استعمال الحق.. استثناء من العقاب لا يميل القضاء للتوسع بتطبيقاته
الأصل هو فرض الجزاء على مرتكب جريمة أياً كان، فالجميع يخضع للقانون بغض النظر عن الموقع والخلفية، هذا ما نصت عليه كل القوانين العقابية الدولية، لكن ثمة ظروف يحددها المشرع تعفي بعضهم من المسؤولية لأسباب عدة تصب مجملها في مصلحة المجتمع، فلا تكاد أن تخلو أي قاعدة من الاستثناء، وهو حسب رأي قضاة متخصصين أمر طبيعي ولا ضير فيه طالما تم تحديده بنصوص واضحة ودقيقة، لكنهم يحذرون في الوقت ذاته من التوسع في تطبيقها خشية حصول انتهاكات على حساب القانون تحت عنوان الإباحة.
من هذه الاستثناءات ما أكدت عليه المادة 41 من قانون العقوبات العراقي النافذ رقم 111 لسنة 1969 المعدل بأن “لا جريمة إذا وقع الفعل استعمالا لحق مقرر بمقتضى القانون”.
صور استعمال الحق
ولاستعمال الحق صور عديدة حصرها القانون بـ“تأديب الزوج لزوجته وتأديب الآباء والمعلمين ومن في حكمهم الأولاد في حدود ما هو مقرر شرعا أو قانوناً أو عرفا، والعمليات الجراحية والعلاج على أصول الفن متى ما أجريت برضاء المريض أو ممثله الشرعي أو أجريت بغير رضاه في الحالات العاجلة، بالإضافة إلى أعمال العنف التي تقع أثناء الألعاب الرياضية متى كانت قواعد اللعبة قد روعيت، فضلا عن أعمال العنف التي تقع على من ارتكب جناية أو جنحة مشهودة بقصد ضبطه”.
ويعرف قاضي محكمة الكرادة، سالم روضان الموسوي “استعمال الحق ابتداءً، بأنه ممارسة السلطة على حق رتبه القانون سواء يتعلق بالمال أو حقوق معنوية أخرى”، مستدلا بـ“الناخب الذي له الحق في التصويت وحين يشارك في الاقتراع يكون قد مارس حقه القانوني، وكذلك الحال بالنسبة لمالك العقار الذي يؤجره إلى شخص آخر أو ينتفع منه”.
وبالدخول إلى الجانب الجزائي وما تضمنه قانون العقوبات، نوه الموسوي إلى “أفعال عدّها المشرع جريمة لأنها اعتداء على المجتمع ورتب عليها جزاء وعرّض مرتكبها للمساءلة القانونية”، مستدركا إن “أفعالاً أخرى منح القانون لمرتكبيها حق التخلص من المسؤولية الجزائية لوجود مصلحة اكبر متمثلة بالحفاظ على كينونة المجتمع”.
أفعال مباحة لا حاجة لزيادتها
وزاد إن “هذه الاستثناءات لم تطلق بل حُصرتْ في نصوص قانونية أوجبتْ لتحقيقيها شروطاً لنكون حينها أمام ما يعرف بأسباب الإباحة، والتي من بينها استعمال الحق المنصوص عليه في المادة 41 من قانون العقوبات بأربع فقرات”.
وعاد الموسوي ليقول إن “أي فعل يندرج ضمن هذه المادة يعد من الناحية القانونية مباحاً حتى لو أدى إلى ضرر جسمي أو معنوي، فلا توجد جريمة، ويحكم على مرتكبها بعدم المسؤولية”، مبينا إن “ذلك يخضع للقاضي المختص على ان تراعى الجوانب الفنية في تطبيق الاستثناء”.
وبالرغم من تأكيده على ان نصوص قانون العقوبات وضعت قبل نحو 45 سنة، لكن الموسوي أفاد بان “المبدأ الوارد في المادة 41 قديم من حيث الأثر ومتواصل العمل كونه يتعلق بجانب تطبيقي”.
وذكر أن “التطوير ضروري في بعض فقرات هذه المادة لمواكبة حقوق الإنسان، ويرى أن “المشرع كان على صواب حينما حصر الأفعال المنصوص عليها في استعمال الحق بحالات معينة”.
وزاد إن “القضاء غير معني بالضغط لتعديل هذه الفقرة رغم المرونة التي يبديها في التطبيق، لكن الدور هنا يكون لمنظمات المجتمع المدني في بيان سلبيات تطبيقات النص”.
وعلى العكس من ذلك، يرفض قاضي الكرادة “فكرة زيادة نصوص هذه المادة”، وقال إن “الأصل يكون بتطبيق القانون وفي حال توسيع الاستثناءات سنكون أمام احتمالية الاعتداء على حقوق الإنسان”.
تأديب الزوجة.. حق مثير للجدل
احد أهم صور المادة 41 العقابية، ما يتعلق بتأديب الزوجة، ذلك الحق الذي يثار حوله العديد من علامات الاستفهام لاسيما من الجهات التي تدعي بأن المرأة تعاني عدم المساواة مع شريكها الرجل.
لكن الموسوي يجد ان “المجتمع حصلت فيه تحولات فكرية، جعلت المرأة تتفوق ثقافياً وتسير بدرجات العلم إلى مستويات عالية تختلف عما كانت عليه في السابق“، مطالباً في الوقت ذاته “المؤسسة التشريعية بالارتقاء بهذه الجزئية لمواكبة التطور الحاصل لاسيما في القيم والمفاهيم المنصوص عليها في دستور جمهورية العراق لسنة 2005”.
ويرى الموسوي “تقاطعا بين المادتين 41 من قانون العقوبات و14 الدستورية لان الأولى قد ميزت بين الرجل وزوجته بحق التأديب رغم إن كليهما عراقي”.
و نصتْ المادة 14 من دستور 2005 على ان “العراقيين متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي”.
ومن هنا يدعو قاضي محكمة الكرادة إلى “الطعن بعدم دستورية فقرة تأديب الزوجة لانها في الوقت الحالي واجبه التطبيق باعتبارها نصاً لا يزال قائماً”.
على الأرض، نبه الموسوي إن “القضاء العراقي نجح في التعاطي مع النص طبقاً للتطورات الحالية ببلوغ روح القانون تحقيقاً للرفاهية الاجتماعية”.
وأضاف إن “المحاكم تتعامل مع التأديب، نصاً استثنائياً ولا تتوسع فيه مطلقاً”، جازما بالقول “لم أجد قرارا قضائياً يعطي للرجل حق الضرب المبرح تجاه الزوجة، بل إن القضاء يميل إلى تضييق تطبيقات هذا الاستثناء باعتباره تربية وتوجيها وليس إيذاءً”.
معيار واضح للتمييز بين التأديب و الإيذاء
أما عن المعيار الفاصل بين الإيذاء من عدمه في موضوع التأديب رد الموسوي إن “المفهوم الأول يتعلق بالضرب الجسدي أو المعنوي والذي قد يثبت عن طريق التقرير الطبي أو المشاهدة العيانية للقاضي، وفي هذه الحالة نكون أمام جريمة يعاقب عليها القانون”.
الضرب والذي يراه البعض وسيلة للتأديب، وحسب القاضي الموسوي فأن “هناك خلافا داخل الشريعة الإسلامية لهذا المفهوم، فقسم من العلماء يقولون بأنه استخدام اليد وآخرون يفسرونه على إنه الهجر في الفراش أو الابتعاد”.
استثناء التأديب لا يقتصر على الزوجة، بل امتد اثره للأبناء والتلاميذ، غير إن قاضي الكرادة يوضح الشق الأول بالقول “استحدثت نصوص لاحقة عالجت هذا الأمر وأدرجتْ في قانون رعاية الأحداث الذي أجاز سلب الأولاد من أبيهم الذي يتعرض لهم بالإيذاء وإيداعهم في دور الدولة أو لدى أشخاص مؤتمنين”.
ولفت قاضي الكرادة إلى “الشق الثاني المتعلق بالمعلم، والذي هو عّده المشرع مربياً، فإن مفهوم التربية لا يعني إيصال المعلومات قسراً إلى التلاميذ بل توجد أساليب حديثة يستخدمها المعلم في مهنته”، مبينا إن “تعليمات قد عممت في سبعينيات القرن الماضي تمنع الضرب وصدرت أحكام جنائية بحق عدد من المعلمين بعد إدانتهم بإيذاء تلاميذهم”.
العمليات الجراحة.. بين الخطأ والمقصود
وينتقل الموسوي إلى الفقرة الثانية من المادة (41) المتعلقة بالعمليات الجراحية وأصول الفن الطبي، وأفاد “الضرورة قد تستدعي تعرض الإنسان إلى عمليات جراحية أو بتر أطراف، ما يعني الحاجة إلى استخدام (أسلحة جارحة) كالمشرط، لتحقيق غاية معينة وهي الحفاظ على الحياة أو دفع الأذى الأكبر عن الجسد”، متابعا بالقول “من هنا جاءت حماية المشرع للطبيب لتمكنه من أداء عمله”.
وفي موازاة ذلك، بين الموسوي إن “ الطبيب قد يتقصد استخدام ما متاح له في العمليات الجراحية لغايات إجرامية”، موضحاً إن “المحاكم تتقصى حينها نية الجاني من خلال ظروف وقرائن القضية المعروضة أمامها فإذا أدى فعله إلى وفاة المجني عليه مع وجود القصد الجنائي فيعد الطبيب قاتلاً”.
وعن دعاوى بعض ذوي المتوفين في المستشفيات المرفوعة على أطبائهم نتيجة ما يقولون إنها أخطاء رافقت العمل، ذكر الموسوي إن “قول الفصل للقضاء مستعيناً بلجنة فنية متخصصة من أطباء ذوي إمكانيات عالية يقيمون ظروف العمل الذي حصلت فيه حالة الوفاة ويتقصون الإهمال إن وجد”، مستطرداً إن “الطبيب مسؤول عن أفعاله وإذا حدث خطأ فيتحمل وزره”.
ويشرح الموسوي حالة جرت مؤخراً في أحد مستشفيات بابل بالقول إن “طبيبة تمت إدانتها بجريمة القتل الخطأ رغم إنها لم تقصد الإجهاز على المريض، لكن فعلها غير المتعمد أدى إلى قتله وليس مجرد خطأ طبي”.
ويجد قاضي الكرادة إن “هذه الفقرة وضعت لحماية الطبيب ولن تقوض عمله لأنه يمارس الحق بالعمل أما الأخطاء تحددها القواعد العامة ويجب إن تكون هناك علاقة سببية بين الفعل والضرر الذي تسببه”.
محددات الألعاب الرياضية
وفي الفقرة الثالثة التي تغطي الجوانب الرياضية، قال الموسوي إن “هذه الألعاب تعتمد بالدرجة الأساس على القوة البدنية باستثناء تلك التي فيها جانب فكري”.
وأضاف إن “الاحتكاكات المحتملة الوقوع خلال اللعب قد تحدث إصابات وهي ليست بقصد جنائي”، موضحا إن “هذه الأفعال موجودة لغرض تمكين اللاعب من ممارسة لعبته”، مستدلا بـ “عدم إمكانية مساءلة المصارع خلال المباراة عن كسر اليد والخدوش التي يحدثها في خصمه داخل قواعد اللعبة لأنها تعتمد على البنية الجسدية”.
وذكر إن “الإضرار الناتجة عن الألعاب الرياضية خلافا لما هو مقرر يتخذ فيها القضاء قراره من خلال الاستعانة بأهل الخبرة والفنيين”.
تحديد اللعبة الرياضية من عدمها، قال الموسوي انه ” يكون بمدى انتشارها وقبولها في المجتمع وتخضع في نهاية المطاف لرأي أهل الخبرة وعلماء الاجتماع”، منوها بانه “من غير الممكن اعتبار من يقامر على رمي نفسه بالنار بأنها لعبة رياضية”.
شروط القبض في استثناء العقاب
أما القبض على مرتكبي الجرم المشهود، وهي الفقرة الأخيرة في المادة 41 العقابية، يؤكد الموسوي إن “النص مطلق يشمل العسكري والمدني فالذي يتسبب بضرر معين من اجل إلقاء القبض على مرتكب جريمة مشهودة فأنه يؤدي واجبا متعلقا بحماية المنظومة الاجتماعية”، مبينا انه “إذا لم يوجد هذا النص فأن الجميع سيمتنع عن مساعدة الدولة”.
وفي حال تعسف الشمول بهذه الفقرة في استعمال حقه وأدى إلى إلحاق ضرر كان يستطيع عدم أحداثه في عملية القبض، نوه قاضي الكرادة بأن “ذلك يخضع لتقدير المحكمة فهي من تضع الأمور في نصابها في ظل ظروف القضية المعروضة أمامها”.
ومضى بالقول إن “هذه الفقرة لا تتحدث عن المكلف بإلقاء القبض على مرتكب الجريمة شخصيا، كما هو مذكور في المادة 40 العقابية، إنما شخص آخر سواء أن يكون عسكرياً أو مدنياً ارتكبتْ أمامه جريمة مشهودة وان الضرورة حتمتْ أحداث ضرر في المتهم من اجل إلقاء القبض عليه”.
من جانبه يقول قاضي التحقيق عماد عبد الله محمد إن “ضبط مرتكب الجريمة يكون مباحاً عند الجنايات والجنح فقط ولا يجوز أعمامه على المخالفات”.
وأضاف ” لا يمكن للشخص الاعتيادي ضبط من خالف قواعد السير المحددة قانوناً بذريعة استعمال الحق، بل هذه مسؤولية رجل المرور فقط”، مؤكدا على أن “تكون الجريمة مشهودة وبالتالي، ولا يطبق هذا الحق على سواها من الجرائم”.
وحسب القاضي محمد فهذا النوع من الجرائم نص عليه قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1973 هي تلك التي “شوهدت حال ارتكابها أو عقب ارتكابها ببرهة يسيرة أو إذا تتبع المجني عليه مرتكبها اثر وقوعها أو تتبعه الجمهور مع الصياح أو إذا وجد مرتكبها بعد وقوعها بوقت قريب حاملا آلات أو أسلحة أو أمتعة أو أوراقا أو أشياء أخرى يستدل منها على انه فاعل أو شريك فيها أو إذا وجدت به في ذلك الوقت أثار أو علامات تدل على ذلك”.
علة حصر الإعفاء بالجرم المشهود
وعن سبب حصر هذه الفقرة بالجرم المشهود، شدد محمد على أن “الحق أوجده المشرع للقبض على المجرمين وحتى لا يفلتوا من العقاب”، مبينا انه “لدى ضبطهم بالجرم المشهود فهذا يعني إثبات الجريمة عليهم وبالتالي مساعدة السلطات التحقيقية في الوصول إلى الفاعل بسرعة ومن دون عناء”.
إن استخدام الحق وعلى ما يقول محمد لا يكون مطلقاً بل يجب يتحقق شروط “في مقدمتها وجود حق مقرر وفق القانون وهي الحالات الأربعة المنصوص عليها حصراً في المادة 41 العقابية”.
وحذر محمد من “عدم الالتزام بحدود الحق والامتداد به إلى آخرين”، وذكر إن “القانون اقره لشخص ويجب إن يمارسه بنفسه ولا يمتد لغيره، فلا يمكن لأخ الزوج أو أبيه تأديب الزوجة”.
وزاد “إن توفر بحسن نية في الفعل المستثنى من العقاب ضروري وإذا تبين عكس ذلك فانه يسال عن الجريمة التي ارتكبها”.
وخلص محمد إلى إن “استعمال الحق يجب إن يكون بالصورة الصحيحة لا بطريقة خاطئة وإلا سيتعرض صاحبه إلى المساءلة القانونية”.
إياس حسام الساموك
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً