التفسير النظامي لنصوص منع الاختلاط في الأنظمة السعودية
كثر الحديث عن حكم مشاركة المرأة في حضور الاجتماعات المختلطة مع الرجال وفقاً للنظام السعودي، وبغض النظر عن الرأي الفقهي لكاتب هذا المقال فإن الأفكار المطروحة فيه تمثل وجهة نظر الكاتب النظامية وفقاً لما استقر عليه العمل في أنظمة المملكة العربية السعودية ،
ولعل القضية التي أثارت هذا التساؤل في مثل هذا الوقت هي ما ذُكر حول مطالبة بعض الأخوات عضوات المجلس البلدي بالجلوس على طاولة واحدة مع الرجال، وزعمهن أن هذا هو مقتضى نصوص النظام في المملكة.
إن الوجهة القانونية في هذه المسألة لا تنبني على رأي شخصي لفقيه شرعي أو قانوني ومدى قابليته لهذا الفعل أو معارضته له، ولكنها تنبني على القواعد النظامية الكلية للنظام في المملكة، وكذلك النصوص النظامية الخاصة الواجب تطبيقها في الحالة المطروحة للتساؤل، والتي تعتبر موضحة وكاشفة للنصوص العامة، والمتعلقة ببيان حدود الاختلاط الذي يمنعه بل يجرمه النظام السعودي.
لقد نص النظام الأساسي للمملكة على أن الكتاب والسنة وأحكام الشريعة الإسلامية هي الحاكمة على جميع أنظمة البلاد مهما كان مصدرها ومنشؤها؛ وفقاً لما نصت عليه المادة السابعة من النظام الأساسي للحكم والتي جاء نصها كما يلي: (يستمد الحكم في المملكة العربية سلطته من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة).
ولقد جاءت المادة الثانية والعشرون من النظام الأساسي للحكم بتشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظاماً؛ واعتباره من واجبات الدولة حيث نصت على :(تحمي الدولة عقيدة الاسلام وتطبق شريعته وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتقوم بواجب الدعوة الى الله).
واعتبر هذا النظام أيضاً من واجبات الدولة حماية حقوق الإنسان إلا أنه قيد ذلك بما يتفق مع الشريعة الإسلامية، فجاء نص المادة السادسة والعشرين من النظام : ( تحمي الدولة حقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية) وهذه المواد الثلاث هي لبيان المرجعية وأنها للكتاب والسنة ولأحكام الشريعة الإسلامية في جميع الأحوال، وأنه لا يحتج على الشريعة ولا على الكتاب والسنة بعرف عام ولا خاص، ولا اتفاقية إقليمية ولا دولية، ولا بفعل أو قول صدرا من صغير أو كبير. ولا شك أنه ما من قول يقال به إلا ويحاول قائله أو ناشره نسبته إلى الكتاب والسنة إما من خلال الاستدلال أو الاستفتاء أو الاستقراء لأحوال المتقدمين والمتأخرين، ومع كل ذلك فإن السلطة التنظيمية في المملكة والمتمثلة بالإرادة الملكية المعبر عنها بالأوامر والمراسيم السامية درجت على أن ما يتعلق بالشأن الديني العام فإنه الأمة حكومة وشعباً تلتزم بما يصدر فيه من هيئة كبار العلماء أو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء؛ وذلك ما استقر العمل عليه منذ تأسيسهما، وقد أفصح الأمر الملكي رقم 113876 / ب في 1431/9/2هـ عن ذلك أيما إفصاح، ولعلي تعميماً للفائدة اقتبس بعضاً مما جاء في هذا الأمر مع الاقتصاد والاختصار وذلك لأن نقله بكماله فيه تطويل على القراء؛ فمن نصوصه: (…. وقد تابعنا هذا الأمر بكل اهتمام ورصدنا تجاوزات لا يمكن أن نسمح بها ، ومن واجبنا الشرعي الوقوف إزائها بقوة وحزم حفظاً للدين…… ورعاية لوحدة الكلمة وحسماً لمادة الشر…… كما نفرق بين مسائل الدين التي تكون بين المرء وربه في عبادته ومعاملته ليعمل فيها بخاصة نفسه بما يدين الله تعالى به دون إثارة أو تشويش وبين الشأن العام مما لا يسعه الخوض فيه بما يخالف ما تم حسمه بآلته الشرعية التي تستند على أقوال العلماء بالدليل والتعليل….. وما زال أهل العلم قديماً وحديثاً يوصون باجتماع الكلمة وتوحيد الصف ونبذ الفرقة ويدخل في هذا : الاجتماع على أمر الدين….؛ وترتيباً على ما سبق وأداءً للواجب الشرعي والوطني فنرغب إلى سماحتكم قصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء والرفع لنا عمن تجدون فيهم الكفاءة والأهلية التامة للاطلاع بمهام الفتوى للإذن لهم بذلك في مشمول اختيارنا لرئاسة وعضوية هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء… ويستثنى من ذلك الفتاوى الخاصة الفردية غير المعلنة في أمور العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية بشرط أن تكون خاصة بين السائل والمسؤول… وكل من يتجاوز هذا الترتيب سيعرض نفسه للمحاسبة والجزاء الشرعي الرادع كائناً من كان).
وبالرجوع إلى الجهة المعتمدة رسميًّا في موضوع الفتوى وهي اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء نجد نص الفتوى رقم 2768 في 1400/1/13هـ والتي جاء فيها: (لا يجوز للمرأة أن تشتغل مع رجال ليسوا من محارمها لما يترتب مع وجودها معهم من المفاسد… والواجب على المسؤولين في الجهة التي يوجد فيها اختلاط أن يعملوا على جعل النساء على حدة والرجال على حدة لما في الاختلاط من المفاسد الأخلاقية التي لا تخفى على من له أدنى بصيرة).
وجاء في الفتوى رقم 14782 ما نصه (الاختلاط بين الرجال والنساء غير المحارم وكشف النساء وجوههن وبعض أجسادهن منكر لا يجوز)، وجاء في بيان اللجنة الدائمة حول تحريم الاختلاط الصادر بناءً على المعاملة المحالة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم 32601419 بتاريخ 1432/6/28هـ ما نصه (يحرم الاختلاط بين الرجال والنساء فيما ذكر سابقاً سواء كان ذلك بخلوة أو من دونها ولا يجوز أن تعمل المرأة مع الرجال كأن تكون سكرتيرة لمكتب الرجال أو في الاستقبال لمكان غير خاص بالنساء أو عاملة في خط إنتاج مختلط أو محاسبة في مركز أو محل تجاري أو صيدلية أو مطعم يختلط في العاملون من الرجال والنساء لما يترتب على ذلك من آثار سيئة على الأسرة والمجتمع).
وأما النصوص التنظيمية الخاصة الصادرة في بيان حكم العمل المختلط وبيان معنى الاختلاط فقد جاءت الأوامر السامية والقرارات الوزارية التي تمنع الاختلاط بين الرجال والنساء في العمل وتشترط لتشغيل المرأة أن تؤدي عملها في مكان منفصل عن الرجال ولعل من أصرحها وأوضحها قرار مجلس القوى العاملة رقم 1/م19/1405 في 1408/4/1هـ المبني على الأمر السامي رقم 111/8 في 1408/2/10هـ بشأن تنظيم عمل المرأة حيث نصت الفقرة (ثانيا/أ-4) على: (أن تؤدي المرأة عملها في مكان منفصل تماما عن الرجال)، وهذا هو المستقر الثابت في النظام السعودي وقد أكد على مضمونه في أكثر من موضع ومن ذلك ما تضمنه قرار مجلس الوزراء 759/8 بتاريخ 1421/10/5هـ والأمر السامي رقم 1960/8 بتاريخ 1399/12/23هـ والأمر السامي رقم 11575 بتاريخ 1401/5/19هـ والأمر السامي رقم 11651 بتاريخ 1403/5/16هـ والأمر السامي رقم 2966/م بتاريخ 1404/9/19هـ والأمر السامي رقم 759/8 بتاريخ 1421/10/5هـ الذي يؤكد على ضرورة التقيد بما قضى به الأمر السامي رقم 11651 بتاريخ 1403/5/16هـ والأمر السامي رقم 2966 بتاريخ 1404/9/19هـ بمنع تشغيل المرأة في غير الأعمال التي تناسب طبيعتها أو في أعمال تؤدي إلى اختلاطها بالرجال من غير محارمها.
ولا يؤثر في هذه النصوص النظامية الثابتة المستقرة ما يذكره البعض جزفا من أن الغرفة التجارية الصناعية الفلانية خالفت النظام؛ فهذا لا يعدوا كونه إقرارا بالمخالفة وهو يوجب المساءلة لا الاستشهاد به والتفاخر بفعله، ولئن قبلت الجهة المختصة هناك هذه المخالفة فلا يلزم قبولها هنا، بل المتعين التحقيق مع المخالف ورفع أمره للجهة الرقابية المختصة لتعديل المخالفة لا إقرارها.
وأما الاستدلال بوجود مخالفات عارضة عند حضور ولاة الأمر وفقهم الله فإن المتعين أولا المصير إلى نص المادة السابعة من النظام الأساسي للحكم؛ على أن ما ذكر لا يعدوا كونه حالات خاصة نزلت الحاجة العامة فيها منزلة الضرورة وهو اجتهاد سائغ فقهاً؛ ربما لا نقره لكنه مقبول؛ لوروده بشكل مؤقت على نحو غير دائم، وأهل العلم والعقلاء من الناس يعذرون في مثل هذا؛ لكنهم لا يجعلونه أصلا يبنى عليه تبرير الاختلاط في العمل بين الرجل والمرأة على النحو المطالب به.
وأما الاستدلال بما يحصل في مجلس الشورى فهو أيضا استدلال غير صحيح؛ لما لمجلس الشورى من خصوصية لا يقاس عليه فيها، ورغم أن الأصل هو إلزام جميع المجالس بمقتضى النظام، إلا أن لولاة الأمر ولأعضاء مجلس الشورى إن رأوا أن في إقرار المجلس على ما هو عليه الآن مصالح للأمة متعدية تتجاوز المفاسد المترتبة على وجود الاختلاط فيه مع بذل الوسع في تقليل المفاسد فلهم ذلك ونحن في هذا على ما ذكرنا من منهج أهل العلم والعقل أنهم يعذرون ويعدون مثل هذا حالة استثنائية لا يقاس عليها.
ومهما يكن من شيء فإن مطالبة بعض الأخوات بما يخالف الشرع والنظام لا يجيز استحلال ما حرم الله من الوقيعة بهن وبأعراضهن، بل النصح والتوجيه والأمر والنهي بالتي هي أحسن، وكذلك ليس لمن يخالف ويطالب بإقرار المخالفة أن يطعن في غيره ممن ليس على مثل ما هو عليه؛ فيشوه دينه ويتهمه بالتشدد أو الرجعية أو التخلف. وإن ما تجاوز إليه بعض ممن غلبهم هواهم من وصف مخالفيهم بالدعشنة أو الجهل بالدين والأخلاق ونحوها أمر في غاية التعدي والفجور في الخصومة، ومن وصل إلى هذا الحد فقد فتح للناس بابا إلى ظهره باستيفاء حقهم منهم وفقا لما تقرره الجهات المختصة في هذا الشأن.
ومما يتعين قول: إن من العمى وقلة البصيرة الاستقواء بالخارج على الداخل، وبالعدو على الأهل، والتماس التأييد عند أعداء الله، وذلك بزيارة سفراء بعض الدول طلبا لفزعتهم على وطنك وأهلك، وهذا فعل ليس له ما يبرره، بل ولو كان الحق معك كما تزعم؛ فإن عصى أهلك خير لك من رغيف عدوك، وهؤلاء ما أعطوا شيئا إلا ليأخذوا أضعافه، فهل ترضى أيها الشهم وأيتها الشهمة أن يكون أول استفتاحك في المجلس البلدي جلوسك مع سفير دولة أجنبية تعرض عليه خططك وعملك، وكيف يسوغ لك بعدها أن تحدثنا أو تحدثينا عن الوطنية، فالعقل العقل ، والرشد الرشد..
وأخيرا فإن من دقة الفهم، وكمال العقل ألا يجر الوطن إلى منازلة فكرية في مثل هذه الظروف، وما أدري ما سر هذا الترابط الذي كثيرا ما نراه يحصل بين مطالب يصفها مؤيدوها بأنها تنموية للمرأة وبين الظروف الوطنية العصيبة، ففي بداية التسعينيات والجيوش تحاصر السعودية بل جزيرة العرب بأكملها من كل مكان، ونحن نقول في دعاءنا : اللهم سلم ..سلم تقوم مظاهرة للمطالبة بقيادة المرأة للسيارة ، وفي خضم فتنة الربيع العربي، وبينما يدعوا العلماء الى السكينة والالتفاف مع الوطن تتم أكثر من محاولة لتمرير هذا المشروع مرة أخرى ، والآن ونحن في أحلك الظروف ونقاتل على أكثر من جبهة نجر إلى مثل هذه المعركة، إن العقل والوطنية يقتضيان السير على ما ثبت واستقر دفعا للمفاسد وتحصيلا للمصالح حفظ الله وطننا من دعاة الفتنة وجمع كلمتنا على ولاة أمرنا وجعل سيرهم وسيرنا فيما يرضيه.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً