تمهيد
قد يبدو غريبًا هذا العنوان، وهذا طبيعي لأن الموضوع الذي سنبدأ بتحريره الآن لم نعتد كثيرًا أن نسمعه أو نقرأه ولو أنه في الواقع من أهم المسائل التي شغلت وما زالت تشغل تفكير رجال العلم في أوروبا وعلى الأخص رجال علم القصاص أو علم العقوبة Science pénitentiaire ou la pénologie
وعلى العقوبة هذا علم حديث قد استلفت أنظار علماء القانون الجنائي بنوع خاص في أوروبا لأنه يبحث في العقوبة وفي مقدار كفايتها وفي أثرها وفي أغراضها.
وقد أسسوا له [(1)] مؤتمرات دولية تنعقد من حين لآخر في بلدان أوروبا الكبيرة تسمى (بالمؤتمرات الدولية لعلم العقوبة Congrés Pénitentiaires Intereationaux)، وقد كان آخر مؤتمر من هذا النوع هو المؤتمر التاسع وقد انعقد في مدينة لندن في شهر أغسطس سنة 1925 (انظر غازيت المحاكم الفرنسية عدد 25 يونيه سنة 1925).
ومجلات علمية أهمها مجلة علم العقوبة (Révue Pénit.) وجمعيات كبيرة مثل (جمعيات السجون العامة) في فرنسا (Sociétés générales des prisons)، وآخر جمعية من هذا النوع انعقدت في 17 فبراير سنة 1926، وكان من بين الحاضرين والمشتغلين فيها (المسيو ميجالوس كالويني (Mr. Megalos Caloyanni))، الذي كان مستشارًا في محكمة الاستئناف الأهلية في مصر ويشغل وظيفة قاضٍ في محكمة العدل الدولية في لاهاي حالاً.
هذا ولما لم نعثر على ما يفيد أن رجال القانون في مصر قد التفتوا كثيرًا إلى الموضوع الخطير الذي نحن بصدده الآن وهو يكاد يصبح أهم موضوع في علم العقوبة، رأى كاتب هذه السطور أن يلفت الأنظار إليه بأن يقتطف من كتاب الأستاذ العلامة الفرنسية المسيو Paul Cuche (بول كوش) وهو (traité de science et de législation Pénitentiaire) ما له دخل فيه بعد أن تصرف فيه تصرفًا يسهل على من لم يقرأ الكتاب من أوله أن يلم بهذا الموضوع إلمامًا تامًا.
وستأتي في سياق الكلام الإشارة إلى أهم المراجع التي يصح أن يطلع عليها كل من يريد التوسع أو الاستزادة.
تقسيم:
وينقسم هذا الموضوع قسمين كما هو ظاهر من عنوانه:
القسم الأول: يتناول الكلام على بيان النتائج الضارة التي تترتب على عقوبات الحبس لمدد وجيزة.
والقسم الثاني: يتناول الكلام على العقوبات التي يصح أن تحل محل عقوبات الحبس.
ولكن قبل الكلام على هذين القسمين لا بد من ذكر مقدمة مهمة تكشف لحضرة القارئ مبدئيًا الطريق الذي يسير فيه الموضوع.
مقدمة:
هذه المقدمة هي جواب عن سؤالين مهمين:
الأول: من هم المجرمون الذين تطبق عليهم المحاكم عقوبات الحبس لمدد وجيزة ؟
والثاني: إلى أي حد يعتبر الحبس وجيز المدة أو طويلها ؟
1 – أما عن السؤال الأول فيجب أن نتذكر أن علماء علم الإنسان (anthropologie’l) وعلماء القانون وعلم العقوبة اختلفوا في تقسيم أنواع المجرمين، وهذا الاختلاف انبنى عليه بطبيعة الحال اختلافهم في تقسيم العقوبات.
فبينما نجد (لمبروزو) Lambroso (وفيري) Ferri الإيطاليين وأنصارهما يقسمون المجرمين إلى مجرم بطبيعته (criminel – né) ومجرم بالعادة (d’haitude) ومجرم بظروف الأحوال (d’oceasion) ومجرم بشهواته (par passion) ومجرم مجنون (aliéné)، ويشيرون بأن تقتصر عقوبة الأول والثاني على الإعدام أو النفي، وذلك لأنه لا يرجى إصلاحهما لأن الأول ولد وفيه صفات الإجرام موروثة عن الإنسان الوحشي الذي يقول عنه (دارون) في خلقْه وخلقُه.
في خلقْه لأنه يكون قصير القامة، قصير الجبهة، صغيرها، غائر العينين، حاد البصر، طويل الوجه، كبير الأفكاك….. إلخ.
وفي خلقُه لأنه يكون عديم التبصر في العواقب، محب لذاته، مولع بلعب الميسر وشرب الخمر والتدخين، وعديم الإحساس لدرجة كبيرة، إلخ.
ولأن الثاني أصبح باحترافه وتعوده الإجرام كالأول خطورة وشرًا.
وأما الثالث فيشيرون بعدم عقابه والاكتفاء بإلزامه أن يصلح الضرر الذي أحدثه أو على أكثر تقدير يحكم عليه بالغرامة، وذلك لأنه مجرم ضعيف الإرادة لا يقوى على مقاومة التأثيرات الخارجية ذو مزاج عصبي أو دموي.
أما الرابع فيشيرون بعدم عقابه أصلاً اكتفاءً بتأنيب ضميره لأنه مجرم ضعيف الإرادة كالثالث وشديد الإحساس لدرجة عظيمة يرتكب الجريمة بسبب شهوة الغضب أو الحب أو الانتقام ويظهر عليه التأثير الشديد قبل ارتكاب الجريمة وفي أثناء ارتكابها وبعد ارتكابها حيث يشعر بالندم الشديد.
أما الخامس فيشيرون بإرساله إلى مستشفى المجاذيب [(2)].
بينما نجد هؤلاء يقولون ذلك إذ بالدكتور (لاكاساني) مدرس الطب الشرعي بجامعة ليون (D. Laccasagne)، يصرح سنة 1895 في مؤتمر علم طبائع الجناة في روما إن توزيع العقوبات طبقًا لطبائع الجناة توزيع فاسد لأنه مؤسس على فكرة أن أسباب الإجرام ترجع إلى طبائع المجرمين المختلفة مع أنها لا ترجع في الواقع إلا للأوساط والبيئات الاجتماعية.
ولكن الأستاذ (كوش) عمل تقسيمًا جديدًا اعترف فيه (على ما يظهر) باشتراك طبائع الجناة والوسط الاجتماعي في التأثير على الإجرام ولذلك جاء تقسيمه صحيحًا وجرى العمل على احترامه.
قسم الأستاذ المجرمين أربعة أقسام:
القسم الأول (للأحداث والثلاثة الأخيرة للبالغين)، وكل قسم من هذه الأقسام الأربعة له نوع خاص من العقوبات، وهذه الأقسام هي: [(3)]
1 – مجرمون أحداث لهم (عقوبات تهذيبية) (Peines éducatrices) وذلك لأن الأحداث غالبًا ما يرتكبون الجرائم لا لشر في نفوسهم بل لأنهم ضحية الوسط الذي يعيشون فيه وضحية فساد أخلاق الآباء، ولذا كانت العقوبات الممزوجة بروح التهذيب والتعليم كالإرسال إلى الإصلاحيات في فرنسا ومصر (أو إلى العائلات في فرنسا) هي أنجح وسيلة تعيد هؤلاء المجرمين الصغار إلى أحضان الفضيلة.
2 – مجرمون لهم نصيب من الصلاح والأخلاق، لهم (عقوبات تحذيرية بحتة) peines d’intimidation pure، وهذه العقوبات هي بيت القصيد في هذا الموضوع، وهي توقع على المجرمين الذين لم يرتكبوا إلا الجرائم التافهة غير الخطرة كالمخالفات أو السُكر أو السب، أو اللذين ارتكبوا الإجرام مدفوعين بعوامل وعواطف خاصة يندمون عليها بعد ذلك، والذين لهم من التربية والأخلاق نصيب وافر لا يحمل على الظن أنهم سيعودون يومًا ما إلى الإجرام.
وعقوبات هذا النوع القصد منها تحذيرهم من اعتياد الإجرام ويجب ألا تتعدى الغرامة أو التوبيخ أو الحبس مع إيقاف التنفيذ، أما الحبس لمدد وجيزة وهو ما يزيده القضاة في أحكامهم وينص عليه القانون في بعض الأحيان فهو ما يجب إبطاله بناءً على الاعتبارات التي سنذكرها بعد.
3 – مجرمون في حاجة إلى الإصلاح لهم (عقوبات إصلاحية) (Peines réformatrices) وهؤلاء المجرمون هم الذين يرتكبون جرائم مخيفة، لا صدفة كسابقيهم بل لأن نفوسهم وأميالهم دخلها الإجرام، ولما كان الإصلاح وعلى الأخص بالنسبة لهذه الفئة من المجرمين يقتضي وقتًلا طويلاً كانت عقوبات هذا النوع هي الحبس لمدد طويلة والسجن والأشغال الشاقة المؤقتة.
4 – مجرمون لا يرجى إصلاحهم لهم (عقوبات إقصائية) Peines éléminatoires)) كالإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة (والنفي إلى إحدى المستعمرات كما في فرنسا)، وذلك لأن هؤلاء المجرمين لا يرجى إصلاحهم البتة فيكون الأوفق إقصاءهم عن الهيئة الاجتماعية [(4)].
والذي يهمنا من ذلك هو أن عقوبات الحبس لمدد وجيزة هي من العقوبات التي يحكم بها أكثر القضاة بقصد تحذير المجرم الذي ارتكب الجرم – لا لفساد في أخلاقه بل لعاطفة لا يلبث أن يندم على حصولها أو الذي يرتكب عملاً تافهًا – من أن يعود إلى الإجرام من جديد.
فهل هذه العقوبات تقوم بالمقصود منها وهو تخويف هذا النفر من المجرمين وتحذيرهم من العودة إلى الإجرام ؟…
الجواب على ذلك (كلا) بل إنها تشجعهم على هذا الإجرام كما سنفصل ذلك حالاً.
2 – أما بالنسبة للسؤال الثاني وهو إلى أي حد يجب أن يعتبر الحبس وجيز المدة فهذا لم يجب عليه القانون ولا ينتظر أن يجيب عنه الناس كلهم جوابًا واحدًا، فما يعتبر وجيزًا في عرف زيد مثلاً قد لا يعتبر كذلك في عرف بكر، على أن العمل قد أثبت أن الحبس لمدة أقل من ثلاثة أشهر لا يكفي مطلقًا للإصلاح بالنسبة للمجرمين الذين في حاجة إليه وعلى ذلك لا تحكم به أكثر المحاكم إلا لما يكون المقصود هو مجرد التحذير أو التخويف (من اعتياد الإجرام) لا الإصلاح.
ولذلك ثبتت أكثر الآراء على اعتبار أن الحبس لمدة أقل من ثلاثة أشهر هو حبس لمدة وجيزة.
(إلى هنا تنتهي بنا المقدمة والآن فلنتكلم عن القسم الأول من الموضوع).
الموضوع
القسم الأول
(1)
نقول في هذا القسم إن علماء أوروبا ثبتت آراؤهم على أن هذا الحبس الوجيز المدة يجب أن يمتنع القضاة عن الحكم به بتاتًا، وقد صرح من كان حاضرًا منهم مؤتمر علم العقوبة في روما سنة 1885 أن هذا الحبس يجب أن يستبدل في تشريع راقٍ بعقوبة الغرامة ما دام أن المقصود منه هو مجرد تحذير نوع خاص من المجرمين من الاعتياد على الإجرام.
بيان اهتمام العلماء بهذا البحث
ولا يذهبن القارئ إلى الظن أن سنة 1885 هي بدء اهتمام العلماء بذلك البحث فإن بدء ذلك الاهتمام كان قبل هذا التاريخ بأكثر من عشرين سنة، فقد كان في سنة 1864 حين أخرج العلامة المسيو (يونفيل دي مرسانجي) (M. Bonneville de Mersangy) كتابه في إصلاح القانون الجنائي (Amélioration de la loi Criminelle)، انتقد فيه نظام عقوبات الحبس لمدد وجيزة انتقادًا مرًا نلخصه في هذه العبارة (… أن العقوبة المانعة للحرية يجب ألا ينطق بها مطلقًا إذا كانت العقوبة المالية تفي بالعقاب).
La peine privative de la liberté ne devait jamais être prononcée quand la peine pécuniaire suffit à la répression
وتقدمت هذه الفكرة جدًا بعد ذلك وبحثتها المؤتمرات العلمية نخص بالذكر منها مؤتمر لندن سنة 1872 ومؤتمر استكهولم في سنة 1878 ومؤتمر علم العقوبة في روما سنة 1885 والمؤتمر الدولي لقانون العقوبات في بروكسل في سنة 1889 وفي برلين في سنة 1890،
وآخر مرة بحثت فيها هذه الفكرة كانت في مؤتمر علم العقوبة في مدينة لندن سنة 1925.
وبحثتها جمعيات السجون العامة في فرنسا (Sociétés générales des Prisons) في سنة 1893 وبعدها وتناولتها (أدبيات علم العقوبات) وهنا يحسن أن نشير إلى كتاب المسيو (بونفيل دي مرسانجي) السابق الذكر وكتاب المسيو (جوانفيل) (M. Joinville) في الحبس لمدد وجيزة ونتائجه l’Emprisonnement de court terme et ses conséquences
ومقالة المسيو (كوريفون) Correvon في مجلة علم العقوبة (Rev. Pénit)، سنة 1893.
تعداد مضار عقوبات الحبس وجيز المدة
وخلاصة هذه المباحث ترمي إلى وجوب استبدال عقوبات الحبس للمدد الوجيزة بعقوبات أخرى – أهمها الغرامة – وكل ذلك لأن الحبس لمدة وجيزة بالنسبة للنوع الخاص من المجرمين الذي ذكرناه:
1 – لا فائدة فيه.
2 – هادم للنفس ومضيع للاعتبار.
3 – مفسد للأخلاق.
4 – مخالف للقاعدة المعروفة من أن العقوبة يجب أن تكون شخصية.
والكلام على هذه النقط الأربع متشابه ومتجانس في الواقع فما قد يصلح دليلاً في إحداها مثلاً قد يصلح كذلك في غيرها، ولكننا على قدر الإمكان سنفرد لكل نقطة منها قسمًا خاصًا.
الحبس وجيز المدة لا فائدة فيه
1 – فأما كون الحبس وجيز المدة لا فائدة فيه فذلك يظهر بالنسبة للمجرمين الذين عادوا للمرة الأولى إلى الإجرام دون أن يكون ذلك دليلاً على فساد نفوسهم، أو بمعنى آخر على عدم مناسبة تطبيق عقوبات مجرد التحذير عليهم، فهؤلاء لا يعبأون بالحبس وجيز المدة، وحكمة التخويف المقصودة منه لا أثر لها فيهم،
بل إنهم قد يسعون إليه في أوقات خاصة، والمشتغلون بالقانون في هذه البلاد يرون كثيرًا من الناس يعودون إلى الإجرام لأصغر الأسباب، وما ذلك إلا لأنهم لا يخشون ولا يرهبون الحبس، وعلة ذلك ليست بخفية، فإن كل ما كان يخيف المجرم الذي لم يسبق له الوقوف في قفص الإجرام هو مجرد اسم (الحبس)، هو العار الذي يلتصق بذلك الاسم، فإذا ما زال ذلك الخوف بحصول الحبس فعلاً انتهى الأمر وأصبح ذلك الحبس لا قيمة له بالنسبة إليه في ثاني مرة يقف فيها أمام القاضي، أو على أكثر تقدير أصبح أمرًا (غير لطيف) (كما يقول هؤلاء المجرمون) إذا توقع في أوقات غير مناسبة.
والقارئ ليس في حاجة إلى لفت نظره إلى أي درجة تصل مساوئ ذلك الحبس إذا كان ينفذ على طريقة جمع المسجونين في مكان واحد (En commun) كما في مصر في بعض السجون،
فهذا الاختلاط بين المحبوسين هو هاوية جديدة للعائد ويكفيه أنه يعطيه فرصة (ظريفة) لمقابلة زملائه الأول والتحدث معهم على الأعمال الجديدة التي عاد وعادوا من أجلها إلى الحبس.
فما أعظم الفرق بين أن يقف أمام المحكمة لأول مرة وكل خوفه أن تصدر عليه عقوبة (حبس) وبين أن يقف أمامها في ثاني مرة وهو يتوقع تلك العقوبة من غير اهتمام أو مبالاة.
الحبس وجيز المدة هادم للنفس
2 – وأما كونه هادمًا للنفس ومضيعًا للاعتبار فذلك يظهر بأجلى وضوح بالنسبة للمجرمين المبتدئين الذين لم يسبق لهم المثول أمام القاضي الجنائي، هؤلاء بمجرد أن يتركوا صالة المحكمة بعد المحاكمة، بل بمجرد أن يدخلوها، أو قبل ذلك في بعض الأحيان، يندمون على ما عملوا أشد الندم، وليس أبعد على أذهانهم من أن يعودوا إلى ذلك الموقف مرة ثانية، ولكن هو تنفيذ ذلك الحبس الذي يعود عليهم بأوخم النتائج،
ولعل ما قاله الأستاذ (برنز) Prins في تقريره المشهور الذي ألقاه في أول جلسة من جلسات المؤتمر الدولي لقانون العقوبات سنة 1889 (المنشور في مجلة الاتحاد الدولي لقانون العقوبات) [(5)] في هذا الصدد هو أحسن ما نورده هنا، قال (…. أما بالنسبة لمبتدئي الإجرام الذين لم يلوث صحيفتهم البيضاء سوى هفوة صغيرة أو زلة تافهة فإن عقوبة الحبس وجيز المدة تكون بالنسبة إليهم أشد خطرًا، فهنا لا يكفينا أن نقرر عدم فائدتها بل يجب أن نعترف بضررها، فهي تحط وتذل الرجل الشريف، وتضعف عنده وقاره الأدبي،
وبمجرد تنفيذها عليه يدخل في زمرة المنحطين ويفقد اعتباره بين أسرته وأصحابه، وأحيانًا لا يجد طريقًا لكسب عيشه، فقد يعزل من عمله إن كان موظفًا أو عاملاً أو أن يتركه عملاؤه إن كان مشتغلاً بعمل حر كالتجارة… (إلى أن قال)…. وحكم كهذا يقلب نظام المعيشة رأسًا على عقب والمحكوم عليه يصبح بائسًا واليأس يبدأ بسهولة يدخل نفسه وأحيانًا ينغمس في شرب الخمر ويبدأ في النزول إلى هاوية التشرد، وعلى العموم شبكة الإجرام التي نصبتها له المحكمة لا تتركه أبدًا…..).
وهذا الكلام كما يراه (برنز) في أوروبا نراه كلنا في مصر وفي كل مكان، فلا شك أن لتقدير الناس للفرد أو لاحترامهم إياه دخلاً كبيرًا في أن يحافظ ذلك الفرد على قدره وكيانه الأدبي، فكما أن (الثقة) هي قوام التاجر كذلك الاحترام والتقدير هما قوام كل من كان يود لنفسه الاحترام والتقدير، أو بمعنى آخر قوام كل من كان نافعًا وبنفسه شيء من التربية والأخلاق.
الحبس وجيز المدة يفسد الأخلاق
3 – وأما كونه مفسدًا للأخلاق فهذا ظاهر كذلك في هؤلاء المجرمين المبتدئين إذا نفذت عليهم العقوبة جماعات (En commun) فالمجرم المبتدئ الذي دخل الحبس وله نصيب محترم من الأخلاق – وهذا ما يجب أن نفترضه وإلا لما طبقنا عليه عقوبات مجرد التحذير أو التخويف – يخرج منه بعد أن ضاعت كل أخلاقه وبعد أن انتقلت إليه جراثيم الإجرام من زملائه في الحبس، وهم بين قاتل وسارق وزانٍ، مجرمًا شريرًا ومخيفًا إلى حد ما.
وهذه في الواقع جريمة كبرى ترتكبها الهيئة الاجتماعية باسم القانون، لأنه إذا كان للجماعة الحق في أن تدافع عن نفسها بأن توحي إلى القوانين بالعقاب، فليس لها أن تفسد الأخلاق.
ولا يذهبن القارئ إلى الظن أننا إذا طبقنا نظام الحبس الانفرادي (En cellule) فإن الضرر يقل، أنه يزيد بالنسبة لفئة خاصة من المحكوم عليهم، وفي ذلك قال الأستاذ (برنز) في تقريره السابق الذكر:
(….. يسكن العامل عادةً في كوخ صغير وحده أو مع نفر من زملائه بين قرس الشتاء وقيظ الصيف، أما إذا حكم عليه بالحبس فإنه سيدخل في غرفة نظيفة ومضاءة، مدفأة أو مرطبة حسب الجو، ويأكل طعامًا أفخر من طعامه، وينام في راحة أحسن، ويشتغل شغلاً مسليًا، ويمكنه أن يطالع، وإذا مرض وجد من يعالجه، فكيف إذا أخلى سبيله وتقابل مع زملائه لا يمكنهم جميعًا أن يفكروا أنه لتمضية وقت قصير من الحياة وترويضًا للنفسUn séjour de coure durée يكون الحبس أليق مكان ؟!…..).
والذي نفهمه من كلام (برنز) هذا زيادة عن كون الحبس لا فائدة فيه أنه يفسد الأخلاق لأنه يحرض الناس الذين فضلوا الحبس عن معيشتهم خارجة على ارتكاب الجرائم التي تعيدهم إلى ذلك الحبس من جديد، وهذه نتيجة محزنة يؤلمنا جميعًا حصولها لأنها مظهر لإفلاس القانون والعقوبات.
ولكن الأمر لا يقتصر على ذلك بل هناك نتيجة أخيرة لذلك الحبس الوجيز المدة تتولد من تلك المضار السابقة.
الحبس وجيز المدة يخرجنا عن قاعدة أن العقوبة شخصية
4 – هذه النتيجة هي كون ذلك الحبس بعد ذكر مضاره السابقة أصبح مخالفًا للقاعدة العامة في أن العقوبات يجب أن تكون شخصية بمعنى أن أذاها يجب ألا يتعدى المحكوم عليه، ولكي يتبين حضرة القارئ ذلك يمكنه أن يتصور أسرة كانت تعول في بقائها على الاعتبار الأدبي لأحد أفرادها أو على حسن أخلاقه يأتي يوم عليها يفقد منها ذلك الفرد بضياع اعتباره وفساد أخلاقه وإذلال نفسه.
تلك هي مضار عقوبات الحبس للمدد الوجيزة بالنسبة للمجرمين الذين تطبق عليهم، ذكرناها باختصار ومن يود من حضرات القراء التوسع فعليه برسالة الدكتوراة للأستاذ (دي لا هوج)
De la Haugue
Les courtes peines d’emprisonnement, paris 1901
ملاحظات مهمة
هذا ومما يؤسف له كل الأسف أن من حضرات القضاة من يسيئون إلى (السياسة الجنائية) في حالة تطبيقهم للظروف المخففة، إذ تجمع بهم الرغبة في الاعتراف بظروف المتهم المخففة وبأنه من المجرمين ذوي الصفات الحسنة إلى أن يوقعوه في مصائب عقوبة الحبس لمدة وجيزة، وهذا هو ما يتألم منه الناس كلهم،
وبعضهم في تطبيقه للقانون وإيقاعه عقوبات الحبس لا ينظر إلى أوراق القضية إلا على اعتبار أنها (عمل يومي) عليه أن يؤديه ولا ينظر إليها على اعتبار أنها صورة من (حالة اجتماعية) أوكل إليه حلها بأوفق الحلول، ولذلك لا ندهش كثيرًا إذا سمعنا أن بعض القضاة يتبعون طرقًا غريبة للغاية في إصدار أحكامهم الجنائية، من ذلك أن بعضهم يعاقب من يضرب آخر بالحبس مدة تساوي ضعف مدة العلاج التي تحملها المجني عليه.
غير أن هناك حقيقة يجب أن نقررها وهي أن القضاة إذا كانوا لا ينظرون كل قضية في ذاتها على اعتبار أنها (حالة اجتماعية) يجب حلها وإذا لم يحاولوا البحث في نفسية المتهم وفي نظام معيشته وأسرته فهم في ذلك معذورون.
فالخطأ لا يقع كله عليهم بل على كاهل الحكومة التي لا تجعل لهم من أعمالهم وقتًا كافيًا ليقوموا بالمهمة الشاقة الدقيقة الملقاة على عاتقهم، ولعلها هي الأكثر دراية منا بالحل الصحيح لتلافي هذه النتائج وهو وجوب زيادة عدد القضاة زيادة تتناسب مع زيادة القضايا.
إلى هنا انتهى الكلام عن النتائج الضارة لعقوبات الحبس وجيز المدة وهو القسم الأول من الموضوع والآن فلنبحث عن العقوبات التي يصح أن تحل محله وهو القسم الثاني.
القسم الثاني
(2)
للكلام على هذا القسم يجب أن نقول إن العلماء بعد أن اقتنعوا بمضار عقوبات الحبس وجيز المدة خطر في بالهم أن تمحى من القانون الجنائي كل المواد التي تنص على حبس وجيز المدة كعقاب لجرائم تافهة لا يدل ارتكابها على فساد النفس، ولكنهم في الوقت ذاته صودموا بفكرة أخرى وهي أن مثل هذا العمل قد يؤدي إلى زيادة الإجرام زيادة كبيرة، فتساءلوا ماذا إذن يكون الحل ؟.
إيقاف التنفيذ هو أول ما يخطر على البال
وجدوا أن الحل هو أن ينص القانون على هذه العقوبات وأن القاضي يحكم بإيقاف التنفيذ، وقصارى القول إن أول ما فكر فيه العلماء بعد الاقتناع بمضار عقوبات الحبس لمدد وجيزة هو استبدال الحكم بها (بالحكم مع إيقاف التنفيذ).
على أن قانون إيقاف التنفيذ ما نشر في فرنسا سنة 1891 حتى قامت ضده عدة اعتراضات وانتقادات نرى أن الرد عليها هو أفضل ما ندلل به على صلاحية هذا القانون في أن يكون أول ما يلجأ إليه القاضي الذي يريد أن لا يحكم بالحبس لمدد وجيزة.
الانتقادات على إيقاف التنفيذ والرد عليها
1 – قالوا إنه يشجع وينشط الإجرام بدليل أنه ما كاد ينشر في فرنسا حتى زاد عدد المجرمين المبتدئين.
ورد الأستاذ (كوش) على ذلك بأن الإحصائيات أثبتت عكس ذلك إذا استثنينا السنوات الأولى بعد صدور القانون، ومع ذلك على فرض صحة هذا الانتقاد في كل الأحوال فإن تلك الإحصائيات عينها دلت على أن نسبة من عاد من المجرمين المبتدئين الذين أوقف تنفيذ عقوباتهم إلى الإجرام أقل بكثير من نسبة من عاد من هؤلاء المجرمين المبتدئين الذين نفذ عليهم الحبس لمدد وجيزة، ومما لا شك فيه، أن الأنفع للمجتمع هو أن ينصلح مجرم مبتدئ وأن لا يعود إلى الإجرام من أن يرى الناس في نصوص قانون إيقاف التنفيذ مشجعًا لهم على ذلك الإجرام.
ومع ذلك فإن الناس أدركوا الآن أن الحكم مع إيقاف التنفيذ فيه الزجر الكافي الذي لا يشجع الإجرام، لأنه حكم جنائي مضيع (إلى حد ما) للاعتبار كباقي الأحكام الجنائية.
2 – إن نظام إيقاف التنفيذ يعطي للقاضي سلطة استبدادية غير محدودة.
والرد على ذلك هو نفس الرد على الانتقاد الأول، فقد ثبت أن المجرمين الذين حكم عليهم بإيقاف التنفيذ وعادوا إلى الإجرام هم نسبة ضئيلة بجانب ما عاد من هؤلاء إلى الإجرام بعد أن نفذت عليهم عقوبات الحبس لمدد وجيزة، وهذا أفضل دليل على أن القاضي أحسن التصرف بهذه السلطة التي أعطيت له.
3 – إن إيقاف التنفيذ مخالف لنظام فصل السلطات لأن القاضي في حكمه بإيقاف التنفيذ يعتدي على حقوق السلطة التنفيذية.
وهذا الانتقاد هو أضعف الانتقادات، ويكفي للرد عليه أن نقول إن الحكم بإيقاف التنفيذ لا يزيد عن كونه حكمًا مبنيًا على شرط فاسخ هو مضي الخمس السنوات بدون حدوث جريمة ما، وتنفيذ العقوبة يصبح مستحيلاً إذا تحقق ذلك الشرط، ومما لا شك فيه أن إصدار مثل هذا الحكم هو حق للقاضي ويدخل في أعماله القضائية.
4 – إن إيقاف التنفيذ يحرم المجني عليه من أن يتعزى التعزية الكافية التي لا تتحقق إلا بتوقيع العقاب على الجاني.
والرد على ذلك هو أنه إزاء فكرة إرضاء شهوة التشفي عند المجني عليه وفكرة عدم تسهيل العودة إلى الإجرام يجب أن نفضل الفكرة الأخيرة خصوصًا إذا راعينا التطور الأخير الذي وصلت إليه الشرائع الراقية وهو ما نلخصه في هذه العبارة.
(لم تصبح العقوبة انتقامًا، بل هي علاج اجتماعي لمرض اجتماعي) [(6)].
La peine n’est plus une vengeance: la peine est un reméde social á un mal soical.
خطوة حكيمة للشارع المصري
وبهذه المناسبة يجدر بنا أن نذكر بشيء عظيم من الارتياح والاغتباط أن الشارع المصري أدرك أن ارتكاب الجنايات – وهي أفظع الجرائم في نظر القانون – لا يفيد دائمًا أن مرتكبيها ممن لا يرجى لهم الإصلاح وأدرك أن من هؤلاء من قد يكفي لزجرهم من اعتياد الإجرام الحكم بإدانتهم مع إيقاف تنفيذ العقوبة عليهم مهما كانت الجناية التي وقعت منهم.
وأدرك كذلك أن المادة (52) من قانون العقوبات كانت من حرمانها هذه الفئة من المجرمين من (إيقاف التنفيذ) إنما كانت مخطئة وبعيدة عن الصواب.
بل أدرك أكثر من ذلك أن هذه المادة حرمت من غير حق جواز إيقاف التنفيذ بالنسبة لمن يرتكبون (جنحًا) خاصة (وهي المنصوص عليها في المواد (183) و(222) و(232) من قانون العقوبات).
ولذلك أصدر قانون 19 أكتوبر سنة 1925 نص فيه في المادة (2) على ما يأتي:
تلغى المادة (52) من قانون العقوبات الأهلي ويستبدل بها النص الآتي:
(كل حكم في مواد الجنح والجنايات صادر بالحبس لمدة أقل من سنة على متهم لم يثبت سبق الحكم عليه بعقوبة جناية أو بالحبس أكثر من أسبوع يجوز أن يؤمر فيه بإيقاف التنفيذ بشرط أن يبين فيه أسباب ذلك، ولا يؤثر هذا الإيقاف مطلقًا على العقوبات الأخرى التي قد يشمل عليها ذلك الحكم) [(7)].
وهذه خطوة حكيمة للشارع المصري نسجلها له وقلوبنا ملؤها الارتياح لأنها دليل على أن النظريات الحديثة في علم العقوبة والقصاص بدأت تشغل لنفسها مكانًا في فكر الشارع الأهلي.
هذا وقد وجد العلماء أن هناك ثلاث عقوبات يمكن أن تحل محل عقوبات الحبس لمدد وجيزة وهي:
1 – العقوبات المالية أو الغرامة.
2 – العقوبات البدنية.
3 – العقوبات الأدبية أو الاعتبارية.
وسنشرح ذلك فيما يلي بشيء من الإيجاز.
أولاً: الغرامة:
لسنا في حاجة أن ندلل على صلاحية عقوبة الغرامة في أن تحل محل عقوبات الحبس وجيز المدة بأكثر من أن نعدد فوائدها في عمل بعض من المقارنة بين نتائجها ونتائج الحبس وجيز المدة.
1 – فبينما الحبس يفقد في كثير من الأحوال قوته في الإرهاب والإيلام بالنسبة لبعض المجرمين (وعلى الأخص العائدين منهم) نجد دائمًا في الغرامة الإيلام الكافي.
2 – الغرامة عقوبة لينة وسهلة التقسيم بمعنى أنه يمكن أن تتناسب بسهولة مع عظم الجريمة ومع المركز المالي للمجرمين.
وبهذه المناسبة يجدر بنا أن نذكر الاعتراض الذي يقول به البعض من أن عقوبة الغرامة عقوبة غير عادلة لأنها تؤثر على الفقير أكثر مما تؤثر على الغني، ولكن الرد على هذا الاعتراض من السهولة بمكان، فالقاضي عليه أن يراعي المساواة في إيقاع الإيلام بالنسبة للمحكوم عليهم، فالشخص المثري يجب أن يحكم عليه بغرامة أكثر مما يحكم به على الفقير بسبب جريمة واحدة حتى يكون مقدار إيلام العقوبة في كلا الحالتين واحد، وغني عن البيان أن القاضي عليه ألا يسيء استعمال هذا التقدير وإلا اضطر الناس إلى الظن (أن اليسار ظرف مشدد للجريمة).
3 – الغرامة عقوبة لا تذل ولا تحط من الاعتبار كالحبس، والمحكوم عليه بها لا ينتزع من أسرته، وينجو من الحبس وما فيه من إفساد للأخلاق.
4 – الغرامة تفيد الخزينة العامة، وتعتبر في الشرائع التي تمزجها بالتعويض طريقًا سهلاً لحصول المجني عليه على ما يعوض عليه خسائره المادية والأدبية.
النتيجة أن الغرامة يمكن أن تحل محل عقوبات الحبس.
كل هذه المزايا تجعل عقوبة الغرامة جديرة بأن تنال المكان الأول بعد إلغاء عقوبات الحبس لمدد وجيزة [(8)].
ولكن رب سائل يقول إن الغرامة تستبدل بنوع من الحبس وهو (الإكراه البدني) contrinte per corps في حالة عدم دفعها وهذا لا يتفق مع الغرض الذي ننشده منها وهو أنها تحل محل الحبس.
وللرد على هذا الاعتراض يجب أن نتذكر أمرين هامين:
أولاً: أننا قلنا إن المفروض في العقوبات المالية أن تكون (عقوبات مجرد التحذير أو التخويف) (peine d’initimidation pure) وقد قلنا إن هذه العقوبات لا تطبق إلا على النوع الذي يصح أن نسميه (النوع الجيد) من المجرمين الذين يأسفون ويندمون بعد ارتكابهم الجريمة ويكون لهم نصيب من الأخلاق، أو أن تكون جرائمهم تافهة، ومثل هذا النوع من المجرمين لهم في أغلب الأحوال إن لم يكن في جميعها صناعة يتعيشون منها فلا ينتظر أن يعجزوا أو يتهربوا عن دفع الغرامة.
ثانيًا: قلنا إن نصاب الغرامة يجب أن يكون مناسبًا لحالة المحكوم عليه المالية، فلا يحكم على مجرم فقير بغرامة قد يعجز عنها من هو أغنى منه.
هذا وتوجد هناك مسائل عديدة متعلقة بتنفيذ الغرامات والإكراه البدني نرى أن الأوفق هو عدم التعرض لها لأنها لا تفيدنا في موضوعنا هذا كثيرًا.
ثانيًا: العقوبات البدنية:
لم يتفق العلماء هذه المرة على جواز إحلال هذه العقوبات محل عقوبات الحبس.
اختلاف الآراء في صلاحية هذه العقوبات
فيرى أكثر الناس وأكثر العلماء أن هذه العقوبات وحشية، وأنها تتنافى مع روح المدنية الحديثة، وأن (أذى الجسم) فكرة بربرية لا يجب وقد وصلنا للقرن العشرين أن نفكر فيها أصلاً، وأن للإنسان شخصية يجب أن توضع في مكان أسمى وأجل من أن تساوى بشخصية الدواب.
ويرى فريق آخر ومنهم الأستاذ (كوش) ومستر (ويليم تالك) الإنجليزي William Tallack أن البلاد المتمدينة وإن كانت قد ألغت هذه العقوبات فإن ذلك كان تحت تأثير تيار النفاق الذي أحدثه بعض من يدعون الغيرة على المدنية، وأننا لو فحصنا ضمائر من يهتمون بنقصان الجرائم لوجدنا أنهم نادمون على إلغاء هذه العقوبات ومتشوقون لإرجاعها. [(9)]
ويقول المستر ويليم تالك [(10)] أن ما ينفر الفريق الأول من هذه العقوبات هو عدم مراعاة الأصول في تنفيذها فلا يجوز أن تنفذ لدرجة أن تسيل الدم أو تشوه جسم المحكوم عليه بل يجب ألا يراعى في تنفيذها إلا إيلام الجسم من غير أن يترك ذلك الإيلام أي أثر خاص.
هذا ويزيد هذا الفريق أن هذه العقوبات يجب أن لا تطبق إلا على من يدرك القاضي أنهم سيرتدعون منها ويشير بتوقيعها على من يرتكب جرائم السكر أو الإخلال بالحياء العام بالقول أو الإشارة وبعض جرائم التخريب الخفيف وكسر الحدود وغير ذلك من الجرائم التي لا ترتكب إلا بدافع الطيش أو الرعونة.
رأينا الخاص
ولكنا نرى أن هذه العقوبات وإن قلت مضارها في الواقع عن مضار عقوبات الحبس لمدد وجيزة إلا أنها مع ذلك لا تتفق مع روح العصور الحديثة، وحسبنا تأييدًا لذلك أن الشرائع الراقية ألغتها نهائيًا، فلا يصح إذن ونحن نطالب أن نقدم بالتشريع إلى الأمام أن ننظر إلى الوراء.
ثالثًا: العقوبات الأدبية أو الاعتبارية:
أهم هذه العقوبات اثنتان:
1 – الغفران (أو العفو) مع التوبيخ (Le pardon avec reprimande).
2 – الحرمان من بعض الحقوق السياسية أو المدنية أو العائلية.
ولكن هذه العقوبات لم تسلم من الانتقاد ولم تسلم من الشك في صلاحيتها لأن تحل محل عقوبات الحبس.
انتقاد هذه العقوبات [(11)]
1 – فقد قيل إنه لا فائدة من عقوبة (الغفران مع التوبيخ) مع وجود نظام إيقاف التنفيذ.
2 – إن إجازة هذه العقوبات وعلى الأخص الثانية منها وهي (الحرمان من بعض الحقوق) معناه أن سلطة التشريع تتسرب إلى يد القاضي.
الرد على الانتقاد الأول
وقد وافق مؤتمر علم العقوبة سنة 1895 وجمعية السجون العامة في فرنسا بعد هذا التاريخ بست سنوات على الانتقاد الأول، ولكن مع ذلك يرد عليه بأنه لا مانع يمنعنا من أن نعطي للقاضي ما نعطي للمحلف Jury، فالمحلف قد يحكم بعدم الإدانة وقد يكون المتهم معترفًا، وذلك لأنه شعر أن مجرم وقوف المتهم في المحكمة كافٍ لإصلاحه، فلم لا نعطي للقاضي الحق في أن يحس بهذا الإحساس عينه ونأذن له أن يكتفي بأن يقرر أن الحادثة حصلت ولكنه يسامح المتهم ويوبخه ؟
لا شيء يمنع من ذلك، وغاية ما في الأمر إذا كان مجال تطبيق إيقاف التنفيذ ضيقًا فإن مجال تطبيق الغفران مع التوبيخ يجب أن يكون أضيق، ويستشهد أصحاب هذا الرأي بالمادة (26) من قانون العقوبات الإيطالي التي تنص بأن (عقوبة الغفران مع التوبيخ لا يقضى بها إلا بالنسبة للجرائم التي لا يعاقب عليها القانون بأكثر من شهر أو 300 ليرا غرامة) وأن هذا القانون مع وجود هذا النص يبيح للقاضي أن يبدل في الحال الحكم بالسماح مع التوبيخ بالعقوبة المنصوص عنها إذا لاحظ أن المتهم لم يستمع للتوبيخ باحترام واعتبار. [(12)]
على أن هناك رأي أكثر من ذلك تطرفًا يقول إن هذا الحق يجب أن نعترف به للمحقق حتى نتفادى أن نقدم أناسًا لا عيب فيهم إلى المحاكمة وأننا مهما أنكرنا هذا الحق على القاضي فلا يمكننا أن ننكر أن المحقق كثيرًا ما يرتاح ضميره إلى حفظ الدعوى لعدم الأهمية، وهذا بلا جدال هو عين الغفران. [(13)]
رأينا الخاص
ومن رأينا أننا لا يمكن أن ننكر تلك الحقيقة ولاحق المحقق في أن يحول دون الإرسال إلى المحاكمة المتهمين الذين لم يعملوا إلا الجرائم التافهة للغاية التي يدرك أن حفظها في فائدة الجميع أو أنها لا تدل على شر في نفسهم، وغاية ما يجب أن نفكر فيه هو أن توضع قواعد تنظم هذا النوع من الغفران المستور بستار الحفظ وتبين شرائطه، ووزير الحقانية أو النائب العمومي هو الذي يتولى وضع هذه القواعد ومباشرة تنفيذها.
الرد على الانتقاد الثاني
وأما الانتقاد الثاني فمردود عليه كذلك في أن هذه العقوبات الأدبية وعلى الأخص عقوبات الحرمان من بعض الحقوق ليس فيها شيء (غير معقول) فإن المفروض في العقاب بنوع عام هو دفاع الهيئة الاجتماعية عن نفسها بما لا يجعل المجرم قابلاً للرجوع إلى الإجرام، فإذا ما فطن القاضي أن الحرمان من حق أداء الشهادة مثلاً لا يشجع من كذب فيها مرة على أن يكرر فعله، أو إذا فطن أن نظرة تأنيب منه أو توبيخ كافية للحصول على الغرض المقصود من كل العقوبات وهو التحذير من الرجوع إلى الإجرام فلم لا نسمح له بذلك ؟
ولهذا يرى أنصار هذه العقوبات أن لا مانع من أن يحكم القاضي بالحرمان من حق الانتخاب مدة معينة من الزمن أو غير معينة لمن ارتكب جريمة انتخابية، أو الحرمان من حمل السلاح مؤقتًا أو نهائيًا لمن أساء استعمال سلاحه، أو الحرمان من أداء الشهادة لمن كذب فيها.
الخاتمة
هذا ورأينا أن هذه العقوبات جديرة بالعناية ويصح أن ينقلها الشارع المصري إلى قوانينه التي وعد بمراجعتها لا سيما وأن فيها بديلاً عن عقوبات الحبس وجيز المدة التي ظهر للناس كلهم فسادها وعدم إمكانها القيام بالغرض المقصود منها.
تادرس ميخائيل
المحامي
[(1)] ويعرفه الأستاذ Paul Cuche في كتابه صـ (1) بما يأتي:
La pénologie ou science pénitentiaire a pour but d’étudier les fonctions qne la peine est appelée à remplir dans les sociétés modernes et d’organiser pratiquement l’adaptation de la peine à ces functions.
ومعنى هذا على وجه التقريب أن علم القصاص أو العقوبة (أو الجزاءات الجنائية) هو علم يرمي إلى دراسة الأغراض (أو الوظائف) التي يجب أن تتوفر في العقوبة التي توقع في الهيئات الاجتماعية العصرية، ويرمي إلى تنظيم تطبيق تلك العقوبة على تلك الأغراض (أو الوظائف) عمليًا.
[(2)] نظن أن هذا ليس مجال مناقشة هذه النظرية ويكفي أن نذكر هنا أنها لم تعش طويلاً لأن الانتقادات التي وجهت إليها كانت مميتة، وإليك بعض هذه الانتقادات:
( أ ) ثبت أن عددًا كبيرًا من المجرمين الخطرين جدًا ليس فيهم هذه العلامات.
(ب) اختلف أصحاب هذه النظرية أنفسهم على هذه العلامات وعلى تعيينها.
(جـ) يوجد أناس لا يشك في استقامتهم أبدًا وفيهم هذه العلامات.
(د) لأن (دارون) الذي يتمسكون بنظريته قال إن الإنسان كان من سلالة وحشية ولكنه ارتقى الآن، ولم يقل إنه يوجد الآن من يمثل الإنسان الوحشي.
(هـ) عدم العقاب بالنسبة للمجرم بظروف الأحوال والمجرم بشهواته يشجع الإجرام كثيرًا.
[(3)] انظر كتاب جورج فيدال G. Vidal. Cours
De droit Griminel et de Science Pénitentiaire 11me fasic. 6me édit. p. 55
[(4)] كوش. صـ (60). ن. (22).
[(5)] Bulletion de L’U. I. D. P. Ire année P. 29
[(6)] كوش. صـ (201) ن (70).
[(7)] أما المادة (52) التي ألغيت فنصها هو الآتي:
(كل حكم صادر في مواد الجنح ما عدا ما نص عليه منها في المواد (183) و(222) و(232) من هذا القانون…… إلخ يجوز أن يؤمر بإيقاف التنفيذ فيه….. إلخ).
[(8)] كوش نبذة (74) و(75).
[(9)] Rev. Pénitentiaire. 1889. p. 264
[(10)] Tallack. Penol. And prev. principles chap XX Corporol punishment. Pp. 411 et. S – Cuche pp. 229 et s.
[(11)]Rev. penit. 1902 pp. 37 et suiv. – Nottamment pp. 192 et s. observations de Mr. Salleiles.
[(12)] كوش صـ (239).
[(13)] كوش. المرجع التقدم.
اترك تعليقاً