جريمة الإخبار الكيدي الكاذب
للقاضي ضياء كاظم الكناني
تسود المجتمعات كثير من الظواهر السلبية التي تضر بها ومنها ما هو قديم قدم البشرية ومن هذه الظواهر ما يبقى ضمن معدلاته الطبيعية المقبولة ومنها ما يصبح مشكلة كبيرة لها تأثير واضح وانعكاس سلبي على المجتمع ومن الظواهر الاجتماعية الخطيرة ظاهرة الاخبار الكاذب او الادعاء الكاذب وغالباً ما يكون للمخبر السري دور اساس فيها وان هذه الظاهرة شائعة وقديمة وقد ذكرت في كتاب الله الكريم ومنها قوله تعالى في سورة يوسف ( قالت ما جزاء من اراد بأهلك سوءاً الا ان يسجن او عذاب اليم ، قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من اهلها ان كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وان كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال انه من كيدكن ان كيدكن عظيم ) صدق الله العظيم .
ان هذه الاية الكريمة تصور لنا واقعة اخبار كيدي تقدمت به امرأة العزيز ضد نبي الله يوسف ( عليه السلام ) تتهمه بمحاولة اغوائها .
والكيد في اللغة هو المكر والخبث والمكيدة تعني المخاتلة والحيلة لذا فأن هذه الظاهرة تمثل سلوك انساني شائن ومعيب ويمس مصالح الافراد والمجتمع ويضر بهم لذا كان هذا السلوك محرماً شرعاً وقانوناً ودعت جميع الاديان والحضارات الى نبذه واستهجانه وان نشاطه يختلف من مجتمع الى اخر ومن حضارة الى اخرى ويتأثر بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة فيها كما انه يتناقض مع حق الانسان في الادعاء والاخبار الصادق الذي يمثل حق اساسي فطر عليه الانسان وقرر له لغرض الدفاع عن حقوقه وحقوق الغير و مصالحهما فهو حق مقدس اقتضى عدم الاخلال به او استعماله خلافاً للغاية التي وضع من اجلها لذا يفترض في المخبر او المدعي الصدق والامانة وان يتحلى بمبادئ الشرف والنزاهة حين يستعمل حقه هذا وان يسلك الطرق المشروعة للوصول الى غايته وان يتجنب كل ما يخل بسير العدالة وان لا يكون وسيلة للاضرار بالاخرين وان ينطلق من نوايا حسنة دافعها احقاق الحق لا دافع الحقد والانتقام والثأر او تحقيق المصالح الخاصة على حساب الحقيقة والعدل .
وقد عرفت المادة (2) من قانون المرافعات العراقي رقم 83 لسنة 1969 الدعوى بانها ( طلب شخص حقه من اخر امام القضاء ) فاللجوء الى القضاء هو من الحقوق العامة التي تثبت للكافة فهو كما قلنا حق مقدس لا يسوغ لمن يباشره الانحراف عن ما وضع له مستلزمات ووسائل او استعماله استعمالاً كيدياً ابتغاء مضارة الغير والا حقت عليه المسائلة والتعويض فالقضاء ساحة لإحقاق الحق والعدل وهذا ما اكدت عليه المادة (5) من قانون الاثبات العراقي رقم 107 لسنة 1979 حين نصت على ( القضاء ساحة للعدل ولإحقاق الحق مما يقتضي صيانته من العبث والاساءة ويوجب على المتخاصمين ومن ينوب عنهم الالزام بأحكام القانون وبمبدأ حسن النية في تقديم الادلة والا عرض المخالف نفسه للعقوبة ).
ويترتب على ذلك ان هذا الجواز الشرعي في استعمال هذا الحق ينافي الضمان أي ان صاحب الحق حينما يستعمل حقه في التقاضي او الادعاء استعمالاً مشروعاً فأنه لا يضمن ما يصيب الاخرين من ضرر وعكس ذلك هو استعمال هذا الحق استعمال غير جائز فأن ما يصيب الغير من ضرر نتيجة هذا الاستعمال يكون موجب للضمان والتعويض ويكون استعمال الحق غير جائز اذا لم يقصد به سوى الاضرار بالغير او اذا كانت المصالح التي ويبتغى الحصول عليها من هذا الاستعمال غير مشروعة او لا تتناسب مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها وهذا ما اشارت له المادتين (6-7) من القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951.
وان الكيد في التقاضي لا يقتصر على جانب دون اخر فتراه في القضايا الحقوقية وقضايا الاحوال الشخصية والقضايا الجنائية ولا يصدر من جانب المدعي او المخبر فقط وانما قد يصدر السلوك الكيدي من المدعي عليه او المتهم من خلال انكاره الكيدي وان كان الانكار حق من حقوق المدعي عليه او المتهم الا ان هذا النوع من الانكار قد ينقلب الى نوع من المراوغة والمكر والمخبثة اذا لم يبغي من انكاره هذا سوى الاضرار بخصمه ومثال الكيدية في الدعاوى المدنية كان يتهم البائع المشتري بالاحتيال عليه والاستحواذ على ماله في حين ان حقيقة الواقعة عملية بيع وشراء تمت بينهما فيعمد البائع الى تحريك الشكوى امام محكمة التحقيق بعد ان ويلبسها لبوس الفعل الجرمي دون ان يكون هناك سند قانوني الا بقصد الايقاع بالمشتري وانزال العقاب الجزائي بحقه فهذا نوع من الادعاء الكيدي ويخل بسير العدالة والقضاء لأن هذه الدعوى حقوقية يفترض اقامتها امام محاكم البداءة او ان يدعي بائع السيارة ان سيارته قد سرقت للضغط على المشتري لتسديد الاقساط التي بذمته او ان يقيم ذوي القاتل دعوى متقابلة تجاه ذوي المجنى عليه يتهموهم فيها بجريمة ما للضغط عليهم ولإجبارهم على التنازل او منعهم من متابعة دعواهم الجزائية ضد الجاني وفي الدعاوى الشرعية يعمد الزوج الى اقامة دعوى يطلب فيها مطاوعة الزوجة له في الدار الزوجية التي اعدها لها حينما تقيم عليه دعوى المطالبة بالنفقة .
او تعمد الزوجة الى اقامة دعوى تفريق قضائي حينما يقيم الزوج دعوى المطاوعة وقد يكون المكر والكيد من خلال استعمال اجراءات التقاضي ووسائله استعمالاً جائراً يلحق ضرراً بالخصم الاخر او انكار المستندات المقدمة او الطعن بصحتها وقد يكون بأساءة استعمال طرق الطعن القانونية لغرض تاخير حسم الدعوى والمماطلة والتسويف واطالة امدها وتأخير حسمها او اطالة فترة توقيف المتهم ويمثل الاخبار الكيدي الكاذب – وهو محور بحثنا هذا – اخطر انواع الجرائم التي تخل بسير القضاء والعدالة في هذا الوقت حينما يتعمد المخبر السري – والذي منحه المشرع حق الاخبار عن بعض الجرائم المهمة دون الكشف عن اسمه بموجب المادة (47) فقرة (2) من قانون اصول المحاكمات الجزائية العراقي رقم (23) لسنة 1971 ونصها ( للمخبر في الجرائم الماسة بأمن الدولة الداخلي او الخارجي وجرائم التخريب الاقتصادي والجرائم الاخرى المعاقب عليها بالاعدام او السجن المؤبد او المؤقت ان يطلب عدم الكشف عن هويته او عدم اعتباره شاهداً ..الخ) – الاساءة الى هذا الحق واستغلال الحماية القانونية الممنوحة له بموجب هذه المادة خلافاً للقصد السامي والهدف النبيل الذي ابتغاه المشرع من تشريعها فالمشرع قصد بتشريعه هذا النص تشجيع الافراد على الاخبار عن الجرائم المهمة والخطرة التي تمس امن واستقرار البلاد والمجتمع والتي ترتكبها في اغلب الاحيان جماعات او تنظيمات مسلحة او جهات ارهابية او اشخاص متنفذين وخطرين قد يكون لهم من الوسائل والطرائق ما يمكنهم من الانتقام والثأر ممن يخبر عنهم كما قصد المشرع الحفاظ على سلامة المخبرين وذويهم وممتلكاتهم من ردود افعال المتهمين المخبر عنهم او ذويهم لكن للاسف استغلت هذه المادة في الوقت الحاضر اسوء استغلال واستعملت كأداة للاضرار بالاخرين وايذائهم بدافع الحقد والمكيدة والانتقام والثأر وتشويه السمعة او الاقصاء السياسي او الاجتماعي او الوظيفي حيث نسبت جرائم خطيرة تتعلق بالارهاب والقتل او الفساد المالي لأشخاص ابرياء للدوافع المشار لها ليس الا .
ونرى ان من اسباب ازدياد هذه الظاهرة واستفحالها هو هبوط المستوى الثقافي والاجتماعي والاقتصادي بل السياسي ايضا وفساد الذمم وتدني مستوى الاخلاق امام ضعف ونقص التشريعات القانونية التي تتصدى لها وغياب المعالجات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للحد منها وكنتيجة لذلك يتحول حق الادعاء من حق قانوني مقدس غايته المحافظة على مصالح الافراد والمجتمع الى وسيلة للاضرار بها لأن القانون ووسائل التقاضي هي من طرق وسبل احقاق الحق والعدل وان الانحراف بها الى اغراض اخرى تضر بالاخرين او للحصول على مصالح غير مشروعة يجعل منها سبب للمعاناة وفقدان الجمهور ثقتهم بحسن سير العدالة ويؤدي ايضا للفوضى والاحساس بالخوف وعدم الاطمئنان الى اجراءات القضاء ويؤدي الى التنافر والتباغض بينهم ولجوئهم الى وسائل اخرى غير مشروعة وغير حضارية للحصول على ما يعتقدونه حقا لهم او للدفاع عن مصالحهم لذا فان الاخبار الكيدي الكاذب هو طعنة في جسد العدالة واعتداء على ثقة الجمهور بعدالة القضاء وحياده وهدم لركيزة مهمة يقوم عليها الكيان الاجتماعي هي عدالة النظام القضائي وحياده وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال (من بهت مؤمناً او قال فيه ما ليس فيه اقامه الله تعالى يوم القيامة على تل من نار حتى يخرج مما قال فيه ) صدق رسول الله .
لأن الظلم قبيح ولأنه مفسدة للناس ومذهبة للمروءة ومنفرة للاخوة وجالبة للغبية وقد نهانا الله تعالى ورسوله الكريم عنه نهياً شديداً فالارض تحيى بإحياء العدل ولخطورة هذه الظاهرة وما تسببه من تأثيرات سلبية على وجه العدالة والحق لابد من التصدي لها ومواجهتها والحد منها من خلال بث القيم الاجتماعية السامية في المجتمع وزيادة وعي الافراد والتركيز على التربية الاجتماعية والاخلاق القومية وتنمية القيم الانسانية النبيلة كالصدق والامانة والشجاعة والفضيلة والنزاهة والحلم واحترام وصيانة حقوق واموال واعراض الاخرين وتنمية الروابط الاجتماعية والمحافظة عليها ومواجهة القيم الاجتماعية الفاسدة التي وردت الى مجتمعنا كنتيجة للانفتاح العالمي والاختلاط بالثقافات الاخرى وما تبثه وسائل الاعلام والاتصالات الموجهة من سموم وثقافات هدامة للمجتمع والتصدي لها من خلال المناهج المضادة لها ووضع خطط والبرامج اللازمة للوقوف تجاه كل ما يسئ الى القيم الاجتماعية النبيلة والاعراف والاخلاق الحسنة التي توارثتها المجتمعات الراقية كما ان الاهتمام بالجانب الاقتصادي مهم ايضا للقضاء على أي ظاهرة سلبية وليش ظاهرة الاخبار الكاذب فقط فكما يقال ( حيث يحل الجوع لا يبقى للقانون حرمة وحيث لا يكون للقانون حرمة يحل الجوع ) .
وذلك من خلال رفع مستويات المعيشة والدخل للفرد وخلق فرص العمل والاستثمار كما ان الوضع السياسي الذي يسود البلد قد يكون عنصرا فعالا في ازدياد هذه الظاهرة وغيرها والعلاج هنا يكون من خلال التأكيد على احترام اصول ومبادئ العمل السياسي الشريف والابتعاد عن والوسائل التي تعيبه وتشينه وتفسده حيث اصبحت الاخبارات والاتهامات الكيدية احدى الوسائل المتبادلة التي يستخدمها الكثير من السياسيين خاصة في اوقات الانتحابات و الترشيحات للمناصب السياسية والقيادية وبذلك كان العامل السياسي والذي غالبا ما يتداخل معه العامل الطائفي والقومي عنصرا مساعدا في ازدياد هذه الظاهرة .
اما الجانب التشريعي فله حيز مهم في هذا الشأن لأن التشريعات يجب ان تواكب التغيرات فالقانون هو وليد الحاجة الانسانية لذا فأن هذه التشريعات تصدر وتعدل بسبب حاجات انسانية ملحة تكون سبباً لإصدارها او تعديلها ولكن تشريع النصوص العقابية او تشديدها كحل للوقوف بوجه أي ظاهرة سلبية لا يكون كافياً ما لم تسندها وتعضدها تشريعات تنص على تطوير الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي في البلد وتعمل على تنمية وتطوير المجتمع وازدهاره وكان المشرع العراقي قد تصدى لهذه الظاهرة بنصوص عقابية شديدة وحاول سد النقص التشريعي في هذا المجال بإصدار وتعديل بعض النصوص القانونية ولكن مع ذلك تبقى الحاجة ملحة لوضع سياسة جنائية حديثة لمعالجة هذه الظاهرة من خلال دراسة وتدقيق النصوص الحالية وتقييمها ومن ثم تشريع او تعديل القوانين العقابية او الاجرائية للتقاضي بما يفوت الفرصة على مقدمي مثل هذه الاخبارات الكاذبة وسد الثغرات الموجودة فيها رغم ان التشريعات العراقية هي من التشريعات المتطورة التي بنيت على سياسة تشريعية حديثة اخذت بنظر الاعتبار ظروف المجتمع العراقي السياسية والاجتماعيةالاقتصادية والثقافية فالمشرع العراقي عمل جاهداً للحد من هذه الظاهرة وتأثيراتها السلبية على وجه العدالة ففي الجانب المدني نص قانون الاثبات العراقي في المواد (37 ،38، 25) منه –
اضافة الى ما جاء بالمادة (5) منه التي اشرنا لها – الى نبذ كل تصرف او سلوك يدخل في اطار الادعاء او الدفع الكيدي الكاذب كما منح الخصم المتضرر من هذا الادعاء او الدفع الكاذب الحق في طلب التعويض حيث نصت المادة (37) منه ( اذا انتهت المحكمة الى ثبوت صحة السند ورفضت الادعاء بالتزوير حكم على مدعي التزوير بغرامة لا تقل عن ثلاثة الاف دينار تتحصل تنفيذاً ولا يخل ذلك بحق المتضرر في طلب التعويض …. الخ ) اما المادة (38) فقد نصت ( لمن يدعي تزوير سند ان يتنازل عن ادعائه وفي هذه الحالة لا يحكم عليه بالغرامة المنصوص عليها في المادة السابقة الا اذا ثبت للمحكمة انه لم يقصد بإدعائه الا مجرد الكيد لخصمه او عرقلة الفصل بالدعوى ) . اما قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 فقد افرد فصلاً كاملاً منه عن الاخبار الكاذب والاحجام عن الاخبار وتضليل القضاء وهو الفصل الثاني من الباب الثاني في المواد من 243-250 حيث نصت المادة (243) .
( كل من اخبر كذباً احدى السلطات القضائية او الادارية عن جريمة يعلم انها لم تقع او اخبر احدى السلطات المذكورة بسوء نية بإرتكاب شخص ما جريمة مع علمه بكذب اخباره او اختلق ادلة مادية على ارتكاب شخص ما جريمة خلاف الواقع او تسبب بإتخاذ اجراءات قانونية ضد شخص يعلم براءته وكل من اخبر السلطات المختصة بإمور يعلم انها كاذبة عن جريمة وقعت يعاقب …الخ ).
اما المادة(248) نصت على ( يعاقب بالحبس والغرامة او بإحدى هاتين العقوبتين كل من غير بقصد تضليل القضاء حالة الاشخاص او الاماكن او الاشياء او اخفى ادلة الجريمة او قدم معلومات كاذبة تتعلق بها وهو يعلم عدم صحتها ) ومن هاتين المادتين نلاحظ ان المشرع العراقي شعر بخطورة جريمة الاخبارات والادعاءات الكيدية الكاذبة وجرائم تظليل القضاء لذا وضع عقوبات صارمة لمرتكبيها لكن مع وجود هذه النصوص لاحظ ان هذه الظاهرة في ازدياد لذا صدر القرار المرقم 129 في 24/7/1999 الذي تضمن اصدار القانون رقم 20 لسنة 1999 قانون تعديل قانون اصول المحاكمات الجزائية والذي عدل نص المادة (3) الفقرة أ/2ح .
واستثنى جريمة الاخبار الكاذب من هذا النص الذي اشترط عدم جواز تحريك الدعوى الجزائية الا بناء على شكوى من المجنى عليه او من يقوم مقامه قانوناً وبالتالي اصبح من حق الادعاء العام والقضاء تحريك الشكوى ضد مرتكبي جرائم الاخبار الكاذب دون التوقف على شكوى المجنى عليه او من يقوم مقامه قانوناً حيث جاء في الاسباب الموجبة لتعديل هذه المادة ( لغرض تحريك الدعوى الجزائية في جريمة الاخبار الكاذب دون اشتراط تحريكها من المجنى او من يقوم مقامه وذلك لإتاحة المجال للقضاء والادعاء العام لتحريك هذه الدعوى لكونها من الجرائم التي تضر بسير العدالة وتؤدي الى تضليل القضاء ولهذه الاسباب شرع هذا القانون ) ونلاحظ هنا ان هذه التعديلات ما كانت لتصدر الا لقطع الطريق على مقيمي هذه الشكاوى ومروجيها لكونها تمس كرامة القضاء ومن الحلول التي يمكن ان تحد من هذه الظاهرة – اضافة الى الاصلاحات والمعالجات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والسياسية والتشريعية التي تطرقنا لها – معرفة البيئة التي تظهر وتنشط فيها هذه الظاهرة ومعرفة مرتكبيها والمحرضين عليها واذا ما بحثنا في ذلك سنشعر بالخيبة والاسف حينما نعرف ان مرتكبي هذه الجريمة هم في الغالب ممن لهم معرفة بالقانون لو لهم خبرة ودراية فيه فنرى ان بعض المحامين ورجال الشرطة والاجهزة الامنية من الذين لا يقيمون اعتبارا لمهنهم المقدسة التي تحظر عليهم ممارسة أي فعل او تصرف يخل بأدابها ومن الذين لا يعيرون اهتماما للقيم والتقاليد والاعراف الاجتماعية السامية .
يقومون بتحريض الخصوم ويدفعونهم الى سلوكها سعياً وراء مأربهم ومصالحهم المادية ومن هنا نرى ان من الحلول المهمة التي يمكن ان تسهم في حل هذه الظاهرة او الحد منها هو اتخاذ الاجراءات الانضباطية والادارية والقانونية بحق هؤلاء عن طريق مراجعهم الادارية ودوائرهم ونقاباتهم وان تستهجن هذه الظاهرة من قبل جميع منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية وجميع الجهات المعنية بحرية الانسان وحقوقه اما القضاء العراقي فكان له دور مهم في الحد من هذه الظاهرة لما يملكه من تاريخ زاخر وناصع ولما يتمتع به من كفاءة ونزاهة وحياد واستقلال .
فالقاضي العراقي الذي عُرف بقوة الملاحظة والفراسة والذكاء يسهل عليه من خلال التحقيق والتدقيق وما يملكه من خبرات ملاحظة الشكاوى الكيدية والاخبارات الكاذبة وان يربط الوقائع فيما بينها ويبحث في دوافع الاخبار وشخصية المخبر وثقافته وعمره وعلاقته بالمجني عليهم والمتهمين وفيما اذا كانت هناك قرابة او خصومة بينه وبينهم كما يشترط التثبيت من هوية المخبر السري ومحل سكناه ليسهل احضاره او اتخاذ الاجراءات القانونية بحقه في حالة عدم صحة اخباره وان يكون الاعتماد على المصادر المعروفة والموثوق بها من قبل الجهات التحقيقية وان تتحمل هذه الجهات مسؤولية الاخبارات الكيدية لمخبريها اضافة الى المسؤولية الجنائية التي يتحملها المخبر ذاته وعليه التأكد من علاقة المخبر بالجهة التحقيقية عند الادلاء بمعلوماته ان كان من المخبرين العاملين مع الجهات التحقيقية ام ان حضوره كان للمصلحة العامة واحقاق الحق .
حيث لوحظ للاسف قيام بعض الجهات التحقيقية بصنع المخبرين السريين من خلال تلقين المتهمين الموقوفين لديها تجاه اخرين او دفع منتسبيها للاخبار عن المتهمين واتهامهم بعد القاء القبض عليهم كذلك على القاضي ان لا يعتد بإفادات المخبرين المبنية على السماع مهما تعددت وان لا يستعجل في اصدار القرار والذي غالباً ما يكون ( امر قبض ) قبل التأكد من صحة هذا الاخبار وصحة وقوع الحوادث التي اخبر عنها المخبر من خلال احضار المجنى عليهم او المدعين بالحق الشخصي للاستماع الى اقوالهم والتأكد من صحة وقوع الجريمة وعلاقة المتهم بها وان القاضي في جميع الاحوال له سلطة تقييم وتقدير افادات المخبرين ومدى صحتها ومن ثم اصدار القرار المناسب لذا فالقاضي له دور مهم في حماية وتحصين هذا النص السامي ذو الاهداف السامية النبيلة من اساءة استعماله او العبث به ، ورد جميع الدعوات التي تطالب بإلغائه وايقاف العمل به او وضع العوائق في طريقه في ظرف يصارع فيه هذا البلد وشعبه اقوى واعتى هجمات الارهاب والفساد في غياب اجهزة امنية واستخبارية ومعلوماتية منظمة ومحترفة ووقت تكاد ان تكون الاخبارات السرية فيه الشريان او الرافد المعلوماتي المهم والوحيد الذي يغذي هذه الاجهزة الامنية والاستخبارية بالمعلومات المهمة عن وقوع الجرائم وكيفية وقوعها واهدافها ومتركبيها وكل ما يتعلق بها لذا فأن للقضاء العراقي دور كبير في الحد من هذه الظاهرة او تحجيمها وعلى هذا الاساس وجه السيد معالي رئيس مجلس القضاء الاعلى المحترم رسالة قيمة الى قضاة التحقيق بعدد 232/مكتب/2008 في 16/3/2008 بعد ان لاحظ معاليه ازدياد معدلات وحالات الاخبارات والشكاوى الكيدية الكاذبة حيث وجههم فيها ( بعدم اصدار اوامر القبض والاستقدام قبل جمع الادلة الكافية وقبل تكوين القناعة الموضوعية بصحة صدور الفعل الاجرامي المسند الى المشكو منه ).
كما نوه معاليه ( الى ان الامر يكون في غاية الخطورة لأن توقيف المتهم بعد صدور امر القبض وخاصة في الجنايات ثم يقوم القاضي بجمع الادلة وهذا يستغرق وقتاً طويلا يبقى المتهم خلاله في التوقيف ويكون المشكو منه هنا قد تعرض الى حجز حريته والتشهير به والاساءة الى سمعته وربما يكون هو الهدف الذي قصده المخبر او المشتكي ) لذا توجه لهم قائلا ( زملائي قضاة التحقيق الامناء على حرية المواطن وعلى حسن تطبيق القانون ان لا تكون عملية اصدار امر القبض او الاستقدام الا بعد اكتمال جمع الادلة والتثبت من صدقية الشكوى او الاخبار وتوظيف الخبرة والحكمة القضائية في هذا المجال وتلك هي رسالة القضاء الذي اخذ كامل ابعاده في الحياد واصبحت تجربة استقلاله في العراق نموذجاً لمبدأ فصل السلطات الذي تبناه الدستور فلنعمل جميعاً على ترسيخ هذا الاستقلال واظهار اثره الايجابي على حرية المواطن واحترام حقوق الانسان ) وقد كان لرسالة معاليه الاثر الفاعل والكبير في الحد من هذه الظاهرة الخطيرة بعد ان اصبحت حرية الانسان وكرامته رهينة المخبر السري الذي لا تعرف دوافعه او هويته وباتت المحاكم وسوح القضاء ساحة لتصفية الحسابات السياسية والطائفية والعشائرية .
واخيراً نرى ان القضاء مكلف بإلتزام اخر هو تفعيل النصوص القانونية وتطبيقها بحق مرتكبي هذه الاخبارات الكيدية الكاذبة والمحرضين عليها وختاماً نسأل الله سبحانه ان يوفق الجميع لذلك .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً