” ضمان الأخطاء القضائية مطلب لاستقلال القضاء”
الإنسان خطاء، والقضاة الذين يمارسون مهام القضاء بشر، وعليه فليس من المستغرب وقوع بعضهم في الخطأ لدى قيامهم بمهامهم، ولكن الخطأ القضائي ليس ككل الأخطاء، نظرا لصدوره عن ممثلي العدالة، ولما يتركه من أضرار تطال المتقاضين في حياتهم، وحرياتهم، وأموالهم….، وقد يقع إنسان بريء يملك كل صفات الشرف والنزاهة والاحترام ضحية لخطأ قضائي، فتدمر حياته بكل جوانبها المعنوية، والمادية، والعائلية، والاجتماعية، وقد يطال الأمر أسرته بأكملها، بل وقد يفقده حياته في حالة وجود عقوبة الإعدام وتطبيقها.
ولاشك أن الخوف من الوقوع في الخطأ القضائي يجب أن يقلق القاضي مهما كانت درجته، وفي كل مراحل عمله، فيحرص كل الحرص على عدم حدوثه. ومع ذلك فهو لا يصدر عن القاضي لمجرد كونه إنساناً، أو لأن تكوينه المهني قد يؤدي حتما إلى ذلك، فأزمة القضاء التي هي بطبيعة الحال أزمة الدول، تساهم في ذلك وتقود إليه.
والأمثلة على الأخطاء القضائية المهنية كثيرة جداً كأن يغفل القاضي أوراق أو مستندات مهمة للقضية أو أن يتعسف في استعمال القانون أو أن يخطئ في تفسيره أو يمس بشرعية الأدلة الجنائية كالاعتداد بقبض باطل أو الاعتداد باعتراف كان وليد الإكراه وغير ذلك من أمور.
كما أن الأمور التي تدفع القضاة لارتكاب الأخطاء كثيرة منها تصرفات المتهم نفسه أثناء المحاكمة في اللجوء إلى العنف أو كل ما يوحي بأنه عدواني أو غير سوي، سجل أسبقيات المتهم، تضليل الإعلام وضغط الرأي العام وعلى وجه الخصوص في القضايا ذات الحساسية الكبيرة، أو التوظيف السياسي للقضايا التي تحمل بعداً سياسياً.
وقد يتضرر الأفراد من مسألة الأخطاء القضائية بشكل كبير كأن يحبس شخص لمدة من الزمن ومن ثم تتضح براءته أو الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى، بل وقد يخسر وظيفته على إثر ذلك ومركزه الاجتماعي، وقد يطال أسرته وأهله ذلك الأمر بل ومستقبله بشكل عام، أو قد يخسر حياته .
من هنا أثيرت مسألة الاعتداد بضمان الأخطاء القضائية، والتي تعتبرها طائفة من الفقهاء اصطداماً بقاعدة تحصين الأحكام بحجية الأمر المقضي به، والتي تعني بأن الحكم القضائي هو عنوان الحقيقة ولا اعتداد بحقيقة مغايرة لها مهما كانت ماسة بحقوق وحريات الأفراد…، ويعدون الأخطاء القضائية مساساً بحرمة القضاء واستقرار المراكز القانونية. وعلى ذلك الأساس لا يعتدون بتعويض المتضررين جراء الأخطاء القضائية، ويقرون الاكتفاء بالانتقال للتدرج الهرمي للمحاكم ودرجاتها.
في حين قد رأت طائفة من الفقهاء في فرنسا وعلى رأسهم (دومينيك) أن تعريف الخطأ القضائي بمعناه الواسع يخص كل القرارات المشوبة بخطأ والصادرة عن المحاكم عندما تصبح هذه القرارات غير قابلة لأي طعن عادي، وبهذا لا يتعلق الخطأ القضائي بالقرارات التي يكون هناك مجال لإمكانية الاستئناف، فإن المتقاضي ضحية الخطأ يمكنه سلوك الإجراءات العادية، أي أن المحكمة التي تصدر قرارها في الدرجة النهائية هي من تكون في أصل الخطأ لدى تلك الطائفة .
وأضم رأيي للرأي السابق ذكره فيما يتعلق بالاعتداد بالخطأ القضائي، وأتحفظ على عدم سريانه على جميع القضاة في جميع درجات التقاضي، وذلك لسبب بسيط مفاده عدم وجود ضير من الاعتداد بالمخالفة المهنية وبين حجية الأحكام القضائية ونهائيتها، فالأولى تتعلق بالقضاة والثانية تتعلق بالقرار وما يهمنا في هذا المقام هو الاعتداد بمساءلة القضاة عن أخطائهم، ولا تبرير سليم للتخلي عن واجب صون العدالة والحفاظ على حقوق المتقاضين، كما أن أهمية الاعتبارات الخاصة بالقضاء والقضاة، لا يجوز أن تطغى على الحقوق وتعلو مشارف العدالة.
كما أن السعي وراء تحقيق العدالة يجب أن يكون غاية القضاء الأولى أو السعي وراء تحقيقها على الأقل مهما كلفنا الأمر!! ورغم كل الظروف! بل ومجازاة القضاة الذين يرتكبون الأخطاء القضائية والتعويض للمتضررين من جراء ذلك.
وعلى ما سبق، فخير ما نستشهد به في ذلك الإطار هو معالجة الإمام علي بن أبي طالب (ع) لتلك المسألة، حيث أقر مبدأ ضمان أخطاء القضاة، وهذا يعني أنه (ع ) اعتد بالخطأ بل وألزم بتعويضه، فوضع قانوناً غاية في الاهمية يقضي بأنه على الدولة ضمان أخطاء القضاة، بحيث تدفع ما يستحق للمظلوم او لاوليائه في الدم والقطع والعقوبات الاخرى، فقد قضى الإمام علي بن أبي طالب (ع) (… خطأ القضاة في دم او قطع فعلى بيت مال المسلمين)، وهذا يدل على ضرورة وجود هيئة ترفع الظلم وتقدر الضرر وتحكم به وذلك صيانة لحقوق الانسان من الضياع، كما رفض الإمام (ع) مسألة توظيف المسائل السياسية للقضاة في إصدار القرارات والأحكام، اذ أوصى (ع) كل قاض من قضاة الامة قائلاً: «عليك بالعدل في الصديق والعدو».
كما أن في عهد الدولة الأموية قد تم العمل بنظام والي المظالم على يد الخليفة عبدالملك بن مروان، حيث خصص يوماً للفصل في المظالم، أي في شكاية آحاد الناس من أحد الولاة أو القضاة، وأنشأ هيئة مستقلة عن القضاء للفصل في الشكاوى والأخطاء المتعلقة بالقضاة، وبالتالي فقد اعتد بالأخطاء القضائية وألزم بالتعويض عنها .
أما باستقرائنا لواقع الأخطاء القضائية بفرنسا، نجد أن بدايتها كان بعصر التنوير والذي شهد تغيرا بمفهوم الدولة والسلطة والعدالة، وبعدما كانت الأخيرة مشمولة بالعصمة، أزيلت عنها، واعتد كنتيجة بالأخطاء القضائية. وتعتبر حملة فولتير لإعادة اعتبار كالاس وعائلته البداية الحقيقية للتصدي للخطأ القضائي والتعويض عنه، حيث إن القصة باختصار تدور حول أب لعائلة بروتستانتية وهو (كالاس) اتهم إثر انتحار ابنه بأنه قاتله، وذلك لرغبة الأخير باعتناق الكاثوليكية خلافا لمذهب والده، واتهم على إثرها (كالاس) بجناية قتل عمد نسبت إليه في 10 مارس/ آذار 1762، وبعد تعذيب وحشي اقتيد إلى مشنقة نصبت في ساحة الكابيتول في تولوز، وقد هزت هذه القضية سكان تولوز لتعصب القضاء حينها ضد مذهب البروتستانتية ولتبنيهم لمذهب الكاثوليكية، ونقلت وقائعها لفولتير الذي عمل خلال 3 سنوات بعزم حتى توصل إلى إثبات براءة كالاس وإعادة الاعتبار لذكراه ولعائلته وتعويض عائلته عن الخطأ القضائي، حيث صدر الحكم من مجلس الملك برد اعتبار (كالاس)، واكثر من ذلك فقد رأى الملك التعويض لزوجة كالاس عما لقيه زوجها وابنها الثاني من تعذيب، وعما لقيته هي من قهر وحرمان، فأمر بمنحها تعويضاً مالياً بقيمة ثلاثين الفاً من امواله الخاصة. وكانت تلك القضية هي البداية الحقيقية للثورة الفرنسية التي قضت على التعصب ضد المذهب البروتستانتي .
أما في الأردن فنجد بأنها التزمت بالقواعد الدولية التي تنظم التعويض عن الأخطاء القضائية، حيث صدقت على جميع المواثيق والاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان بإطار ذلك الحق وصداقت على العهدين الدوليين لحقوق الإنسان بتاريخ 28 مايو/ أيار 1975م.
وكانت من أوائل الدول التي صدقت على العهد العالمي لحقوق الانسان والذي أشار بأن القضاء يعتبر تابعاً للدولة، وعليه فإنها تكون مسئولة عن اخطاء السلطة القضائية، ويجوز اختصامها في الخصومة ذاتها تطبيقاً للقواعد الدولية .
بل وانها استندت للقواعد العامة في القانون المدني بأن (كل خطأ يسبب ضرراً للغير يلزم من أحدثه بتعويضه) حسبما نصت على ذلك المادة 256 من القانون المدني الاردني.
أما بمملكة البحرين، فصحيح أنها صدقت على العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والذي نص بالفقرة (5) من المادة (9) منه على أن (لكل شخص كان ضحية توقيف أو اعتقال غير قانوني حق في الحصول على تعويض.
كما أن المادة (9) من العهد وبالفقرة (6) من المادة (14) فقد نصت على أنه (حين يكون قد صدر على شخص ما حكم نهائي يدينه بجريمة، ثم ابطل هذا الحكم أو صدر عفو خاص عنه على أساس واقعة جديدة أو واقعة حديثة الاكتشاف تحمل الدليل القاطع على وقوع خطأ قضائي، يتوجب تعويض الشخص الذي أنزل به العقاب نتيجة تلك الإدانة، وفقا للقانون) يقرر هذا النص حق الأفراد الذين يحكم ببراءتهم في التعويض عن الأضرار التي تصيبهم نتيجة للحكم السابق بالإدانة.
وصحيح أن بالرجوع لقانون محكمة التمييز الصادر بالمرسوم بقانون رقم(8) لسنة 1989م نص على جواز طلب إعادة النظر في الأحكام النهائية الصادرة بالعقوبة في مواد الجنايات والجنح، إلا أنه لم يكفل حق التعويض عن الأضرار التي تلحق بالمحكوم عليه الناتجة عن الأحكام الخاطئة بالإدانة.
وأخيرا ولكي لا تبقى تلك النصوص نظرية فقط فإن الأمر يتطلب من البداية الاعتراف بوجود الأخطاء القضائية وتفعيل مراقبة القضاة واقرار المسئولية عن أخطاء السلطة القضائية وتنظيمها بقانون وبيان ماهيتها وحدودها وضوابطها وما إلى ذلك، فجل ما نتمناه هو أن يكون قضاؤنا محرابا حقيقيا للعدالة.
* بقلم : د .نفيسة دعبل *
اترك تعليقاً