض الشارع وشروع الأجهزة المختصة بالمحافظة في ضـم مساحــة الشــارع إلي مكتــب المنظمــة رغم أن الشارع يعد ضمن الأموال العامة التي لا يجوز التصرف فيها .
وقد حكمت المحكمة في الدعوى بوقف تنفيذ قرار المحافظ بالموافقة علي تنفيذ مشروع توسعات مبني المكتب الإقليمي بمنظمة الصحة العالمية علي أرض الشارع .
وذكرت في أسباب حكمها ” أن الشارع محل القرار المطعون فيه من الأموال العامة التي أسبغ الدستور عليها حصانة تحول دون انتهاك حرمتها ، وحظر القانون التصرف فيها إلا بمراعاة المنفعة العامة التي خصص من أجلها أصلاً كطريق من الطرق العامة بالمدينة ” (11).
3-الدعوى الشهيرة بقضية موقف سيارات الأقاليم بسموحة :
وقد أقام بعض سكان منطقة سموحة بالإسكندرية دعويين بطلب وقف تنفيذ قرار محافظ الإسكندرية بتحويل المنطقتين ( ك & هـ ) المخصصتين مكاناً لانتظار السيارات لقاطني الوحدات السكنية الراقية وحديقة عامة إلي موقف سيارات الأقاليم خارج المدينة ، وفي الموضوع بإلغاء هذا القرار ، وقالوا في دعواهم ” أن المحافظة قد أعدت تخطيط عام 1984 وروعي فيه أن يكون ثلثا المساحة شوارع وميادين خضراء ، وخصصت القطعة (–) بهذا التخطيط والتقسيم مكاناً لانتظار سيارات قاطني الوحدات السكنية ، والقطعة (–) حديقة عامة ومنتزهاً لأطفال المدينة ، وبين القطعتين شارع مستجد بعرض 15 متراً ، وأن المحافظ قد قرر تحويل القطعتين المشار إليهما إلي موقف سيارات خارج المدينة وما قد يصاحب ذلك من تلوث وتعريض السكينة العامة والأمن العام في هذه المنطقة للخطر ، وهي المنطقة التي تجاورها المناطق الأثرية الخضراء وما يترتب علي القرار من ضرر بالغ للسكان ” وقد قضت المحكمة بقبول الدعويين شكلاً ، وفي الموضوع بوقف تنفيذ قرار المحافظ بنقل موقف السيارات ، وأسست قضاءها علي أن ” الثابت أن المنطقة قد قسمت كمنطقة سكنية متميزة وفقاً للإجراءات المقررة قانوناً ، واعتمد هذا التخطيط قانوناً كما اعتمد من محافظ الإسكندرية عام 1982 وأن القرار المطعون فيه وإن كان يدخل في نطاق السلطة التقديرية لمحافظ الإسكندرية لتحقيق مصلحة عامة من نقل الموقف إلي موقع يتوسط المدينة إلا أن هذه المصلحة لا ترقي إلي مستوي تلك المصلحة التي سبق من أجلها تخصيص هذا الموقع إلي حديقة عامة ومكان انتظار للسيارات بحسبانها منطقة هادئة ومتميزة ، حفاظاً علي صحة المواطنين وحماية البيئة المحيطة بهم من التلوث(12).
٤- الدعوى الشهيرة بقضية حدائق الشلالات بالإسكندرية :
وتتمثل في الدعوى المقامة ضد محافظ الإسكندرية ، ووزير الثقافة بصفته رئيساً للمجلس الأعلى للآثار ، ورئيس حي وسط الإسكندرية ، وآخرين بطلب الحكم بصفة مستعجلة بوقف تنفيذ القرار الصادر من محافظ الإسكندرية بالترخيص لأحدهم بإدارة واستغلال منطقة حدائق الشلالات وما يترتب علي ذلك من آثـــار ، وفي الموضوع بإلغاء هذا القرار .
وقد قضت المحكمة بقبول الدعوى شكلاً وفي الموضوع بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه وقالت في أسباب حكمها ” بتوافر شرط المصلحة للمدعين وأن مفاد دعواهم المحافظة علي الأوضاع الجمالية والتاريخية لحديقة الشلالات . وأن المادة الأولي من قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 2603 لسنة 1996 قد حظرت علي وزارات الحكومة ومصالحها وأجهزتها ووحدات الإدارة المحلية والهيئات والمؤسسات العامة …إنشاء مبان أو إقامة أعمال في الأراضي الزراعية والحدائق والبساتين وسائر المساحات الخضراء المملوكة أو المخصصة لها أو التي في حيازتها بأي صفة كانت الواقعة داخل كردونات المدن والقرى المعتمدة .كما حظرت توسيع أو تعلية أية مبان أو أعمال قائمة بالفعل علي الأراضي والمساحات المشار إليهــا . ولا يجــــوز للجهة الإدارية المختصة بشئون التنظيم إصدار أي ترخيص بشيء مما ذكـــــــر (13).
5- الدعوى الشهيرة بقضية أنديــة القوات المسلحة والشرطة والمعلمين بشاطئ رشــــدي ومصطفي كامل
أقامت جمعية من جمعيات البيئة دعوى بطلب القضاء بوقف تنفيذ القرارات الصادرة من الجهات الإدارية بالتصريح بإقامة أندية للشرطة والمعلمين والقوات المسلحة داخل حرم البحر بالمنطقة الواقعة بشاطئ رشدي ومصطفي كامل ، وقالت في دعواها أن شاطئ البحر من الأموال العامة التي تخرج عن التعامل فلا يجوز تمكين الأفراد من تملكها والاستئثار بها علي خلاف أحكام الدستور والقانــــون ، وحرمان باقي فئات الشعب من التمتع بهذا المرفق الحيوي الذي أنفقت عليه الدولة مبالغ طائلة في سبيل تنمية السياحة الداخلية وزيادة مساحة الرؤية الجمالية لشاطئ البحر دون عوائق مرتفعة تحرم الجمهور من الاستمتاع بالشواطئ ،وقد اختصم في الدعوى رئيس مجلس الوزراء ورئيس جهاز شئون البيئة ورئيس حي شرق الإسكندرية ورئيس الهيئة المصرية لحماية الشواطئ بصفاتهم.
وقد قضت المحكمة بوقف تنفيذ القرارات المطعون فيها فيما تتضمنه من إنشاء نوادي داخل منطقة حرم البحر ، وقد أقامت قضاءها علي أن الدعوى قد رفعت من جمعية بيئية في إطار الأهداف العامة التي تتبناها الجمعية وما حددته المادة 33 من الدستور من واجب حماية المال العام علي كل مواطن ، ولذلك فإن الدعوى قد أقيمت ممن له صفة ومصلحة في رفعها …، وأن البين أن القرارات الإدارية المطعون فيها قد خالفت المادة 74 من قانون البيئة رقم 4 لسنة 1994 التي تنص علي أن” يحظر إجراء أي عمل يكون من شأنه المســاس بخــط المســار الطبيعــي للشاطئ أو تعديله دخولاً في مياه البحر أو انحساراً عنه إلا بعد موافقة الجهة الإدارية المختصة بالتنسيق مع جهاز شئون البيئة ، …….فضلاً عن خلو الأوراق مما يفيد حصول الجهة الإدارية علي ترخيص من جهاز شئون البيئة عن التقويم البيئي للمنشآت ومدي تأثيرها علي سلامة البيئة البحرية وخواص المياه التي تطل عليها(١٤).
الخلاصة :
ونخلص مما سبق أنه قد أمكن رصد دور حضاري للقضاء الإداري في مجال الحفاظ على البيئة وسلامتها في الأحكام الصادرة منه صيانة للبيئة من أي افتئات عليها ولو كان من جهة الإدارة وإرسائه للمبادئ الآتية :
1- أن حق الإنسان في بيئة نظيفة أضحى من الحقوق الأساسية التي تتسامى في شأنها وعلو قدرها ومكانتها مع الحقوق الطبيعية الأساسية ، ومنها الحق في الحرية والحق في المساواة .
2- الالتزام بالاتفاقيات الدولية التي وافقت مصر عليها ، والتي صارت جزءا في نسيج القانون الوطني ، ولها قوة أحكامه بعد إبرامها والتصديق عليها ونشرها عملا بحكم المادة 151 من الدستور .
3- أن الشارع الذي يعد جزءاً من التخطيط العمراني المتعلق بالشكل الجمالي للمدينة وجزءا هاما من البيئة يعد من الأموال العامة التي أسبغ الدستور عليها حصانة تحول دون انتهاك حرمتها ، وحظر القانون التصرف فيها إلا بمراعاة المنفعة العامة .
4- أن تصرف الإدارة وإن كان يدخل في نطاق السلطة التقديرية للجهة لتحقيق مصلحة عامة من نقل الموقف إلي موقع يتوسط المدينة إلا أن هذه المصلحة لا ترقي إلي مستوي تلك المصلحة التي سبق من أجلها تخصيص هذا الموقع إلي حديقة عامة ومكان انتظار للسيارات بحسبانها منطقة هادئة ومتميزة ، حفاظاً علي صحة المواطنين وحماية البيئة المحيطة بهم من التلوث .
5- توافر شرط المصلحة للمدعين ، وإن كانوا من المواطنين أو من الجمعيات البيئية ، وذلك وإن كان مفاد دعواهم مجرد المحافظة علي الأوضاع الجمالية والتاريخية .
الفرع الثاني
دور جهات التحقيق القضائية في اتخاذ التدابير الكفيلة بالسيطرة علي الكوارث البيئية
تعرضت مصر خلال السنوات الأخيرة لحوادث بيئية أدت إلي تدمير أجزاء من بعض شعابها المرجانية وتلويث شواطئها وسواحلها ، و يمكن رصد دور لجهات التحقيق القضائية من خلال القرارات التي تنطوي على تدابير تحفظية في حال وقوع كارثة بيئية ، ونورد أمثلة علي ذلك بما يأتي :
1- حادث السفينة لاناي الهولندية في سبتمبر 1987 ،
تولت النيابة العامة التحقيق ، حيث أصدرت أوامرها إلي جهاز شئون البيئة بالتنسيق مع هيئـــة قناة الســويس ، ووزارة النقل البحري وشركات البترول في المنطقة بمكافحة 500 طن زيت وقود ثقيل ، وتنظيف شواطئ منطقة شرم الشيخ ، وتم اتخاذ الإجراءات القانونية ضد السفينة ، ثم التنازل عن الدعوى ، بعد إعلان حكومة هولندا التنازل عن ديون عام 1987-1988 ، ودفع مبلغ 750 ألف دولار أمريكي مقابل تكاليف أعمال المكافحة وتنظيف الشواطئ ، ولولا التدخل السريع للجهات القضائية القائمة علي التحقيق لما أمكن تحقيق هذه النتائج (15).
2- حادث سفينة نايوتا التي كانت تحمل العلم البنمي في أكتوبر 1989 ،
والتي قامت بإلقاء كمية من زيت البترول أمام منطقة رأس نصراني بشرم الشيخ ، وأمرت النيابة العامة بالقبض فوراً علي ربانها الإسرائيلي ومنعه من مغادرة مصر ، وتم اتخاذ الإجراءات القانونية ، ثم أفرج عن ربانها وسمح للسفينة بالمغادرة مقابل خطاب ضمان بمبلغ واحد ونصف مليون دولار (16).
3- حادث السفينة الليبيرية لوبرهورن في ديسمبر 1989
والتي جنحت أمام مدخل قناة السويس وتسرب منها حوالي 2000 طن زيت بترول وأصدرت النيابة العامة أوامرها إلي هيئة قناة السويس بأعمال المكافحة واتخاذ كافة الإجراءات القانونية ضد السفينة ومنعها من مغادرة البلاد مع مطالبة ملاك السفينة بتعويض قدره ثلاثين مليون دولار عن الأضرار التي لحقت بالبيئة البحرية ، وتم اقتراح تسويته بالطرق الودية قبل العرض علي القضاء ، وتم دفع مبلغ واحد وربع مليون دولار (17).
٤- حادث السفينة الفيلبينية (باناي سامبا كوتيا ) في ديسمبر 1989
والتي اصطدمت برصيف بترولي تابع لشركة بترول خليج السويس ، ونتج عن ذلك تدمير كامل للرصيف البترولي بالإضافة إلي تسرب نحو 10 آلاف برميل ، وقامت هيئة قضايا الدولة وجهاز شئون البيئة باتخاذ كافة الإجراءات القانونية ضد السفينة ، وأمكن الحصول علي تعويض قدره إثنين ونصف مليون دولار قيمة الأضرار التي لحقت بالبيئة البحرية (18).
تلك كانت أمثلة لبعض القضايا التي كان للجهات القضائية دور بارز فيها انطوي علي اتخاذ إجراءات سريعة من شأنها سرعة الاستعانة بجهاز شئون البيئة لتطهير البيئة البحرية مما قد شابها من تلوث ، والتحفظ علي مرتكبي الجرائم وأدوات ارتكابهم لها مما أدي إلي قيام دولهم بدفع تعويضات نفاذا لمبدأ ” الملوث يدفع “لم يكن من السهل الحصول عليها إلا من خلال إجراءات عديدة قد لا تفضي في النهاية إلي نتائج .
إن التدابير التي اتخذتها الجهات القضائية في الأمثلة السابقة هي خير دليل علي وجوب تفعيل دور الهيئات القضائية في حماية البيئة على المستوى الوطني ، ولا يمكن أن يكون ذلك ممكنا إلا من خلال دراية تامة بقضايا البيئة والتدريب على اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحفاظ عليها والرغبة في العمل على تطبيقها في القضايا البيئية ذات الطبيعة الخاصة في عناصرها وآثارها على الإنسان .
القضاء المقارن
القضاء الفرنسي :
وقد ذهب القضاء الفرنسى إلى أبعد من ذلك عندما اعتبر واقعة إلقاء أسماك ملوثة أو مصابة بتسمم أو تحمل أمراضا معدية من الممكن أن تنتقل إلى الأسماك الأخرى فى المجرى المائى يكفى لإقامة الجريمة المنصوص عليها فى المادة 434 من القانون الزراعى الفرنسى (27).
القضاء السويسري :
كما تبنى القضاء السويسرى أيضا التفسير الواسع للمواد الملوثة موضوع السلوك الإجرامى فى جرائم تلويث البيئة ، وبناء على هذا الاتجاه عمدت المحكمة الاتحادية السويسرية فى حكم صادر لها فى 15/12/1975 إلى تطبيق نص المادة (37) من قانون حماية المياه ، الذى يعاقب على واقعة ترك أو إيداع شئ بطريقة غير مشروعة خارج المياه ، أو تركه يتسرب إلى باطن الأرض ، أو مادة من شأنها تلويث المياه ، وذلك على واقعة إلقاء خزانة حديدية فى مجرى مائى ، وذكرت المحكمة فى حكمها أن يكفى أن الشئ الملقى فى الماء يكون من شأنه إحداث التلوث ، وعلى الرغم من إقرار المحكمة بأن الخزانة الحديدية وحدها لا تكفى لتلويث المياه ما لم تكن قابلة للصدأ إلا أنها ترى أنه نظرا لحالات التلويث الأخرى الموجودة فى هذا المجرى المائى فإن من شأن ترك هذه الخزانة الحديدية زيادة مخاطر التلوث بما يكفى على عقاب من ألقاها فى المجرى المائى(28) .
القضاء الألماني :
وتنص المادة 325 من قانون العقوبات الألمانى على تجريم كل فعل يتسبب فى تغيير التكوين الطبيعى للهواء بحيث يتعرض للتهديد لصحة الإنسان أو الحيوان أو النبات ، وتطبيقا لذلك قضت المحكمة العليا الألمانية فى 13/3/1975 بتأييد حكم الإدانة الصادر ضد أصحاب مصنع لإنتاج سدادات القارورات يستخدم فى طريقة إعدادها مادة كيمائية كانت تنبعث مع دخان المصنع وتسبب لساكنى المنطقة المجاورة بعض الأذى والمشاكل الصحية(29).
كما قضت أيضاً ، فى تطبيق المادة 324 من قانون العقوبات الألمانى التى تعاقب كل من يلوث الخصائص العضوية أو الكيمائية للماء المعد للاستهلاك ، بإدانة بعض رجال الصناعة الذين ضخوا مياه الحقول الجوفية التى تسربت من حفريات البناء فى نهر مجاور ، بحيث أدت إلى تغيير لون مياه النهر، ورفضت المملكة العليا حجة الدفاع بأن الأمر يتعلق عملياً بمياه مجاورة مشابهة لها تقريباً مؤكدة أن الرمال الناشئة عن حفريات البناء هى التى تسربت مع المياه الجوفية وهى التى أفسدت المياه فى النهر ، وتتحقق بذلك أركان الجريمة المنصوص عليها فى المادة 324 من قانون العقوبات الألمانى(30) .
الدور المأمول للقضاء الوطني
ومما سبق يتضح أن الدور الذي يمكن أن تضطلع به الاجتهادات القضائية فى جلاء مضمون المصطلحات القانونية وتحديد أبعادها وعناصرها ، وقد رأينا أمثلة للمدى الذى بلغه القضاء المقارن ، سواء فى فرنسا أو سويسرا أو ألمانيا ، فى التصدى لتفسير وتطوير القواعد المسئولة عن حماية البيئة ، مما يكشف عن حرص ذلك القضاء على توفير أقصى قدر من الحماية للبيئة ضد أفعال التلويث ، ومرد ذلك – في رأينا – إلى قدم تعاطى القضاء المقارن لقضايا البيئة ، مما جعله قضاء خلاقاً فى مجال تفسير القانون البيئى وتطويره فى المجال الجنائى .أما القاضى الوطنى المصرى فلا يزال – للأسف – بعيداً عن معالجة تلك القضايا الحيوية ، فلم يدل القضاء المصرى بعد بدلوه فى هذا الشأن .
ونعتقد أنه فى مجال إثراء الاجتهاد القضائي الجنائي الوطني في قضايا البيئة ، في سبيل التوصل إلى قضاء واع بالقضايا البيئية ملم بالمستجدات الدولية فى هذا الصدد ، أن علينا عملاً شاقاً ينبغي أن نقوم به وطريقاً طويلاً ينبغي أن نقطعه ، فإذا كان قانون البيئة هو الأساس المنهجي لرد الفعل على المشاكل البيئية فإن القضاء هو السبيل إلى تنفيذ هذا الأســــاس بطريقة ينبغي أن تؤتى ثمارهـا ، فالنظام القضائي من خلال إحاطته الواسعة بالمفاهيم البيئية وحساسيتها وإدراكا لدوره تجاه مسئولية تعزيز القاعدة القانونية ينبغي أن يلعب دوراً أعمق بكثير مما يلعبه الآن فى مجال تفسير وتطوير وتنفيذ قانون البيئة .
وقد عبرت مبادئ جوهانسبرج عن ذلك بقولها ” ونعرب عن إيماننا الراسخ بأن الهيئة القضائية بإلمامها الجيد بسرعة اتساع نطاق حدود القانون البيئي ، وبإدراكها لدورها ومسئولياتها فى تعزيز تنفيذ وتطوير وإنفاذ القوانين والضوابط والاتفاقيات الدولية المتصلة بالتنمية المستدامة ، تؤدى دوراً حاسماً فى تعزيز المصلحة العامة فى ظل بيئة صحية ومأمونة ، ونقر بأهمية تضمين القانون البيئي والقانوني المتعلق بالتنمية المستدامة بشكل جيد فى المناهج الدراسية الأكاديمية وفى الدراسات القانونية والتدريب فى جميع المستويات ، ولاسيما فى أوساط القضاة وغيرهم من العاملين فى سير الإجراءات القضائية(31) .
وفى سبيل الوصول إلى هذه الغاية ينبغي علينا وضع خطط متكاملة من شأنها تكوين الكوادر القضائية المتخصصة فى مجال إنفاذ قوانين البيئة لإمكان قيامهم بتفسير النصوص التي تتضمنها تلك القوانين كمتخصصين وإعمال التوازن بين الحاجة لتطبيق النص وتحقيق دفاع المتهمين ، والقضاء وحده هو الكفيل بتحقيق الغايات المستهدفة من قواعد القانون ويمكن ذلك فى نظرنا بالعمل على تحقيق المبادئ الآتية : ـ
(1) العمل على تخصيص دائرة فى كل محكمة ابتدائية للفصل فى قضايا البيئة ، وأن تكون هذه الدائرة مزودة بعضو فني خبير ، وأن تتسم إجراءاتها بطابع خاص يتفق وخطورة المشاكل البيئية بحيث تتم في سرعة وحسم سيما في القضايا المتعلقة بالكوارث البيئية .
(2) تدريب القضاة الذين يشغلون تلك المحاكم على التصدي للقضايا المتعلقة بالبيئة والعمل على إلمامهم بالمستجدات على الساحة الدولية ودراستها لتكوين الخلفية القانونية المتخصصة لهؤلاء القضاة ولتكوين رعيل متخصص منهم ، ولا يكون ذلك إلا من خلال الاحتكاك المباشر مع القضاء المقارن في إطار العديد من المؤتمرات والندوات العلمية وتبدل الزيارات .
(3) إطلاع القضاة على جميع المعاهدات التي انضمت إليها مصر وتدريبهم على تطبيق أحكامها تطبيقاً واعياً بطبيعتها الدولية وانعكاس ذلك التطبيق على المستويين الوطني والدولي .
(4) إنشاء بنك للمعلومات البيئية ، يمكن القضاة من الإلمام بكافة المستجدات علي الصعيد الدولي في مجال صيانة البيئة . ونعتقـــد أن ذلك من شأنه ، تعزيز قدرات القضاة وكل من لــــه دور حاسم فى المستوى الوطني في عملية تنفيذ وتطوير وإنفاذ القانون البيئي بما في ذلك الاتفاقات البيئية متعددة الأطراف وبخاصة عبر الإجراءات القضائية ، وكفيل بخلق جيل جديد من القضاة يؤمن بقضايا البيئة وأهميتها ويلم إلمامها كافياً بقواعد إنفاذ قوانينها ومعاهداتها الدوليـة ، و يدرك البعد العالمي للمسألة كحق من حقوق الإنسان ..
الهوامش
(1) المستشار / سرى صيام ، استقلال القضاء ، بحث منشور بالمجلة العربية للفقه والقضاء ، عام 2000م .
(2) د. أحمـد عـوض بلال ، المذهب الموضوعي وتقلص الركن المعنوي ، دار النهضة العربية ، طبعة 1998 ، ص 217 .
(3) المرجع السابق ص 225 .
(4) التقرير الوطني بجمهورية مصر العربية ، المقدم إلى المؤتمر التاسع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين ، القاهرة 28 أبريل ـ 8 مايو 1995 .
(5) المرجع السابق .
(6) المستشار / محمد عبد العزيز الجندي ، مبادئ قضائية فى قضايا بيئية ، محاضرات ألقيت على السادة وكلاء النيابة المركز القومي للدراسات القضائية .
(7) د. أحمد فتحي سرور ، كلمته أمام الجلسة الافتتاحية لاجتماع رؤساء المحاكم العليا العربية ، 24 نوفمبر 2004م الذي تنظمه المحكمة الدستورية العليا فى مصر بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة ، ص 2 .
(8) المرجع السابق ، ص 11 .
(9) Monjit Eqbal , UNEP, outcom of the global Judges Symposium on Sustainable development and the Role of law , research to conference “ the role of Judiciary in the development of Environmental law in the Arabian Region” .
وانظـر أيضـاً مبـادئ جوهانسبرج لدور القانون والتنمية المستدامة المعتمدة فى الندوة العالمية للقضاة المعقودة فى جوهانسبرج ، جنوب أفريقيا فى الفترة من 18 ـ 20 أغسطس 2002م .
(10) الطعن رقم 8450 لسنة 44ق ، جلسة 21 فبراير 2001 .مجموعة أحكام المحكمة الإدارية العليا ، س 42 ، ص410 .
(11) حكم محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة بالإسكندرية في الدعوى رقم 1017 لسنة 49ق ، جلسة 7 مايو 1992 .
(12) حكـم محكمـة القضـاء الإدارى بمجلـس الدولـة بالإسكندرية فى الدعويين رقمي 792 لسنة 47ق ، 1592 لسنة 48ق ، جلسة 2 يونيو 1994 .
(13) حكم محكمة القضاء الإداري في الدعوى رقم 4436 لسنة 58ق ، جلسة 22 أغسطس 2000.
(14) حكم محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة بالإسكندرية فى الدعوى رقم 1694 لسنة 55ق ، جلسة 14 يونية 2001 .
(15) الأهرام 26-6-1990 .
(16) البيئة والتنمية ، العدد 24 ، سبتمبر 1989 ، ص10 .
(17) البيئة والتنمية ، العدد 38 ، يناير 1990 .
(18) البيئة والتنمية ، العدد 40 ، مارس 1990 .
(19) انظر في ذلك المواد 40 ، 46 ، 58 من القانون 4 لسنة 1994 فى شأن البيئة .
(20) انظر في التعليق على هذا الحكم الصادر بجلسة 15/12/1975 .
Anne Petitpierre , Portee et limite du droit penal dans la protection de l’environnement , Rev. pen. Swiss., 1984, 3. P.288 .
(21) Cass., 15 Nov. 1989. Pas. 1990 P. 326. ch. sem. Jur. 1086.
(22) Cass. Crim. 14 Nov. 1963, Bull. Crim. 1963, P. 682.
(23) د. نور الدين هنداوى ، الحماية الجنائية للبيئة ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1987 ، ص 106 .
(24) Trib. Ins. Belfort, 15 Dec. 1966, Gaz. Off. Peche, 1967, 274.
(25) Trib. Ins. Rennes, 11 Jan. 1967, Gaz. Off. Peche, 1967, 277.
(26) Trib. Corr. Ville France – Sur – Sane , 25 Jui. 1950. D. 1950. P. 369.
(27) Mancy, 1 Oct. 1975, Gaz. Off. Peche. , 1975, 545
(28) Anne Petitpierre , Portee et limites du droit penal dans la protection de l’environnement . op . cit .229.
(29) انظر في تفصيل هذا الحكم والتعليق عليه ،
Klaus Tiedemann, Theorie et reforme du droit penal. De l’environnement, Rev. Sc. Crim. , 1978 . 4. P. 266.
(30) الحكم مشار إليه فى المرجع السابق ص 267 .
(31) مبادئ جوهانسبرج حدود القانون والتنمية المستدامة ، مرجع سابق .
اترك تعليقاً