ضرورة الكتابة في العقود الإدارية
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
تعتبر الكتابة هي الأسلوب الأكثر شيوعاً في التعبير عن إرادة المرفق العام عند التعاقد لتلبية متطلباته. وغالباً ما تمتد الصيغة المكتوبة في نطاق العقود الإدارية إلى ما وراء تحرير العقد ذاته لتصل إلى مجموعة من الوثائق المعقدة والمتشابكة التي تضطلع بتفصيل دقائق العقد الإداري القانونية والمالية.
وإذا كان التعبير عن إرادة الإدارة يتسم بالطابع الموضوعي, فإن ذلك لا يمنع من أن تبرم الإدارة عقدها خارج كل صيغة كتابية دون أن يؤثر ذلك على شرعية العقد. وبالتالي يمكن القول إن العقود الإدارية كما العقود المدنية، لا تعتبر من حيث الأصل من قبيل العقود الشكلية, وإنما يكفي اتفاق الإرادات لكي تولد الحقوق والالتزامات على عاتق الأطراف. لذلك فإن المبدأ العام المتفق عليه في الفقه السوري والمصري والفرنسي يتجسد في عدم إلزام الإدارة باستخدام الصيغة المكتوبة عند إبرامها لعقودها إلا عندما يفرضها القانون صراحة. وهذا النهج يمكن الاستدلال عليه بشكل واضح في المادة 41 من القانون رقم 51 لعام 2004 التي تنص على أنه:
“يخضع العقد بالتراضي للإجراءات المنصوص عليها في المادة24 من هذا النظام ويكون ارتباط المتعاقد وتحلله من هذا الارتباط وفقاً لأحكام المادة 25، ويجري العقد بالتراضي بأحد الأشكال الآتية:
1ـ بتنظيم عقد تذكر فيه الالتزامات والحقوق بصورة واضحة.
2ـ بتعهد يحرر على دفتر الشروط الخاصة ويتضمن قبول المتعهد بالالتزام وفقاً للشروط الخطية المتفق عليها.
3 ـ بالمراسلة وفقاً للأصول التجارية عندما يتم التعاقد مع الأسواق الخارجية”.
وفي نطاق عقود الأشغال والتوريد والخدمات والمناقصات وطلب العروض، يشترط القانون المذكور اتباع إجراءات معينة وصيغ خاصة عند التعاقد لتلبية احتياجات الإدارة. ومثال ذلك ما أشارت إليه المادة 31 فقرة /ط/ من ذات القانون؛ بضرورة توقيع المتعهد العقد خلال المدة المحددة في دفتر الشروط. وأيضاً من خلال النص صراحة في المادة 65 على تحديد الموطن المختار صراحة في متن العقد بشكل واضح. ولكن خارج نطاق هذه العقود لا توجد نصوص توجب اللجوء إلى الصيغة المكتوبة عند إبرام الإدارة لعقودها على الرغم من أن بعض العقود تتطلب الكتابة بسبب طبيعتها ومحتواها ذاته، وفي مثل هذه الحالة حتى لو كانت الصيغة الكتابية غير واجبة فإن القاضي يمكن أن يعتبرها معيبة بسبب نقص الكتابة.
لذلك يمكن الاستنتاج بأن الموقف التشريعي والقضائي في سورية ينطلق من الأصل العام وهو الرضائية الكاملة للعقد الإداري وتحرره من كافة قيود الصيغة والشكل، إلا أن التوسع في اشتراط شكلية الكتابة من جانب المشرّع يقلب القاعدة ليجعل الكتابة هي الأصل, ولتصبح ركناً لازماً لإبرام العقد، بحيث لا ينعقد العقد إلا إذا انصبّ رضاء الطرفين في الصيغة أو الشكل الذي ينص عليه القانون. ودون شك فإن بطلان العقد في حالة عدم اتباع الصيغة الكتابية يمتزج مع وجوده المادي؛ بمعنى أن الكتابة أصبحت هنا ركناً من أركان العقد وليست شرطاً من شروط الصحة، وهذا ما يدفعنا إلى البحث في الحالات التي تكون العقود الإدارية غير مكتوبة والتي تظهر في ثلاث حالات هي:
1ـ العقد الشفهي 2ـ العقد الضمني 3ـ العقود قليلة القيمة التي تبرم بناء على فاتورة أو مذكرة.
أولاً- العقد الشفهي: من الممكن إبرام عقود شفهية خارج إطار الحالات التي يتطلب المشرّع فيها الكتابة صراحةً؛ مثلاً نقل مواد ولوازم معينة. لكن العقبة الرئيسية التي تقف في وجه العقود الشفهية تتمثل في صعوبة إثباتها, إذ أن الاثبات يكون على عاتق الطرف الذي يدعي وجود العقد الشفهي، وهو جائز بكل وسائل الاثبات. وقد أخذت به المحكمة الإدارية العليا في سورية واعتبرت “أن عدم وجود عقد مكتوب لا ينفي واقع العلاقة العقدية بين الطرفين, وإن هذه العلاقة لا تعتبر بمنزلة عقد فحسب بل عقداً إداريا ً قائماً بذاته”.
ثانياً- العقد الضمني: من حيث المبدأ يجب أن يكون التعبير عن إرادة الإدارة واضحاً، ومع ذلك فإن القضاء المصري قبِل مفهوم العقد الضمني الذي لا ينتج عن التعبير الصريح عن الإرادة، وإنما من سلوك أطراف العقد والظروف المحيطة بالعملية التعاقدية التي تُبرز إلى حيز الوجود القانوني رضا مشتركا ً تتنج عنه رابطة تعاقدية على النحو الذي يتطلبه القانون. وعلى العموم، فإن عقود تقديم المعونة تعتبر مجالاً خصباً لتحقق فرضية العقد الضمني.
ثالثاً- العقد بناء على مذكرة أو فاتورة: أجازت المادة 3 من القانون رقم 51 لعام 2004 للإدارة تأمين احتياجاتها عن طريق “الشراء المباشر” في حالات محددة. كما أن المادة 4 من القانون المذكور نصت على قيام لجان الشراء المباشر بمراعاة مصلحة الإدارة عند القيام بالشراء، والحصول على أكثر من عرض خطي من الجهات التي تستطيع تقديم الاحتياجات المذكورة إذا كان متاحاً، ومن ثم اختيار أكثر العروض ملاءمة لصالح الإدارة. وبموجب المادة الخامسة فقرة ـ أ ـ تصرف النفقة الناجمة عن الشراء المباشر بالاستناد إلى الفاتورة الصادرة عن الجهة البائعة بعد توقيعها من قبل لجنة الشراء المباشر، إشعاراً بأن المشتريات مطابقة للمواصفات المطلوبة وبأن الأسعار الواردة في الفاتورة معتدلة ومطابقة للأسعار الرائجة.
وإن كان جانب من الفقه الفرنسي يذهب إلى القول أن هذه الصيغة الكتابية ترتبط ارتباطاً وثيقاً مع الطبيعة الإدارية للعقد، وأن غياب هذه الصيغة يجعل العقد الذي أبرمته الإدارة من عقود القانون الخاص. ويُعتبر الأستاذ جيز أبرز من رفع لواء هذه الفكرة وبرأيه أن غياب الكتابة يشير بشكل واضح إلى أن الإدارة اتجهت إلى عدم إبرام عقد إداري, وبالتالي فإن العقود غير المكتوبة ـ ومنها العقود المبرمة على أساس الفاتورة أو المذكرات ـ إنما تعتبر عقود قانون خاص وتخضع للقانون الخاص. ولكن مجلس الدولة الفرنسي قرر أنه لا ارتباط ما بين الصيغة المكتوبة وطبيعة العقد وإن القاضي الإداري يستطيع استجلاء معايير العقد الإداري في عقود غير مكتوبة. أما القانون السوري فاعتبرها من العقود الإدارية بالنص عليها في القانون 51 لعام 2004!
اترك تعليقاً