المشقة تجلب التيسير : دليلها، قول الله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ قال: وبنوا على هذا جميع رخص السفر، والتخفيف في العبادات والمعاملات وغيرها، نعم. هذه قاعدة عظيمة.
أولا: ما المراد بالمشقة؟ المشقة المرادة هنا هي المشقة غير المعتادة، التي تخرج عن معتاد الناس، ولا يستطيعون تحملها على الدوام، هذه هو المراد بقوله هنا المشقة.
أما المشقة المعتادة التي تعود المكلف على تحملها، فهذه لا تضر، ولا يرتب عليها حكم.
معروف، الصلاة فيها مشقة، والصيام فيه مشقة، ومناسك الحج فيها مشقة، لكن هذه مشقة معتادة، أما المشقات التي تطرأ على المكلف، ويصعب عليه على الدوام، نعتبره قيدا هذا، يصعب عليه على الدوام أن يتحملها، فهذه المشقة يناسبها التيسير.
هذا معنى المشقة تجلب التيسير. هذه لها نظائر أو لها فروع كثيرة، منها المريض إذا لم يستطع أن يصلي قائما صلى وهو قاعد، إذا استطاع أن يصلي وهو واقف ويركع، ولكن ما يستطيع أن يسجد، يصلي قائما، ويركع ويومئ بالسجود، المشقة تجلب التيسير.
ومنها أن الشريعة الإسلامية أجازت نضح بول الغلام، الذي لم يأكل الطعام، من باب المشقة، يكثر يعني حمل الأطفال، فلو قيل مثلا بوجوب الغسل، لوقع الناس بالحرج، إن إذن نضح بول الغلام، الذي لم يطعم الطعام، من باب قاعدة..
طبعا فيه دليله، لكن ينطبق عليه قاعدة: المشقة تجلب التيسير، خذ الذي ما عليه دليل: قيء الغلام الرضيع، ما أكثر ما يقيء الغلام على أمه، وعلى ثيابها، لا يحكم بهذه الحال بنجاسته؛ لأن المشقة تجلب التيسير.
هذا بالنسبة للعبادات المعاملات، مثلا كون العاقلة تحمل الدية في قتل الخطأ، كون العاقلة تحمل الدية في باب قتل الخطأ، هذا من أي باب؟ هذا من باب: المشقة تجلب اليسير؛ لأن القاتل الذي قتل خطأ، ما تعمد القتل، وقع في مشقة عظيمة، فجلبت له الشريعة السمحة التيسير، فصارت الدية على العاقلة.
المطلب الأول:معنى قاعدة المشقة تجلب التيسير:
من حيث اللغة:
المَشَقَّةُ: الجهد والعناء،ومنه قوله تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } (النحل:7 ) ،وأصله من الشّق: :نصف الشيء، كأنه قد ذهب نصف أنفسكم حتى بلغتموه ، وشَقَّ علي الأمر أي: ثقل علي،ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لولا أن أَشُقَّ على أمتي لأمرتُهم بالسِواكِ عِند كلِ صلاة)(1)؛ والمعنى: لولا أن أثقل على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة،وفي حديث أم زرع:” وجدني في أهل غُنَيمة بِشَقّ “(2)،والشَّقّ:الفصل في الشيء، كأنها أرادت أنهم في موضع حَرج ضيق كالشَّقّ في الجَبَل.(3)
أما تَجلِب: فهي من الجَلْبُ وهو:سوق الشيء من موضع إلى آخر،واسْتَجْلَبَ الشيء: طلب أن يُجْلَبَ إليه.والجَلائِب:مايُجلب للبيع من كل شيء،وقيل الجَلائِب: الإبل التي تُجْلَب إلى الرجل النازل على الماء ليس له ما يَحْتَمِل عليه فيحملونه عليها.(4)
1- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب:الجمعة،باب:السواك يوم الجمعة:1/303. 2- أخرجه البخاري في صحيحه،كتاب:النكاح،باب:حسن المعاشرة مع الأهل:5/1988. 3- ابن الأثير،النهاية:487،الرازي،مختار الصحاح:343،ابن منظور،لسان العرب:7/166. 4- ابن الأثير،النهاية:158،ابن منظور،لسان العرب:2/312.
والتيسير: من اليُسْر:وهو ضد العُسر،ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يُسْرٌ)(1)،وأراد بذلك صلى الله عليه وسلم أنه سهل سمح قليل التشديد.(2)
والمراد بجلب المشقة للتيسير:أن المشقة سبب للتيسير،قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً }(الانشراح:5-6)، لذلك قال الشاعر(3): إذا اشَـتد بك العُسرُ فَفَكر في “ألم نَشْـرَح” فعُسرٌ بين يُسـرَينِ إذا أبصَـرتَهُ فَافـرَح
ويكون بذلك معنى القاعدة: أ- في ما يخص الشرع:أن الصعوبة والعناء التي يجدها المكلف في تنفيذ الحكم الشرعي تصير سببا شرعيا صحيحا للتسهيل والتخفيف عنه بوجه ما.(4)
والمراد بالمشقة الجالبة للتيسير:المشقة التي تنفك عنها التكليفات الشرعية.أما المشقة التي لاتنفك عنها التكليفات الشرعية كمشقة الجـهاد 1- أخرجه البخاري في صحيحه،كتاب:الإيمان،باب:الدين يسر:1/23.
2-[واليسُْر] :بسكون السين وضمها ضد العسر،ينظر:مختار الصحاح،الرازي:742،النهاية،لاب الأثير:1025،لسان العرب،لابن منظور:15/445. 3- ابن الجوزي،زاد المسير:1565. 4- حيدر،درر الحكام شرح مجلة الأحكام:1/33،الزرقا،شرح القواعد الفقهية،وهبة الزحيلي، الضرورة الشرعية:196،محمد الروقي،القواعد الفقهية من خلال كتاب الإشراف للقاضي عبدالوهاب:292 ، يعقوب الباحسين،قاعدة المشقة تجلب التيسير:26.
وألم الحدود،ورجم الزناة،وقتل البغاة والمفسدين والجناة،فلا أثر لها في جلب تيسيرولاتخفيف.(1)
ب- في ما يخص الحياة (بشكل عام): مما يلاحظ أن المشقة سبب قوي للتيسر في هذا الكون، أي أن هذه القاعدة كونية فهي تشمل كل نواحي الحياة ،ونجد أن لها وجوداً في حياة كل الناس.
وقد اعتاد الفقهاء على التعريف بقاعدة المشقة تجلب التيسير من حيث كونها قاعدة شرعية، ولم يتطرقوا على حد علمي إلى محاولة التعريف بها كقاعدة كونية، وهذا طبيعي لأنهم يتكلمون في حدود تخصصهم،ولكني احتجت إلى التعريف بهذه القاعدة من حيث كونها كونية لبيان مكانتها الحقيقية ، والتأكيد على بعض وجهات النظر التي أتبناها فيما يخص القاعدة بشكل خاص والقواعد الفقهية الكلية بشكل عام،وفيما يلي سيأتي مايدل على كون قاعدة المشقة تجلب التيسير كونية من خلال بيان مستند هذه القاعدة من القرآن الكريم والسنة المشرفة.
المطلب الثاني:الأدلة على قاعدة المشقة تجلب التيسير:
الأدلة من القرآن الكريم:
أ – من الأدلة الدالة على أن قاعدة المشقة تجلب التيسـير قاعدة شرعية 1- الزرقا،شرح القواعد الفقهية:157.
الواردة في القرآن الكريم (1):
1- { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } (البقرة: 286) 2- { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (الحج : 78 )
ب- من الأدلة الدالة على أن قاعدة المشقة تجلب التيسـير قاعدة كونية الواردة في القرآن الكريم:
1- {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } (النمل:62). 2- {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً }(الانشراح:5-6).
الأدلة من السنة المطهرة:
أ- من الأدلة الدالة على أن قاعدة المشقة تجلب التيسـير قاعدة شرعية الواردة في السنة المطهرة (2):
1- قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يُسْرٌ)(3). 2- قوله صلى الله عليه وسلم: (بُعِثْتُم مُيسِرين ولم تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ).(4) 1- ابن نجيم،الأشباه والنظائر:84،المرداوي،التحبير شرح التحرير:8/3847-3848. 2- السيوطي،الأشباه والنظائر:1/76،البرنو،الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية:218. 3- سبق تخريجه. 4- أخرجه البخاري في صحيحه،كتاب:الوضوء،باب: صب الماء على البول في المسجد:1/89.
ب- من الأدلة الدالة على أن قاعدة المشقة تجلب التيسـير قاعدة كونية الواردة في السنة المطهرة:
1- قوله صلى الله عليه وسلم ثَلاثةٌ لا تُردُّ دَعوتُهُم :الصَّائِم حِينَ يُفْطِر،والإمَامُ العَادِل،ودَعوَةُ المَظْلُوم يَرفَعُها الله فَوقَ الغَمَام وَيفتَحُ لَها أَبْوَابَ السَّمَاءِ ، ويَقُولُ الرَّبُّ وعِزَّتِي لأنُصُرَنَّك ولوْ بعدَ حِينٍ)(1)
2- مارواه البخاري بإسناده عن عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ يقول: ( كان المسجد مسقُوفا على جِذعٍ من نَخْل فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خَطَبَ يَقُومُ إلى جِذعٍ منها فلما صُنِعَ له المِنْبَرُ وكان عليه فسَمِعنا لذلك الجِذع صوتاً كصوتِ العِشارِ(2) حتى جاءَ النبي صلى الله عليه وسلم فَوضَعَ يَدَهُ عليها فَسَكَنَت )(3).
وفيما يلي من الدراسة سيظهر وجه الدلالة من الأدلة السابقة واضحا بإذن الله تعالى.
1- أخرجه الترمذي في سننه،كتاب:الدعوات،باب:128 :5/324،وقال الترمذي:هذا حديث حسن،وابن خزيمة في صحيحه،كتاب:الصوم،باب:ذكر استجابة الله عز وجل دعاء الصوامإلى فطرهم من صيامهم:2/917،وأخرجه ابن حبان في صحيحه،كتاب:الرقائق،باب:الأدعية،ذكر البيان بأن دعوة المظلوم تستجاب له لا محالة وإن أتى عليها البرهة من الدهر:3/158. 2- العِشار:الناقة التي أتى على حملهاعشرة أشهر،ينظر:النهاية،لابن الأثير:617،وفتح الباري،لابن حجر:6/603. 3- أخرجه البخاري في صحيحه،كتاب:المناقب،باب:علامات النبوة في الإسلام:3/1314،وأخرجه مسلم في صحيحه،كتاب:الإيمان،باب:الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين والدعاء إليه والسؤال عنه:1/50.
المطلب الأول:مكانة قاعدة المشقة تجلب التيسير بين القواعد الفقهية:
ذكر العلماء أن قاعدة المشقة تجلب التيسير من أمهات القواعد الخمس التي يدور عليها معظم أحكام الفقه،وقد نظمها بعض الشافعية فقال(1):
خمسٌ مقررةٌ قواعدُ مذهـب للشافـعيِ فكن بـِهنَ خَبـيرا ضررٌ يزالُ وعادةٌ قد حُكِّمَت وكذا المشـقةُ تَجْلبُ التَـيسِيرا والشكُ لا ترفـعْ بهِ متَيَـقِنا والنيةُ أخلصَ إن أردتَ أجُورا
والقواعد التي أشارت إليها الأبيات السابقة هي:
1- الضرر يزال. 2- العادة مُحَكَّمة. 3- المشقة تجلب التيسير. 4- اليقين لا يزول بالشك. 5- الأمور بمقاصدها.
وإذا تأملنا قليلا القواعد الأربع السابقة ما عدا قاعدة المشقة تجلب التيسير، سنرى أن هذه القواعد من حيث صلة بعضها ببعض راجعة إلى قاعدة المشقة تجلب التيسير(2)، وإذا قال البعض: كيف ذلك؟ سيجد فيما يلي بُغْيَتَهُ بإذن الله تعالى:
1- أحمد الزرقا،شرح القواعد الفقهية:162،علي الندوي،القواعد الفقهية:100. 2- السيوطي،الأشباه والنظائر:1/7-8،محمد الروقي، القواعد الفقهية من خلال كتاب الإشراف:291. 1- قاعدة: الضرر يزال: وهذه القاعدة يكثر من استعمالها القضاة ، حيث يحكم القاضي بإزالة الضرر إذا ثبت له أنه بالفعل ضرر اتباعا للأدلة الشرعية وفق ضوابط معينة(1)،وهنا نرى أن الضرر مشقة وإزالته تيسير ؛ لذلك يظهر لنا بوضوح أن قاعدة الضرر يزال تندرج تحت مظلة قاعدة المشقة تجلب التيسير.
2- قاعدة: العادة مُحَكَّمَةٌ: العرف والعادة كان لهما نصيب وافر ملحوظ في تغير الأحكام حسب تغيرهما؛ لاعتبار الشارع للعرف والعادة في حالة عدم مصادمتهما للنص الشرعي، وقد تضافرت الأدلة من القرآن الكريم والسنة المطهرة التي تؤكد هذا الأمر؛ لذلك وضع العلماء قاعدة العادة محكمة(2)، واعتبار الشارع لعرف الناس وعاداتهم في بعض أمورهم فيه تيسير من الله تعالى على عباده كما لا يخفى.
3- قاعدة: اليقين لا يزول بالشك: هذه القاعدة تهدف إلى رفع الحرج والمشقة عن المكلف، حيث فيها تقرير لليقين باعتباره أصلا معتبرا،وإزالة للشك الذي كثيرا ما ينشأ عن الوساوس، لاسيما في باب الطهارة والصلاة، ومن الـمعلوم أن الوساوس داء عضال ، إذا اشـتد بصاحبه لايـنفك عنـه، فيـقع المكـلف في المـشقة، ويعالـج عناء في أداء الواجبات(3). 1- محمد اسماعيل،القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه:99. 2- علي الندوي،القواعد الفقهية:256،محمد الأشقر،الواضح في أصول الفقه:153. 3- علي الندوي،القواعد الفقهية:316. 4- قاعدة: الأمور بمقاصدها: الشارع لم يعتبر الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها، بل جرت على غيرقصد منه، ويدل على ذلك أدلة من القرآن كريم والسنة المطهرة؛ لهذا وضع العلماء قاعدة الأمور بمقاصدها ، وفي هذه القاعدة رفع الحرج عن المكلف؛ فإلزام المكلف بما لايقصد فيه حرج، وعدم اعتبار ماقصد فيه حرج أيضا، فتفكر (1).
إذن فقاعدة المشقة تجلب التيسير يمكن أن نصفها بأنها تتربع على قمة هرم القواعد الفقهية الكلية:
(رسم توضيحي)
(المشقة تجلب التيسير) (الضرر يزال) (العادة محكمة) (اليقين لا يزول باشك) (الأمور بمقاصدها)
1- علي الندوي،القواعد الفقهية:246-251.
المطلب الثاني: مكانة قاعدة المشقة تجلب التيسير بين الأدلة و القواعد الأصولية:
1- أثر قاعدة المشقة تجلب التيسير على بعض الأدلة الأصولية:
أ- المصلحة المرسلة: لاحظ العلماء أن الأحكام الشرعية جاءت لتحقيق مصالح الناس، سواء كانت ضرورية أو حاجية أو تحسينية؛ ولذلك إذا سكت الشارع عن شيء ما فلم يحكم فيه بأمر أو نهي ، ولم يرد دليل على أن تلك المصلحة ملغاة شرعا،فإن المجتهد ينظر ما فيه المصلحة فيأمر به ، وما فيه المفسدة فينهى عنه،ولو لم يستند إلى دليل معين،وفي ذلك تيسير ودفع للمشقة، وهذا يتحقق في القوانين الوضعية مثل قوانين المرور، فقوانين المرور ليست أحكاما شرعية، لكنها صادرة من قبل ولي الأمر التي تمت ولايته على الوجه الشرعي؛ لذلك يثاب من التزم بها؛ لوجوب طاعة ولي الأمر؛ ولأن الإخلال بها يؤدي إلى الإضرار بالناس وحصول الفوضى.(1)
ب- الاستحسان: وهو أن يترك المجتهد – في واقعة ما- العمل بنص أو قياس أو قاعدة عامة، يشمل الواقعة بعمومه، وينتقل عن ذلك الحكم إلى حكم آخر يـحقق المصلحة فيها، بسبب ضرورة، أو عرف عام،أو قياس خفي، أو دليل آخـر يقتضي هذا الترك، فيعدل المجتهد عن الأخـذ بذلك العـموم في شـأن تلك 1- الأشقر،الواضح في أصول الفقه:149، يعقوب الباحسين،قاعدة المشقة تجلب التيسر:277. الواقعة إلى حكم آخر تتحقق به المصلحة، أو تندرىء به المفسدة، ولا يكون ذلك العدول استحسانا بمجرد الرأي والهوى، بل بدليل يقتضي هذا العدول،كدليل رفع الحرج ودفع المشقة.(1)
2- أثر قاعدة المشقة تجلب التيسير على بعض القواعد المتعلقة بالترجيح بين الأدلة المتعارضة:
إذا تعارضت الأدلة فيما بينها ـ بحسب الظاهر ـ ولم يترجح للمجتهد أو المستنبط أحد الآراء، فإن دفع المشقة يصلح أن يكون مرجحاً لما هو أقرب إليه(1).
وقد ظهر ذلك التوجه عند كثير من العلماء من خلال كتبهم وترجيحاتهم، ولا غرابة في ذلك ؛ لأنهم يتبعون في هذا سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم،ومما يدل على ذلك ما أخرجه الإمام البخاري بإسناده عن أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: ” ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أَمْريْن إلا أخذَ أَيْسَرَهُمَا ما لم يَكُنْ إثماً فَإنْ كان إِثْماً كان أَبْعَدَ الناس منه…” (2) 1- الأشقر،الواضح في أصول الفقه:144 ، يعقوب الباحسين،قاعدة المشقة تجلب التيسر:318. 2- يعقوب الباحسين،قاعدة المشقة تجلب التيسر:405. 3- أخرجه البخاري في صحيحه،كتاب:المناقب،باب:صفة النبي صلى الله عليه وسلم:3/1306،وأخرجه مسلم في صحيحه،كتاب:الفضائل،باب:مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره من المباح أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته:4/1813.
وسأذكر ـ بإذن الله تعالى ـ بعض الصور التي اتضح فيها التزام العلماء بالأخذ بقاعدة المشقة تجلب التيسير فيما يخص الترجيح:
أ- الأخذ بالحكم الأخف:
وذلك سواء كان بين المذاهب أو الاحتمالات المتعارضة أماراتها، واحتج العلماء لذلك بالمنقول والمعقول، أما المنقول فالآيات والأحاديث الدالة على رفع الحرج ،وقد تقدم الإشارة لبعضها، أما المعقول فقولهم: ” إنه تعالى كريم غني والعبد محتاج فقير ، وإذا وقع التعارض بين هذين الجانبين كان التحامل على جانب الكريم الغني أولى منه على جانب المحتاج الفقير”(1)، وواضح من العبارة السابقة أن هذا المنهج يتبع عندهم إذا ما كان الحكم يدور حول حق الله تعالى وليس حق العباد.
ب- الأخذ بالعلة التي توجب حكما أخف:
واختار بعض العلماء ترجيح العلل التي توجب حكما أخف على العلل التي توجب حكما أشد ، وذلك في حال استوت العلتين في القوة، ولم يكن بينهما من هذه الجهة من فروق إلا في الشدة واليسر؛ وهذا لتضافر الأدلة الدالة على اعتبار ذات التيسير.(2)
1- الرازي،المحصول:6/159- 160 ،الزركشي،البحر المحيط:4/599،يعقوب الباحسين،قاعدة المشقة تجلب التيسير:406. 2- الغزالي،المستصفى:1/382،يعقوب الباحسين،قاعدة المشقة تجلب التيسير:411.
المطلب الأول:مكانة قاعدة المشقة تجلب التيسير بين القوانين الوضعية:
يظهر بوضوح تأثير قاعدة المشقة تجلب التيسير على القوانين الوضعية عند تأملنا لأثر نظرية الضرورة على تلك القوانين، وقد ذكر فيما سبق أن نظرية الضرورة تنطوي تحت مظلة قاعدة المشقة تجلب التيسير، ولابد أن يشار إلى أن جوهر نظرية الضرورة يقوم على افتراض قيام خطر جسيم وحال، يهدد كيان الدولة وأنظمتها، بحيث لاتجدي القواعد القانونية التي وضعت للظروف العادية في مواجهته، فتجد الدولة نفسها مضطرة لمخالفة هذه القوانين العادية من أجل مواجهة هذا الخطر لداهم الذي يهدد كيان الدولة، ويعني ذلك أن نظرية الضرورة تقوم على التعارض بين أمرين:
الأول: المحافظة عل كيان الدولة وسلامتها من ناحية. والثاني:وجوب احترام قواعد القانون من ناحية أخرى.
ومن أشهر الدول التي تبنت هذه النظرية في قوانينها:
1- دولة فرنسا: فقد أقر مجلس الدولة الفرنسي نظرية الضرورة في العديد من أحكامه،وقام فقهاء القانون الفرنسي بتهذيب نظرية الضرورة وقيدوها بضوابط معينة؛ لكي تستعمل استعمالا صحيحا ومعقولا دون تعسف.(1) 1- وهبة الزحيلي،نظرية الضرورة الشرعية:309،موقع مجلس الأمة الكويتي على الشبكة العنكبوتية،نظرية الضرورة في القانون والمراسيم بقوانين: www.majlesalommah.net 2- دولة ألمانيا: أما في ألمانيا فقد قرر الفقه الألماني أن نظرية الضرورة تعتبر كحق الدفاع الشرعي ، ويقصدون بذلك أنها نظرية قانونية تباح بموجبها إجراءات غير مشروعة حسب النصوص القانونية على أساس حق الدولة في السيادة، فيمكن للدولة الخروج على القانون في أحوال الضرورة، ولرئيس الدولة أخذا بحق الضرورة أن يعطل الدستور والقانون كلما وجد ذلك ضروريا للدفاع عن أمن الدولة وصيانة نظامها العام ؛ وبذلك حول الفقهاء الألمان نظرية الضرورة إلى نظرية ديكتاتورية سلطوية كما يرى أهل القانون لأنهم لم يضعوها ضمن ضوابط معينة كالفقهاء الفرنسيين.(1)
وتعتبر نظرية الضرورة أيضا نظرية شاملة عامة لكل فروع القانون، حيث أن لها تطبيقاتها في كل تلك الفروع ،وفيما يلي بيان ذلك:
1- القانون الجزائي: فيلاحظ أن لنظرية الضرورة تطبيقاتها في القانون الجزائي ، ففي حالة الدفاع الشرعي لا يسأل جزائيا من ارتكب فعلا دفعته لإرتكابه ضرورة وقاية نفسه أو غيره من خطر جسيم على النفس أو العرض أو المال.
1- وهبة الزحيلي،نظرية الضرورة الشرعية:309،موقع مجلس الأمة الكويتي على الشبكة العنكبوتية،نظرية الضرورة في القانون والمراسيم بقوانين: www.majlesalommah.net 2- القانون الإداري: وتطبق نظرية الضرورة أيضا في القانون الإداري، حيث لم يعتبر مجلس الدولة الفرنسي الامتناع عن تنفيذ حكم قضائي خطأ من جانب الإدارة، إذا كان سوف يترتب عل تنفيذه إخلال جسيم بالأمن العام، وتقرر هذه النظرية للإدارة الحق في القيام بالإجراءات المستعجلة اللازمة لدفع كل خطر يهدد الأمن أو الصحة العامة دون تقيد بالقوانين واللوائح، بل وتسمح هذه النظرية للمتعاقد مع الإدارة حقوقا تسمح بإعادة التوازن المالي للعقد إذا طرأت ظروف استثنائية أثرت على هذا التوازن.(1)
المطلب الثاني:مكانة قاعدة المشقة تجلب التيسير في واقع حياة الإنسان :
تأملت واقع حياة الإنسان فرأيت أنه يتعرض لثلاثة أمور يظهر فيهم تأثير قاعدة المشقة تجلب التيسير بشكل واضح جلي وهي: الصبر والاضطرار،والظلم، وإذا قال أحد ما: أرجو التوضيح أكثر!، أقول وبالله التوفيق:
1- الصبر: ففي حالة تعرض الإنسان المؤمن للشدة واختياره في هذه الحالة الصبرطريقا ومنهجا ، فإن الله تعالى يفرج عنه كربه، وهذا مشـاهد في 1- موقع مجلس الأمة الكويتي على الشبكة العنكبوتية،نظرية الضرورة في القانون والمراسيم بقوانين: www.majlesalommah.net واقع الحياة بكثرة،حتى أن عددا من علماء المسلمين ألفوا كتبا تخص هذا الموضوع، ومنهم ابن أبي الدنيا(1) صاحب كتاب الفرج بعد الشدة(2)،والتوخي(3) صاحب كتاب الفرج بعد الشدة(4)أيضا.
وقد سجل الشعراء هذا الواقع المشاهد في أشعارهم، وهذه أبيات أوردها على سبيل المثال : إذا ما أَلَمَّت شـدةٌ فاصْـطَبِر لها فخيرُ سِلاحِ المرءِ في الشدةِ الصبرُ(5) وأيضا: لا تيـأسنْ فـكلُّ عُسـْرٍ بـعدَهُ يُسْرٌ يُسَرُّ به الفـُؤادُ المحرَجُ واصبِرْ فإنَّ الصَّبرَ في الدٌّنيا إلى نَيْلِ المُنى والقَصْدِ نِعْمَ المنْهجُ (6)
وكما يعلم الجميع أن في الصبر مشقة ، لكنه سبب لجلب الفرج وهو اليسر. 1- هو عبدالله بن محمد بن عبيد بن سفيان القرشي مولى بني أمية المعروف بابن أبي الدنيا،صاحب الكتب المصنفة التي ربت كما قيل عن 300 مصنف، توفي في سنة (281 هـ)،ينظر:طبقات الحنابلة،لابن أبي يعلي:1/192،والبداية والنهاية، لابن كثير:11/71. 2- أصدرت الكتاب مؤسسة الكتب الثقافية في مدينة بيروت اللبنانية،وكانت الطبعة الأولى سنة:1993م. 3- هو المحسن بن علي بن محمد بن داود بن الفهم التنوخي، ولد في البصرة سنة (329هـ)، وولي القضاء في حياته، وله مصنف مشهور وهو نشوار المحاضرة الذي اشترط فيه أن لا يضمنه شيئاً نقله من كتاب،وكان شاعرا مجيدا،وتوفي في بغدد سنة (384هـ)،ينظر:معجم الأدباء،لياقوت الحموي:5/63،شذرات الذهب،للعكري:3/112. 4- صدر الكتاب في بيروت سنة 1978م بتحقيق:الدكتور عبود الشالجي في خمسة مجلدات. 5- ابن أبي الدنيا،الفرج بعد الشدة:102. 6- ابن أبي الدنيا،الفرج بعد الشدة:103. 2- الاضطرار: سبحان الذي قال في محكم آياته: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } (النمل:62)، وصدق الله العظيم ومن أصدق منه سبحانه، فكم من مضطر استجاب الله تعالى له سواء كان مسلم أو كافر،والقصص التي حصلت للناس والتي تؤكد شعورهم بذلك في حياتهم كثيرة جدا،ويصور القرآن قصة من القصص التي تكررت كثيرا في حياة الإنسان ،والتي توضح لنا حالة من حالات الاضطرار التي يقع فيها بني آدم في مشقة وعنت ، وبسبب توجهه لله تعالى بالدعاء تنكشف الغمة ويهل اليسر، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ }(لقمان:32)
3- الظلم: روى البخاري بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما:” أن النبي صلى الله عليه وسلم بَعثَ مُعَاذاً إلى اليَمَن فقال اتَّقِ دَعْوَةَ المظْلُومِ فَإِنَّها ليس بَيْنَها وبِيْنَ اللهِ حِجابٌ) ” ،وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكم من دعوة خرجت من مظلوم،استجاب الله تعالى لها ، وفرج عنه همه ومصيبته بسبب الظلم ، وسبحان من قال: { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ }(التوبة:14)، فالظلم مشقة يتعرض لها بني آدم ، والتوجه للمولى عز وجل بالدعاء هي السبب الذي يجلب التيسير،والله أعلم وأحكم.
اترك تعليقاً