مقال قانوني بعنوان سريان القانون أو الحكم الشرعي و نظرية الحقوق المكتسبة
عبد الله صيام
متخصص في الشريعة الإسلامية
ومحامٍ شرعي
تطبيق قواعد الشريعة على قواعد القانون الدولي الخاص
واجه مشرعو القانون في مصر في السنين الأخيرة بعض تغييرات في قوانين الأحوال الشخصية ولائحة ترتيب المحاكم الشرعية، وتعديلات اقتضتها التطورات الاجتماعية ومصالح الأسرة والرغبة في قطع دابر التحايل في الدعاوى الشرعية كالقانون رقم (25) سنة 1920 الخاص بأحكام النفقات وبعض مسائل الأحوال الشخصية والقانون رقم (56) سنة 923 الخاص بتحديد سن الزواج، والقانون رقم (25) سنة 1929 الخاص ببعض أحكام الطلاق والتطليق للضرر ودعوى النسب ونفقة العدة والمهر وسن الحضانة والمفقود، فلم يسع المشرعين لهذه القوانين والناقلين بعضها عن المذاهب الأخرى غير مذهب الحنفية إلا أن يطبقوا نظرية الحقوق المكتسبة على ما كان منها ملغي أو معدلاً لقوانين أو أحكام سالفة مسايرة للمبدأ العام مبدأ احترام الحقوق المكتسبة في الانتقال في قانون إلى قانون معدل له أو ناسخ فهل نستطيع أن نجد في مثل هذا الانتقال بين الأحكام الشرعية وترك العمل بحكم شرعي في مذهب من مذاهب أئمة المسلمين للعمل بحكم آخر في مذهب آخر يتبين أنه أحسن منه ملاءمة وأصلح لأحوال المجتمع ما يبرر الأخذ بنظرية الحقوق المكتسبة وإذا استطعنا أن نجد لهذه النظرية التي يزعم مشرعوها أنها وليدة المدنية الأوروبية أصلاً في أصول شريعتنا الإسلامية ومبادئها فما مدى احترامها والمحافظة عليها في الدين الإسلامي مع الموازنة بينه وبين القوانين الوضعية في سريان أحكامهما من حيث الزمان أو المكان أو الأشخاص وما تقرره مبادئهما العامة في ذلك ؟
ذلك ما سنوضحه بما يلي:
الأصل ألا يسري القانون إلا من حين نفاذه والعمل به، ولا يطبق على الحوادث والوقائع التي حصلت قبل صدوره، وهذا ما يسمونه (نظرية عدم سريان القانون على الماضي)، ويقولون في هذه الحالة: ليس للقانون أثر رجعي وحكمة ذلك ضمان الحقوق المكتسبة التي ترتبت على الوقائع الماضية وجعل أصحابها في مأمن من إلغائها أو ضياعها ليكون الناس على ثقة بالحقوق القانونية واطمئنانًا إلى القوانين.
غير أنه قد يكون للقانون أثر رجعي أي يسري على الماضي في حالات ثلاث:
1 – إذا نُص في القانون صراحةً أنه يسري على الماضي وكذلك إذا صدر قانون في مواد الجنايات أصلح للمتهم وأرفق به فإنه في هذه الحالة يغلب الاعتقاد بأن القانون القديم غير عادل فيعمل بالجديد مراعاة للعدل في جانب المتهم لكن قد نص الدستور المصري في المادة (6) أن لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذي ينص عليها، فمنع الدستور المصري بذلك تشريع عقوبة تسري على الماضي.
2 – والقانون الذي يصدر من سلطة تشريعية تفسيرًا لقانون سابق فإنه يعتبر جزءًا من القانون المفسر ويطبق على الوقائع التي يطبق عليها القانون الأصلي.
3 – القوانين الخاصة بالإجراءات المدنية والجنائية والإجراءات الخاصة بتنفيذ الأحكام وذلك لأن قوانين المرافعات إن هي إلا طرق للحصول على الحقوق فإذا رأى المشرع تعديلها فيعتبر أنه يأتي بخير من السابقة، على أن مثل هذه القوانين لا تمس الموضوع حتى إذا كان منها ما يمس الموضوع ويخل بالحقوق المكتسبة سرى على الماضي.
والأصل كذلك في الأحكام الشرعية ألا تسري على الماضي إلا بنص فإنه لما نزل تحريم الربا في الإسلام وضع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الربا الذي كان في الجاهلية وحطه عن المستحق عليهم وقال (وأول ربًا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب)، وإنما سرى تحريم الربا هذا على الماضي وهو ما حدث بالجاهلية بنص قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) قيل كان جماعة من ثقيف لهم بقية مال من ربا على قوم من قريش فكانوا يطالبونهم بها فنزلت الآية فيهم، وإذا طبقنا نظرية القانون في الحقوق المكتسبة في هذه المسألة بقطع النظر عن النص ألفيناها تقضي باستحقاق هذه البقية من الربا لأنها تقول إنها من الحقوق المكتسبة بالقانون الماضي المنشأ بالعادة والعادة قانون.
وقد نص في كثير من الأحكام الشرعية على اغتفار ما سلف من الوقائع السابقة على نزولها فلا يطبق فيها الحكم ومن ذلك قوله تعالى (وأن تجمعوا الأختين إلا ما قد سلف)، (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف)، ومعنى عدم سريان هذا التحريم على الماضي أن العقود السابقة تعتبر صحيحة وإن كان يجب التفريق في الإسلام بين الأختين في عصمة رجل واحد وبين المرأة وابن زوجها وقد ورد عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما يدل على صحة العقود السابقة على تشريع حكم التحريم بقوله لفيروز الديلمي وقد أسلم وتحته أختان: (طلق أيتهما شئت) – والطلاق إنما يكون عن نكاح صحيح فدل على صحة العقد السابق، من ذلك قوله لغيلان بن سلمة الثقفي وقد أسلم على عشر نسوة أسلمن معه:
(أمسك أربعًا وفارق سائرهن) أي أمسك أربعًا باستبقاء عقودهن السابقة – وبعيد أن يراد بذلك تجديد العقد عليهن ولم يرد في الشريعة ما يفيد أنه جدد العقد عليهن وقد صح من رواية ابن عباس أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رد بنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع لما أسلم بعد إسلامها بالنكاح الأول الذي كان قبل تحريم المسلمات على الكفار ولم يحدث نكاحًا جديدًا وقد أسلمت هند بنت عتبة بعد أبي سفيان وردت عليه بالنكاح الأول، وأسلمت امرأة صفوان بن أمية قبله وردت عليه بالنكاح الأول لما أسلم ورجع إلى مكة.
وحكمة الشريعة في صحة العقود السابقة مع وجوب التفريق أي عدم سريان الحكم على العقد المتقدم وسريانه على آثار العقد – أن العقد أمر يحصل وينقضي فهو من الماضي فلا يسري عليه الحكم رعاية للحقوق المكتسبة أما آثار العقد التي نزل الحكم بتحريمها كالجمع بين الأختين أو بين المرأة وعمتها أو خالتها فإنها للدوام والبقاء أي للحاضر والمستقبل فيسري عليها الحكم فإن من عقد أختين ثم أسلم أو نزل تحريم الجمع وهو مسلم وتحته أختان قد مضى عقده وانتهى فلا يتعرض له الشرع بالبطلان ولكن أثر هذا العقد وهو اجتماع الأختين في عصمة رجل واحد لا يزال باقيًا وفيه من المفسدة وقطيعة الرحم ما فيه فالشرع يلزمه بتطليق أيتهما شاء وعقد التي يستبقيها صحيح ولا حاجة إلى تجديد عقد آخر عليها ومن مقاصد الشريعة درء المفاسد القائمة وعدم الإقرار على بقائها لكن نظرية القانون في هذا تقول: إن اجتماع الأختين في عصمته حق اكتسبه بالعقد السابق على التحريم واستحوذ عليه فلا يسري الحكم إلا على العقود التي تستجد بعده – فالقانون يحترم نظرية الحقوق المكتسبة على علاتها أما الشريعة فلا تحترم الحقوق المكتسبة إذا كان في المحافظة عليها مفسدة وتحافظ عليها في دائرة المصالح – ومن أجل ذلك حكم الشرع بعدم استحقاق الربا الذي بقي من الجاهلية ولم يقر بأنه حق مكتسب بقانون سابق ناشئ بالعادة، لأن في احترام هذا الحق مفسدة أخذ أموال الناس بالباطل أما احترام الحقوق المكتسبة بالنسبة لصحة العقود السابقة فلا ضرر فيه -.
هذا في سريان القانون أو الحكم الشرعي من حيث الزمان أما سريانهما من حيث المكان أو الأشخاص فيتقرر بما يلي:
الأصل في القوانين أن تكون محلية تسري على جميع الأشخاص في داخل حدود الدولة وقد يختلف سريان القانون باختلاف جنسية الشخص كالأحوال الشخصية مثلاً فإنها تعد في عرف القانون الدولي الخاص تابعة لجنسية الشخص في أي بلد حله أو لموطنه، وكاعتبار القوانين الخاصة بالحقوق السياسية شخصية تنطبق على الوطنيين دون الأجانب كقانون الانتخابات العامة وقانون التجنيد.
وقد يختلف سريان القانون باختلاف المكان كاعتبار المعاملات المدنية والعقود المالية منظمة بقانون البلد الذي تحصل فيه وكاعتبار شكل العقود منظمًا بقانون البلدة التي يعقد بها.
أما في الشريعة الإسلامية فتؤخذ أحكام ذلك من هذه القواعد العامة الآتية التي استنبطتها من فروع المسائل التي ذكرت في مذهب أبي حنيفة أو مذهب الإمام مالك ولا حاجة لذكر الفروع نفسه خشية التطويل على القارئ وها هي القواعد:
1 – الخطاب الشرعي عام يشمل المسلمين وغيرهم إلا إذا ثبت خصوصه بالمسلمين.
2 – محل تطبيق الأثر القائل: (أمرنا بتركهم وما يدينون) هو فيما لا يكلف به غير المسلمين وفيما هم مكلفون به أيضًا قبل زوال المانع من عدم التكليف بسبب الإسلام أو الترافع إلى محاكم المسلمين فيقال في تركهم يملكون الخمر والخنزير ويتملكونهما: أمرنا بتركهم وما يدينون، ويقال أيضًا في عدم التعرض لهم إذا نكحوا المحارم قبل إسلامهم وقبل أن يترافعوا إلينا: أمرنا بتركهم وما يدينون.
ومحل تطبيق قوله تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) فيما هم مكلفون به شرعًا بعد زوال المانع من عدم التكليف بسبب إسلامهم أو ترافعهم إلينا، على أن الحكم بينهم ليس علينا لازمًا بقوله تعالى (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم)، وإذا عرفنا ذلك فالآية والأثر لا يتعارضان.
3 – الذميون والحربيون (الأجانب) غير مكلفين بالعبادات والقربات لأنها خالص حق الله تعالى والكافر ليس أهلاً للقربة والعبادة ولكنهم مكلفون بحقوق العباد وبالحرمات المحرمة في ديننا ودينهم ولذلك يمنعون من الربا والرشوة ولا يقرون عليهما لحرمتهما في دينهم أيضًا قال تعالى في اليهود (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل)، وقد بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى نصارى نجران يقول لهم (إما أن تذروا الربا أو تؤذنوا بحرب من الله ورسوله) أما المحرمات في ديننا التي هي في دينهم جائزة فلا يلزمون بها ما لم يلتزموها بالإسلام أو بالترافع إلى محاكمنا فيكون عدم إسلامهم وعدم ترافعهم مانعًا من التزامهم أحكام الإسلام فإذا زال المانع ينظر فما كان من الشروط الشرعية لازمًا للابتداء فقط كالشهادة في النكاح يقرون عليها إذا أخلوا بها فإن الشهادة في النكاح لازمة لابتداء العقد لا لبقائه، أما ما كان من الشروط في العقود لازمًا في شرعة الإسلام للابتداء وللبقاء فلا نقرهم عليها حالة زوال المانع بالإسلام أو الترافع كنكاح المحارم والزيادة على أربع نساء والجمع بين الأختين فإن محلية النكاح وعدم الزيادة على أربع من شروط النكاح ابتداءً وبقاءً، وذلك لأن ما كان في شريعتنا شرطًا ابتداءً فقط يلاقي ما مضى وهم فيما مضى قبل زوال المانع تنطبق عليهم قاعدة (تركهم وما يدينون)، أما ما كان شرطًا للبقاء والدوام فيستمر حتى يلاقي حالة زوال المانع وهم في هذه الحالة ينطبق عليهم حكم قوله تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) هذا في الذميين.
أما الحربيون (الأجانب) فكل عقد اعتبر فاسدًا في جانب الذميين فهو فاسد في جانبهم أيضًا لأن المفسد في الطائفتين لا يتغير لكن لا يتعرض للحربيين لعدم الولاية عليهم إلا من أتى منهم دار الإسلام، وذلك بالإجماع فإن جاء مسلمًا اعتبر من المسلمين وإن جاء مترافعًا إلى محاكم المسلمين طبق عليه ما يطبق على الذمي وعلى الحربي المستأمن بديار المسلمين، فإن بني قريظة وبني النضير تحاكموا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الديات التي كانت بينهم وكان بنو النضير يرون أنهم أشرف من بني قريظة فكانوا يأخذون دية قتيلهم كاملة ولا يعطون في قتيل بني قريظة إلا نصف الدية فقضى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بينهم بحكم الإسلام وهو المساواة ولم يكونوا من أهل الذمة بل كانوا حربيين معاهدين بدليل أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أجلى بني النضير وقتل بني قريظة لما نقضوا العهد ولو كانوا ذميين ما فعل ذلك بهم فإن جاء الحربي دار الإسلام لا مسلمًا ولا مترافعًا وكان قد زنى في دار الحرب أو دار البغي لا يقام عليه الحد لأن فعله لم ينعقد سيبًا لوجوب الحد عليه لوقوعه في بلد لا ولاية عليها للمسلمين وكذلك الحربي المستأمن إذا زنى في دار الإسلام بمسلمة أو ذمية، أو زنى ذمي بحربية مستأمنة فلا حد على الحربي والحربية عند أبي حنيفة ومحمد ويحد الجميع عند أبي يوسف وجه قوله أن الحربي باستئمانه قد التزم أحكام الإسلام مدة إقامته بين أظهر المسلمين ولذا يقام عليه حد القذف كما يقام على الذمي ووجه قولهما إنه لم يدخل دار الإسلام على سبيل التوطن والإقامة بل ليعاملنا ونعامله ثم يعود من قريب فلم يكن ذلك دلالة على التزامه أحكام الإسلام ويلزم الحربي بحقوق العباد من القذف ونحوه دون حقوق الله الخالصة من العبادات وغيرها.
تطبيق قواعد الشريعة على قواعد القانون الدولي الخاص
عرَّف الأستاذ الزيني أستاذ القانون الدولي الخاص بكلية الحقوق بالجامعة المصرية القانون الدولي الخاص بأنه مجموع القواعد التي تحدد اختصاص المحاكم في كل دولة بالحكم في القضايا المدنية ذات العنصر الأجنبي التي تقع بين الأفراد وترشدها إلى القانون الذي تحكم فيها بمقتضاه، وهذا أوفى تعريف وأجمعه وأمنعه للقانون الدولي الخاص، وهو يرجع قواعده وأحكامه إلى أمرين رئيسيين:
1 – اختصاص المحاكم بالنسبة للقضايا ذات العنصر الأجنبي.
2 – اختيار القانون الذي يقضي به فيها، وقد بين لنا الأستاذ في محاضراته التي كان يلقيها علينا بقسم تخصص القضاء الشرعي المراد من القضايا ذات العنصر الأجنبي بأنها ما تتعلق بالمحاكم الأجنبية أو القضاة الأجانب أو الحوادث التي تقع في بلاد أجنبية أو الأفراد الأجانب المتقاضين، وإذ عرفنا ذلك فلنرجع إلى قواعد الشريعة الإسلامية في موضوع القانون الدولي الخاص فنقول:
يؤخذ مما قررته الشريعة الإسلامية من المبادئ التي ذكرناها آنفًا أن أحكامها محلية تطبق في داخل حدود الدولة الإسلامية على جميع المقيمين بها من مسلمين وغير مسلمين وطنيين كانوا (ذميين) أم حربيين (أجانب) فيما يأتي:
1 – فيما يتعلق بالحرمات المحرمة عند المسلمين وغيرهم وفي اصطلاح القانون وفيما يتعلق بالنظام العام كالربا والرشوة.
2 – في حقوق الأفراد كحد القذف وضمان المتلفات وغير ذلك.
3 – فيما استثني من عقود أهل الذمة كالزنى إذا أخذنا في الحربي برأي أبي يوسف السابق، فتسري أحكام الشريعة في هذه الأمور على الجميع بدون اشتراط عموم النص في الحكم ولا اشتراط رضاء الذميين والحربيين بأحكام الإسلام فيها، وهنا اتفقت الشريعة مع القانون الدولي الخاص في تطبيق القوانين المحلية حتمًا على القضايا المتعلقة بالنظام العام.
أما المحرمات في دين المسلمين دون ديانة غيرهم فلا يؤخذ بها الذميون والحربيون إذا كانت في دينهم جائزة إلا برضائهم وذلك بالإسلام أو بالترافع إلى محاكم المسلمين وبشرط أن يكون النص فيها عامًا لم يثبت خصوصه بالمسلمين فيجوز لهم بيع الخمر والخنزير وابتياعهما في ديارنا.
أما قوانين الأحوال الشخصية المحضة التي ترجع إلى العبادات والقرابات وكذلك الحدود التي هي حقوق الله خالصة فلا يلزم بها غير المسلمين ويبيح الإسلام لهم أن يرجعوا فيها إلى محاكمهم وقوانينهم وقد روي عن الحسن – رضي الله عنه – قال: (خلوًا بين أهل الكتاب وبين حاكمهم وإذا ارتفعوا إليكم فأقيموا عليهم ما في كتابكم).
أما في خارج حدود الدولة الإسلامية فإن المسلم وغير المسلم لا تقام عليه حدود الإسلام هنالك ولو جاء دار الإسلام بعد ذلك لعدم الولاية الشرعية على بلاد الحربيين (الأجانب)، ولا يرضى الإسلام أيضًا أن تسري أحكام الدولة الأجنبية على المسلمين ولا أن يخضعوا لمحاكمهم وقوانينهم بنص قوله تعالى (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)، ولأن مما ينافي عزة الإسلام أن يكون لغير المسلم ولاية على المسلم في القضاء وغيره، والإسلام لا يشرع من الأحكام إلا ما فيه دوام عزته وبأسه وبقاء سطرته ومجده، والشريعة بإباحتها للأجانب أن يترافعوا إلى محاكمهم وقوانينهم في الأحوال الشخصية المحضة تقرر مبدأ من مبادئ القانون الدولي الخاص من أن قوانين الأحوال الشخصية تتبع الشخص أينما توجه فتطبق عليه دون قوانين تلك البلاد، غير أن قواعد الشريعة تأبى تطبيق القوانين الإسلامية على المسلمين في الخارج في محاكم أجنبية أو على يد قضاة أجانب وإن كان ذلك في الأحوال الشخصية بل المختص بذلك محاكم المسلمين في بلادهم لأن الأحكام الشرعية لا تقرر إلا ما فيه عزة الإسلام كما أسلفنا.
بقي أن نعرف هل يلزم الأجانب بأحكام الإسلام إذا التزموها بالمعاهدات والاتفاقات السياسية، وأنا إذا عرفنا أن الحربي المستأمن يدخل في عقد الذمة بمجرد أن يصدر منه ما يدل على قبوله دلالة وأن ولد الذمي يولد ذميًا في مذهب أبي حنيفة، علمنا أن المعاهدات السياسية يلتزم الأجانب بها أحكام الإسلام إذا كان في نصوصها ما يدل على رضائهم بها ولو ضمنًا وتبقى نافذة عليهم وعلى أعقابهم، وهنا يلاحظ أن اكتساب الحربية المستأمنة عقد الذمة عند أبي حنيفة بزواجها من ذمي يشبه في قواعد القانون الدولي الخاص اكتساب المرأة جنسية زوجها بالزواج في أن المرأة تعتبر راضية بالقوانين التي تسري على الزوج وبالمحاكم التي يتقاضى أمامها.
ومن الرضاء دلالة بأحكام الدولة الإسلامية أن تكون قوانين الأجنبي المرعية في بلاده تجيز أن تسري عليه قوانين البلد الذي يحل فيه كقوانين الدولة الإنكليزية التي تجيز أن يعاقب رعاياها على الجرائم التي يقترفونها في الخارج بقوانين البلاد التي ارتكبت فيها الجريمة، هذا وعسى أن أكون قد بلغت في هذا البحث المدى أو طرقت فيه بابًا لولوج غيري من ذوي الفضل وأهل الثقافة والسلام.
اترك تعليقاً