مفهوم البحر العالي.
تطور مفهوم البحر العالي عبر نظامين قانونيين مختلفين هما:
الاول: البحر العالي في القانون الدولي التقليدي . ويشمل عمود الماء الذي يلي البحرالاقليمي للدول الساحلية وما تحته من القاع وباطن القاع باعتباره مالا غير مملوك لاحد res nullius .
ويخضع لنظام قانوني مزدوج وهو:
أ.عمود الماء خارج البحر الأقليمي. وهو غير قابل بطبيعته لوضع اليد ولا للسيادة الاقليمية. ويتمتع بنظام التدويل السلبي الذي تقوم عليه الحريات الست وقانون العلم.
ب. القاع وباطن القاع خارج البحر الاقليمي. وهو قابل لوضع اليد بما يفسر حق الدولة في المصائد الآبدة واستغلال مناجم الانفاق خارج البحر الاقليمي.
وعلى هذا الاساس ادعت الدول الساحلية وخاصة منذ تصريح ترومان 1945 حقها في استكشاف واستغلال الثروات الطبيعية الكامنة في جرفها القاري باعتباره الجزء المغمور من امتدادها الساحلي خارج البحر الاقليمي.
الثاني: البحر العالي بموجب اتفاقية الامم المتحدة لقانون البحار في 1982.12.10 . تبنت المجموعة الدولية خلال الفترة الممتدة بين تصريح أرفيد باردو في 1967.8.17 أمام الجمعية العامة للامم المتحدة وبين صدور قرار الجمعية العامة 2749 في 1970.12.17 ، مفهوم التراث المشترك للمنطقة الدولية لقاع المحيط وباطنه خارج الولاية الوطنية للدول الساحلية.
وان هذه المنطقة غير قابلة لوضع اليد ولا للسيادة الاقليمية وان نظاما دوليا سيتولى استكشافها واستغلالها لصالح الانسانية جمعاء. وبناء على ذلك انفصلت هذه المنطقة عن النظام القانوني للبحر العالي لتخضع لنظام التدويل الايجابي باعتبارها مالا مملوكا على الشيوع res communis . واصبح البحر العالي مقتصرا على عمود الماء خارج البحر الاقليمي والذي يعلو قاع البحر وباطنه التابع للجرف القاري او للمنطقة الدولية.
-ولكن ظهور مفهوم المنطقة الاقتصادية الخالصة قد اخلّ بوحدة النظام القانوني الحاكم لعمود الماء.
حيث اصبح للدول الساحلية في هذه المنطقة حقوق سيادة مانعة في الصيد والبحث العلمي واقامة الجزر الصناعية ، مما يعني حرمان المجموعة الدولية من التمتع بهذه الحريات الثلاث فيهامن بين الحريات الست للبحر العالي مع احتفاظها بالحريات الثلاث الاخرى وهي الملاحة البحرية والجوية ومدّ الاسلاك والانابيب البحرية.
وعليه، فان النظام القانوني لعمود الماء للبحر العالي غدا مزدوجا بين مفهوم واسع ومفهوم ضيق وبالشكل الاتي:
أ.المفهوم الواسع للبحر العالي:ويشمل عمود الماء التالي للمنطقة الاقتصادية الخالصة والذي يعلو الجرف القاري خارج 200 ميلا بحريا والمنطقة الدولية كذلك. وتتمتع فيه المجموعة الدولية بالحريات الست باعتباره مالا غير مملوك لاحد.
ب.المفهوم الضيق للبحر العالي: ويقتصر على عمود الماء الذي يعلو المنطقة الاقتصادية الخالصة فقط. حيث تتمتع المجموعة الدولية بثلاث من الحريات الست وهى الملاحة البحرية والجوية ومدّ الاسلاك والانابيب البحرية. اما الصيد والبحث العلمي واقامة الجزر الصناعية فيخضع للاختصاص المانع للدول الساحلية. حيث يبقى عمود الماء مالا غير مملوك لأحد بينما تتمتع الدول الساحلية فيه بحق الانتفاع والاستغلال دون حق الرقبة.
ونستنتج من هذا المفهوم المزدوج للبحر العالي ان المنطقة الاقتصادية الخالصة هى جزء من البحر العالي بالمفهوم الضيق وليست جزأ من البحر العالي بالمفهوم الواسع. ذلك ان المجموعة الدولية لا تتمتع بحق الصيد والبحث العلمي واقامة الجزر الصناعية في عمود الماء للمنطقة الاقتصادية الخالصة ولكنها تتمتع بالحريات الثلاث الاخرى للبحر العالي في هذه المنطقة. وعند ذاك لا حاجة لاعتبار هذه المنطقة خاضعة لنظام خاص يميزها عن البحر العالي حسب صيغة كاستنيدا، لانها تبقى من مصاديق البحر العالي بمفهومه الضيق.
ولا نزاع في ان المنطقه المجاورة هي من اجزاء البحر العالي بالرغم من تمتع الدول الساحلية بحقوق الرقابة فيها وليست منطقة ذات نظام خاص .
3.التصرف القانوني الدولي الانفرادي شكلا والتصرف القانوني الدولي الانفرادي شكلا وموضوعا(مصادر القانون الدولي العام 1993 ص67-78 ). يعول الفقهاء على معيار شكلي في التمييز بين التصرفات القانونية الدولية الانفرادية وبين المعاهدات.فتكون التصرفات انفرادية اذا صدرت من(جهة واحدة)سواء أكانت هذه الجهة شخصا دوليا واحدا أو عدة أشخاص دولية.ولكن هذا المعيار لايراعى جانبا أكثرأهمية في التمييز بين التصرفات القانونية الدولية ،وهو كيفية نشوء الآثار القانونية لهذه التصرفات.
فالمعيار الشكلي معيار أكاديمي وحسب وليس معيارا قانونيا موضوعيا يمكن الركون اليه في التعامل الدولي القضائي والدبلوماسي بغية معرفة كيفية نشوء الآثار القانونية لهذه التصرفات ووقت نشوئها.وقد وظفنا المعيار الموضوعي الى جانب المعيار الشكلي في تمييز بين أنواع التصرفات القانونية الدولية وكما يأتي:
أ.التصرفات القانونية الدولية شكلا لأ موضوعا:وهي التصرفات القانونية التي وان اتخذت-في كيفية صدورهاجانبا واحدا-فانهالاترتب آثارا قانونية الا اذا ارتبطت بتصرف قانوني دولي آخر.بالنظرلعدم قدرتها-بحد ذاتها-على انشاء آثارقانونية كالوعد الدولي الانفرادي،وهذا هو مذهب ” سوي”.ووجه ذلك ان التصرف الانفرادي شكلا يمكن سحبه والغاؤه دون ارتكاب انتهاك للقانون الدولي طالما بقي هذا التصرف منفردا غير مرتبط بتصرف قانوني دولي آخر.
فهو تصرف غير ملزم قانونا الا اذا ارتبط بتصرف قانوني دولي آخر فيكون هذا الارتباط مناطا للالتزام القانوني،وهو معيار موضوعي يقوم على الفعل لا على الشكل.فتصريح أهلين في سنة 1919 وان أخذ شكل تصرف قانوني انفرادي،فانه يرتبط موضوعا بتصريح الحكومة الدنماركية بعدم معارضتها لسيادة النرويج على أرخبيل سبيتزبورغ .
ب.التصرفات القانونية الدولية الانفرادية شكلا وموضوعا:وهي التي يجتمع فيها المعياران الشكلي(الانفراد) والموضوعي(الارتباط).ويعتبر الاعتراف الدولي-دون غيره-تصرفا دوليا انفراديا شكلا وموضوعا وذلك لقدرته على ترتيب آثاره القانونية من دون الحاجة الى الارتباط بتصرف قانوني دولي آخر.وحجتنا في ذلك أن الاعتراف الدولي تصرف قانوني تام لا يمكن سحبه أوالغاؤه متى ماتوفرت أركانه كتصرف انفرادي (مصادر القانون الدولي العام 1993 ص و7 وبعدها).
4.الاعتراف الواقعي” de facto” .يخلط الفقه غالبا بين الاعتراف الواقعي والاعتراف الضمني وقد لا يرى الفقهاء له تصنيفا صحيحا بين أنواع الاعتراف الدولي.
أما نحن فنعتبر الاعتراف الواقعي تصرفا سياسيا دوليا انفراديا يرتب آثارا سياسية لا قانونية.وحجتنا في ذلك أنه اعتراف موقت وقابل للسقوط Froclusion لانه تصرف غير تام،بينما الاعتراف القانوني اعتراف بات وغير قابل للسقوط أو السحب(مصادر القانون الدولي العام ص 86-90).
5.الاعتراف الدولي المعلق Reconnaissance internationale en suspense :قد يرد الاعتراف الدولي على واقعة مخالفة لقاعدة آمرة عامةjus cogens من قواعد القانون الدولي العام ويخضع بهذه المثابة لمبدأ عدم الاعتراف .وبالرغم من هذه المخالفة يرتب آثارا قانونية من وجهة نظر المعترف ،فهو اعتراف معلق لانه اعتراف غير نافذ في مواجهة المجموعة الدولية .
كاعتراف البرتغال وجنوب أفريقيا باستقلال روديسيا من جانب واحد في سنة 1965 واعتراف تركيا بجمهورية قبرص التركية سنة 1983 .وهو اعتراف معرض للزوال بزوال الواقعة التي يرد عليها أو ينقلب الى اعتراف قانوني استنادا الى مبدأ الفعلية effectivite’ . ولا يدخل الاعتراف المعلق ضمن الاعتراف القانوني لانه مخالف للقانون الدولي ولا هو اعتراف واقعي (سياسي) لان المعترف يبتغي ترتيب آثار قانونية ازاء هذه الواقعة المخالفة للقانون.(مصادر القانون الدولي العام ص 182 -187 ).
6.الاعتراف بالمحاربين والاعتراف بالثوار.لا يميز الفقه بوضوح بين هذين المفهومين على حد تعبير” فرهوفن”،وذلك لعدم وجود معيار قانوني في التمييز بينهما.حتى أن” روسو” يحصرالمحاربين بالحرب البرية بينما يختص الثوار بالحرب البحرية .وقد اعتمدنا جهة الاعتراف بهما معيارا للتمييز بينهما. فالاعتراف بالمحاربين يصدر عن السلطة المركزية اعترافا انشائيا.أما الاعتراف بهم من قبل الدول الاخرى فلا شأن له بقيام الشخصية القانونية الدولية للمحاربين،وانما ينشئ حالة الحياد ازاء المحاربين والسلطة المركزية.
وبالتالي فلا يوجد اعتراف بالمحاربين اعترافا منشئا الا من قبل السلطة المركزية. أما الاعتراف بالثوار فيصدر عن الدول الاخرى التي تبتغي مساعدتهم في مواجهة السلطة المركزية التي ترفض الاعتراف بهم وتعتبرهم خارجين عن القانون.ومتى ما اعترفت بهم السلطة المركزية أصبحوا محاربين .وهذا هو سرّ ندرة التطبيقات بالاعتراف بالمحاربين وكثرة التعامل بالاعتراف بالثوار. اذ ينذر أن تعترف السلطة المركزية بالمتمردين.(مصادر القانون الدولي العام ص 153-162
ثانيــا:أفكار قانونية جديدة وهي :
1.العرف الدولي.العرف مشكلة مزعجة عند “ستيرن”،فما زال معرفة كيفية نشوء القاعدة العرفية الدولية من جهة وكيفية اثباتها من جهة أخرى،مثار الغموض والتناقض في لغة الفقهاء.وقد عالجنا اشكاليات العرف الدولي في دراستنا عن (مشكلة العقيدة القانونية opinio juris للقاعدة العرفية في القانون الدولي العام في المجلة المصرية للقانون الدولي 1989 ) وكما يأتي:
أ.العرف هو العقيدة القانونية:ورد في النص الاصلي للمادة 38 من النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية أن العرف الدولي دليل preuve على تعامل عام مقبول كقانون
.ولا يخفى على رجل القانون أن العرف ليس دليلا على التعامل الدولي وانما التعامل الدولي دليل على قيام العرف.وقد عالجت الترجمة العربية هذا المفهوم المقلوب للعرف فاعتبرته قانونا دل عليه تواتر الاستعمال.
والواقع أن العرف الدولي يتكون من التعامل الدولي وهذا هوالركن المادي فيه ودليله القانوني ومن العقيدة القانونية العامة وهي العنصر المعنوي في العرف وهي مدلول التعامل الدولي ونتيجته. ولا بد من أن يكون الدليل (العلة) سابقاعن المدلول (المعلول)ولا يمكن أن يتزامن العلة والمعلول لا في الوقت ولا في المرتبة ،لضرورة سبق العلة على المعلول.
أما من يجعل العرف مكونا من ركنين أحدهما مادي وهو التعامل الدولي والاخر معنوي وهو الالتزام العام،فانه يخلط بين الركن والماهية. فركن الشئ هو سببه المنشئ له في حين أن الماهية هي النتيجة التي تتم بتوفر سببها المنشئ لها وهي العقيدة القانونية.فاركان العقد رضا ومحل وسبب بينما ماهية العقد هو ارتباط الايجاب والقبول على وجه يترك أثره في المعقود عليه.
ب.العرف ليس عاداتusages : بينما تصحح الترجمة العربية للنظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية تعريف العرف بمثابة قانون دلّ عليه تواتر الاستعمال فانها وقعت في غلط آخر وهو اعتبار العرف عادات دولية معتبرة .ووجه الغلط في هذا التعربف أن العادات تعامل غير ملزم قانونا وهذا ما يميزها عن التصرفات القانونية.والعادات مهما تواترت فلا تعدو أن تكون قاعدة للمجاملة الدولية ولا يمكن أن تنقلب بالتواتر الى قاعدة عرفية،لان ما هو غير ملزم أصلا لا يكون ملزما لاانفرادا ولا اجتماعا.
والواقع،أن العرف في الاصل تصرف قانوني صادر عن شخص دولي في شكل تصرف انفرادي(اعلان ترومان عن الجرف القاري 1945) أو اتفاقي ثنائي أو متعدد الاطراف(بريان-كيلوك 1928).ويرتب آثارا قانونية نسبية محصورة بين أطرافه (الالتزام النسبي).فاذا تظافر التعامل الدولي بهذا التصرف القانوني الى حد التواتر فانه يمكن مواجهة المجموعة الدولية به على وجه العموم erga omnes (الالتزام العام)،طالما لم يواجه هذا التصرف القانوني اعتراضا هاما من أشخاص المجموعة الدولية.
والسرّ في ذلك،أن العرف يتكون من عمليتين قانونيتين هما :
الاولـى:انشاء تصرف قانوني انفرادي أو اتفاقي ملزم لمن صدر عنه على اساس نسبية آثار التصرفات القانونية.ويبقى هذا الالتزام نسبيا مادام التصرف القانوني المنشئ له باقيا على حاله، الثانيـة:تظافر التعامل بهذا التصرف القانوني من قبل أشخاص المجموعة الدولية الى درجة لايبقى فيها خارج دائرته الا عدد قليل من هذه الاشخاص.
وطالما لم تفصح هذه”القلة”عن معارضتها لهذا التصرف القانوني وبالرغم من كونه موجها الى المجموعة الدولية عموما،فان هذا السكوت يشكل رضا أو قبولا ضمنيا به،وآنذاك يمتد أثر الالتزام النسبي للتصرف القانوني الى هذه”القلة”وينقلب الى التزام عام باعتباره عرفا دوليا في مواجهة هذه”القلة”.في حين يبقى التزاما نسبيا كتصرف قانوني في مواجهة“الكثرة”.
فالعرف في حقيقته هوهذا الجزء الصغير من العقيدة القانونية الذي لم يتم التعبير عنه صراحة من قبل”القلة”.
فاتفاق بريان-كيلوك بدأ في 1928 كمعاهدة ثنائية بين فرنساوالولايات المتحدة ثم أصبح معاهدة متعددة الاطراف بالتوقيع والتصديق او الانضمام.وعندما بلغ عدد أطرافها 63 دولة عشية الحرب العالمية الثانية في 1939،فان محكمة نورمبورغ في أحكامها سنة 1946 قد أحتجت به في مواجهة المانيا وهي ليست طرفا فيه لا على أساس اتفاقي وانما على أساس عرفي لانها لم تعترض عليه طيلة تلك الحقبة من الزمن.
ج.الدور السلبي للعقيدة القانونية في اثبات العرف.فالقاضي يفحص في التعامل القانوني الدولي عن تصرف قانوني معين.فان وجده متناسقا متظافرا فيقضي بوجود القاعدة العرفية بسبب التواتر الذي تمخض عنه هذا التعامل القانوني الدولي.وبخلافه فانه يقضي بعدم وجود العقيدة القانونية بسبب عدم قدرته على أثبات التواتر الناجم عن هذا التعامل.
ذلك ان اثبات العرف يتم عبر عملية جدلية يقوم خلالها المدعي بالعرف بالاستدلال على تعامل قانوني دولي متناسق متظافر،بينما يعمل المدعى عليه على نفي ادعاءات المدعي بوجود تعامل قانوني دولي يحمل هاتين الصفتين ويستدل بذلك على نفي وجود عقيدة قانونية عامة بهذا التعامل القانوني الدولي.
ويعمل الخصوم في هذه العملية على مساعدة القاضي في عملية الفحص،فاذا استطاع القاضي اثبات التناسق والتظافر في التعامل القانوني الدولي حكم بوجود القاعدة العرفية،وان أعياه ذلك فانه يحكم بعدم وجود العرف لعدم وجود عقيدة قانونية مستفادة من هذا التعامل. وهذا هو الموقع السلبي للعقيدة القانونية في الاثبات.وهو ما حكمت به محكمة العدل الدولية في قضية الجرف القاري لبحر الشمال في سنة 1969.
حيث لم تستطع كل من هولندة والدنمارك اقناع المحكمة بأن توقيع المانيا على اتفاقية جنيف للجرف القاري لسنة 1958 يجعل منها ملزمة بقاعدة الابعاد المتساوية الواردة في المادة 6 من الاتفاقية المذكورة.وذلك لعدم قدرة تلكما الدولتين على اثبات وجود تعامل قانوني متناسق ومتظافر بقاعدة الابعاد المتساوية في قياس الجرف القاري بين الدول المتقابلة والمتلاصقة، بالرغم من وجود بعض التطبيقات بشأنها في بحر الشمال وفي الخليج العربي.
5.سقوط نظرية الركن المزدوج للقاعدة العرفية في القانون الدولي العام.وبناء على ما تقدم،وحيث أن العقيدة القانونية هي ماهية وليست ركنا وهي نتيجة وليست سببا وأنها لاتمارس دورا في اثبات العرف،فان نظرية الركن المزدوج في العرف لا معنى لها بل وتتناقض مع الواقع.فالعرف مكون من ركن مادي ذي عنصرين:الاول،هو وجود تصرف قانوني نسبي الاثر والثاني وهو تظافر العمل المتناسق بهذا التصرف القانوني،فان اجتمع هذان العنصران اكتمل الركن المادي وولدت العقيدة القانونية بناء على ذلك. مع العلم بأن النظرية المزدوجة لم تكن معروفة في أحكام محاكم التحكيم السابقة على محكمة العدل الدولية.
واذا كانت محكمة العدل الدولية قد أكدت-واهمة-النظرية المزدوجة في حيثيات حكمها في قضية الجرف القاري لبحر الشمال في سنة 1969،فانها فاجأت الفقه والقضاء الدوليين في حيثيات حكمها في قضية الانشطة العسكرية وشبه العسكرية في نيكارغوا في سنة 1986،باستخدام عدم المعارضة consensus كدليل على اثبات العرف متخلية بذلك عن العقيدة القانونية كوسيلة للاثبات.واعتمدت السكوت باعتباره دليلا على عدم معارضة الساكت على التصرف القانوني الذي يخاطب المجموعة الدولية على وجه العموم والذي هو ليس طرفا فيه اتفاقا وانما باعتباره مخاطبا به عرفا.
2.الاعتراف الدولي.ان امتزاج الجوانب السياسية في الاعتراف الدولي كتصرف قانوني جعله مشتملا على أسرار لايمكن حلها الا في اللامعقول عند فرهوفن.وقد عالجنا هذا الخلط بين السياسة والقانون في بناء الاعتراف على أساس قانوني محض من خلال النظرية العامة للتصرفات القانونية(مصادر القانون الدولي العام ص 79-187)عارضين المشاكل القانونية الآتية:
أ.الاعتراف الدولي تصرف قانوني انفرادي ينتج آثاره القانونية متى ماتوفرت أركانه من رضا ومحل وشرعية.ولا يتعارض هذا التكييف مع كون الاعتراف عملا سياسيا Fait politique من أعمال السيادة شأنه شأن أي عمل من أعمال السيادة كالمعاهدات واعلان الحرب.
وينبغي عدم الخلط بين العمل السياسي وبين التصرف السياسي acte politique .فاعمال السيادة قد تكون تصرفات قانونية أو تصرفات سياسية،والاولى ترتب آثارا قانونية والثانية ترتب آثارا سياسية.أما محاولات الفقهاء في تكييف الاعتراف كتصرف سياسي فتعود الى محاولة منهم للهروب من الحلقة المفرغة التي تدور فيها نظريتا الاعتراف المنشىء والاعتراف الكاشف.
ب.الاعتراف القانوني والاعتراف السياسي.يمكن للشخص الدولي أن يعترف بواقعة معينة اعترافا ملزما باتا فهذا اعتراف قانوني.
ويجوز له أن لا يرتب آثارا قانونية على اقراره بواقعة معينة لأسباب يقدرها هو ولكنه مضطر الى التعامل مع هذه الواقعة فيقدم على الاعتراف السياسي بها كاعتراف غير ملزم بانتظار ما يؤول اليه أمرها.وهذا هو الاعتراف الواقعي الذي سبقت الاشارة اليه.وبهذا التمييز بين الاعتراف القانوني والاعتراف السياسي نكون قد حسمنا الجدل الدائر حول هوية الاعتراف السياسي وعدم وجود علاقة بينه وبين الاعتراف الضمني الذي هو اعتراف قانوني لا اعتراف سياسي.
ج.أثار الاعتراف:لا نزاع في أن الأعتراف بالدولة والحكومة هو اعتراف كاشف كما لانزاع في أن الاعتراف بالمحاربين والثوار وحركات التحرر الوطني والحكومة المؤقتة في المنفى هو اعتراف منشىء.ولذا فان الجدل الدائر حول أي من النظريتين صحيح هو جدل لا معنى له.ولكي نضع الامور في نصابها ولا ندور بين المنشىء والكاشف،فاننا نميز بين نوعين من آثار الاعتراف:
النوع الأول،آثار الاعتراف في حد ذاته، نستند في ذلك الى نظرية شاربونتيه في الاحتجاج opposabilite’ .وقد ميزنا بين الاحتجاج النسبي بين أطراف العلاقة القانونية الناشئة عن الاعتراف بواقعة معينة –وهو الغالب في الاعتراف الدولي،وبين الاحتجاج العام الناشىء عن ولادة قاعدة عرفية دولية باعتبارها نافذة على وجه العموم erga omnes في مواجهة المجموعة الدولية.
النوع الثاني،آثار الاعتراف في محله،فاذا كان الاعتراف لا ينشىء محله انشاءا واقعيا لانه يرد عليه،فانه يرتب آثارا قانونية عليه،باعتبار أن الاعتراف تصرف قانوني يرتب آثارا قانونية على ثلاثة أصناف من الوقائع:
-واقعة فعلية:ويرد عليها الاعتراف ليجعل منها واقعة قانونية وهذا هو الاعتراف المنشىء.وأكثر قواعد القانون الدولي للبحار نشأت عن الاعتراف الدولي بوقائع طبيعية يرتب عليها القانون آثارا قانونية كالبحر الاقليمي والمنطقة المجاورة والجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة والبحر العالي وغيرها.
ويمكن أن يرد الاعتراف على وقائع سياسية فيجعل منها وقائع قانونية،فالاعتراف هو الذي يجعل المتمردين على السلطة المركزية محاربين أو ثوارا أو حركات تحرير وطنية أو حكومة مؤقتة في المنفى وهكذا.
-واقعة قانونية:ويكون الاعتراف بها كاشفا عنها لأنها واقعة قانونية موجودة فعلا قبل الاعتراف بها.ولكن الاعتراف يرتب آثارا قانونية فرعية عنها،فالاعتراف بالدولة يعني الاقرار بحصانتها القانونية والسياسية والقضائية وحصانة تصرفاتها القانونية وأموالها العامة.
والاعتراف بالحكومة الانقلابية يعني استمرار العلاقات الدبلوماسية معها وعدم الاعتراف بها يعني قطع هذه العلاقات معها.والاعتراف بمعاهدة عن طريق اتفاق فرعي رسمي أو ضمني collateral يعني الارتباط بالآثار القانونية التي ترتبها المعاهدة على أطرافها الاصليين. أما العقود الاقتصادية الدولية واتفاقات الشرف فانها ليست تصرفات قانونية دولية بسبب عدم الاعتراف بها كذلك من قبل أشخاص القانون الدولي.
-واقعة مخالفة للقانون الدولي.وهي التي تخضع لمبدأ عدم الاعتراف بها لمخالفتها لقاعدة آمرة عامة من قواعد القانون الدولي العام.فاذا وقع الاعتراف بها –بالرغم من ذلك-فان هذا الاعتراف هو اعتراف معلق،فلا هو اعتراف قانوني،لأنه يعارض قاعدة آمرة ولا هو اعتراف واقعي لان المعترف يبتغي ترتيب آثار ملزمة له ويتعامل معها وكأنها آثار قانونية شرعية ويعتمد وجودها على مبدأ الفعلية كما بينا سابقا.
3-الآثار القانونية لتوصيات المنظمات الدولية.ونقصد بهذه التوصيات تلك الصادرة في العلاقات الدولية وليس في القانون الداخلي للمنظمات الدولية.واذا كانت تلك التوصيات غير ملزمة للأشخاص الدولية المخاطبة بها فكيف يمكن وصفها بأنها تصرفات قانونية دولية صادرة عن شخص من أشخاص القانون الدولي العام؟
وللاجابة على ذلك نقول أن توصيات المنظمات الدولية في العلاقات الدولية تمنح المخاطب بها ترخيصا faculte’ للعمل بها حتى وان أدى هذا العمل الى انتهاك التزام دولي نافذ المفعول.فقرار 1514/1960 بشأن حق تقرير المصير يضفي الشرعية على مطالبة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي بأن تقرر مصيرها بنفسها حتى وان أدى ذلك الى الاستقلال عن السلطة المركزية وبالوسائل التي يختارها سكان تلك الأقاليم بما في ذلك الكفاح المسلح خلافا لما تقضي به المادة 2/4 من ميثاق الأمم المتحدة. ومتى ما بدأت المطالبة بمضمون التوصيات فانها تنقلب من رخصة الى حق شخصي لانه لا يجوز الحرمان من هذه المطالبة التي كانت رخصة قبل وقوع المطالبة فعلا.
وهكذا تكون التوصيات تصرفات قانونية ترخيصية ابتداءا وتتحول الى تصرفات قانونية ملزمة عندما يصبح العمل بها شائعا، وتعتبر في هذه الحالة قانونا في مرحلة النشوء Lex ferenda. اما اذا أصبح التعامل بها متناسقا ومتظافرا واضطرار الاطراف المدينة بها الى الدخول في دائرة هذا التعامل فانها تنقلب الى تصرف قانوني في مواجهة المجموعة الدولية على وجه العموم كقاعدة قانونية Lex lata.
وهو ما يفهم من فتوى محكمة العدل الدولية لسنة 1971 في قضية الوجود غير الشرعي لجنوب افريقيا في ناميبيا التي أعتبرت حق تقرير المصير قاعدة من قواعد القانون الدولي العام. (مصادر القانون الدولي العام ص 209-214). وهكذا تكون توصيات المنظمات الدولية في العلاقات الدولية والتي تشتمل على اعلانات بمبادئ عامة للتعامل الدولي مادة أولية لنشوء قواعد قانونية عرفية بهذه المبادئ.
4.التدابير المضادة: لما كان المجتمع الدولي يفتقر الى أجهزة مركزية فوق الحكومية فان احترام القانون الدولي يعتمد على الارادة الحسنة لاشخاصه. وعند انتهاك هذا القانون يبقى الدفع بعدم التنفيذ الوسيلة القانونية لضمان الاداء. وهذه هى التدابير المضادة. وقد اعتبرتها لجنة القانون الدولي في مشروعها حول المسؤولية الدولية سببامن أسباب الاباحة.
ولكن الفقه الغربي يخلط بين هذه التدابير ومختلف تدابير المعاملة بالمثل الاخرى للرد على انتهاك القانون كالدفاع الشرعي والانتقام المسلح والتدابير الاقتصاصية.
ولم تظهر دراسات في الفقه العربي لمعالجة ذلك.وحاولنا في كتابنا “التدابير المضادة في القانون الدولي العام” ازالة هذا الخلط الذي وقع فيه الفقهاء. وقد ميزنا بين التدابير المضادة في العلاقات الدولية اللامركزية والتي تقتصر على التدابير السلمية حصرا وبين التدابير السلمية والقسرية التي تتخذها المنظمات الدولية في العلاقات الدولية المركزية طبقا لمواثيقها.
-وأوضحنا أن مراعاة العمل بشروط التدابير المضادة يجعل منها وسيلة قانونية لضمان الاداء وبخلافه تعتبر هذه التدابير وسيلة سياسية لادارة المنازعات الدولية لا أداة قانونية لضمان احترام القانون، وخاصة عند اللجوء الى استخدام القوة غير المرخص به في القانون الدولي العام.ولكن التدابير المضادة عمل غير مشروع أصلا يدفع به لحمل الطرف المخالف للقانون على الوفاء بالتزاماته. ولذا فانها لا تكتسب الشرعية عند الدفع بها بل تكون سببا في الاعفاء من المسؤولية لا سببا من أسباب الاباحة. 5.المسؤولية الدولية.
تثير المسؤولية الدولية عددا من المشاكل نتناول منها اثنين هما: أ.الخطأ culpa .أنكر أنزيلوتي ومدرسته دور الخطأ في اثارة المسؤولية الدولية التي اسماها المسؤولية المطلقة وهي المسؤولية التلقائية الناجمة عن الفعل غير المشروع.وخلطوا بهذا بين دور الخطأ كسبب للمسؤولية ودوره كعنصر اثبات للمسؤولية. أما نحن فنميز بين هذين الدورين.
فالخطأ كسبب للمسؤولية الدولية هو عين الفعل غير المشروع وهو احد اركان المسؤولية الدولية الثلاثة ونتعامل معه كعنصر موضوعي لا كعنصر ذاتي .أما الخطأ بمعنى التقصير أو الاهمال فهوعنصر ذاتي مفترض في المسؤولية عن انتهاك التزام بتحقيق نتيجة ولا يدخل عنصرا في الاثبات.وهو لابد منه لاثبات انتهاك التزام ببذل عناية due diligence .
فلا مسوؤلية اذا لم يكن تقصير هناك او اهمال. اماالمسؤولية الدولية عن الافعال التي لايحرمها القانون الدولي حسب تعبير لجنة القانون الدولي وهي المسؤولية عن المخاطر,فان الخطأ يقوم كظرف مشدد اذا كانت الاضرار الناجمة عن المشاريع الخطرة ناجمة عن الاهمال او التقصير بل عن الخطأ الجسيم احيانا كالذي حصل في انفجار مفاعل تشرنوبل في 1986. ب.موانع المسؤولية الدولية.
تعبر لجنة القانون الدولي عن موانع المسؤولية بالظروف النافية لعدم المشروعية,متاثرة في ذلك بما تطلق عليه بعض القوانين الجنائية الوطنية (باسباب الاباحة).وهذا التكييف لموانع المسؤولية الدولية غير دقيق لان المانع اذا كان نافيا لعدم المشروعية فيكون سببا للاباحة,فلاعلاقة له بالمسؤولية اصلا لان الفعل المشروع او الفعل المباح لايثير المسؤولية ,لان المسؤولية تقوم بسبب انتهاك القانون,فحيث لاانتهاك فلا مسوؤلية.
اما نحن,فنقسم موانع المسؤولية الى عوادم المسؤولية من جهة والى الاعفاء من المسؤولية من جهة اخرى وكما ياتي: • عوادم المسؤولية.وترجع الى ظروف تطرأ بعد وقوع الفعل غير المشروع دوليا ولكنها تحول دون اسناده الى الشخص الدولي طرف العلاقة القانونية التي من خلالها وقع الفعل غير المشروع دوليا.وهذه الظروف اما ان تكون خارجة عن ارادة اطراف العلاقة القانونية واما ان تكون بفعلها هي وذلك:
-عوادم المسؤولية الدولية الخارجة عن ارادة اطراف العلاقة القانونية وهي القوة القاهرة والظروف الطارئة.فالاولى تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا وتنفسخ العلاقة القانونية بقوة القانون.والثانية توقف التنفيذ لحين زوال الظرف الطارى.
-عوادم المسؤولية بفعل اطراف العلاقة القانونية او غيرها.وهي اما ان تكون بفعل اطراف العلاقة القانونية نفسها وهو خطأ الطرف المضار او بفعل الغير.
امابخطا الطرف المضار فلا مسوؤلية على الطرف الاخر ,واما بخطأ الغير فيؤدي الى مسوؤلية هذا الغير لا مسوؤلية طرف العلاقة القانونية.
• الاعفاء من المسؤولية الدولية: وياتي بسبب ظروف تطرأ اما عند وقوع الغعل غير المشروع دوليا وملازمة له واما ان تقع بعد وقوع الفعل غير المشروع دوليا فتؤدي الى الاعفاء من المسؤوليةالدولية بالرغم من قيام الاسناد وهي: -ظروف الاعفاء من المسؤولية الدولية الملازمة لوقوع الفعل غير المشروع دوليا وهي: الدفاع الشرعي.
حالة الضرورة. حالة الشدة. رضا الطرف المضار. وهذه الظروف افعال غير مشروعة اصلا ولكن خصوصياتها تؤدي الى الاعفاء من المسؤولية وعدم جبر الضرر الناجم عن هذه الظروف رغم وقوع الانتهاك ازاء القاعدة القانونية الاولية,واذا كان ثمة اباحة فانها اباحة لهذه الظروف وليس للافعال المكونة لها.فالقانون يبيح الدفاع الشرعي ولا يبيح القتل.
-ظروف الاعفاء من المسؤولية الدولية الطارئة بعد وقوع الفعل غير المشروع دوليا وهي: التدابير المضادة. وهي افعال غير مشروعة اصلا لانها تؤدي الى وقف تنفيذ التزام دولي قائم فعلا ولكنها تعفي من السوؤلية الدولية لانها تتخذ كوسيلة للدفع بعدم التنفيذ في مواجهة اخلال الاخر بالتزاماته وذلك باعتبارها وسيلة لضمان الاداء واحترام القانون.
وتتجلى فائدة هذا التصنيف في قبول مبدأ التعويض في حالة ظروف الاعفاء من المسؤولية بعد فرض امكان وقوع هذه المسؤولية على مستوى القاعدة القانونية الاولية كحالة الضرورة او حالة الشدة او التدابير المضادة,فيكون الاخلال بالقاعدة الاولية مسوغا للتعويض وبقطع النظر عن الاعفاء من المسؤولية على مستوى القاعدة الثانوية.ولكن لايمكن تسويغ التعويض في حالة عوادم المسؤولية لعدم وجود اخلال على مستوى القاعدة الاولية أصلا.
الخلاصة ان المراعاة الدقيقة لشروط البحث العلمى تساعد الباحثين على الابتكار، ونورد فيما ياتي بعضا منها:
1.التمييز بين الالتزام الدولي والقاعدة الدولية بفحص التعامل الدولي الدبلوماسي والقضائي فحصا دقيقا باعتباره عنصرا موضوعيا محايدا يرجع الاشكال الى مصدره القانوني الاصلي وعدم الانسياق وراء الفقه لمزاجيته Moody ، 2.
ألا يكون فحص التعامل الدولي إنتقائيا وإلا خضع للمزاج الشخصي للباحث مما يوقعه في الخلط بين ما هو كائن وبين ما يجب أن يكون، 3.تجزئة المشكل القانوني الى أجزائه المتباينة عند استعصائه على الحل وعدم اخضاعه للعلاج بالجملة. والتدقيق في تكييف هذه الاجزاء عند المعالجة للوصول الى الحلول الصحيحة كالتمييز بين الماهية والركن وبين أثر التصرف القانوني في حد ذاته وبين أثره في محله، وبناءا على ذلك توصلنا الى النتائج التالية:
أ. الفصل بين الركن والماهية في القاعدة العرفية أدى الى اعتبار العنصر المعنوي ماهيتها وليس ركنا فيها ، ب. الفصل بين أثار الاعتراف بحّد ذاته واثار الاعتراف في محله أدى الى الغاء الحلقة المفرغة بين الاعتراف الكاشف والاعتراف المنشئ، ج.الفصل بين التدابير المضادة بالمعنى الضيق وغيرها من التدابير بالمعنى الواسع يؤدي الى اعتبار الاولى وسيلة لضمان الاداء وسببا من اسباب الاعفاء من المسؤولية.
ونوضح فيما يأتي خلاصة بنظرياتنا في الموضوعات الثلاثة المذكورة:
أولا.نظرية الركن الاحادي للعرف الدولي.
1.تعتبر العقيدة القانونية ماهية العرف وحقيقته وليست ركنا فيه لان الركن سابق على الماهية فهو سببها المنشئ وهى النتيجة له.
أي أن هناك تسلسلا في الرتبة فلا تكون النتيجة جزءا من السبب. ويعتبر الركن المادي بعنصريه: التصرف القانوني وتواتر العمل به هو ركن العرف الدولي والالتزام العام فيه هو نتيجة هذا التواتر وليس جزءا منه. 2.تقوم آلية نشوء العرف على مرحلتين: الأولى، وجود تصرف قانوني ملزم لاطرافه على أساس الالتزام النسبي طبقا لمبدأ الأثر النسبي للمعاهدات.
وهذا هو الالتزام الاتفاقي في العرف وهو الجزء الاول منه. وعندما يمتد التعامل به بين اشخاص القانون الدولي فانه يبقى عدد قليل من هذه الاشخاص خارج دائرة هذا التعامل. الثانية، فاذا وصل هذا التعامل درجة الشيوع يتضاءل عدد الخارجين عنه الى القليل القليل. وعند ذاك يمتد الالتزام النسبي بسلطانه على هذا القليل فينقلب الى التزام عام في مواجهة الجميع. وهذا هو الجزء الثاني من العرف الذي يضم القليل الى المجموعة الدولية فيكون الالتزام العرفي بديلا للالتزام الاتفاقي بقيام العقيدة القانونية في نهاية مسلسل process نشوء العرف لا في اثنائه ويخضع لها هذا القليل بالقبول الضمني لا الصريح. ثانيا.نظرية الأثر المزدوج للاعتراف الدولي.
وتقوم على التمييز بين أثر الاعتراف بحّد ذاته وبين أثر الاعتراف في محله: 1.أثر الاعتراف بحّد ذاته. وهو أثر التصرف القانوني بالاعتراف بين المعترف والمعترف له بحيث يملك الثاني الحق بالاحتجاج بمضمون هذا الاعتراف ضد أي سلوك ينافي هذا المضمون صادر عن الاول.
وهذا هو الدفع بالاسقاط Estoppel الذي اذا تم تحريكه والحكم بموجبه فانه يؤدي الى سقوط Froclusion ذاك الادعاء المنافي.
2.أثر الاعتراف في محله. هو ثبوت الاثار القانونية للاعتراف في الواقعة التي يرد عليها في صورتين: أ.الاعتراف الكاشف للواقعة القانونية. وهو الاقرار بصحتها من الناحية القانونية والكشف عن شرعيتها والتسليم بالنتائج المترتبة على هذه الشرعية.
ويرد الاعتراف الكاشف على الدول والحكومات والمنظمات الدولية والمراكز القانونية الموضوعية والتصرفات القانونية الدولية. ولما كان الاعتراف تصرفا قانونيا فانه يرتب بالضرورة أثارا قانونيا منشئة وهي الحصانة القانونية للواقعة المعترف بها.
ب.الاعتراف المنشئ للواقعة الدولية الفعلية. لا يخلق الاعتراف المنشئ هذه الواقعة بل يرد عليها فينقلها من واقعة مجردة الى واقعة قانونية ويرتب الاثار القانونية على هذا الاقرار. فالواقعة الفعلية لا يعتني بها القانون الدولي ابتداءا, فان وقع الاعتراف عليها دخلت دائرة هذا القانون وأنشئت أنشاءا قانونيا. ويرد الاعتراف المنشئ على نوعين من الوقائع الفعلية:
-الوقائع الطبيعية المجردة. ويتم الاعتراف بها بانشاء نظام قانوني لها كما في المجالات البحرية التي تأخذ شكل البحر الاقليمي والمنطقة المجاورة والجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة والبحر العالي والمنطقة الدولية والمضائق والقنوات الدولية. والمجالات الفضائية كالفضاء الخارجي بما يحتويه من أجرام سماوية وفضاءات أخرى لا تخضع للسيادة الاقليمية .
-الاعتراف المنشئ للواقعة السياسية الدولية. وهي جماعات سياسية منظمة ناشطة في القانون الداخلي. فاذا تم الاعتراف بها من قبل أشخاص دولية فانها تصبح بهذا الاعتراف واقعة قانونية دولية. فالاعتراف الدولي ينشئ المركز القانوني للمحاربين والثوار والاقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي والاقاليم المد
وّلة وحركات التحرير الوطنية والحكومات المؤقتة والشعوب. فاذا تم وضع كل شئ في محله فاننا سنكون امام نظرية عامة للاعتراف الدولي المزدوج الكاشف والمنشئ.
ثالثا. التدابير المضادة من أسباب الاعفاء من المسؤولية الدولية.
وتقوم على مبدأ الدفع بعدم التنفيذ المعمول به في القانون المدني. وهي تدابير غير مشروعة أصلا يتخذها شخص دولي في مواجهه انتهاك للقانون الدولي صادر عن شخص دولي آخر لحمل الاخير على وقف هذا الانتهاك والامتثال للقانون. ويترتب على هذه التدابير مايأتي:
1. أنها وسيلة لضمان الاداء من شأنها أن ترخص الطرف المضار في عدم التنفيذ بغية اجبار محدث الضرر على الامتثال للقانون. فهي انتهاك فرعي للقانون في مقابل انتهاك أصلي يرتب حقا لضمان الاداء وبموجب القانون. ولكنه لايسقط عنها صفة اللامشروعية فلا تكون سببا من أسباب الاباحة كما تتوهم لجنة القانون الدولي في القراءة الثانية لمشروعها بشأن المسؤولية الدولية لسنة 2000 .
2. وباعتبارها وسيلة لضمان الاداء فانها تعتبر سببا من أسباب الاعفاء من المسؤولية الدولية عن الضرر الناشئ عن عدم التنفيذ. ولايمكن لعدم التنفيذ أن ينقلب الى فعل مشروع لانه بالضرورة انتهاك للقانون.
3. وتظهر ثمرة هذا التكييف في الاثار القانونية الناجمة عن الاخلال بشروط العمل بالتدابير المضادة وخاصة شرط التناسب. حيث يؤدي فقدان واحد من هذه الشروط الى إثارة المسؤولية الدولية لأن هذا التدبير يفقد عندئذ صفة ضمان الاداء ليشكل بدوره فعلا غير مشروع يتطلب اصلاح الضرر غير الضروري الناشئ عنه والذي لا يستهدف وقف الضرر الناشئ عن الانتهاك الاصلي للقانون.
أما اذا اعتبرنا التدابير المضادة فعلا مشروعا فلا وجهه لاثارة المسؤولية الدولية عن الضرر الناشئ عنه اذ لا مسؤولية عن الفعل المباح. (المجلة المصرية للقانون الدولي 2002 ص.207 وما بعدها.)
اترك تعليقاً