الأحزاب السياسية تعبير عن القوى الاجتماعية والتيارات الفكرية والحركات السياسية في أي مجتمع. فالحزب السياسي أساسا هو تعبير عن طبقة اجتماعية، مثل أحزاب العمال التي تعبر عن الطبقة العاملة.
ولم تنشأ أحزاب فلاحين لأن الفلاح عامل زراعي. بالرغم من وجود فرق بين علاقة العامل بالآلة وعلاقة الفلاح بالأرض. الأول أقل ارتباطا بوسيلة الإنتاج في حين أن الثاني أكثر ارتباطا بها. وهناك أحزاب الأقلية أو الإقطاع أو النخبة الحاكمة مثل الأحرار الدستوريين في مصر قبل الثورة.
وهناك أحزاب الطبقة الوسطى، أحزاب رجال الأعمال. وتتراوح الأحزاب في الوطن العربي بين النخبة الحاكمة ورجال الأعمال. كما تعبر الأحزاب السياسية عن التيارات الفكرية في المجتمع مثل أحزاب الإصلاح، والأحزاب الإسلامية.
فالتيار الفكري يخترق الحواجز الطبقية. إذ تجمع الأحزاب بين مختلف الطبقات الاجتماعية، العليا والوسطى والدنيا. فالحزب فكرة قبل أن يكون مصلحة. وقد جمعت بعض الأحزاب في الدول الغربية بين الاثنين مثل الديمقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة، والأحزاب الديمقراطية المسيحية، والديمقراطية الاشتراكية في ألمانيا خاصة وأوروبا عامة.
كما تعبر الأحزاب عن حركات سياسية وطنية عامة توحدت مع تاريخ البلاد مثل حزب الوفد في مصر قبل الثورة، والأحزاب القومية بعد الثورات العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، وحزب الاستقلال في المغرب، وحركة التحرر الوطني في الجزائر، ومنظمة التحرير الفلسطينية في فلسطين، والحزب الدستوري في تونس.
وفي الوطن العربي خاصة، تنشأ الأحزاب السياسية من “حضن” السلطة. فبعد أن قامت الثورات العربية الأخيرة في سوريا ومصر والعراق واليمن وليبيا وموريتانيا والصومال والسودان أنشأت مجموعات “الضباط الأحرار” أحزابا سياسية حتى تحول الانقلاب إلى ثورة، والثورة إلى تيار فكري، والتيار الفكري إلى تغير اجتماعي، والتغير الاجتماعي إلى حركة شعبية، أصحاب المصلحة في الثورة.
وبعد أن ينتهي العمر الأول للثورة، ويبرد نارها بل وانقلاب غالبيتها إلى ثورة مضادة، تتحول الأحزاب الأولى إلى أحزاب سلطة، تحكم بمفردها. ثم تجاوزها الزمن، ولم تعد قادرة على تغيير أنفسها بالرغم من تغير العصر.
فتجد أحلافا لها في الطبقات الجديدة في الداخل من العسكر أو من رجال الأعمال الجدد الذين كانوا يمثلون الرأسمالية الوطنية أو في الخارج لدى القوى الكبرى والتي انتقلت من القوى الاستعمارية القديمة، فرنسا، وإنجلترا، وأسبانيا، والبرتغال، وهولندا، وبلجيكا، وإيطاليا إلى القوة الاستعمارية الجديدة، الولايات المتحدة الأميركية.
ولتنشيط الحياة الحزبية، بدأت أحزاب السلطة في خلق أحزاب وهمية جديدة لتفادي الضغوط عليها في الداخل والخارج، نهاية عصر الحزب الواحد، وضرورة “الإصلاح” و“التحول الديمقراطي”.
ينشأ حزب مرتبط بفرد مثل حزب الأمة في مصر ولا وجود له لا في الشارع السياسي ولا كتنظيم مؤسس. وينشأ حزب آخر تقليدا للغرب مثل حزب “الخضر” الذي نشأ ضد تلوث البيئة من مخلفات المصانع. ولا توجد في أوطاننا مساحات خضراء للدفاع عنها إذ نعيش في الصحراء وبين رياحها.
ولا يوجد تصنيع أثر في البيئة بل توجد نفايات بشرية وحيوانية ومجارٍ طافحة وأكوام قمامة.
وقد تنشأ بعض الأجنحة من الحزب الأم. وبدلا من الحوار الخصب بين يمينها ويسارها ووسطها، بين جيل الرواد وجيل الطليعة تنشأ أحزاب مستقلة فيضعف الحزب الأم ولا يقوى الحزب المنشق. وقد تساعد الدولة في هذا الانشقاق لإضعاف الحزب الأم. فقد تفرع حزب “الغد” في مصر عن حزب الوفد. وخرج حزب “الوسط” من حضن “الإخوان”، وحزب “الكرامة” من “العربي الناصري”.
ومعظمها مازالت تحت التأسيس. في حين استطاعت أجنحة في أحزاب أخرى أن تبتلع الحزب الأم مثل حزب “العدالة والتنمية” في المغرب بالنسبة لحزب “الاستقلال”، وحزب “العدالة والتنمية” في تركيا بالنسبة لحزب “الرفاه”.
وبلغت مجموعة هذه الأحزاب “الورقية” في مصر على سبيل المثال أربعة عشر حزباً.
وفي نفس الوقت هناك أحزاب سياسية في تكوينها وفكرها وتنظيمها وشعبيتها ومستقبلها لاشرعية.
وقد تكون شرعية في الداخل ولاشرعية في الخارج مثل “حماس” في فلسطين، و“حزب الله” في لبنان.
هي لاشرعية في الخارج لأنها رفضت الخضوع للهيمنة الخارجية. فأصبح سلاح الشرعية سلاحا مزدوجا توجهه أنظمة الحكم ضد أحزاب المعارضة الجذرية، دينية أو ماركسية.
كما توجهه أحزاب المعارضة ضد أنظمة الحكم.
وتوجهه القوى الخارجية ضد النظم الوطنية المنتخبة ديمقراطيا في فلسطين ولبنان غيرهما، كما توجهه هذه النظم ضد العدوان الأميركي اللاشرعي على العراق وأفغانستان والعدوان الإسرائيلي على فلسطين، كل فلسطين.
وقع الوطن العربي في تناقض بين أحزاب شرعية لا وجود لها في الشارع السياسي حتى وإن كان بعضها الحزب الحاكم، وأحزاب لاشرعية لها وجودها في الشارع السياسي وخارج أنظمة الحكم واللعبة السياسية برمتها.
فمن الذي يحكم، الحزب الحاكم أم الشارع؟ الرئاسة أم الجماهير؟ ومن الذي يعطي الشرعية؟ الدولة والرئاسة ولجنة الأحزاب والبرلمان، أي الدولة الحكم والخصم أم الشارع والجماهير؟
وهل الشرعية الصورية التي تهبها أو تمنعها الدولة قادرة على منع حركة الشارع وصعود الحركات اللاشرعية إلى المؤسسات السياسية في حالة انتخابات شبه ديمقراطية؟ وقد أدى هذا الوضع بين شرعية الحزب الحاكم اللاشرعية من وجهة نظر المعارضة، ولا شرعية المعارضة رسمياً إلى انعزال الناس عن السياسة، وعدم مشاركة الجماهير في العملية الديمقراطية بمجملها.
إذ يذهب أقل من ربع من لهم حق الانتخاب إلى صناديق الانتخاب. يرفضون شرعية الحزب الحاكم، ويخافون من لاشرعية المعارضة حتى لو اعتبروها شرعية.
ولذا افتقرت الحياة الحزبية، وبقيت الجماهير خارج اللعبة السياسية. تنتظر الخروج من هذه الحلقة المفرغة بين الشرعية النظرية واللاشرعية العملية للحزب الحاكم، واللاشرعية النظرية والشرعية العملية لأحزاب المعارضة.
وتنأى بنفسها عن هذا التكفير المتبادل بين الدولة وخصومها فقد تكون خاسرة في الحالتين، خسارة محسوسة ومشاهدة من الحزب الحاكم، وخسارة متوهمة ومتوقعة من أحزاب المعارضة.
والأحزاب التاريخية في الوطن العربي أربعة:
الليبرالية التي حكمت مصر في النصف الأول من القرن العشرين،
والقومية التي حكمت معظم أقطار الوطن العربي في النصف الثاني من القرن العشرين،
والجناحان الرئيسيان في نظام الحكم القائم ليبرالياً كان أم قومياً،
والحركات الدينية،
والحركة الاشتراكية التي يُرمز لها بالشيوعيين.
الليبرالية العربية لم تجدد نفسها وظلت خصما للاشتراكية بدعوى الاقتصاد الحر، وللتيار الديني بدعوى العلمانية، في أزمة مع نفسها ومع جماهيرها. كما انحسر المد القومي في الخمسينيات والستينيات بعد هزيمة يونيو 1967 وحربي الخليج الأولى والثانية وظهور النزعات القطرية بل والعرقية والطائفية لتجزئة الأقطار العربية.
وذاب الشيوعيون العرب إما في نار العولمة الجديدة أو في حضن الدولة أو كهوامش في حوار مع التيارات الأخرى. وما تبقى مازال يعمل تحت الأرض بالطريقة التقليدية. فلم يبق إلا التيار الديني في الداخل الذي مازال يعمل على الأمد الطويل.
اترك تعليقاً