نظرية التعسف في استعمال الحق
لم تجد نظرية التعسف في استعمال الحق تاييدا كبيرا لها لاسيما من طرف اصحاب المذهب الفردي فقد كانوا يرفضون اي قيد يرد على استعمال المالك لحقه الا في حالة واحد وهي تجاوز المالك حدود حقه لكن هذه الحالة التي تقبلها مؤيدو المذهب الفردي هي في حقيقتها لاتعتبر تعسفا في استعمال الحق وانما هي تعدي المالك او دخوله في نطاق يمنع عليه دخوله اصلا لان ماينتج عنه يعتبر خطاء يوجب التعويض كالشخص الذي يدخل في ملكية جاره او يبني فيه منشاة او يغرس فيه غرسا فالقاعدة لدى اصحاب المذهب الفردي ان استعمال الشخص لحقه يجب ان يكون مطلقا لايحد حد ولا يقيده شرط فلا يمكن حينذاك ان ينسب للشخص وهو يستعمل حقه اي خطا . وقد كانت هذه الفكرة ايضا مسيطرة على الفكر القانوني .
وكان الفقه الفرنسي متاثرا بهذه النظرية ايضا ففي بداية القرن التاسع عشر كان استعمال الحقوق مطلقا ومن يعمل ضمن حقه لايسأل عن الاضرار التي يلحقها بالغير مهما كانت فالشخص يستعمل حقه كيف يشاء ولا يكون مسؤولا عن الضرر الذي يلحقه بالاخرين . وكان الفقيه بلانيول من اشد المعارضين للفكرة التي جاءت بها نظرية التعسف في استعمال الحق ويرى انها تتناقض مع مفهوم الحق اذ انه متى ماكان للشخص حق فلا يتصور ان يتعسف فيه ، وكان جوسران في احدى مناظرات يرد على بلاتيول بقوله ( إنك تخلط بين كلمة حق التي تعني Droit subjective وكلمة Droit التي تعني القانون إذ من المتصور أن يكون للشخص حق موافقا لحق من الحقوق Droit subjective ومخالفا للقانون في المجموعة، فالتعسف في استعمال الحق يستلزم وجود فعل يدخل في حدود مضمون الحق، فهو مشروع في ذاته وينقلب إلى فعل غير مشروع لانحراف في غرضه أو لأن نتيجته لا تتفق مع الغاية من الحق ) .
وبعد ان تطورت نظرية التعسف في استعمال الحق لاقت تأييدا في الفقه والقضاء الفرنسيين عموما فبعد ان كان القضاء الفرنسي يشترط توافر الخطأ العمدي من طرف المتعسف اي ان يكون الاخير قد قصد احداث الضرر بالغير اصبحت تعتبر الفعل تعسفا كلما ترتب عليه ضرر أصحاب الغير ولم تتوفر لصاحب الحق مصلحة من استعماله.
اما في الشريعة الاسلامية فلم تجد فكرة التعسف في استعمال الحق- في بادئ الامر – صدى عند فقهائها وذلك استنادا الى القاعدة الفقهية ( الجواز الشرعي ينافي الضمان ) ولكن هذه النظرية وجدت طريقها الى التطبيق والقبول لدى الفقهاء المسلمين منذ القرن السادس الهجري بل انهم ذهبوا ابعد مما ذهبت اليه الشرائع الغربية فهم لم يقتصروا في تطبيقها على صورة تعمد صاحب الحق الاضرار بالغير بل انهم اعتبروا الفعل تعسفا كلما تخلفت المصلحة لدى صاحب الحق في استعماله وتجاوزت الحدود المألوفة المتعارف عليها واهم تطبيقات ذلك مضار الجوار، فلا يتحمل الجار ما جاوز الحد المألوف من مضار الجوار .
وقد بينت المادة السابعة من القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 حالات التعسف في استعمال الحق وهي : اذا لم يقصد بهذا الاستعمال سوى الاضرار بالغير ، واذا كانت المصالح التي يرمي الى تحقيقها قليلة الاهمية بحيث لا تتناسب مطلقا مع مايصيب الغير من ضرر بسببها ، واخيرا اذا كانت المصالح التي يرمي هذا الاستعمال الى تحقيقها غير مشروعة .
وبناء عليه فان معيار التعسف في استعمال الحق اما ان يكون معيارا شخصيا وهو قصد الاضرار بالغير كقيام شخص ببناء خطا في ملكه من شانه ان يحجب النور عن جاره دون ان يحصل على اي فائدة من هذا البناء فهذا العمل يعد داخلا في اطار استعماله لحقه ولكن اذا تم اثبات قصد الاضرار بالغير اعتبر الملك متعسفا في استعمال حقه وقصد الاضرار بالغير من اوضح صور التعسف في استعمال الحق فالقانون لا يحمي شخصا قصد من فعله مجرد الإضرار بالغير، و لتحقق هذه الصورة يجب ألا يحقق العمل أية منفعة لصاحبه أو يحقق له منفعة تافهة و في كلتا الحالتين يمكن استخلاص نية الإضرار.
وقد يكون معيار التعسف في استعمال الحق موضوعيا وهو ماتضمنه الفقرتان اللاحقتان اي في حالة اذا كان استعمال الحق يرمي الى الحصول على فائدة قليلة بالنسبة الى الضرر المتحقق للغير كقيام شخص بغرس اشجار عالية لتوفر نوعا من الرطوبة وهي في نفس الوقت تحجب النور عن جاره او تمنعه من استعمال الشرفة وفي هذا ينص القانون المدني الفرنسي في المادة 708 / الفقرة الثانية على انه (غير أنه ليس لمالك الحائط أن يهدمه مختارا من دون عذر قوي إن كان هذا يضر الجار الذي يستر ملكه بالحائط) فهذه الصورة تقوم على أساس عدم التوازن بين المصالح المتضاربة لصاحب الحق والغير فكلما كانت فائدة صاحب الحق أقل من الضرر الذي يصيب الغير أعتبر متعسفا في استعمال حقه ولو لم يكن عدم التوازن نتيجة قصد الإضرار بالغير .
اما الصورة الاخيرة من التعسف في استعمال الحق هي عدم مشروعية المصلحة كقيام المالك باستعمال منزله لغرض مخالف للنظام العام أو الدأب العامة.
وقد يكون المصلحة غير مشروعة بصفة غير مباشرة مثال رب العمل الذي يستعمل حقه في فصل عامل نتيجة انخراطه في نقابة من نقابات العمال، أو المؤجر الذي يطالب المستأجر بإخلاء العين المؤجرة بحجة حاجته للسكن فيها بعد إخفاقه في طلب زيادة الأجرة عما يسمح به القانون. وهناك من الفقهاء من يضيف معيار الضرر الفاحش الى المعايير السابقة وهي تكون في اوضح صورها في مضار الجوار غير المألوفة ويمكن اعتبارها تطبيقا لاحكام الشريعة الاسلامية التي تقتضي بان يعتبر استعمال الحق تعسفا اذا الحق بالغير ضررا فاحشا.
اما جزاء التعسف في استعمال الحق فهو اما ان يكون جزاء وقائيا وذلك اذا ظهر التعسف في استعمال الحق بصفة واضحة قبل تمامه اذ يمكن منع صاحب الحق من الاستعمال التعسفي لحقه او قد يكون تعويضا اذا ما لحق الغير ضرر بسبب هذا التعسف وفي احيان اخرى قد يلزم ازالة الضرر ذاته اذا كان ذلك ممكنا.
المحامية: ورود فخري
اترك تعليقاً