مبدأ نزاهة الدليل الجنائي”
قد تثار في الواقع العملي أمور كثيرة من شأنها التأثير على إرادة المتهم بشكل أو بآخر في مرحلتي الشرطة أو النيابة العامة سواء كانت تتعلق بعمليات البحث والتحري والاستجواب وجمع الأدلة، كالإكراه المادي والمعنوي أو التنصت أو تسجيل الأحاديث الخاصة أو الاستجواب المطول أو النفسي وغيرها من الأمور. في حين حظر مبدأ نزاهة الدليل الجنائي كل تلك الأمور والذي يعني التوازن بين الحق في الحصول على الدليل ومعرفة الحقيقة وهو واجب على سلطات التحري (الشرطة)، التحقيق (النيابة العامة) والحكم.
بعبارة أخرى يعني التطابق بين وسيلة البحث عن الدليل مع احترام حقوق الفرد وكرامته الإنسانية واعتبارات العدالة، فيحظر بإعمال ذلك المبدأ أي أسلوب غير مطابق للمبادئ الأساسية للنظام القضائي بقصد الحصول على عناصر الدليل.
وباستقراء غالبية النصوص الإجرائية نجد أنها خلت من ذكر ذلك المبدأ صراحة، فيكون الاعتماد في ذلك على الفقه والقضاء والمواثيق الدولية والإقليمية التي أسهبت في التحدث عنه.
نذكر على سبيل المثال لا الحصر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أشار بما يُستخلص منه ذلك المبدأ وهو «عدم خضوع أحد للتعذيب ولا للعقوبات والمعاملات القاسية، غير الإنسانية أو المهينة»… كما ذكر في موضع آخر «ولا يخضع لتدخلات تعسفية في حياته الخاصة، في أسرته، في محل إقامته أو اتصالاته ولكل شخص الحق في حماية القانون ضد هذه التدخلات».
وعلى صعيد الإعلانات أو الاتفاقيات الدولية ذات الطابع الإقليمي نجد أن الاتفاقية الأوروبية تتناول جانبا كبيرا في حقوق الإنسان وحرياته، والآلية القضائية لهذه الاتفاقية تتمثل في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والتي تحتل أيضا مكانة بالغة الأهمية على صعيد الرقابة والتدخل بقصد حماية هذه الحقوق بالنسبة لمواطني الدول المتعاقدة، حيث أوردت نصوصا تتشابه مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وعلى الصعيد الدستوري وإن لم يتم بيان ذلك المبدأ صراحة في غالبية المتون الدستورية، إلا أن الدستور الفرنسي الأقرب للتأكيد عليه، حيث حظر استخدام وسائل وأساليب احتيالية لأغراض سياسية واعتبر السلطة الحارس على الحريات الفردية وذلك في المادة 64 منه.
كما أن الدستور البحريني أيضا قد أوضح بما يُستخلص منه ضمنا إعمال ذلك المبدأ في المادة 19 منه.
وعليه، وإن كانت النصوص في التشريعات الجنائية مازالت قاصرة عن بيانه صراحة، فإن المبادئ العامة تتطلبه بالإضافة إلى أن الواقع العملي يقتضيه لأهميته في إدارة العدالة بشكل صحيح وتماشيه مع صون حريات الأفراد، وحاجته تنسحب على كل من له دور في الخصومة الجنائية، وذلك للحد من عدم الالتزام بالشرعية الإجرائية أو الموضوعية والتي يسلب دليل الإدانة بواسطتها كأخذ اعتراف من المتهم بطريق الإكراه مثلا أو المساس بأحد حقوقه أو الحد من بعض خصوصياته.
وأخيراً فإن هناك مجموعة من النتائج نخلص إليها في حال الأخذ بمبدأ نزاهة الدليل، وهي:
– احترام السلامة الجسدية والمعنوية للشخص الذي يخضع لإجراءات الخصومة الجنائية، ولا يتأتى ذلك إلا بحظر كل أنواع وأشكال الإكراه المادي والمعنوي الذي يقع على مثل هذا الشخص وفي جميع مراحل الخصومة الجنائية وفرض الجزاء الجنائي والإجرائي والموضوعي، إضافة إلى المدني على مخالفة هذه الحظر.
– احترام كل ما يتعلق بالحقوق اللصيقة بالشخص والتي تتمثل في حرمة مسكنه وسرية اتصالاته، واحترام حقوق الدفاع التي وردت في القانون الوضعي أو القانون الطبيعي.
فإذا التزم القائم على البحث عن الدليل مبدأ نزاهة الأدلة، فإن عمله هذا لا يعتبر بحال من الأحوال تفضلا أو مثالية، وإنما ذلك هو التطبيق السليم لقاعدة مشروعية الدليل الجنائي والتي مؤداها أن الوصول إلى أي دليل أو الحصول عليه يجب أن يكون بوسيلة مشروعة، حتى ينتج أثره وهو الاعتداد به في مجال الإدانة وإلا تعرض للاستبعاد كونه سيكون وليد إجراء غير مشروع.
– التخفيف من مبدأ حرية الدليل في النطاق الجنائي، حيث ان القاضي الجنائي وإن كان حرا في الأخذ بأي دليل إلا أنه في الوقت ذاته ملزم بعدم الأخذ بدليل غير نزيه أو تم التوصل إليه بطريق غير مشروع، حيث يتعين عليه التطرق إلى بحث كيفية الحصول على الدليل وفحص كل ما يعيب أو يهدر قيمته في مجال الإثبات ليؤسس حكمه بشكل سليم.
قصارى القول، نأمل أن يتم الاتساع في تطبيق ذلك المبدأ في الواقع العملي لتجد بالوقت ذاته نتائج ذلك المبدأ السابق ذكرها حيزا أكبر من الوجود
* بقلم : د.نفيسة دعبل *
اترك تعليقاً