‘ قــــــوانــــيــن إرهــــابــــيـــة
كما جسم الإنسان، تكون الأمم، تعتل و تبرأ، تتخلف و تتقدم، تحيا وتموت، إلا أمتنا المصون، فإن اعتلَّت لا تبرأ، و مهما تخلفت، لا تتقدم، و إن حضرها الموت، لا تطلب الحياة.
و من المعلوم، أيضاً، أن ساعات المرض أو فترات التخلف ما هي إلا كبواتٌ تصيب أي مجتمع من المجتمعات، ولكنها، عند غيرنا، لا تعدو عن كونها هنَّات عارضة، ما إٍن تتعثر بها أمةٌ من الأمم، حتى تنهض من جديد أقوى من ذي قبل، و سرعان ما تزول آثار تلك الهنَّات بإصرار أبناءها على الحياة، وبقوة عزائمهم واتقاد فكرهم، وهم بفعالية يدفعون أممهم إلى التعافي والعودة إلى السباق الحضاري من جديد.
واستناداً إلى مبدأ “إن استشرى الفساد و شاع في مجتمعاتنا، صار صلاحاً بحكم بدهية الاعتياد”، ينظر المرء إلى جرائم ما يسمى بالشرف كمثال صارخ على الفساد الاجتماعي “المدعوم” قانونياً في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أكثر من دعم الخبز، و السكر، والأرز.
وجريمة الشرف هي التسمية القانونية لكل عمل إجرامي تمت فيه زهق حياة أنثى، خطئاً، أو عمداً، أو قصداً، أو عن سبق الإصرار والترصد لاتهامها الظني أو اليقيني بإقامة علاقة جنسية خارج إطار الزوجية.
وجريمة الشرف تكتمل أركانها بأن يقوم ذكر أو “فحل” بإزهاق روح أنثى ثبت أو تُكُهِن بأنها تقوم، أو قامت بممارسة الجنس مع ذكر خارج إطار الزوجية، ومن غير المستهجن أن يظهر قاتل “الشرف” هذا بعد عملية الذبح مبتسماً قرب ذبيحته مفتلاً شاربيه ، واضعاً قدمه اليمنى على صدرها، وسكينه تقطر دماً و منتظراً حضور الشرطة دون هلع يذكر لتقوده برقة وأدب إلى سجن مؤقت قد لا يغلق بابه عليه أكثر من عامين عند اشد القوانين إنسانية عندنا.
ومجرم الشرف مميزٌ قانونياً في معظم البلدان الإسلامية أو العربية من حيث أنه لا يُعاقب كما يعاقب المجرمين الآخرين، بل يُربت على كتفه إجلالاً وإكباراً لفعلته “الشريفة” بقتل إحدى نسائه انتصاراً لما يعتقد انه صون شرفه و كرامته.
لقد ترافق استعمال كلمة “جريمة” ارتبطت في كافة لغات العالم بالصفات السلبية حصراً مثل: جريمة تزوير، جريمة سرقة، جريمة قتل أو جريمة بشعة، أو جريمة حقيرة. ولم يحدث في تاريخ البشرية أن ارتبطت كلمة “جريمة” بصفات ايجابية كالقول: جريمة محبة، أو جريمة صدق، أو جريمة جميلة. وبالرغم من أن كلمة “جريمة” ذات مدلول سلبي، وكلمة “شرف” ذات مدلول إيجابي، فقد ربطت الفئات الغوغائية في المجتمعات العربية و الإسلامية كلمة “جريمة” السلبية، بكلمة “الشرف” الايجابية مما يؤكد بداهة سلبية و تفاهة المدلول الواقعي لهذه الكلمة – “الشرف” عندهم، والتي بفعلهم جعلوها لا تتميز في معناها عن مرادفات مثل “تزوير، سرقة، قتل، بشعة، حقيرة.”
و الأنكى من ذلك، فقد أصبح هذا القانون مطية وملجأً لمن يريد أن يتخلص من إحدى نسائه بأقل الخسائر الممكنة. فإرثٌ وافرٌ من أنثى قد يُضحّى من أجله بسنة سجنٍ أو اثنتين لا الأكثر، ليخرج بعدها ويبني منزلاً جديداً بدم أنثاه المغدورة، ولا ينسى أن ينقش فوق باب بيته الجديد عبارة “هذا من فضل ربي” والأحق أن يكتب عبارة: “هذا من فضل دم أختي وقانون بلدي”
وكثيراً ما يُلَمَّحُ إلى ربط هذه القوانين المتشبثة بالتخلف، بأرضيات إسلامية ظلماً وعدواناً، أكثر من ردها إلى أخلاقيات عنصرية متوارثة، فيزيد هذا الربط الطين بِلةً، ويخلط الحابل بالنابل، ويضيِّع دم شرف الحقيقة بين أصحاب سيوف الجهل من السادة المتفزلكين عجائز و رؤوس العوائل، و زعران الحارات و قبضاياتها حين يتبارون بالمزايدة على بعضهم بمقدار الشرف الذي يملكه كل واحد منهم، أو يتخافتون بالمباركة لإراقة دم إنسان فقط لأنه لم يخرج عن طبيعته الإنسانية و أقام علاقة جنسية خارج إطار الزواج وهم يرددون “لا يسلم الشرف الرفيع …. حتى يراق على جوانبه الدم” و هم لا يعرفون معنى “الشرف” ومن قبلها و بعدها “الرفيع”.
فإسلامياً لا يوجد ما يسمى بــ “جريمة شرف” ولا يوجد لها أو لمثلها أي حماية أو تبرير… ففي دول تحكم بالشرع الإسلامي حصراً،… وفيما عدا الاعتراف الصريح على الذات، ومطالبة المُعْتَرِف بإقامة حد الرجم عليه أو عليها، وهذا نادرٌ ندرة تصل إلى درجة الاستحالة، تعتبر فرصة إقامة حد الرجم على الزاني، أو الزانية ضيقة جداً إلى درجةٍ يستحيل فيها تقريباً تطبيقه بالادعاء لدى القضاء. فشهادة ثلاثة يدعون بأنهم شاهدوا الميل في المكحلة ورابع شاهد الواقعة إلا انه لم يرى الميل في المكحلة، لا تكفي بل تبرأ المدعى عليه أو عليها وتجعل الشهود الأربعة تحت رحمة المدعى عليه/عليها من حيث أنه يصبح لديه أو لديها الحق بالمطالبة بجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة لثبوت القذف.
إذا كان الدين ينظر بعين الريبة والشك لشهادة ثلاثة شاهدوا الميل في المكحلة وواحد لم يشاهد الميل في المكحلة، فكيف سينظر إلى ثلاثة فقط شاهدوا الميل في المكحلة؟ الجواب أنه سيجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة بتهمة القذف الثابتة لعدم وجود أو توفر شاهد رابع، ويبرأ المدعى عليه أو عليها من تهمة الزنى. فكيف لو أنه هنالك مدعٍ واحد على واقعة زنا؟ الجواب هو: سيجلد ثمانين جلدة ويبرأ المدعى عليه.
ماذا يحكم الشرع الإسلامي في حالة أن أخاً قتل أخته بعد مفاجئته إياها مع رجل وقد شاهد الميل في المكحلة؟ الجواب: هو الحكم وفق مبدأ العين بالعين والسن بالسن والحياة قصاص، أي يقتل بأخته حتى ولو أنه قام بتصوير الواقعة مظهراً الميل في المكحلة، لماذا؟ لان الدين الإسلامي دين تشريع وقوانين وحقوق تحفظ للناس، وليس مافيا شوارع أو قانون غابة يأكل فيها القوي الضعيف. وتنفيذ أي حكم، له أصول وترتيبات إجرائية يجب أن تراعى ويتوقف تنفيذها إن حدث هنالك غياب لأحد عناصر تلك الإجراءات.
يفهم مما سبق أن هنالك إجراءات يلتزم الشرع الإسلامي بكمالها وصحتها تماما مثل جميع القوانين الغير سماوية الغربية والشرقية، فهنالك كثير من المجرمين الذين يحرمون من الحقوق المدنية لمُدَدٍ مختلفة بعد قضائهم عقوبة السجن، فهل يقبل القضاء الغربي أو الشرقي أو المحلي شهاداتهم حتى ولو كانت شهادتهم ضرورية ، أو حاسمة؟ الجواب ببساطة: لا يقبل حتى ولو ترتب على ذلك ضياع حق أكيد.
إذا فالدين و هو الموصوم بالتخلف و الإرهاب عند الكثيرين لا يحمي قاتل أخته المتهمة بشرفها، بل يذيقه من نفس الكأس التي أذاق أخته منها، بينما القضاء في معظم الدول الإسلامية و العربية يحمي قاتل أخته، أو زوجته، أو من هي تحت جناحه من تجرع نفس الكأس و ذلك بتبرير جرمه وتخفيف الحكم عليه إلى ابعد حد.
والقانون إذ يقوم بتخفيف الصفة الجرمية عن القاتل بدعوى صون الشرف، يعمل على التشهير والتعريض و الإساءة المعنوية للمغدور (إن وجد)، أو المغدورة، وإلى ذريتها من بعدها، إن وجدت، إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، كما يقوم بتشجيع بعض الذكور للإجهاز على إناثهم أو ما ملكت أيمانهم بداعي صون الشرف، وذلك للحصول على ميراثهن أو تحقيق مآربهم في إزاحتهن لتحقيق مصالح رخيصة أخرى بطرق قذرة ورخيصة، وهذا مخالف لبداهة وجود القانون أصلا، وبداهة حق الحياة الحرة الكريمة.
عملياً، ماذا لو فاجأت الأخت أخيها في فعل فاضح، أي ميله في مكحلة ابنة الجيران، فامتشقت سكينها وأغمدته في صدره انتصاراً لشرف العائلة؟ هل تسمي الشعوب الإسلامية أو العربية فعل هذه الأخت، بالفعل النبيل؟ هل يُقبِّلُ أبيها رأسها وتزغرد أمها ابتهاجاً؟ هل يقول لها ضابط الشرطة همساً “الله يسلم يديك” حين اقتيادها؟ هل يوصّف القانون هذا الفعل بــ “جريمة شرف”؟ الجواب وبدون عناء هو: لا.
ففي هذه الحالة، إن حدثت، وهي لا تحدث ولن تحدث، يسمّى فعل الأخت بـ “الجريمة النكراء” وتحاكم وتسجن وفق أشد القوانين المرعية عند اقتراف جرائم مشابهة، ولا تستفيد الأخت “المستشرفة” من المخففات القانونية التي تختزل سجنها إلى عامين على الأكثر لأنه، وببساطة، لن يصدقها أحد، ولن تستفيد هذه الأخت من محيطها الغوغائي إلا في استقطاب ملايين التساؤلات والشكوك عن سبب فعلها وخلفياته، ولن تَعْدَمَ من يقول أنها “انتقمت لنفسها من أخيها”، فـ “الشرف” هنا تاج يوضع على راس الذكور دون الإناث، ألا إنها قسمةٌ ضيزى.
لقد وِجِدَتْ الدول والحكومات لتقيم العدل وتضمن الأمن والحرية لجميع من ينضوي تحت سيطرتها، لا لأن تسن قوانين تشجع على الظلم و الإرهاب واسترقاق رقاب نصف المنضويين تحت سيطرتها من النساء بتمكين بعض ضعاف النفوس من الذكور من تحقيق مآرب مادية أو معنوية جرَّاء تسليمهم رقاب نسائهم.
إن القوانين المعتمدة، بهذا الصدد، تعتبر شريكاً متضامناً في جريمة قتل تُنَفَّذُ عن سبق إصرار وترصد، لذا فمن الواجب القبض عليها وتنفيذ حكم الإعدام بحقها دون رحمة أو شفقة، كخطوة فعالة ليتم تنظيف المجتمعات الإسلامية و العربية من هذه القوانين الإرهابية التي تخالف كل الشرائع السماوية، وقيم الحرية الشخصية، وتتماشى مع قوانين هولاكو وجنكيز خان، ولتجرب هذه الحكومات أن تلغي العوامل المخففة، فعندها لن يتجرأ صاحب أكبر و أعرض شارب أن يلمس أخته بسوء حتى ولو فاجأها مع عشيقها كل يوم.
لطالما قال أجدادنا الأموات و الأحياء أن خطوط الحراثة العوجاء سببها الثور الكبير، والثور الكبير هنا، هو جملة القوانين الممالئة للقاتل، و خطوط الحراثة هي أساليب تفكير المجتمعات المحكومة بهذه القوانين. أما آن لنا أن نُفْتَحُ لثورنا عينيه على المساواة ونبذ إرهاب القوانين، فتنتظم خطوط حراثتنا خلفه وننتظم بين أمم البشر بشراً.
* بقلم د. على الأمين *
اترك تعليقاً