صناعة التشريع القضائي
القاضي ناصر عمران
يشكل الامر رقم (35) في 18 / 9 / 2003 والذي تم بموجبه (أعادة تشكيل مجلس القضاء ) مفصلا مهما في المنظومة التغييرية التي ابتدأت بعد تاريخ 9/4/2003 وأرست _ على الرغم من كل التداعيات التي رافقتها _ بناء الكيان الأول لدولة المؤسسات فقد حقق القضاء استقلاليته عن السلطة التنفيذية ورسمت السلطات المكونة لهرمية الدولة تجذرات سلطاتها المختصة والتي استقرت بعد ذلك في صلب الوثيقة الدستورية التي صوت عليها الشعب العراقي في عام 2005 والذي على أساسه تم تقسيم السلطات الاتحادية المكونة للدولة الى سلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية تمارس سلطاتها وفقاً لمبدأ الفصل بين السلطات حسب المادة (47) من الدستور الدائم ومبدأ الفصل بين السلطات هو: أحد المبادئ الدستورية الأساسية التي تقوم عليها الأنظمة الديمقراطية.
وارتبط هذا المبدأ باسم الفيلسوف السياسي الفرنسي “مونتيسكيو” الذي كان له الفضل في إبرازه كمبدأ أساسي لتنظيم العلاقة بين السلطات العامة في الدولة وهذا المبدأ يعني: توزيع وظائف الحكم الرئيسية على هيئات ثلاث هي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، حيث تستقل كل منها في مباشرة وظيفتها.
فالسلطة التشريعية تشرّع القوانين والسلطة التنفيذية تتولى الحكم والإدارة وتسيير أمور الدولة ضمن حدود تلك القوانين، أماالسلطة القضائية فتهدف إلى تحقيق العدل تبعاً للقانون.
لكن هذا الفصل لايعني الفصل التام بين السلطات إنما لابد من وجود توازن وتعاون بين هذه السلطات واحترام كل سلطة للاختصاصات الوظيفية المنوطة بالسلطة الأخرى ومن الضروري وجود رقابة متبادلة بين السلطات الثلاث بما يحقق حماية لحقوق وحريات الأفراد.
الا ان الملاحظ من خلال التشريعات المنظمة لعمل السلطة القضائية ان هناك مشكلا حقيقيا في صناعة التشريع القضائي، فمنذ صدور الامر القضائي في عام 2003 واستقلالية القضاء عن السلطة التنفيذية لم يصدر اي قانون ينظم عمل السلطة القضائية حتى صدور قانون مجلس القضاء الاعلى رقم 112 لسنة 2012 والذي تم نقضه من قبل المحكمة الاتحادية لمخالفته الدستور وبخاصة المادة (60) منه وفي عام 2016 اقر مجلس النواب قانون الاشراف القضائي رقم (29)لسنة 2016 والذي تعرض للنقض أيضاً في بعض مواده القانونية لمخالفتها للدستور.
ولم يكن قانون مجلس القضاء الاعلى رقم (45) لسنة 2017 بأحسن حال من سابقه فقد تعرضت بعض مواده القانونية للنقض وربما لا يبتعد قانون الادعاء العام الجديد عن ذات المصير وهو يواجه طلب النقض امام المحكمة الاتحادية في حين لما يزل قانون المحكمة الاتحادية العليا حبيس اروقة مجلس النواب العراقي بالرغم من مرور فترة زمنية طويلة.
ان ذلك يؤكد وجود إشكالية و تعثر في الآليات والرؤى المنتجة للتشريع القضائي وبخاصة ان مجلس القضاء الاعلى اعد مشروعات القوانين المنظمة لعمل السلطة القضائية والتي سايرت الاتجاهات الحديثة في توحيد القوانين المنظمة وعدم تجزئتها اطلق عليه (مدونة قوانين السلطة القضائية ) لكنها اصطدمت بعقبة التغييرات الجوهرية من قبل السلطتين التنفيذية والتشريعية عند احالتها اليهما تطبيقاً للمادة (60 /اولا ) من الدستور وهو الطريق الدستوري في إقرار القوانين مما افقد القوانين الكثير من رؤى الاختصاص القضائي وبالتالي جعلها عرضه للنقض من المحكمة الاتحادية والتي اكدت على ان مشروعات قوانين السلطة القضائية يتم إعدادها من قبل السلطة المختصة وهي القضاء.
وهو ما تضمنه قرارها المرقم 22/اتحادية /2017 في تاريخ 11/4 / 2017 والذي رسم بشكل واضح الاليات الحقيقية للتشريع القضائي وبخاصة في مرحلة الاعداد بل زاد من ذلك في تأكيده على الاستقلالية القضائية الفاعلة عبر ابرام الاتفاقيات القضائية من قبل مجلس القضاء الاعلى كونها تعبر عن استقلالية القضاء معززة بالتفاعل الايجابي مع السلطة التنفيذية عبر التنسيق مع وزارة العدل.
ان الاعداد السليم للقوانين التنظيمية المعدة من ذوي الاختصاص والمتلاقحة مع الرؤى الفاعلة في تطوير العمل وضمن مسارات جديدة تعتمد على آليات إنتاج ورش العمل وترجمة ذلك بصياغة وقوالب قانونية ستكون بالتأكيد صناعة لقوانين سليمة محققة لاهدافها التي شرعت من اجلها، وكلنا امل ان يكون التفاعل الايجابي بين القضاء والسلطات الاخرى اكثر فاعلية في صناعة تشريعات قضائية سليمة لها اثارها الايجابية في التطبيق العملي وهو الميدان الحقيقي للعمل القضائي .
اترك تعليقاً