الفقه المقارن
(1)
نظام النفقات في الشريعة الإسلامية
ومقارنة المذاهب بعضها ببعض في ذلك
بقلم حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير العلامة الشيخ أحمد إبراهيم
أستاذ الشريعة الإسلامية بالجامعة المصرية بكلية الحقوق
يراد بالنفقة ما يدفع به الإنسان حاجة غيره من غذاء ومسكن وملبس وما يلتحق بذلك من مطالب المعيشة والحياة.
تمهيد،
– الكائنات ذات الحياة مدفوعة بغريزتها إلى طلب ما يحفظ لها حياتها وينميها ويقوم بكل، ما هي في حاجة إليه أخذًا وردًا وجذبًا ودفعًا يهديها إلى ذلك الإلهام الإلهي والعقل المطبوع وما تُكسبه إياها التجارب والمشاهدات، وبالجملة فالقانون الطبيعي قاضٍ بأن يتولى كل حي أمره بنفسه وألا تزر وازرة وزر أخرى لكل كائن حي من شأنه ما يغنيه،
لكن شاء العقل الإنساني بعد أن أفاد ما أفاد مما ارتفع به عن مستوى الفطرة الأولى وشاء الدين القويم والشرع الحكيم أن يكون لنوع الإنسان نظام اجتماعي يبنى على التضامن العام بين أفراده وجماعاته لينتقل بالإنسان إلى حالة أسعد وأهنأ من تلك الفوضى الشاملة المطلقة.
وآخر هذه النظم وجودًا وخيرها وأرشدها على الإطلاق هي النظم الإسلامية لو أخذت على وجهها الصحيح واسترشد الآخذون بها بهدي الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الموفقين الأخيار وهدي أئمة الدين الإسلامي الذين فقهوا سر شرعه المتين ومقاصده وغاياته وطابقوا بين العلم والعمل طباق عالم خبير يراعي المقامات ومقتضيات الأحوال ويسير قدمًا في كل إصلاحاته وتحسيناته حتى يصل إلى ما يستطاع الوصول إليه من الكمالات المقدورة للنوع الإنساني في الحياة الدنيا.
وسأذكر هنا أحد هذه النظم القويمة وهو نظام النفقات الواجبة على الإنسان لغيره من الأناسي والحيوان والأشياء فأقول:
2 – الأصل أن كل إنسان يقوم بحاجاته الحيوية نزولاً على حكم القانون الطبيعي متى كان في مُكنته القيام بتلك الحاجات فإن عجز عنها عجزًا كليًا أو جزئيًا فقد أوجب الشرع الإسلامي الرحيم على غيره أن يمد إليه يد المعونة وينهض بشؤونه بقدر ما هو في حاجة إليه سدًا لعوزه، يكلف ذلك الأقرب فالأقرب حتى ينتهي الأمر إلى هيئة الأمة الجامعة لكل أفرادها فيجب عليها سد تلك الحاجة من بيت مالها عملاً بذلك المبدأ النبيل مبدأ التضامن العام.
وقد استثني من هذا الأصل الكلي لقصد ديني أسمى واعتبارات أدبية أدق وأنبل بعض الأفراد بالإضافة إلى بعض، كالوالدين بالنسبة للأولاد والإناث من الأولاد والأقارب ترفيهًا عليهم وصونًا لهم من الابتذال والكد والكدح في طلب الرزق وكذلك قضى الشرع العادل بأن من يحتبسه الإنسان لمصلحة تعود على المحتبس أن يقوم هو بنفقته جزاءً وفاقًا، ومن هنا وجب على الزوج أن يقوم بنفقة زوجته وكل حاجاتها المعاشية حتى تتفرغ لتأدية عملها الذي هيأتها له يد القدرة الإلهية بهدوء واطمئنان، فقد احتبسها الزوج لنفسه خاصة وقيدها بقيد الزوجية فلا جرم كان من الواجب عليه أن يقوم بكفايتها، ومن أجل هذا الاحتباس أيضًا وجبت نفقة المملوك على مالكه إنسانًا كان أو غير إنسان.
3 – وقد علم بالاستقراء أن الأسباب الموجبة للنفقة ثلاثة: وهي الزواج، والملك، والقرابة فالأولان يوجبانها للزوجة على الزوج والمملوك على المالك دون العكس والثالث يوجبها لكل من القريبين على الآخر فيوجبها للمحتاج منهما على القادر عليها على ما سترى.
وهاك جملة القول في هذه النفقات الثلاث أسوقها إليك مقتصرًا على أمهات المسائل التي تصور لك وجهة النظر التشريعية في إيجاب النفقات وتقديرها وشروطها وما يسقطها دون الدخول في التفصيلات وذكر الفروع المتشعبة.
نفقة الزوجية
4 – أجمع أئمة الشريعة على أن نفقة الزوجة واجبة لها على زوجها فهي تستحقها جزاء احتباسه إياها لاستيفاء المعقود عليه عملاً بذلك الأصل الكلي – كل من كان محبوسًا بحق مقصود لغيره كانت نفقته عليه – لأنه احتبسه لينتفع به فوجب عليه القيام بكفايته ومن ذلك المفتي والقاضي والوالي وسائر عمال الدولة وكذا الوصي وناظر الوقف ولا شك أن النساء محبوسات أي مقصورات على أزواجهن، فكل زوجة هي مملوكة المنافع التي أذن الله بها لزوجها ويلزم من هذا ألا تترك الزوجة تذهب حيثما شاءت صيانة للنسب
وتفرغًا لما يجب للزوج على زوجته شرعًا، وفي هذا ما يمنع الزوج من الاكتساب والسعي في طلب الرزق بدون رضاء زوجها فمن أجل هذا وجبت نفقتها عليه سواء أكانت مسلمة أم غير مسلمة فقيرة أم غنية، قال الله تعالى (وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وقال – صلى الله عليه وسلم – (اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) رواه مسلم وغير هذا من الأخبار الواردة في ذلك، وقد جرى على ذلك العمل وانعقد عليه الإجماع.
5 – والزوجة تستحق النفقة ابتداءً من العقد الصحيح على الصحيح من مذهب أبي حنيفة – رحمه الله – وإن لم تنتقل إلى منزل زوجها إذا لم يطلب الزوج انتقالها، فإن طلب انتقالها فامتنعت بحق كامتناعها حتى تقبض معجل صداقها أو كانت عاجزة عن الانتقال بسبب مرضها فلا تسقط نفقتها، وإن كان امتناعها بغير حق فلا نفقة لها لتفويتها الاحتباس الواجب عليها لزوجها بدون عذر وهو سبب استحقاقها النفقة، وفي رواية عن أبي يوسف – اختارها القدوري – أن الزوجة لا تستحق النفقة حتى تزف إلى منزل زوجها لكن الفتوى على القول الأول.
6 – ويشترط في الاحتباس الموجب للنفقة أن يكون وسيلة إلى مقصود مستحق بالعقد وهو المباشرة ودواعيها وعلى ذلك لو كانت الزوجة صغيرة لا يستمتع بها فلا نفقة لها غير أن أبا يوسف قال إذا أمسكها الزوج في بيته للاستئناس بها وجبت عليه نفقتها.
واختير هذا القول للفتوى وإذا لم يمكن الاستمتاع بالوطء لمانع بها لكن أمكن ببعض دواعيه، فالنفقة واجبة لها أيضًا على الزوج وذلك لأن المعتبر في إيجاب النفقة هو الاحتباس لانتفاع مقصود من وطء أو من دواعيه أو استئناس على ما تقدم آنفًا أو خدمة.
لكن إن كان السبب في تفويت الاستمتاع من ناحيته هو فلا تسقط النفقة، والأصل في ذلك أن كل ما فوت الاحتباس لا من جهة الزوج فإنه يسقط النفقة وإلا فلا ومما يتفرع على ذلك:
( أ ) أن الزوج إذا كان صغيرًا لا يقدر على مباشرة النساء أو عنينا أو خصيًا أو مجبوبًا فإن الزوجة تستحق النفقة في كل هذه الأحوال إذا لم يوجد ما يسقطها من ناحية أخرى وذلك لأن التسليم قد تحقق منها وهو كل ما في وسعها وإنما العجز من جهته، وكذا إذا كان الزوج محبوسًا ولو بدين عليه لزوجته فلا تسقط نفقتها وإن كان غير قادر على أدائه لأن فوت الاحتباس من جهته.
(ب) إذا نشزت الزوجة على زوجها فلا نفقة لها لأن فوت الاحتباس منها فإن عادت إلى بيت الزوج ولو بعد سفره عاد الاحتباس فتجب لها النفقة بعد عودها وأما إذا منعت نفسها من الزوج وهي في بيته فلا تسقط نفقتها لقدرة الزوج على ما منعت نفسها منه بمكنته وواسع حيلته، وكذا إذا حبست ولو ظلمًا إلا إذ كان الزوج هو الذي حبسها وكذا إذا كانت الزوجة محترفة بعمل تعمله خارج المنزل فإذا منعها الزوج من الخروج وعصته فخرجت فلا نفقة لها ما دامت خارجة.
(ج) وإذا غصبها غاصب فلا نفقة لها مدة بعدها عن بيت زوجها لأن فوت الاحتباس ليس من جهته وهي في ذلك كالمحبوسة ظلمًا.
وذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد – رحمهم الله – إلى أن النفقة لا تجب على الزوج بالعقد وإنما تجب عليه بالتمكين من الاستمتاع بشروطه وهاك جملة القول في ذلك.
7 – ففي مذهب مالك – رحمه الله – لا تجب النفقة لغير المدخول بها إلا بتوافر جملة شروط أن تدعو الزوجة هي أو وليها أو وكيلها إلى الدخول بها بعد مضي زمن يتجهز فيه كل منهما لصاحبه عادةً وأن تمكنه من نفسها أي لا تمتنع من الوطء لو طلبها، وأن تكون مطيقة للوطء بلا مانع يمنع منه كأن تكون رتقاء (مثلاً) إلا أن يتلذذ بها مع وجود هذا المانع وهو عالم به وأن يكون الزوج بالغًا فلو دخل بها وهو صغير قادر على الوطء أو غير قادر عليه وهي بالغة أو غير بالغة وافتضها أو لم يفتضها
فلا نفقة لها عليه لكن قال الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير أنه قد صحح في التوضيح القول بوجوب النفقة على الصغير إذا دخل بها ولو كانت غير مطيقة أ هـ، ومن الشروط أيضًا أن يكون كل من الزوجين غير مريض أو مريضًا مرضًا خفيفًا يمكن معه الاستمتاع فإن كان المرض شديدًا فقولان حتى إذا بلغ المرض بصاحبه حد السياق والإشراف على الموت فلا نفقة لها في هذه الحالة وهذا كله قبل الدخول أما بعده فلا يشترط لوجوب النفقة شيء من ذلك على ما اختاره في التوضيح وهو الظاهر بل تجب لها النفقة عليه من غير شرط.
8 – وتسقط نفقة الزوجة لإعسار العسر الزوج فلا تلزمه في تلك الحالة وليس لها أن تطالبه بها ما دام معسرًا فإن عاد له اليسر بعد العسر وجبت عليه من ابتداء يسره وما أنفقته على نفسها زمن الإعسار لا ترجع عليه بشيء منه سواء أكان الزوج في زمن إنفاقها حاضرًا أم غائبًا لأنها متبرعة في تلك الحالة، وإذا كانت الزوجة قد أنفقت على زوجها شيئًا من مالها مدة عسرته فإنها ترجع عليه بقدر المعتاد فقط دون الزائد لأنه سرف فتعتبر متبرعة به، وقيل لا ترجع عليه بشيء لأن الظاهر أن ما فعلته من الإنفاق عليه هو من قبيل الصلة، لأنه زوجها، وهذا بخلاف إنفاقها على الأجنبي فإذا لم توجد بينة أو قرينة تدل على إردائها الرجوع عليه حمل الأمر على الصلة، وهو حسن.
أقول، وأبلغ من هذا ما حكاه في الهدي ونيل الأوطار عن ابن حزم من أنه إذا أعسر الزوج وكانت زوجته موسرة فإنه يجب عليها أن تنفق على نفسها وعلى زوجها المعسر ولا ترجع عليه بشيء مما أنفقه إذا أيسر وسيأتي هذا في موضعه.
ومما يسقط نفقة الزوجة نشوزها ومن ذلك منعها إياه من استمتاعه بها وكذا إن حبست بسبب مماطلتها أما إذا كان حبسها لغير ذلك فلا تسقط نفقتها لأن منعه من الاستمتاع ليس من جهتها وكذا إذا حبس زوجها ولو في دين لها عليه فلا تسقط نفقتها.
9 – وفي المذهب الجديد للشافعي – رحمه الله – وهو الصحيح عندهم: لا تجب النفقة بالعقد وإنما تجب بالتمكين التام يومًا فيومًا والتمكين يكون بأن تعرض الزوجة نفسها على الزوج ولو بأن تبعث إليه إني مسلمة نفسي إليك فإن كانت غير مكلفة فالتمكين يحصل بأن يعرضها وليها عليه، ولو سلمت المراهقة نفسها إلى الزوج فتسلمها ولو بغير إذن وليها كان هذا كافيًا لتحقق التمكين وكذا لو تسلم المراهق زوجته ولو بدون إذن وليه، ولو كان تسليمها نفسها إلى زوجها ناقصًا كأن تسلمه نفسها ليلاً لا نهارًا أو بالعكس أو في البلد الفلاني أو في المنزل الفلاني فقط فلا نفقة لها لعدم تمام التمكين.
10 – ويسقط نفقتها فوات الاستمتاع بها بسبب منها كنشوزها بعد التمكين ولا تعود نفقتها حتى تعرض نفسها على الزوج ثانيًا أو يعرضها وليها عليه ولو بإرسال رسول أو كتاب فإن كان الزوج غائبًا ورفعت الأمر هي أو وليها إلى قاضي بلدها مظهرة التسليم لزوجها فإنه يرسل إلى قاضي بلد الزوج ليحضره وليعلمه بالحال، وكذلك تسقط نفقتها بامتناعها من التمكين ولو في مكان عينه الزوج، وذلك لعدم التمكين التام وكذلك تسقط نفقتها لو غصبها غاصب لخروجها عن قبضة الزوج وفوات التمتع بالكلية
وكذا لو حبست ولو ظلمًا كما لو وطئت بشبهة فاعتدت، ولا يسقط نفقتها قيام عذر بها يمكن معه التمتع بها من بعض الوجوه كرتق وقرن ومرض وحيض ونفاس وجنون وإن كان ذلك مقارنًا تسليمها نفسها لزوجها وذلك لأن هذه الأعذار بعضها يطرأ ويزول وبعضها دائم وهي معذورة فيها وقد حصل التسليم الذي في استطاعتها فإن كانت الزوجة صغيرة لا تحتمل الوطء لتعذره فلا نفقة لها وذلك لفوات التمتع بها بالكلية لمعنى فيها، أما إذا كان الزوج طفلاً صغيرًا وزوجته كبيرة فإنها تستحق النفقة عليه لعرضها على وليه وإن لم يتأتَ من زوجها الوطء إذ لا منع من جهتها.
11 – وكذا في مذهب أحمد – رحمه الله – لا تجب النفقة بالعقد ولو تساكن الزوجان زمنًا طويلاً حتى تسلم نفسها إلى الزوج أو يسلمها إليه وليها أو تبذل نفسها إليه أو يبذل ذلك وليها بذلاً تامًا فإن كان البذل ناقصًا كتسليمها نفسها في منزلها دون غيره من سائر المنازل أو في بلدها أو نحو ذلك لم تستحق شيئًا من النفقة إلا أن تكون قد اشترطت ذلك في العقد، ويشترط أيضًا لوجوب نفقتها أن تكون مطيقة للوطء أي بنت تسع سنين فأكثر سواء أكان الزوج كبيرًا أم صغيرًا يمكنه الوطء أو لا يمكنه لمانع فيه،
ولا يسقط نفقتها تعذر وطئها لمرض أو نفاس أو حيض أو رتق أو قرن أو لكونها نضوة الخلق أي هزيلة أو حدث بها شيء من ذلك وهي عند الزوج، وذلك لأن الاستمتاع بها ممكن في الجملة ولا تفريط من جهتها،
ولو بذلت الصحيحة الاستمتاع بها دون الوطء فلا نفقة لها لعدم عذرها وكذا لو امتنعت من التسليم وهي سليمة ثم عرض لها المرض فبذلت نفسها للزوج فلا نفقة لها ما دامت مريضة عقوبة لها بمنعها نفسها عن زوجها في حالة هو متمكن من الاستمتاع بها فيها وبذلها في ضدها، ونشوز الزوجة وعدم تمكينها زوجها من وطئها تمكينًا كاملاً يسقط كل واحد منهما نفقتها، والقول في ذلك كما تقدم في مذهب الإمام الشافعي، وبالجملة فكل ما يمنع استمتاعه بها بسبب لا من جهته يسقط نفقتها.
تنبيه
12 – مما تقدم يتبين لك أن النفقة جزاء الاحتباس عند أبي حنيفة وأصحابه – رحمهم الله – وعليه إذا كان العقد فاسدًا فلا نفقة للزوجة لعدم الاحتباس وكذا لا نفقة لها في عدة النكاح الفاسد، وقد نقل في المادة (172) من الأحوال الشخصية أن التي تزوجت بلا شهود لها النفقة، وهذا منقول عن الهندية عن الخلاصة، ولفظها (وأجمعوا أن في النكاح بلا شهود تستحق النفقة)، ونظر فيه الحموي وغيره لأنه من أفراد الفاسد والفاسد لا تجب فيه النفقة ولذا قال في رد المحتار – الظاهر إن الصواب (لا تستحق) بلا النافية إذ لا احتباس فيه أهـ، ولم يتعقبه الرافعي في تقريره.
وأقول لا شك إن قواعد المذهب في نفقة الزوجة تؤيد ما قاله العلامة ابن عابدين، وقال في موضع آخر من رد المحتار لو أنفق على زوجته ثم تبين فساد النكاح بأن شهدوا بالرضاع مثلاً وفرق بينهما ففي الذخيرة له الرجوع بما أنفق بفرض القاضي لأنه تبين أنها أخذت بغير حق، ولو أنفق بلا فرض لا يرجع بشيء أهـ أي أنه يعتبر متبرعًا.
13 – ومذهب الشافعي – رحمه الله – في هذه المسألة هو عدم وجوب النفقة لها لا في حال اجتماعهما ولا بعد الافتراق ولو كانت حاملاً، لكن لو أنفق عليها بالفعل ثم فرق بينهما فلا رجوع له عليها بما أنفق بل يجعل ما أنفقه في مقابلة استمتاعه بها وإتلافه منافعها سواء أكانت حاملاً أم حائلاً.
14 – وأما مذهب أحمد – رحمه الله – فهو أن النفقة لا تجب في النكاح الفاسد لأن وجود العقد كعدمه وذلك إذا لم تكن الزوجة حاملاً فإن كانت حاملاً وجبت النفقة للحمل وأنه إذا أنفق عليها في النكاح الفاسد فلا يرجع عليها بشيء مما أنفق سواء أكانت النفقة قبل مفارقتها أم بعدها لأنه إن كان عالمًا بعدم الوجوب فهو متطوع للإنفاق وإن لم يكن عالمًا فهو مفرط فلا يرجع بشيء.
15 – وأما مذهب مالك – رحمه الله – فهو على هذا التفصيل المدخول بها في نكاح فاسد يدرأ الحد كمن تزوج ذات محرم جهلاً وكذا الموطوءة بشبهة إذا كانت كلتاهما لا زوج لها فإن حملت إحداهما من الواطئ فلها عليه النفقة والسكنى إذا كان لا يعلم بالحرمة فإن علم بالحرمة دونها فلها السكنى فقط لأنها محبوسة بسببه فإن علمت هي أيضًا فهي زانية لا سكنى لها ولا نفقة، وإن لم تحمل منه فالسكنى عليه والنفقة عليها وإن كانت ذات زوج ولم يكن زوجها قد دخل بها فإن حملت من الواطئ فسكناها ونفقتها عليه وإن لم تحمل فعليه السكنى فقط وأما النفقة فهي عليها لا على الواطئ على الراجح،
وأما لو كان زوجها قد دخل بها فنفقتها وسكناها على زوجها حملت أم لا، إلا أن ينفي الزوج حملها بلعانٍ فلا نفقة لها عليه ولها السكنى على الزوج ما لم يلتحق الحمل بالواطئ الآخر فإن لحق به فالنفقة والسكنى حينئذٍ على ذلك الواطئ الغالط، وإذا كان ذلك الواطئ الغالط قد أنفق عليها في الأحوال التي لا تجب عليه نفقتها فيها بقضاء أو بغيره بناءً على الظاهر، ثم تبين له الغلط فهل يرجع عليها بما أنفق ؟ الظاهر أنه يرجع عليها بذلك بناءً على هذا الأصل الذي حكوا اتفاقهم عليه، وهو أن من أخذ مالاً من إنسان يجب له بقضاء أو غيره ثم ثبت أنه لم يكن يجب له شيء أنه يرد ما أخذه. أهـ
تقدير النفقة
16 – اختلف علماء مذهبنا في تقدير النفقة على ثلاثة أقوال:
الأول: أنها تقدر باعتبار حالها يسرًا وعسرًا، حكي ذلك في الخانية ومستند هذا القول ظاهر حديث هند الآتي.
الثاني: أنها تقدر باعتبار حال الزوج مع صرف النظر عن حالة الزوجة فإن كان موسرًا فالواجب عليه نفقة اليسار وإن كان معسرًا فنفقة الإعسار وهذا القول هو ظاهر الرواية وأخذ به أبو الحسن الكرخي وكثير من مشايخنا، ورجحه في المبسوط والبدائع
ونقل في رد المحتار عن التحفة أنه الصحيح وبه قال الشافعي – رضي الله عنه – وهو المعمول به الآن في محاكمنا الشرعية بمقتضى المادة السادسة عشرة من المرسوم بقانون رقم (25) سنة 1929 ونصها:
(تقدر نفقة الزوجة على زوجها بحسب حال الزوج يسرًا وعسرًا مهما كانت حالة الزوجة).
وقد عللوا هذا القول بأن المرأة لما زوجت نفسها من معسر فقد رضيت بنفقة المعسرين فلا تستوجب على زوجها ما هو فوق قدرته واستدلوا بقوله تعالى (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا).
الثالث: أنها تقدر باعتبار حالهما جميعًا من يسر وعسر وإليه ذهب الخصاف ورجحه صاحب الهداية وقال إنه الفقه وبه أخذ أصحاب المتون والشروح فكانت عليه الفتوى وعليه العمل حتى صدر ذلك المرسوم بقانون المذكور آنفًا، ووجه هذا القول ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة – رضي الله عنها – إن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف. أهـ.
17 – وعلى ذلك إذا كان الزوجان موسرين فللزوجة نفقة اليسار وإن كانا معسرين فنفقة الإعسار ولو وصل الأمر إلى أدنى الكفاية وهذا باتفاق، وإن كان أحدهما موسرًا والآخر معسرًا فنفقة الوسط فإن كان الزوج هو الموسر أنفق عليها دون نفقة اليسار وفوق نفقة الإعسار متبعًا في ذلك ما عليه العرف، أما إن كان الزوج معسرًا والزوجة موسرة فقد قالوا إنه يقدر عليه لها نفقة الوسط ثم ينفق بقدر وسعه والباقي يكون دينًا عليه إلى الميسرة، وظاهر مذهب الإمام أحمد كذلك وقد صرح به في الفروع فقال نقلاً عن الترغيب ما نصه: إنه يفرض للموسرة مع الفقير أقل كفاية والباقي دين في ذمته، لكن حكي في الفروع أيضًا في موضع آخر قولاً بسقوط زيادة اليسار والتوسط في حالة إعسار الزوج، ومثله في كشاف القناع نقلاً عن المبدع.
وهذا القول هو المعتمد في مذهب الإمام مالك على ما حكاه الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير قال: اعلم إن اعتبار حالهما لا بد منه سواء تساويا غنى أو فقرًا أو كان أحدهما غنيًا والآخر فقيرًا لكن اعتبار حالهما عند تساويهما فقرًا أو غنى ظاهر وأما عند اختلافهما فاللازم حالة وسطى بين الحالتين، وحينئذٍ فنفقة الفقير على الغنية أزيد من نفقته على الفقيرة كما أن نفقة الغني على الفقيرة أقل من نفقته على الغنية، هذا هو المعتمد، ثم حكي قولاً آخر من أن اعتبار حالهما
إذا تساويا فإذا زاد حالها اعتبر وسعه فقط وإن نقصت حالها عن حاله اعتبرت حالة وسطى بين الحالتين أهـ أقول فهذا القول الثاني صريح في أن ما زاد على وسعه لا يكون دينًا في ذمته، وجمع الأستاذ الدردير – رحمه الله – بين القولين في شرحه جمعًا لطيفًا فقال: إن كان فقيرًا لا قدرة له إلا على أدنى كفاية فالعبرة بوسعه فقط وإن كان غنيًا ذا قدر وهي فقيرة أجيبت لحالة أعلى من حالها ودون حاله، وإن كانت غنية ذات قدر وهو فقير إلا أنه له قدرة على أرفع من حاله ولا قدرة له على حالها رفعها إلى الحالة التي يقدر عليها أهـ وبالجملة فإنه يعتبر وسعه وحالها.
18 – وأقول إن ما ذهب إليه الخصاف – رحمه الله – من أنه إذا كان الزوج موسرًا والزوجة معسرة ينفق عليها نفقة الوسط قول حسن عملاً بالعرف وقد قال ابن القيم – رحمه الله – في الهدي: لم يقدر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في النفقة قدرًا معينًا ولا ورد عنه ما يدل على تقديرها وإنما رد الأزواج فيها إلى العرف أهـ.
ولا مخالفة بين هذا القول والآية الكريمة لأن الزوج ينفق من وسعه ولا يكلف فوق طاقته لكن ما قاله الخصاف – رحمه الله – من أن الزوج إذا كان معسرًا فإنه ينفق بقدر وسعه والباقي دين عليه إلى الميسرة قول لا دليل عليه لا من الكتاب ولا من السنة بل هو مما يكاد يصادم نص الآية الكريمة، وحديث هند صريح في أنها أمرت أن تأخذ من مال أبي سفيان كفايتها وكفاية أولادها بالمعروف فلم يكلف أبو سفيان بما هو فوق قدرته لأن الأخذ إنما كان من ماله الذي هو في ملكه وقت أن أمرت بالأخذ فأين الدليل على ما قال الخصاف في هذه الصورة الرابعة ؟
لا يقال إن الزوج إذا كان معسرًا كانت نفقة الزوجة دينًا في ذمته إلى الميسرة لأن دليل وجوب النفقة في ذمته قائم وهو احتباسها فوجبت عليه نفقتها بحسب العرف لا يقال هذا لأنه في أصل النفقة وأما مسألتنا هذه فالمفروض فيها أنه قادر على أن ينفق عليها بحسب وسعه فقط فكيف يخاطب بأكثر من هذا ؟ فلا الآية توجب عليه هذا ولا الحديث من ادعاه فعليه الدليل.
وبالجملة فالصواب هو ما قاله الأستاذ الدردير في شرحه على خليل وهو ما ذكرناه آنفًا وهو اختيار القاضي من الحنابلة من أن مراعاة حال الزوج في النفقة مشروطة بقدر الزوجة على ما كلف به وقت أن كلف به وهذا هو المعروف والمطابق لما جاء به الكتاب والسنة، ولقد أحسن الإمام مالك – رحمه الله تعالى – كل الإحسان في قوله بسقوط نفقة الزوجة عن زوجها في حال عسرته ثم هي بالخيار فإن شاءت المقام معه على ذلك فعلت وإلا فارقته.
فرض النفقة دراهم
19 – موجب العقد الصحيح أن تسلم المرأة نفسها إلى الزوج في بيته وعليه لها جميع ما يكفيها بحسب حالهما أو حاله على ما تقدم من طعام وشراب وكسوة وفرش وكل ما يلزم من معيشة الزوجية كما أن سكناها واجبة عليه وليس عليها شيء من ذلك فهل يجوز للقاضي أن يفرض لها دراهم بدل هذه المطلوبات كلها أو بعضها ؟
قالوا يجوز له ذلك على شرط أن يراعي في تقديره تغير الأسعار وحال الزوجين أو الزوج، وعلى هذا العمل في المحاكم الشرعية المصرية فإن النفقة تفرض فيها دائمًا من النقود للطعام والكسوة وبدل المسكن إن لم يكن الزوج قد هيأ لزوجته مسكنًا شرعيًا ولا يشترط في فرض النقود رضا الزوج بذلك بل يلزم بها إلزامًا وقد يكون هذا أرفق به وبزوجته ولا سيما في المدن.
لكن قال ابن القيم – رحمه الله – في الهدي ما نصه:
وأما فرض الدراهم فلا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ولا عن أحد من الصحابة – رضي الله عنهم – البتة ولا التابعين ولا تابعيهم ولا نص عليه أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من أئمة الإسلام إلخ ما قال وقد نقله عنه في الفروع ملخصًا.
أقول قد نقل في المبسوط عن محمد – رحمه الله – أنه قدر نفقة المعسر بأربعة دراهم في كل شهر لكنهم نصوا على أن هذا ليس بلازم لأنه إنما قدره على ما شاهد في زمانه، وقالوا على القاضي في كل زمن أن يعتبر الكفاية بالمعروف، وظاهر هذا هو أن تقدير النفقة بالدراهم جائز مطلقًا سواء أكان هناك ضرورة تدعو إلى ذلك أم لا وسواء رضي الزوج بذلك أم لا، وقد جرى العمل بهذا إلى الآن، وإذًا ينتقض ما قاله ابن القيم – رحمه الله – بالنسبة لمذهب أبي حنيفة – رحمه الله – لأن قول محمد قول لإمامه على ما تقرر في رسم المفتي، والله أعلم.
هذا وإني قد أوضحت النسبة بين أقوال الإمام وصاحبيه على أتم بيان في كتابي الكبير في المرافعات الشرعية.
20 – والحاصل على ما ذهب إليه غير الحنفية من الحنابلة والشافعية والمالكية وغيرهم أن القاضي لا يملك أن يفرض بدل النفقة الواجبة دراهم إلا باتفاق الزوجين فلا يجبر الممتنع منهما على ذلك لأن المعارضة بغير الرضا لا تجوز بالإجماع لكن إن دعت الحاجة إلى ذلك فلا بأس به دفعًا للحاجة، نص على ذلك في الفروع وكشاف القناع والمهذب والروض والشرح الكبير وحاشية الدسوقي.
ومن مواضع الحاجة ما نقله في تقرير رد المحتار عن حاشية التحفة للشبراملسي قال: سئل شيخنا الرملي عن امرأة غاب عنها زوجها وترك معها أولادًا صغارًا ولم يترك عندها نفقة ولا أقام لها منفقًا وضاعت مصلحتها ومصلحة أولادها وحضرت إلى حاكم شافعي وأنهت إليه ذلك وشكت وتضررت وطلبت منه أن يفرض لها ولأولادها على زوجها نفقة ففرض لهم عن نفقتهم نقدًا معينًا في كل يوم وأذن لها في إنفاق ذلك عليها وعلى أولادها وفي الاستدانة عليه عند تعذر الأخذ من ماله والرجوع عليه بذلك وقبلت ذلك منه فهل الفرض والتقدير صحيح ؟
وإذا قدر الزوج لزوجته نظير كسوتها عليه حين العقد نقدًا كما يكتب في وثائق الأنكحة ومضت على ذلك مدة وطالبته بما قدر لها عن تلك المدة وادعت عليه بذلك عند حاكم شافعي واعترف به وألزمه به فهل إلزامه صحيح أولاً ؟ وهل إذا مات الزوج وترك زوجته ولم يقدر لها كسوة وأثبتت وسألت الحاكم الشافعي أن يقدر لها عن كسوتها الماضية التي حلفت على استحقاقها نقدًا وأجابها لذلك وقدره لها كما يفعله القضاة الآن فهل له ذلك أو لا ؟ وهل ما يفعله القضاة من الفرض للزوجة والأولاد عن النفقة أو الكسوة عند الغيبة أو الحضور نقدًا صحيح أولاً ؟
(فأجاب: تقدير الشافعي في المسائل الثلاث صحيح إذ الحاجة داعية إليه والمصلحة تقتضيه فله فعله ويثاب عليه بل يجب عليه أهـ ثم قال في التقرير فعلى هذا لا خلاف بين المذهبين في تقدير النفقة نقدًا أهـ.
وأقول لا يخفى إن الغرض من فرض النفقة للزوجة إنما هو دفع حاجتها فليكن هذا في كل زمان ومكان بأيسر طريق نظرًا إلى المصلحة في ذاتها بدون تعمق في التدقيقات الفقهية وحرص شديد على تطبيق ما يتراءى من القواعد إذ قد يكون للمسألة الجزئية الواحدة أكثر من اعتبار واحد فتتنازعها القواعد والأصول وقد يتشابه الأمر ففي مثل هذا يجب توجيه النظر في تقرير الحكم إلى الباعث الشرعي ليحقق غرض الشارع بما هو أدنى إلى تحقيقه من الطرق الممكنة.
توابع نفقة الزوجة
21 – من ضمن النفقة الواجبة للمرأة على زوجها نفقة خادمها [(1)] إذا اقتضى الحال ذلك، وجملة القول في هذه المسألة على ما ذهب إليه أصحابنا – رحمهم الله – أن الزوج إذا كان موسرًا فعليه ما يكفي خادم زوجته من النفقة على حسب العرف بشرط أن يكون الخادم مملوكًا لها ملكًا تامًا ومتفرغًا لخدمتها فلو لم يكن الخادم في ملكها أو كان له شغل غير خدمتها أو لم يكن له شغل لكن لم يخدمها فلا نفقة له على زوجها إذ نفقة الخادم إنما تجب على الزوج بإزاء الخدمة من طبخ وخبز وسائر أعمال البيت داخلاً وخارجًا فإذا امتنع الخادم عن ذلك لم تجب النفقة وذلك بخلاف نفقة الزوجة لأنها جزاء احتباسها على ما تقدم.
وإذا لم يكن للزوجة خادم مملوك فإن شاء الزوج استأجر أو استعار لها من يخدمها وإن شاء قضى لها حاجاتها بنفسه، وإذا أراد الزوج إخراج خادمها المملوك لها من بيته وأحضر لها خادمًا من عنده فلا يقبل ذلك منه إلا برضاها لأنها قد لا تتهيأ لها الخدمة بخادم الزوج لكن إذا كان الزوج يتضرر من خادمها بأن كان يختلس من ثمن ما يشتريه أو كان غير مأمون على أمتعة بيته أو كان مفسدًا فالزوج يعذر في إخراجه فله أن يستبدل به خادمًا أمينًا من عنده ولا يتوقف ذلك على رضاء الزوجة.
وإذا كان له أولاد لا يكفيهم خادم واحد فرض عليه نفقة خادمين أو أكثر على حسب الحاجة لأن ذلك من جملة نفقتهم الواجبة لهم عليه.
وإذا زفت إليه بخدم كثير استحقت نفقة الجميع إذ المعتبر حالها في بيت أبيها لا حالها الطارئ في بيت زوجها وهذا القول رواية عن أبي يوسف اختيرت للفتوى وأما على ظاهر الرواية فالواجب نفقة خادم واحد مطلقًا، وثم أقوال أخرى في المسألة.
22 – ولا تقدر نفقة الخادم بالنقود بل يفرض له ما يكفيه بالمعروف ولكن لا يبلغ به نفقة الزوجة لأنه تابع لها فتنقص نفقته عنها وليتبع في ذلك ما جرى به العرف.
وهذا كله إذا كان الزوج موسرًا قادرًا على إخدام زوجته فإن كان معسرًا فلا تجب عليه نفقة خادم لها بل الواجب عليه في هذه الحالة أدنى الكفاية وهي قد تكتفي بخدمة نفسها.
23 – وأما على مذهب الشافعي – رحمه الله – فقد قال في المهذب إن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها بأن تكون من ذوات الأقدار أو مريضة وجب لها خادم لقوله عز وجل (وعاشروهن بالمعروف)، ومن العشرة بالمعروف أن يقيم لها من يخدمها ولا يجب لها أكثر من خادم واحد لأن المستحق خدمتها في نفسها وذلك يحصل بخادم واحد ولا يجوز أن يكون الخادم إلا امرأة أو رحمًا محرمًا، وإن قالت المرأة أخدم نفسي وآخذ أجرة الخادم لم يجبر الزوج عليه لأن القصد بالخدمة ترفيهها وتوفيرها على حقه، وذلك لا يحصل بخدمتها، وإن قال الزوج أنا أخدمها بنفسي ففيه وجهان أحدهما أنه يلزمها الرضاء به لأنه تقع الكفاية بخدمته والثاني لا يلزمها الرضاء به لأنها تحتشمه ولا تستوفي حقها من الخدمة.
وإن كان الخادم مملوكًا لها واتفقا على خدمته لزمته نفقة له دون ما يجب للزوجة على ما جرى به العرف بحسب وسعه أهـ ملخصًا.
24 – ومذهب أحمد – رحمه الله – في ذلك كمذهب الإمام الشافعي فلا حاجة إلى إيراد ما قيل فيه منعًا للتكرار غير أنهم نصوا على أنه يلزمه مؤنسة لها إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وأحسب أن المذاهب الأخرى لا تأبى ذلك لأنه من باب المعاشرة بالمعروف وهي مأمور بها شرعًا، وانظر ما قاله في الدر المختار وما بحثه في رد المحتار في هذه المسألة ففيه تفصيل حسن.
25 – وعلى ما ذهب إليه مالك – رحمه الله – أن الزوج إذا كان ذا سعة وزوجته ذات قدر ليس شأنها الخدمة أو كان هو ذا قدر تزري به خدمة زوجته وجب عليه أن يأتي لها بخادم ولو بالأجرة وإذا لم يكفِ خادم واحد أنى لها بأكثر على حسب الحاجة على القول الصحيح، وقيل لا يلزمه أكثر من خادم واحد
، وإذا طلبت الزوجة أن خادمها هو الذي يخدمها ويكون عندها وطلب الزوج أن يخدمها خادمة فإنه يقضي لها بخادمها لأن الخدمة لها وحينئذٍ يلزم الزوج أن ينفق عليه، لكن إذا دلت القرائن على ريبة في خادمها تضر بالزوج في الدين أو الدنيا فإنه يقضي بخادم الزوج ولا تجاب إلى طلبها، وإن كانت الزوجة أهلاً للإخدام لكن الزوج فقير أو لم تكن أهلاً له بأن كانت من لفيف الناس والزوج ليس ذا قدر وجبت عليها الخدمة الباطنة داخل المنزل بقدر حاجتها هي وزوجها فقط دون أولاده ووالديه وضيوفه ولا يجب عليها شيء وراء ذلك فلا تجبر على أن تتكسب لزوجها من غزل أو خياطة أو غير ذلك إلا أن تتطوع من تلقاء نفسها بشيء من ذلك.
26 – وتتميمًا للفائدة أذكر هنا خلاصة ما قاله ابن القيم -رحمه الله – في خدمة الزوجة لزوجها قال:
اختلف الفقهاء في ذلك فأوجبت طائفة من السلف والخلف خدمتها له في مصالح البيت وبالغ بعضهم في ذلك فأوجب عليها خدمته في كل شيء، ومنعت طائفة وجوب خدمته عليها في شيء ما، قالوا لأن عقد النكاح إنما اقتضى الاستمتاع لا الاستخدام وبذل المنافع وما ورد من الأحاديث من أن فاطمة – رضي الله عنها – كانت تقوم بالخدمة المنزلية لزوجها علي – رضي الله عنها – وأن أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنهما – كانت تقوم بكل ما يلزم لزوجها الزبير بن العوام – رضي الله عنه – من الخدمة فإنما كان ذلك على سبيل التطوع ومكارم الأخلاق لا على سبيل الوجوب والإلزام، واحتج من أوجب الخدمة بأنه من المنكر ترفيه المرأة وقيام الرجل بكل ما يلزم لها من الخدمة، والله تعالى يقول: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)،
ويقول (الرجال قوامون على النساء)، وإذا لم تخدمه المرأة بل كان هو الخادم لها انعكس الأمر وكانت هي القوامة عليه، وقالوا أيضًا إن المهر في مقابلة الاستمتاع وهذا قدر مشترك بينهما فكل من الزوجين يستمتع بالآخر فإذٍ تكون نفقتها وكسوتها في مقابلة استمتاعه بها وخدمتها وما جرت به عادة الأزواج فكان عليه المال في المهر والنفقة لأنه هو القادر على الكسب عادةً وعليها في مقابلة ذلك الخدمة المنزلية وما جرت العادة أن تقوم به النساء لأزواجهن وبهذا يتم التعادل بينهما. وقالوا أيضًا إن العقود المطلقة إنما تنزل على العرف – والعرف هو خدمة المرأة وقيامها بمصالح البيت الداخلة.
وأما قول الفريق الأول إن فاطمة وأسماء رضوان الله عليهما لم تكن الخدمة واجبة عليهما غير صحيح، لأن فاطمة لما شكت إلى أبيها صلوات الله وسلامه عليه ما تلقى من مشقة الخدمة لم يشكها [(2)] فلم يقل لعلي لا خدمة عليها بل الخدمة عليك أنت وهو – صلى الله عليه وسلم – لا يحابي في الحكم أحدًا، وكذلك لما رأى أسماء وهي قائمة بخدمة زوجها داخل المنزل وخارجه لم يقل لزوجها لا خدمة لك عليها وأن هذا ظلم بل أقره على استخدامها وأقر أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه بأن منهن الكارهة والراضية أهـ، وقد علمت مما تقدم توسط مذهب مالك – رحمه الله – في هذه المسألة.
27 – ومما يتصل بذلك ما ذهب إليه أصحابنا – رحمهم الله – من أنه لا حق للزوج في شيء من جهاز زوجته وليس له أن يجبرها على فرش أمتعتها ولا تقديم شيء منها له أو لا ضيافة وإنما له الانتفاع بها بإذن منها، ولو اغتصب شيئًا من الجهاز حال قيام الزوجية أو بعد انحلال عقدتها فلها مطالبته به أو ببدله له من مثل أو قيمة إذا استهلكه أو هلك عنده لأن يده عليه يد غاصب، وكل ما يلزم للبيت من فراش وغيره واجب على الزوج وحده، فقارن هذا بما ذهب إليه مالك – رحمه الله – من أن للزوج أن يتمتع بجهاز زوجته ويستعمل منه ما يجوز له استعماله وحده أو معها، وإذا كان في ثيابها ما يصلح لأن يلبسه جاز له لبسه وله منعها من إخراج الجهاز من ملكها ببيع أو هبة لأن ذلك يفوت عليه حق استمتاعه به،
وقيل لها بيعه بعد مضي مدة تكفي لانتفاع الزوج به وقدر ذلك بأكثر من سنة وقيل أربع سنين وإذا بلي الجهاز باستعماله فلا يلزمه بدله فلو جدد ما بلي منه ثم طلقها فلا يقضي لها بأخذه بل هو ملك للزوج. [(3)]
دين النفقة
28 – إذا مضت مدة من الزمن لم ينفق فيها الزوج على زوجته فهل تصير نفقتها في ذلك الزمن الذي مضى بدون إنفاق دينًا في ذمته ؟ أما على مذهب أصحابنا – رحمهم الله – فالحكم على هذا التفصيل:
( أ ) إذا لم تكن النفقة مفروضة لها لا بقضاء قاضٍ ولا بتراضٍ بينهما وبين زوجها وقد مضى على عدم الإنفاق عليها شهر فأكثر فلا تصير النفقة دينًا في هذه الحالة ولا يطالب بها الزوج مهما طال الزمن لأنها صلة وليست بعوض حقيقي ولم يوجد ما يقوي الوجوب فيها.
(ب) أن تكون مفروضة بالتراضي أو بقضاء القاضي وفي هذه الحالة تتقوى بعض الشيء فتصير دينًا في ذمة الزوج لكنه دين ضعيف فكما يسقط بالأداء أو الإبراء كذلك يسقط بالنشوز وبالموت وبالطلاق على تفصيل في بعض ذلك، وكذلك نفقة أقل من شهر إذا لم تكن متراضى عليها أو مقضيًا بها، وعللوا ذلك بأن المرأة لا تتمكن من أخذ نفقتها إلا بعد مضي مدة قبل القضاء بها، وما دون الشهر كافٍ لذلك، وما دون الشهر عاجل.
(ج) أن تكون مفروضة بالقضاء أو التراضي وقد أمرها الزوج أو القاضي بالاستدانة وفي هذه الحالة تكون النفقة دينًا صحيحًا في ذمة الزوج لا تسقط إلا بالأداء أو الإبراء.
وقد كان العمل في محاكمنا الشرعية المصرية على هذا حتى صدر القانون رقم (25) سنة 1920 فجعل نفقة الزوجة والمعتدة في كل أحوالها دينًا صحيحًا ثابتًا في الذمة.
29 – وأما على ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، فإن نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان، وعلل ذلك في المهذب بأنها مال وجب على سبيل البدل في عقد معاوضة فلا يسقط بمضي الزمن، والحاصل أن اختلاف وجهة النظر في صفة نفقة الزوجة أدى إلى الخلاف في سقوطها، فمن رأى أنها معاوضة لم يسقطها كما هو شأن الإبدال في المعاوضات، ومن قال إنها صلة أسقطها ما لم تتقوا بقضاء أو تراضٍ ثم أمر بالاستدانة من الزوج أو القاضي وانظر هذا البحث في الهدي فقد أطال القول فيه وانتهى به الكلام إلى ترجيح مذهب القائلين بالسقوط بمضي الزمن.
هل يفرق بين الزوجين بسبب إعسار الزوج بالنفقة ؟
30 – ذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من السلف الصالح من الصحابة والتابعين أنه لا تفريق بين الزوجين بسبب إعسار الزوج بل يلزم المرأة الصبر وتتعلق النفقة بذمة الزوج وقال في الهدي أن هذا هو مذهب أهل الظاهر كلهم، ومن كلام السلف الصالح في ذلك قول عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – هي امرأة ابتليت فلتصبر، وقول محمد بن شهاب الزهري تستأني بزوجها ولا يفرق بينهما، وتلا قوله تعالى (لا يكلف الله نفسًا إلا ما أتاها)،
وقول عطاء ليس لها إلا ما وجدت ليس لها أن يطلقها، وقول الحسن البصري: تواسيه وتتقي الله وتصبر وينفق عليها ما استطاع، وعللوا ذلك بأن التفريق بين الزوجين بسبب الإعسار يفوت على الزوج ملك الاستمتاع فلا يصل إليه ثانيًا إلا بسبب جديد، لكن لو أبقينا الزواج لا يفوت حق المرأة في النفقة بل يتأخر لأن النفقة تصير دينًا في ذمة الزوج بفرض القاضي فيستوفي منه في الزمن المستقبل، فوجب أن يتحمل أدنى الضررين لدفع أعلاهما، ولذا قلنا بعدم التفريق وأمرناها بالاستدانة وأوجبنا الإدانة على من تجب عليه نفقتها لو لم يكن لها زوج، ثم يرجع على الزوج إذا أيسر.
31 – وذهب جمهور علماء الشريعة إلى أن الزوج إذا أعسر بنفقة زوجته واختارت فراقه فرق بينهما، وعلى هذا القول الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، لكن التفريق بينهما على قول أحمد فسخ لا رجعة للزوج بعده وأن أيسر في العدة، ولو أن القاضي لم يفسخ بل أجبر الزوج على طلاقها فطلقها رجعيًا فله رجعتها، فإن راجعها وهو معسر أو امتنع من الإنفاق عليها فطلبت الفسخ فسخ عليه ثانيًا وثالثًا،
وإن رضيت بالمقام معه على عسرته ثم بدا لها الفسخ أو تزوجته عالمة بعسرته ثم اختارت الفسخ فلها ذلك وهو مذهب الشافعي أيضًا لأن النفقة يتجدد وجوبها كل يوم فيتجدد حق الفسخ، وقيل ليس لها في الموضعين، وهو قول مالك – رحمه الله – لأنها رضيت بعيبه ودخلت في العقد عالمة به، وعلى قول مالك يكون التفريق بينهما بطلقة رجعية فللزوج الرجعة إذا كانت المرأة مدخولاً بها ووجد الزوج يسارًا في العدة يقوم بواجب مثلها عادةً لا دونه وإلا فليس له الرجعة بل لا تصح، وأما على مذهب الشافعي – رحمه الله – فقيل إن الحاكم يطلق عليه طلقة رجعية، فإن راجعها طلق عليه ثانية، فإن راجعها طلق عليه ثالثة وقيل أنه فسخ.
وهل لها الفسخ في الحال أو تنتظر ؟ قيل بالأول لأنه فسخ لتعذر العوض فتثبت في الحال كفسخ البيع بإفلاس المشتري بالثمن، وقيل إنه يمهل ثلاثة أيام لأنه قد لا يقدر في اليوم ويقدر في الغد، ولا يمكن إمهاله أكثر من ذلك لأنه قد يؤدي إلى الإضرار بالمرأة،
ولا يجوز الفسخ إلا بالحاكم لأنه فسخ مختلف فيه فلا يصح بغير الحاكم، وحكى في الهدي عن عمر بن عبد العزيز أن الحاكم يؤجله شهرًا أو شهرين، وحكي عن حماد بن سليمان أنه يؤجله سنة، واتفقوا على أن الإعسار بنفقة الخادم لا يثبت لها حق الفسخ لأن النفس تقوم بغير خادم، والمرأة يمكنها الصبر عنها، وهذا هو المشهور من مذهب مالك.
وقد أخذ القانون رقم (25) سنة 1920 بمذهب مالك في هذه المسألة، وحجة الجمهور على ما ذهبوا إليه أن الزوج إذا أعسر بالنفقة فقد عجز عن الإمساك بالمعروف فوجب التسريح بالإحسان فإن لم يفعل قام مقامه الحاكم في ذلك لما له من ولاية رفع الظلم، وزاد مالك – رحمه الله – على ذلك أن جماعة المسلمين العدول يقومون مقام الحاكم في ذلك وفي كل أمر يتعذر الوصول فيه إلى الحاكم أو لكونه غير عدل بل الواحد كافٍ لذلك، واحتجوا أيضًا بما رواه أبو هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال (يفرق بينهما).
32 – وفي هذه المسألة ثلاثة آراء أخرى أذكرها هنا تتميمًا للبحث:
( أ ) قال أبو محمد بن حزم في المحلي: إذا عجز الزوج عن نفقة نفسه، وامرأته غنية كلفت النفقة عليه ولا ترجع بشيء من ذلك عليه إذا أيسر أهـ.
ولا يخفي ما في هذا القول من إحكام رابطة المودة والرحمة بين الزوجين حتى لكأنهما شخص واحد.
(ب) ما حكوه عن عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة وهو أن الزوج إذا أعسر بالنفقة حبس حتى يجد ما ينفقه، وقد استبعد ابن القيم هذا القول كل الاستبعاد، فقال يا لله العجب لأي شيء يسجن ويجمع عليه من عذاب السجن وعذاب الفقر وعذاب البعد عن أهله سبحانك هذا بهتان عظيم وما أظن من شم رائحة العلم يقول هذا. أهـ.
(ج) ما اختاره ابن القيم بعد أن محص كل الآراء قال: والذي تقتضيه أصول الشريعة وقواعدها في هذه المسألة أن الرجل إذا غر المرأة بأنه ذو مال فتزوجته على ذلك فظهر معدمًا لا شيء له أو كان ذا مال وترك الإنفاق على امرأته ولم تقدر على أخذ كفايتها من ماله بنفسها ولا بالحاكم أن لها الفسخ، وأن تزوجته عالمة بعسرته أو كان موسرًا ثم إصابته جائحة اجتاحت ماله فلا فسخ لها، ولم تزل الناس تصيبهم الفاقة بعد اليسار ولم ترفعهم أزواجهم إلى الحكام ليفرقوا بينهم وبينهن أهـ ولعل هذا القول هو أعدل الأقوال.
نفقة المعتدة
33 – العدة إما أن تكون من طلاق رجعي أو من طلاق بائن أو من فسخ أو من وفاة زوج.
فعلى مذهب أبي حنيفة وأصحابه – رحمهم الله – تثبت النفقة لكل معتدة من نكاح صحيح إلا لاثنتين معتدة الوفاة والمعتدة بسبب فرقة أتت من ناحيتها بفعل هو معصية كأن تفعل ما يوجب حرمة المصاهرة بأحد أصول الزوج أو أحد فروعه أو يكون سبب الفرقة ردتها، وفيما عدا هاتين الحالتين فللمعتدة نفقتها ما دامت العدة لا فرق في ذلك بين طلاق رجعي وطلاق بائن وفسخ، وعللوا ذلك بأن النفقة واجبة لها جزاء احتباسها،
واحتباسها لا يزال قائمًا بقيام العدة وعلة سقوط نفقة المعتدة بسبب فرقة منها هي معصية عقوبتها على ما صنعت وأما المتوفى زوجها فقد قالوا إن تربصها إنما هو عبادة لحق الشرع لا لحق الزوج، أقول وقد تكون علة ذلك أن الزواج تعاقد شخصي فلا يلزم بأحكامه غير المتعاقدين، وبعد موت الزوج ينتقل ماله إلى غيره من دائنين وموصى لهم وورثة فلم يبقَ لزوجته حق فيه بمقتضى عقد الزواج غير الميراث بحكم الشرع وإنما تجب عليها السكنى والمبيت في البيت الذي كانت تسكنه مع زوجها حتى تنتهي عدتها ولا تخرج منه إلا لعذر على ما هو مبين في موضعه.
34 – وقد حكى أبو بكر الرازي في كتابه أحكام القرآن عن بعض علماء السلف وجوب النفقة لزوجة المتوفى في تركته وأنها تعتبر من الحقوق المتعلقة بالتركة أهـ. وأقول لا شك إن هذا نظر حسن جدًا وذلك لأنها لما حبست عن الأزواج مدة العدة كان من المناسب جدًا أن ينفق عليها في تلك المدة من مال من احتبست بسببه إذ لا فرق بين حبس وحبس فإن لم يترك مالاً فنفقتها في هذه الحالة على نفسها واجبة عليها إن قدرت عليها أو على أقاربها على ما هو مبين في نفقات الأقارب.
35 – ومما تقدم يتبين لك أن نفقة المعتدة الواجبة لها يستمر وجوبها لها ما بقيت العدة لامتناع تخلف المعلول عن علته، لكن قضت المادة السابعة عشرة من المرسوم بقانون رقم (25) سنة 1929 بأنه لا تسمع الدعوى بنفقة عدة لمدة تزيد على سنة من تاريخ الطلاق أهـ واعتبروا هذا من باب تخصيص القضاء، وأقول إن هذه تكأة ضعيفة جدًا وتشريع غير متين قد لجأوا إليه أكثر من مرة حتى كادوا يخرجون به عن معنى تخصيص القضاء، على ما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه – رحمهم الله – ومن العجب هنا أنهم يعترفون بالسبب – ولو دلالة لوجوب نفقة العدة وهو قيام العدة – ثم يغضون النظر عن الآثار المترتبة عليه شرعًا وهي من لوازمه حتمًا اعتمادًا على هذا الذي سموه تخصيص القضاء حتى أدى بهم الأمر إلى وضع أحكام تحول بين الأسباب ومسبباتها والعلل ومعلولاتها واللوازم وملزوماتها وهذا مما يأباه الشرع والعقل جميعًا، على أن من راجع كتب الأئمة الأربعة وغيرهم حتى المطبوع منها والمتداول بين أيدينا وجد فيها متسعًا عظيمًا لحل هذا الإشكال وغيره بلا تفكيك ولا اضطراب، والهادي هو الله.
36 – وعلى ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة وجمهور كبير من الفقهاء أن المعتدة من طلاق رجعي تجب لها النفقة والكسوة والسكنى لقيام السبب الموجب لذلك كالزوجة تمامًا إلا في بعض أشياء استثنوها تعرفها بمراجعة كتبهم بنوها على ما لاحظوه من الفرق بين الزوجة والمعتدة لطلاق رجعي.
وأما المبانة (المبتوتة) فلا نفقة لها باتفاق إلا إذا كانت حاملاً واستدلوا بما روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال (إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة) – انظر الهدي وكشاف القناع والدراري المضيئة – وقال ابن القيم: إن هذا الحكم مستفاد من كتاب الله عز وجل ومفسر له ثم قال: إن النفقة إنما تكون للزوجة فإذا بانت من زوجها صارت أجنبية حكمها حكم سائر الأجنبيات ولم يبقَ إلا مجرد اعتدادها منه وذلك لا يوجب لها نفقة كالموطوءة بشبهة، ولأن النفقة لو وجبت لها لأجل عدتها لوجبت للمتوفى عنها زوجها من ماله ولا فرق بينهما البتة فإن كل واحدة منهما قد بانت عنه وهي معتدة منه وقد تعذر الاستمتاع بها، ولأنه لو وجبت لها السكنى لوجبت لها النفقة
كما يقوله من يوجبها فأما أن تجب لها السكنى دون النفقة فالنص والقياس يدفعه أهـ وهذا مذهب القائلين بأن المبانة إذا كانت حائلاً فلا نفقة لها ولا سكنى، وقد حكاه ابن القيم عن ابن عباس وأصحابه وجابر بن عبد الله وفاطمة بنت قيس إحدى فقهاء نساء الصحابة وكانت تناظر في ذلك، وبه قال أحمد بن حنبل وأصحابه وإسحاق بن راهويه وأصحابه وداود بن علي وأصحابه وسائر أهل الحديث أهـ ووافقهم الإمامان مالك والشافعي في عدم وجوب النفقة لها لكنهما أوجبا لها السكنى، ويقول أبي حنيفة وأصحابه في وجوب النفقة والسكنى للمبانة قال عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود – رضي الله عنهما -.
37 – وأقول إن هذه المسألة قد اتسع فيها مجال القول بين الفقهاء اتساعًا كبيرًا جدًا كل يجادل عن رأيه أو مذهب إمامه ويحاول تأييده، والأصل في ذلك حديث فاطمة بنت قيس المروي في الصحيحين وغيرهما من عدة طرق نص في بعضهما على نفي النفقة والسكنى جميعًا وفي بعضها نص على نفي النفقة فقط، وقد أخذ به بعض الفقهاء وطعن بعضهم فيه من لدن عهد الصحابة فمن بعدهم فليراجع ذلك من شاء في الهداية وفتح القدير والمبسوط والبدائع والتوضيح وعمدة القارئ وتفسير الألوسي وأحكام القرآن للرازي، هذا من جهة، وفتح الباري ونيل الأوطار وتفسير فخر الدين الرازي وزاد المعاد، من ناحية أخرى، والحق أقول إن ابن القيم – رحمه الله – قد تكلم في هذه المسألة بكلام إن لم يكن هو الصواب بعينه فهو أقرب شيء إلى الصواب، وقد أحاط بالمسألة من كل أطرافها ووفى البيان حقه من كل وجه ورد مطاعن الطاعنين بما ليس وراءه قول لقائل (وكل الصيد في جوف الفرا) والله الموفق.
38 – وأما المبانة الحامل فقد اتفق الأئمة الثلاثة على أن لها النفقة واستدلوا بقوله تعالى (وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، وبقوله – صلى الله عليه وسلم – لفاطمة بنت قيس لما أبانها زوجها (لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملاً) ثم اختلفوا في أن النفقة هل وجبت لها بسبب الحمل أو وجبت للحمل ؟ فذهب مالك إلى أنها وجبت للحمل وكذا الشافعي في مذهبه القديم وأحمد في رواية مصححه عنه ولعلها أرجح الروايتين، وذهب الشافعي في الجديد وأحمد في رواية أخرى مصححه أيضًا نص عليها في تصحيح الفروع إلى أن النفقة للحالم بسبب الحمل وقد نشأ عن هذا الخلاف اختلاف في التفريعات يظهر لك بمراجعة كتب هذه المذاهب لا يتسع لا يرادها المقام، وأما السكنى فهي واجبة لها على قول الإمام أحمد وكذا على قول الإمامين مالك والشافعي بالأولى.
39 – وأما المتوفى زوجها فليس لها النفقة على قول أصحابنا كما قدمناه، وقد علمت أيضًا مما تقدم ما حكاه أبو بكر الرازي من أن لها النفقة على قول بعض علماء السلف، وأن على ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة فلا نفقة لها في تركة زوجها لأن التركة انتقلت إلى الورثة ولا سبب للوجوب عليها ولأن النفقة إنما وجبت للزوجة في مقابلة التمكين من الاستمتاع وقد فات ذلك بموت الزوج ولا تجب لها لأجل الحمل لأن الميت لا يجب عليه شيء لغيره ولأنها لو وجبت للحمل فهي من نفقة القريب على قريبه والموت يسقط ذلك إذا كان واجبًا قبله فلا يجب بعده ابتداءً ولأن الحمل وارث فنفقته من ميراثه هو وأما السكنى فهي واجبة لها على قول مالك ولا سكنى لها على قول أحمد، وللشافعي في ذلك قولان: أظهرهما إن لها السكنى.
وقد نص ابن جزي في قوانينه على أن المتوفى عنها زوجها لا نفقة لها لا من مال زوجها ولا من حظ الحمل من الميراث، ونص في الإقناع وكشاف القناع على أن الحامل المتوفى عنها زوجها ينفق عليها من نصيب الحمل من التركة وهذا يدل على ثبوت ملك الحمل من يوم موت مورثه، وإنما بخروجه حيًا يتبين ذلك، ومن هنا يتبين لك الفرق بين مذهب أحمد ومذهب مالك في اعتبار أن النفقة للحمل، وأما على القول الآخر للشافعي فلا تجب النفقة للحمل على أبيه بعد موته أهـ.
وسنتكلم في العدد الآتي على باقي أحكام النفقات إن شاء الله
أحمد إبراهيم
6 ذي العقدة سنة 1348،
5 إبريل سنة 1930.
[(1)] الخادم واحد الخدم يطلق على الذكر والأنثى لإجرائه مجرى الأسماء غير المأخوذة من الأفعال تقول هذا خادم وهذه خادم.
[(2)] تقول أشكيت فلانًا قبلت شكواه وأرضيته، وهذا هو المراد هنا، وله معانٍ أخرى.
[(3)] الجهاز بفتح الجيم ما يهيأ ويعد للعروس من فرش وغيره ويقال له الشوار بتثليث الشين ومعناه في اللغة متاع البيت المستحسن ولفظ الجهاز هو المستعمل في كتب الحنفية وأهل القاهرة لا يعرفون غيره وإما الشوار (وكذا الشورة) فهو المستعمل في كتب المالكية وأهل الإسكندرية وكذا أهل الأرياف ويشتقون منه فعلاً فيقولون شورها أي جهزها.
اترك تعليقاً